الفصل الأول
كانت شفاه «مايكل ك» المشقوقة هي أول شيءٍ تُلاحظه القَابِلة لحظةَ ولادته؛ وبخاصَّة شَفَته العليا المتجعِّدة كالقواقع، ثمَّ فتحة أنفه اليسرى ذات الفجوة الكبيرة، حاولتْ للحظة إخفاءَ الطفل عن أمه، وراحتْ خلال تلك اللحظة تَفتَح فَمَه الصغير، ثمَّ شعَرَتْ بالامتنان لوجود فتحةِ الفم الداخلية.
قالت للأم: يجب أن تنعَمي بالسعادة؛ فلقَدْ ساد الحظُّ أرجاء البيت.
لكنَّ الأمَّ «أنَا ك» لم يُعجبها فمُ ابنها المفتوح وتلك القطعة الوردية الصغيرة من اللحم المتدلِّية من رَحِمها، وراحتْ ترتعِدُ وهي تُفكِّر في ذلك الشيء الذي كان يُواصل النموَّ داخلها طوال الأشهر الماضية. لم يستطع الطفلُ الرضاعةَ من الثدي، وظلَّ يصرُخ من الجوع، فحاولتْ إرضاعَه من زجاجة الحليب، غير أنَّه لم يستطعْ أيضًا؛ فقرَّرت أن تُطعِمه بالملعقة الصغيرة. وعندما بدأ في السعال وراحَ يبصقُ ما في فمه ويصرُخ؛ شعَرَتْ بالارتباك والغيظ، ولم تقوَ على الصبر.
قالت لها القَابِلة مؤكِّدةً: سوف يُغلِق فمَه حين يكبُر قليلًا؛ لكنَّ الشَّفة العليا لن تقترب من الشَّفة السفلى، أو لن تقترب بما فيه الكفاية، كما أنَّ الأنف لن يستقيم.
كانت تأخُذ الطفل معها إلى العمل، وظلَّتْ تأخذه معها وهو لم يزَلْ طفلًا رضيعًا. وكانت الابتسامات والهمسات التي تُلاحقها تُسبِّب لها الأذى، وتَشعُر حِيالها بالغضب؛ فحاولتْ قدْرَ استطاعتها إبعادَ طفلها عن بقيَّة الأطفال. وبعْدَ مُضيِّ عامٍ تلْوَ عام بدأ «مايكل ك» الطفل يجلس مُلتحِفًا بالبطانية، وهو يُراقب أمَّه أثناء قيامها بتنظيف بيوت الناس وغسْلِ ملابسهم، وتعلَّم في تلك الأثناء أن يكون هادئًا ومُسالِمًا.
ترَكَ «مايكل» المدرسة بعد فترةٍ قصيرة من الْتحاقه بها؛ بسبب شكله المُشوَّه وذكائه المحدود جدًّا، ثمَّ الْتحَقَ بإحدى مؤسسات الرعاية على نفَقَة الدولة؛ حيث أمضى بقيَّة طفولته في صُحبة أشكالٍ مختلفة من الأطفال البائسين والتعساء، كانوا يتعلَّمون المبادئ الأولية للقراءة والكتابة والحساب إلى جانب جمْعِ القُمامة والكَنْس والغسيل والتنظيف، وترتيب الأسِرَّة، وغسْلِ الأطباق، ونسْجِ السِّلال، وأعمالِ الخشَبِ، وأعمالِ الحَفْر. وعندما أصبح في الخامسة عشرة من عُمره ترَكَ المؤسسة والْتحَقَ بقِسْم البساتين والحدائق التابع لبلديَّة مدينة كيب تاون؛ حيث عمِلَ بستانيًّا من الدرجة الثالثة. وبعد سنواتٍ ثلاثٍ ترَكَ العمل بذلك القِسْم، وظلَّ عاطِلًا لفترةٍ من الزمن قَضَى مُعظَمَها راقدًا فوق السرير متأمِّلًا يديه. ثمَّ عمِلَ خادمًا ليليًّا في المراحيض العامة بميدان جرين ماركت. وفي وقتٍ متأخِّر من أحدِ أيام الجمعة، وأثناء عودته من العمل قاصدًا البيتَ تعرَّض له رجلان في أحد الأنفاق، واعتديا عليه بالضرب، واستولَيَا على ساعته ونقوده وحذائه، ثم تركاه راقدًا على الأرض بضُلُوعٍ مهشَّمَة وذراعٍ مجروحة وإبهامٍ مخلوعة. فما كان منه بعد تلك الحادثة إلَّا أنْ ترَكَ ذلك العمل الليلي وعاد إلى قِسْم البساتين والحدائق، حيث ارتَقَى في عمله ببطءٍ حتَّى أصبح بستانيًّا من الدرجة الأولى.
