أدب مشروع الخمس سنوات
ذكرنا أنه في سنة ١٩٢٩ حدث تطور شديد في سياسة الحكومة السوفييتية الشيوعية نحو الأدب، وكان هذا التطور نتيجة مشروع الخمس سنوات الذي رأت الحكومة بموجبه تعميم الصناعات في روسيا واشتراكية الزراعة، وكان على الأدب أن يهتم بهذا المشروع وأن يؤيده، ومعنى هذا أن كل الاتفاقات التي حدثت سنة ١٩٢٥ مع ممثلي الأدب الرفيع أو أدب الأثرياء — كما كان يسمى — الذي ينتجه «أصدقاء السفر» أصبحت في خبر كان، بل اضطهد هؤلاء الأدباء واضطروا اضطرارًا إلى أن يساهموا بأقلامهم وفنهم في مشروع السنوات الخمس كأنها ضريبة يجب أن تؤدى نحو الاشتراكية الشيوعية ونحو النظم الشعبية، كان نتيجة ذلك أن ظهر لون خاص من الأدب نستطيع أن نسميه أدب مشروع السنوات الخمس، ويتمايز في فنه بأنه صور خاطفة، نصف خيالية — إن صحَّ هذا التعبير — واشترك في الكتابة في هذا اللون من الأدب كتَّاب الأدب الشعبي وأصدقاء السفر، مثل كافرين وغيره والأدباء القدماء أمثال أليكسي تولستوي. وكان الأدباء يؤلفون فِرقًا تزور المنشئات الصناعية والقرى الاشتراكية حتى يتسنى لهم وصفها والحديث عنها، فكتبوا قِطعًا من أدب الوصف لا نجد فيها ما يستحق الذكر، وربما كان أحسنها ما كتبه كافرين، وبجانب ذلك نرى أن مشروع السنوات الخمس أدى إلى ظهور مجموعة كبيرة من الأدب الخيالي مثل رواية «الفولجا يصب في البحر الكاسيبي» للكاتب بلنياك، والقوة للكاتب جلادكوف، والأرض المعزوقة لشولوكوف، ورواية تقدم أيها الزمن للكاتب كاتييف، ونضوج أوروبا للكاتب فدين، وكذلك كتابات ليونوف وماريتاشا جنيان وغيرهم.
قد تكون كتابات بلنياك وليونوف أول ما ظهر عن مشروع السنوات الخمس، ولكن هذين الكاتبين ظلَّا مخلصين لفنهما قبل أن يخلصا للمشروع، ذلك أنهما لم يأبها بالأمر الرسمي الذي صدر إلى الكتَّاب لإظهار المشروع في مظهر فخم عظيم! ولم يخلعا على المشروع من الصفات التي أغدقها عليه غيرهما من الكتَّاب.
فالكاتب بلنياك في قصته «الفولجا يصب في البحر الكاسيبي» التي أخرجها سنة ١٩٣٠، يناقض ما أمر به من تعظيم مشروع الخمس سنوات، يتضح ذلك من مغزى القصة ومن خاتمتها بنوع خاص، بالرغم من أن المشروع هو موضوع الرواية ومسرحها؛ إذ تتحدث الرواية عن بناء سد كولومنا الضخم بجوار موسكو الذي أنشئ لتحويل تيار نهر الفولجا حتى يتسنى للبواخر النهرية الكبيرة أن تسير في النهر بموسكو، وكذلك نرى بالرواية عِدَّة آراء هندسية فنية وهيدروليجية لا يتقنها سوى الأخصائيين، فهي لا تصلح إلا أن تكون في كتاب علمي خالص لا في قصة أدبية، ولكن طلب إليه أن يكتب هذه المعلومات الفنية وأن يحشرها في قصته، وكذلك نرى في الرواية وصفًا طويلًا للحياة الحديثة للعمال الاشتراكيين في مدينة كولومستروي، ووصف بعض زعماء الاشتراكية، مثل صاديكيف الذي بعد أن كان عاملًا بسيطًا من صغار العمال ارتفع في ظل الشيوعية إلى أن صار مهندسًا له شأنه في هذا الفن! ولعل قدرة بلنياك وفنه الأدبي وموهبته لا تتجلى في الإشادة بمشروعات الخمس سنوات الفنية بمقدار ما تظهر في وصفه للصراع بين العالم القديم والعالم الحديث، فقد استطاع أن يركز مواهبه في تصوير القوى التي تجمعت للعالم القديم لمثل هذا الصراع، فبجانب تصويره لروسيا إبان مشروع الخمس سنوات، صوَّر لنا روسيا