لم يُساعدْه الحظُّ بعملِ عَلاقةٍ نسائية؛ بسبب وجهه البغيض، وكان من الأسهل والأفضل له أنْ يُطفئ رغباته مع نفسه. وكانت الوظيفتان اللتان عمِلَ بهما قد دعَمَتا بداخله فكرةَ الانعزال والانزواء والتوحُّد؛ فكان أثناء عمَلِه بالمراحيض يشعُر بالضِّيق الشديد من ضوء النيون البرَّاق وهو ينعكس فوق البلاط مُخلِّفًا بعض الأماكن دون ظلال. أمَّا عن عمله في الحدائق فكان يُفضِّل تلك التي تَحْوي أشجار الصنوبر الشاهقة، والتنزُّه وسط الزهور. وأحيانًا، وفي أيام الآحاد، كان يفشل في سماع هدير منتصف النهار؛ فيُواصل العمل بنفسه طوال فترة المساء. وكان ينام متأخرًا في صباحات أيام الآحاد، ثمَّ يذهب في مساء اليوم نفسِه لزيارة أمِّه.
ذات صباحٍ متأخِّر من شهر يونيو، وفي أوائل الثلاثين من عمره، تسلَّم «مايكل ك» رسالةً في أثناء قيامه بتمشيط أوراق الشجر وتهذيبه في حديقة «دو وال»، وكانت الرسالة من والدته التي طلبتْ منه الحضور لإخراجها من المستشفى بعد أن تمَّ شفاؤها. وضع «ك» أدوات تمشيط أوراق الشجر وتهذيبه جانبًا، وسارَعَ باستقلال الحافلة للذهاب إلى مستشفى «سومرست»، وهناك وجَدَ أمَّه جالسةً فوق الدَّكَّة أمام بُقعةٍ من ضوء الشمس خارجَ المدخل، وكانت ترتدي كامل ملابسها فيما عدا حذاءها الذي كانت تضَعُه إلى جوارها، وعند رؤيتها لابنها بدأتْ في البكاء، ووضعتْ يدَهَا أمام عينَيها حتَّى لا يراها بقيَّةُ المَرضى والزائرين.
ظلَّتْ «أنَا ك» تُعاني من ورمٍ خطير في قدمَيها وذراعَيها لعدَّة أشهُر، ثمَّ زحَفَ الورم إلى بطنها بعد ذلك، ولم تعُدْ قادرةً على الذهاب إلى المستشفى سَيرًا على الأقدام. كما أنَّها كانت تتنفَّس بالكاد، وأمضتْ خمسة أيامٍ كاملة وهي راقدةٌ في الممرِّ وسط عشراتٍ من الضحايا الذين تعرَّضوا للطَّعْن والضَّرْب وطلقات الرصاص، وكانت أنَّاتُهم وصرخاتُهم كفيلةً بحِرمانها من النوم. كما أنَّ المُمرِّضين لم يمتلكوا الوقت الكافي للاعتناء بها كامرأةٍ عجوز؛ لانشغالهم بذلك العدد الكبير من الشباب الذين يموتون ببطء في مشهدٍ دراميٍّ مُذهِل، لكنهم أمدُّوها بالأكسجين اللازم لحظةَ وصولها، وعالجوها بالحقن والكبسولات للتخفيف من حِدَّة الأورام، وعندما طلبتْ منهم مرتبةً لتنام عليها لم يجِدُوا أيَّ مرتبةٍ شاغرة، ولم تكُنْ أيضًا تملِك ملابسَ للنوم. وذات مرةٍ أثناء استنادها إلى الحائط في محاولةٍ منها للذهاب إلى المرحاض؛ قام رجلٌ عجوز يرتدي بيجامة رَمَادية اللون بإيقافها، ثمَّ عرَضَ نفْسَه عليها بكلماتٍ فاحِشة. أصبح جسَدُها مصدرَ عذابٍ لها. وعندما سألها المُمرِّض عن الكبسولات؛ أخبرته أنَّها تناولتْها، غير أنَّها كانت تكذب. ثمَّ على الرغم من اجتيازها مرحلة ضِيق التنفُّس؛ فإنَّ قدمَيها كانتا تتطلَّبان الحكَّ الشديد. وفي اليوم الثالث كانت تتوسَّل لإرسالها إلى البيت، لكنَّ توسلاتِها لم تجِدْ مَن يستقبلها ويعمل على تنفيذها، وكانت الدموع التي ذرفتْها في اليوم السادس غزيرةً ووفيرة؛ ممَّا ساعَدَ في تخفيف حِدَّة عذابها.
طلب «مايكل ك» من مكتب الاستقبال الإذن له باستخدام الكرسي المتحرِّك، لكنَّ طلَبَه قُوبلَ بالرفض؛ فحمَلَ حقيبةَ أمِّه وحذاءها وراح يُساعدها حتَّى وصلا إلى موقف الحافلات على بُعد حوالي خمسين خطوةً من المستشفى. وهناك كان طابورُ الانتظار طويلًا وجدول مواعيد الرحلات يُعلن عن قيام حافلةٍ كلَّ خمس عشرة دقيقة، لكنَّهما انتظرا لمُدَّة ساعة كاملة امتدَّت خلالها ظلالُ الأشياء واشتدَّت برودة الرياح. وحين لم تقدِرْ «أنَا ك» على الوقوف استندتْ إلى الحائط ووضعتْ قدمَيها أمامها وكأنَّها امرأةٌ متسولة، بينما كان «مايكل» يُحافظ على دَورِه في الطابور. جاءتْ الحافلة، ولم تكُنْ هناك مقاعدُ شاغرة؛ فأمسك «مايكل» بالدرابزين واحتضَنَ أمَّه؛ حفاظًا عليها من الترنُّح، ومضتْ خمس ساعات طويلة قبل أن يَصِلا إلى حُجْرتهما في اﻟ «سي بوينت».
أمضتْ «أنَا ك» ثماني سنوات في العمل كخادمةٍ منزلية لدى رَجلٍ مُتقاعِد يمتلك مصنعًا للملابس الداخلية والجوارب، ويعيش مع زوجته في منزلٍ مُكوَّنٍ من خمس غُرف في منطقة اﻟ «سي بوينت» المُطِلَّة على المحيط الأطلنطي. وكان العَقد ينصُّ على أن تبدأ العمل في التاسعة صباحًا، ولا تغادر قبل الثامنة مساءً، على أن تستريح لمُدَّة ثلاث ساعاتٍ في فترة الظهيرة. وكانت تعمل خمسة أو ستة أيام بالتناوب في الأسبوع، ولها حُجْرتها الخاصة داخل المبنى الكبير. كان الراتب عادلًا، وكان الرَّجُل وزوجته من العُقَلاء والعادلين، وفي ظلِّ صعوبة الحصول على عمَلٍ لم تكُنْ «أنَا ك» ساخطةً أو مستاءة، غير أنَّها منذ عامٍ مضى بدأتْ تشعُر بدُوارٍ وضِيقٍ في الصَّدْر كلَّما انحنتْ في عمَلِها نحو الأسفل، ثمَّ أصابها داءُ الاستسقاء فاضطُروا للاحتفاظ بها لعمَلِ الطعام فقط، وانخفض راتبها إلى الثُّلُث، وقاموا باستئجار امرأةٍ شابَّة للقيام بأعمال المنزل، وسمَحُوا لها بالإقامة في حُجْرتها. ظلَّتْ عدَّة أسابيع تُعاني من حِدَّة داءِ الاستسقاء، وقبْلَ أن تدخُل المستشفى كانتْ طريحةَ الفِراش لا تقْدِر على العمل. وفي تلك الفترة انتابَها خوفٌ شديد من اقتراب فِقدانها لوظيفتها.
كانتْ حُجْرتها تحت السلالم قابلةً لتركيبِ جهاز تكييف، لكنَّ ذلك لم يحدُث قَط، وكان مرسومًا على اللافتة المعلَّقة فوق الباب جُمْجمةٌ وعظامٌ متقاطِعةٌ باللون الأحمر ومكتوبٌ تحتها كلمة «خَطَر»، ولم تكُنْ بالحُجْرة كهرباء ولا أيُّ وسيلةٍ للتهوية، وكان الهواء عفِنًا على الدوام. فتَحَ «مايكل» الباب ودخَلَ عند أمِّه، ثمَّ أشعَلَ شمعةً لكنَّه تراجَعَ إلى خارج الحجرة، حيث كانتْ أمُّه تستعدُّ للنوم، وأمضى معها تلك الليلة الأولى بعد خروجها من المستشفى وكلَّ ليالي الأسبوع التالية، وكان يقوم بتسخين الشوربة لها فوق الكانون ويعمل على راحتها قدْرَ استطاعته، ويقوم بتنفيذ المهامِّ الضرورية، ويعمل على مواساتها وتشجيعها بتدليكِ ذراعَيها عندما كانت تملأ قبضة يدها بالدموع. وذات مساء توقَّفتْ حركة الحافلات عن الإقلاع من محطة اﻟ «سي بوينت» فاضطرَّ لقضاء الليلة في حُجْرتها؛ حيث نام فوق الحصيرة ملتحِفًا بمِعطفه. وفي منتصف الليل استيقظ من شِدَّة البرْدِ الذي اخترَقَ عظامه، ولم يستطعْ أن ينام، ولم يكُنْ قادرًا على الرحيل بسبب حظْرِ التَّجوال؛ فظلَّ جالسًا فوق الكرسي وهو يرتعِد حتَّى بزوغ أول ضوء للنهار، بينما كانت أمُّه تتأوَّه ولا تتوقَّف عن الشخير.