نصف الآسيوية المملوءة بآثار القرن السابع عشر البيولوجية ورمز إليها بحصن مارينا مينشك في كولومنا، فقد استغرق الحديث عنه جزءًا كبيرًا من الرواية، وكذلك يصور لنا بلنياك فكرته المحببة لديه وهي ثنائية روسيا طوال عصورها التاريخية، فلروسيا وجهان يتجه أحدهما نحو الشرق والآخر نحو الغرب؛ أي أن لروسيا مطمحين أحدهما في آسيا والآخر في أوروبا! ومع ذلك لم يأبه بلنياك في أن يتعب نفسه في أن يرمز لثنائية روسيا الشيوعية. ولتصوير الصراع بين القديم والحديث اتخذ مدينة كولومستروي نموذجًا للمدن الاشتراكية الحديثة، ومدينة كولومنا القديمة التي وصفها بالخمول والنوم ومثَّلها بالخنزير الذي يرتمي في الطين وسط الشارع، ويصف بلنياك بعض الشخصيات الاشتراكية وجعل بعض الشخصيات أعداء للنظام السوفييتي، وبعضهم يتآمر على النظم الاشتراكية، ويصور التحلل في هذه النظم مما يشعر القارئ أن بلنياك عدوٌّ للشيوعية والاشتراكية، وإن كان قد اضطر إلى أن يكتب في تمجيد مشروع الخمس سنوات الاشتراكي، ولكن لم تواته طبيعته ولم يستطع أن يخدع نفسه، فصدع للأمر الذي صدر إلى الكتَّاب جميعًا، ولكن جاءت روايته تكشف عن دخيلة نفسه وعما يدور في مخيلته.
كذلك نقول عن رواية ليونوف المسماة «سوت» التي ظهرت سنة ١٩٣٠: كان الغرض منها تمجيد مشروع السنوات الخمس، ولكنها جاءت بعكس ما أراده الحزب الشيوعي المسيطر على كل مرافق الحياة في روسيا السوفييتية؛ لأن ليونوف تعمَّق وأطال في التحليلات النفسية للصراع بين القديم والجديد في روسيا الحديثة، موضوع الرواية هو وصف مصنع للورق يدار بتيَّار نهرٍ صغير في وسط غابات كثيفة في شمال شرق روسيا، وهذا النهر هو نهر سوت الذي سميت القصة باسمه، ولكي يقام هذا المصنع لا بدَّ للبولشفيك أن يقاوموا الطبيعة أولًا ويقاوموا كل قوى العالَم الروسي القديم، هذه القوى التي قاومها الشيوعيون ركزها ليونوف في ثلاثة عناصر: «الأول» مجموعة الفلاحين العديدين الذين يحبون القديم بالغريزة والطبع ويأنفون من كل جديد، فهم يترحمون على العصر الذي قبل الثورة الشيوعية ولا يريدون الانضمام للنظام الحديث. «ثانيًا» رهبان أحد الأديرة المنعزلة في الغابة، وهؤلاء يوجهون الفلاحين ضد كل المجهودات التي يبذلها الشيوعيون، وقد تحدَّث ليونوف أن بين هؤلاء الرهبان ضابطًا قديمًا من رجال الجيش الأبيض، وأن له آراءه المثالية الخاصة به، فهو يدعو لحياة جديدة وعالَم جديد تباد فيه هذه المدنية الآلية الحديثة، وتعود فيه صفاء النفس الإنسانية، ويخيل إلى قارئ هذه القصة أن ليونوف يعطف على مثل هذه المبادئ والآراء، كما يظهر ذلك في قصته التي رأيناها من قبل «الباجر»، وما جاء فيها على لسان بطلها سيمن. «ثالثًا» بعض أفراد من أعداء الحكومة السوفييتية يقومون بأعمال فردية ضد السوفييت. هذه العناصر القديمة هي التي تحدث عنها ليونوف في هذه القصة وهي العناصر التي على السوفييت أن يقاوموها، والشخصية الاشتراكية الرئيسية في الرواية هو يوفادييف الذي وصف بأنه يخلط بين المذهب العقلي المنطقي وبين الغرائز الثورية، فكان يقول: كل شيء صحيح … كل شيء دائمًا صحيح في هذه الدنيا. ولكن لا يزال هناك بعض أشياء في الدنيا في حاجة إلى تقريع! ولعل أطرف شخصية في الرواية هو المهندس بوراجو وهو رجلٌ على حظٍّ وافر من الثقافة والذكاء، وهو يخدم الحكومة الشيوعية من صميم قلبه وبكل قواه، ولكنه لا يتفق مع الشيوعيين في آرائهم وعقلياتهم، فهو لا يؤمن بهم ولا بأي نظام آخر؛ لأنه لا يؤمن إلا بوطنه روسيا، نراه يقول للزعيم الاشتراكي يوفادييف يوضح منهجه: إني أصمم وأبني المصانع ولا أهتم بعد ذلك بما تقوله عنها، إني سأكون معك إلى النهاية، ولكن لا تسألني أكثر مما أستطيعه. الاشتراكية؟ «نعم» لا أعرف، ولكن في هذه البلاد كل شيء جائز حتى عودة الموتى، سيأتي آدم جديد ليسمي المخلوقات التي كانت توجد قبله ويظهر ابتهاجه لزوالها. إني لا أقول شعرًا؛ لأن صناعتي التصميم والبناء … إني رجل مسن، إني لأذكر الثورة الفرنسية وهلاك أكارسوس وبرج بابل … إلخ. مما يدل على أن مؤلف القصة لم يوفَّق إلى أن يمجد مشروع الخمس سنوات كما أُمر بذلك، ومَن يدري لعله تعمَّد ذلك، فالقصة كلها تدلُّ دلالة واضحة على أن ليونوف لم يهتم بمشروع السنوات الخمس بمقدار اهتمامه بنفسية الشخصيات الذين في روايته.
أما ما كتبه جلادكوف ومدام شاجنيان لمشروع السنوات الخمس فلا قيمة له من الناحية الأدبية، فقد ازدحمت كتاباتهما بالأمور العلمية الفنية الخالصة حتى بعدت عن الأدب، بحيث يصعب على القارئ أن يعرف ما يريده الكاتب إن لم يكن على حظٍّ كبير من الثقافة الفنية، أما رواية كاتييف «تَقدَّم أيها الزمن» فهي في وصف أحد مصانع السوفييت هو مصنع للفحم والكيمياء في بلدة ماجنتجورسك، وهو يختلف فيها عن ليونوف؛ إذ جعل الشخصيات يتبعون المسائل الفنية، ويختلف كذلك عن جلادكوف ومدام شاجنيان؛ إذ جعل للشخصيات الإنسانية قيمة في الرواية وإن كان قد حشرها أيضًا بالأمور العلمية الفنية، ومحور الرواية هو كيف أن فِرقة من عمال ماجنيتجورسك استطاعوا أن يضربوا الرقم القياسي في خلط الأسمنت المسلح، وجعل الرواية تستغرق يومًا واحدًا، ومع ذلك فاستطاع كاتييف أن يخلق عددًا كبيرًا من الشخصيات دون أن يأبه بالتحليلات النفسية؛ لأنه كان سريعًا في عرض شخصياته وحوادثه وحواره، حتى يخيل إلينا أننا أمام عرض سينمائي سريع، أو أننا نقرأ قصة للكاتب الأمريكي دوس باسوس الذي يحبه الروس السوفييت في وقتنا الحاضر، ويقبلون على قراءة مؤلفاته. ظاهرة أخرى نراها في هذه القصة تلك أن جميع ما كُتب عن مشروع السنوات الخمس يظهر فيها وصف جماعة اللصوص والفُتَّاك، ولكن كاتييف أهمل أمرهم في القصة. وفي هذه القصة أيضًا نرى كاتييف يعارض فلسفة رجل أمريكي من أكبر رجال الصناعات زار ماجنيتجورسك ضيفًا أو سائحًا، هذا الأمريكي كان ينقصه الإيمان بما اعتقده الروسيون الشيوعيون بضرورة التطور الصناعي وتقدم المدنية الصناعية الميكانيكية، فكان يرى أن خلاص الإنسانية في الرجوع إلى الله والطبيعة، قد يكون كاتييف على شيء من المهارة في أنه أسند مثل هذه الآراء التي لا توافق الشيوعيين على لسان هذا الأمريكي الرأسمالي.
ولون آخر من أدب السنوات الخمس هو ما قدمه شلوكوف في روايته «الأرض المعزوقة»، وفيها صُور دقيقة عن الاشتراكية الإجبارية في بعض مزارع الفلاحين في منطقة القوزاق، وكيف عارض القوزاقيون هذه الاشتراكية سرًّا وجهرًا وكيف أبيدت مواشيهم … إلخ؟ فهي صورة لروسيا المعاصرة، لها قيمتها التاريخية، ولا سيما أنها كُتبت بتأثير خاص ولظروف خاصة.