لم يُحبَّ «مايكل ك» تلك المودة وذلك العناق المتبادَل بينه وبين أمِّه الذي فرضتْه عليهما تلك الأُمسيات الطويلة داخل الحجرة الصغيرة، وكان منظر قدَمي أمِّه المتورِّمتَين مُزعِجًا ومُثيرًا للقلق. وكان يستدير بعينَيه بعيدًا كلما حاول مساعدتها في النزول من السرير؛ فقَدْ كانت الخُدُوش تحتلُّ مساحةً كبيرة في كلٍّ من فخذَيها وذراعَيها. وعلى الرغم من ارتدائها للقُفَّاز أحيانًا في المساء؛ فإنَّه لم يستطعْ أن يتجنَّب كلَّ ما كان يراه أثناء قيامه بمساعدتها. وكانت المشكلة التي واجهتْه منذ سنواتٍ مضتْ خلْفَ ورشةٍ لإصلاح الدرَّاجات هي محاولة معرفةِ الإجابة على السؤال المُلحِّ الذي لم يفارقْه: «لماذا جئتُ إلى العالَم؟» وكانت إجابته: «لقد خُلقتُ فقط للعناية بأمي.»
لم يستطع «مايكل ك» بكلِّ ما قاله لأمِّه أن يُخفِّف من خوفها ممَّا قد يحدُث لو أنَّها فقدَتْ حُجْرتها، كانت لياليها وهي تُحتَضر في رَدهات مستشفى سومرست قد علَّمتْها أنَّ العالم لا يُبالي بامرأةٍ عجوز تُعاني من مرضٍ خطيرٍ في وقت الحرب، كما جعلتْها تُشاهد نفسَها وهي عاجزةٌ عن العمل وكأنَّها خارجةٌ من إحدى البالوعات، ثمَّ تذكَّرتْ طاعة ابنها صاحبِ الوجه القبيح وبعضَ النقود التي قامتْ بتوفيرها في حقيبة اليد الموضوعة داخل حقيبة السفر تحت السرير، وتلك العملة الجديدة في كِيس النقود، والعملة القديمة التي حالَ حذَرُها الشديد دون تغييرها وليست لها قيمة الآن.
عندما جاء «مايكل» ذاتَ مساء وأخبَرها بتسريحه من العمل في قسم الحدائق والبساتين التابع لبَلَدية مدينة كيب تاون؛ راحَت تفكِّر في حُلمها القديم الذي طالما راوَدَها من وقتٍ لآخر. بدأَت تفكِّر من جديد في الرحيل عن المدينة التي لم تحقِّق لها سوى القليل، والعودةِ إلى مَوطن صِباها في الريف الهادئ.
وُلِدَت «أنَا ك» في إحدى المزارع التابعة لمُقاطَعة الأمير ألبرت، ولم يكُنْ والدها رجلًا يُمكن الاعتماد عليه؛ كان رجلًا سِكِّيرًا. وفي سنوات عمرها المبكِّرة كانوا يتنقَّلون من مزرعةٍ إلى أخرى، وكانت أمُّها تعمل بإحدى المغاسل وفي مختلف أعمال المطبخ، وتقوم «أنَا» بمساعدتها أحيانًا. ثمَّ انتقلوا أخيرًا إلى مدينة «أودتشورن»؛ حيث الْتحقتْ «أنَا» هناك بالمدرسة لفترةٍ قصيرة. وبعد ميلاد أولِ طفلٍ لها ذهبتْ إلى كيب تاون. أنجبَتْ طفلًا ثانيًا من رجلٍ آخر، ثمَّ طفلًا ثالثًا لم تُكتب له الحياة، وأخيرًا «مايكل». كانت ذكرياتها عن أيامها قبل انتقالهم إلى مدينة «أودتشورن» هي أسعد الأيام؛ حيث أيامُ الدفء والوَفْرة والاطمئنان. راحت تتذكَّر نفسها وهي جالسةٌ فوق الأَترِبة بجوار الدجاج الذي لا يتوقَّف عن القرقرة وخربشة الرمال، وتذكَّرتْ لحظاتِ ترقُّبها للحصول على البيض من تحت الشُّجيرات، ونومها فوق السرير في حجرتها الخالية من الهواء في أمسيات الشتاء، وسماعها لصوت المطر المتساقط في الخارج. كانت تحلُم بالهرَبِ من العنف المتَّسم بالطَّيش والتهوُّر، ومن تلك الحافلات المُزدحِمة وطوابير الطعام وأصحاب المتاجر المُتعجرِفين واللصوص والمتسوِّلين، ومن صفَّارات الإنذار الليلية وحظر التَّجْوال، ومن الصقيع والأمطار والشوارع المُبلَّلة؛ والعودة إلى الريف، حيث يُمكنها الموت تحت السموات الزرقاء.
لكنَّها لم تذكُر شيئًا عن الموت أو الاحتضار حين قرَّرت الحديث مع «مايكل»، وإنَّما اقترحتْ عليه أن يترك عمَلَه في البَلَديَّة قبل أن يطردوه، ويقوم بعد ذلك باصطحابها في القطار والرحيل إلى مُقاطَعَة الأمير ألبرت؛ حيث تستطيع تأجير حُجْرة للعَيْش، ويستطيع هو أن يبحث عن عملٍ في المزرعة ومكانٍ للسَّكَن يعيشان فيه معًا وتقوم هي بالعناية به، وفي حالة عدم توفُّر ذلك السَّكَن يُمكنه عندئذٍ أن يزورها في العُطلات. ومن أجْلِ إثبات جِدِّيَّتها في تحقيق حُلمها طلبتْ منه إخراج الحقيبة من تحت السرير، ثمَّ فكَّتْ كِيسَ النُّقود وراحتْ تعدُّها أمامَه، تلك النقود التي كانت تدَّخرها لمثل ذلك الغرض.
توقَّعتْ أن يسألها «مايكل» عن كيفية اعتقادها احتضان تلك المدينة الصغيرة لاثنين من الغرباء أحدهما امرأةٌ عجوز في حالةٍ صحيَّةٍ سيئة؛ لكنَّها كانت مستعدَّة للإجابة، إلَّا أنَّ «مايكل» لم ينتَبْهُ الشكُّ تجاهَها ولو للحظةٍ قصيرة؛ حيث إنَّه كان مُتيقِّنًا طوال فترة عمله بستانيًّا في بَلَديَّة كيب تاون أنَّ أمَّه تركتْه هناك لسببٍ ما. وهكذا لم يتردَّد في الموافقة على خُطَّتها وحُلمها الحالي دون محاولةٍ منه لمعرفة الحكمة من وراء خُطَّتها. لم ينتَبِهْ «مايكل» لأوراق البنكنوت المدسوسة بين ثنايا مرتبة السرير وفتحاتها، لكنَّه رأى برُوحه دُخانًا يتصاعد بطريقةٍ ملفوفة من داخل أحد الأكواخ عند المرج العُشبي الفسيح، بينما تقِفُ أمُّه فوق عتبة الباب الأمامي مبتسِمةً، وقد بدَتْ عليها علاماتُ الصحَّة والعافية، وهي تستعدُّ للترحيب به بعد عودته من عمل يومٍ طويلٍ وشاقٍّ.
في صباحِ اليوم التالي لم يذهبْ «مايكل» إلى العمل، وإنَّما قام بحَشْو نقودِ أمه في رِزمَتَين ووَضْعهما في الشَّراب، وتوجَّهَ على الفور إلى محطة السكك الحديدية قاصدًا مكتب الحجز الرئيسي، فقال له الموظَّف متسائلًا وهو يهمُّ بعملية الحَجْز: مُقاطَعة الأمير ألبرت أم أقرب محطة لها؟ الأمير ألبرت أم الأمير ألفريد؟
لم يتوقَّع «مايكل» كما لم يكُنْ يدري أنَّ مجرد حجْزِ تذكرتَين له ولأمِّه في القطار لا يكفي، وإنَّما يتوجَّب عليه الذهاب إلى نقطة شُرطة «كيب بينينسولا» للحصول على تصريحٍ بالمغادرة. وكان أقربُ حجْزٍ يستطيع الحصول عليه من موظَّف شُبَّاك الحَجْز في الثامن عشر من أغسطس؛ أي بعد شهرَين. كما أنَّ الحصول على التصريح يتطلَّب ذهابه إلى الشُّرطة؛ فرَاحَ يتوسَّل للموظَّف ويطلُب منه موعدًا متقدِّمًا للسفر، غير أنَّ توسُّلاته باءتْ بالفشل، وقال له الموظَّف ردًّا على ذِكر أمِّه المريضة: إنَّ حالة أمِّك الصحيَّة لا تُعدُّ حالةً خاصة، وأنصحك بعدمِ ذِكرِ حالتها الصحيَّة على الإطلاق.
هطَلَت الأمطارُ فأحضرتْ «أنَا ك» فوطةً قديمة ووضعتْها أسفل الباب حتَّى لا يتسرَّب الماء إلى الداخل، وكانت تفوح من الحُجْرة رائحة الديتول ومسحوق البودرة، فهمَسَتْ لنفسها قائلةً: أشعُر وكأنَّني كالضِّفْدَع الذي يعيش تحت الحَجَر، أنا لا أستطيع الانتظار حتَّى شهر أغسطس.
غطَّت وجهَهَا ولاذتْ بالصمت، وبعد لحظةٍ اكتشَفَ «ك» أنَّه لا يَقوَى على التنفُّس، فسارَعَ بالذهاب إلى الدكَّان المقابِل لزاوية البيت، فقال له البائع: لا يوجد خُبزٌ ولا يوجد لبن، تعالَ غدًا.
عاد إلى العمل في حديقة «دو وال»، وقد أخبروه — كما كان متوقِّعًا — أنَّهم لن يدفعوا له إلَّا في نهاية الشهر، فقال لرئيس العُمَّال: لا يهمُّ؛ فسوف أسافر أنا وأمي على أيَّة حال.
تذكَّر زيارات أمِّه له حين كان يعمل بستانيًّا في بَلَديَّة كيب تاون وكيف كانت تأتيه بأعشابِ الخبز أحيانًا، وبسكويت الشيكولاتة في أحيانٍ أخرى، كانا يذهبان معًا للتمشية في الملعب، ثمَّ يتوجَّهان لشُرْب الشاي في الصالة. وفي أحد أيام الزيارة لمَحَ عددًا من الصِّبية يرتدون أفضل ما لديهم وينتعلون أحذيةً قماشيةً بنيَّة اللون، كان بعضهم من الأيتام الذين ليس لهم أبٌ أو أمٌ، أمَّا البعض الآخر فكان مجهول النَّسَب، وعندئذٍ راح يُحدِّث نفسه قائلًا: أبي ميِّتٌ، وأمي تعمل.
قام بترتيب بعض الوسائد والبطاطين في رُكن الحُجْرة، وظلَّ يُمضي الأمسيات جالسًا في الظلام مستمِعًا إلى أنفاس أمِّه. كانت تنام عددًا أكبرَ من الساعات يومًا بعد يوم، وفي بعض الأحيان كان النوم يغلِبه حيث هو جالس، وعندما يستيقظ في الصباح كان يشعُر بالصداع ولا يستطيع اللحاق بالحافلة؛ فيُمضي النهارَ في التَّجْوال بالشوارع؛ فكلُّ شيء مُتوقِّف ومُعلَّق، بينما ينتظر مع أمِّه التصريح الذي لا يأتي.
ذات صباح مُبكِّر من أيام الآحاد توجَّه «مايكل» لزيارة حديقة «دو وال»، وقام بكسر قُفْل المخبأ الذي يضع فيه عُمَّال الحديقة مُعِدَّاتهم، ثمَّ تناوَلَ بعض المُعِدَّات والعَرَبة اليدوية وقام بدَحرَجتِها إلى الوراء، وفي وسط المَمشَى خلْفَ البيوت قام بتحطيم قفَصٍ قديمٍ وألقى به نحو الرصيف على بُعْد قدمَين مربَّعَين. ربَطَ العربة اليدوية في ظَهْره المُنتصِب بسِلك، ثمَّ حاوَلَ إقناعَ أمِّه بالخروج للتنزُّه فوق العَرَبة قائلًا لها: إنَّ الهواء الطبيعي بالخارج سوف يجعلكِ في حالٍ أفضل، ولن يرانا أحد؛ فالساعة قد تجاوَزَت الخامسة والوَاجِهَة خاليةٌ من الناس.
قالت: يستطيع الناس رؤيتنا من خلال نوافذ بيوتهم، وأنا لا أُحبُّ أنْ يراني أحدٌ ولا أرغب في تصدُّرِ المَشهَد.
في اليوم التالي راقتْ لها الفكرة؛ فرضختْ وقبِلَتْ، ثمَّ ارتدت القُبَّعة والمِعطف والشبشب، وراحتْ تُجرجِر قدمَيها عبْرَ المساء الرَّمادي المتأخِّر، وطلبتْ من «مايكل» أن يضَعَها فوق العَرَبة. مضَى بها بموازاة الشاطئ مرورًا بأحد المتنزَّهات المرصوفة عبْرَ الواجِهَة البحرية، ولم يكُنْ هناك أيُّ شخصٍ سوى رجلٍ عجوزٍ ورفيقَتِه يسيران بصُحبة أحدِ الكلاب. أمسكتْ «أنَا ك» بقوَّةٍ في جوانب العَرَبة وراحتْ تتنفَّس هواء البحر البارد، بينما كان ابنُها يجرُّ العربةَ اليدوية لمئاتٍ من الياردات على طول طريق المتنزَّه ولا يتوقَّف إلَّا لكي يمنحها فرصةَ مراقبةِ الأمواج أثناء اصطدامها بالصخور. ظلَّ يدفع العربة لمئات الياردات الأخرى، ثمَّ توقَّف مرةً أخرى، وبدأ في العودة بعد أن شعَرَ بالإحباط من وزنها الثقيل ومن عدم توازُن العَرَبة. وقد مضتْ لحظاتٌ قبل أن تنزل من العَرَبة وهو يقول لها: هل تسرَّب الهواء النقيُّ إلى رئتَيكِ؟
في مساء اليوم التالي كانت الأمطار تتساقط؛ فلم يستطيعا مغادرة الحُجْرة.
فكَّر في عمَلِ عَرَبةٍ كارُّو صغيرةٍ بها صندوقٌ محمولٌ على زوجٍ من العَجَلات، لكنَّه لم يكُنْ يعرف كيفية الحصول على محاوِرِ تلك العَجَلات.
وذات مساء مُتأخِّر في الأسبوع الأخير من شهر يونيو، اصطدمتْ سيارةٌ جيب عسكريةٌ أثناء سيرها بسرعةٍ جنونية في شارع الشاطئ بشابٍّ كان يعبُر الشارع، وقذفَتْ به إلى الخلف وسط السيارات الواقفة في الرصيف، ثمَّ انحرَفَت السيارة الجيب حتَّى وقفتْ فوق أحد المروج المليئة بالأعشاب خارج ساحِل «آزور»؛ حيث وجَدَ اثنان من ركَّابها أنفُسَهما في مواجهة زملاء الشابِّ الغاضبين، ونشِبَ القتال بينهم. وعلى الفَور تجمَّعَ كثيرٌ من الناس، وتحطَّمَ عددٌ كبيرٌ من السيارات الواقفة. وانتقَلَ القتال إلى الشارع، فأعلنتْ صفَّارات الإنذار حظْرَ التَّجْوال، غير أنَّ أحدًا لم يلتزم. جاءتْ سيارة الإسعاف بمرافقة الدرَّاجات النارية، واتَّجهتْ نحو المَزْلَقان بسرعة، لكنَّهم تصدَّوا لها بوابلٍ من الحِجارة. ثمَّ بدأ رَجلٌ في إطلاق الرَّصاص من مسدَّسه وهو واقفٌ في شُرفة الدور الرابع لإحدى الشقق؛ فانطلَقَت الصرخات بين الناس المُحتشِدين، واندفعوا في اضطرابٍ لتلافي الطلقات، ثمَّ سارعوا إلى الاحتماء بالمباني الكبيرة المنتشرة بموازاة شاطئ البحر، وراحوا يتسابقون عبْرَ الممرَّات ويدقُّون الأبوابَ ويحطِّمون النوافذَ ومصابيح الإضاءة. أمسكُوا بالرَّجل صاحبِ المسدَّس وقادُوه من مخبئه، وظلُّوا يضربونه بلا وعيٍ حتَّى قذَفُوا به فوق الرصيف؛ ممَّا جعل بعض المُقيمين في تلك الشقق يُفضِّلون الاختباء خلْفَ الأبواب المُغلَقة، بينما هرَبَ البعضُ الآخر إلى الشوارع. وكانت ثمَّة امرأةٌ مُحاصَرة عند نهاية الممرِّ وملابسها ممزَّقة فوق جسدها، وشخصٌ آخر كان يُحاول التسلُّل والهرب، لكنَّه أُصيب بكسْرٍ في كاحِله، حين جازف بتجنُّب النيران في اللحظات نفسها التي كانوا يُحطِّمون فيها الأبواب ويسرقون الشقق.
وفي إحدى الشقق الواقعة مباشرةً فوق حُجْرة «أنَا ك»، قام اللصوص بتمزيق الستائر، وألقَوا بالملابس فوق الأرض، وحطَّموا الأثاث، ثمَّ أشعلوا النيران، لكنَّها لم تنتشر، وإنَّما نتَجَ عنها سحابةٌ من الدُّخان الكثيف. وفي المُروج الخضراء الواقعة خارج ساحل «آزور» وساحل الذهب وقريبًا من منطقة «كوباكابانا»؛ احتشد جَمْعٌ غفيرٌ من الجماهير والغوغاء، بعضهم يحمل كَومَات من البضائع المسروقة، وراحوا يُمسِكون بأحجار الحديقة الصخرية ويُلقون بها فوق النوافذ المواجِهة للبحر حتَّى تكسَّرتْ كلُّ النوافذ ولم يَسلَمْ منها أيُّ جزءٍ صغير.
انطلقتْ سيارةُ الشرطة بأضوائها الزرقاء، وظلَّتْ تدور وتلفُّ في محيط خمسين ياردة، وحدَثَ انفجارٌ ناريٌّ من مسدَّس آليٍّ قامتْ بالردِّ عليه طلقاتٌ مضادَّة من خلْفِ حاجزٍ للسيارات، وعندئذٍ عادتْ سيارة الشرطة مُسرِعة، بينما تراجَعَ الحشْدُ الكبير من الناس قاصِدِين طريقَ الشاطئ وهم يصرُخون ويصيحون.
كانت عشرون دقيقةً تفصل بين النهار وموعد حلول الظلام، حين وصَلَ أفراد الشرطة بصُحبة قواتِ مكافحة الشَّغب، وسارعوا باحتلالِ كلِّ الطوابق في المباني المتضرِّرة، ولَمْ يجِدُوا أيَّ مقاومةٍ من الخصوم واللصوص سارقي الشقق الذين تقَهْقَروا وفرُّوا هاربين للاختباء في الأزِقَّة والحواري، إلَّا أنَّ أحدَهم — وكانت امرأةً — ماتتْ بطلقةٍ نارية؛ لأنَّها لم تستطع الجريَ بسرعةٍ كافية، واستطاع رجال الشُّرطة الْتقاط كميةٍ كبيرةٍ من البضائع المُكدَّسة على طُول الشوارع وفوقَ المُروج. وفي وقتٍ متأخِّرٍ من الليل كان أصحاب الشقق يستخدمون المصابيح اليدوية في البحث عن مُقتنياتِهم المسروقة. وعند منتصف الليل، وقبل الإعلان عن انتهاء العملية؛ عثَرُوا على واحدٍ من المُشاغِبين في أحد الأركان المُظلِمة عند ممرِّ إحدى البِنايات على مسافةٍ من الطريق العام، وأخَذُوه بعيدًا. وظلَّ الحَرَس في أماكنهم طوال الليل للمتابعة، بينما تراجَعَت القوَّة الأساسية. وفي الساعات الأولى من الصباح اشتدَّت الرياح وبدأت الأمطار الغزيرة في السقوط، وراحتْ تضرب النوافذ المُهشَّمة في ساحل «آزور» وساحل الذهب و«كوباكابانا»، بالإضافة إلى «إيجريمونت» ومرتفعات «ماليبو» التي ما زالتْ حتَّى هذه اللحظة تُشكِّل محميةً لممرَّات الشحن في الخليج.
خلال تلك الأحداث لم تَبرَحْ «أنَا ك» وابنها حُجْرتهما القابعة تحت السلالم، وظلَّا مختبئَين داخِلَها كالفئران دون أن يتحرَّكا، رغم سماعِهِما لخطوات الأحذية الثقيلة القريبة وبعض الأيادي الخفيَّة وهي تعبث بالباب المُغلَق، وحتَّى حين امتلأت الحُجْرة بالدُّخان. ولم يُدرِكْ كلاهما أنَّ الشغَبَ وحالة الاضطراب والصُّراخ وطلقاتِ النار وصوتَ الزجاج المهشَّم؛ كانت كلها أحداثًا مقصورةً على المباني المجاوِرة. وبينما كانا يجلسان جنبًا إلى جنب فوق السرير؛ لم يجرُؤْ أيُّهما على أن يهمس للآخر، وتأكَّدت لديهما حقيقةُ أنَّ الحربَ قد اندلعتْ في اﻟ «سي بوينت». وبعد وقتٍ طويلٍ من منتَصَف الليل راحتْ أمُّه في النوم، بينما جلَسَ هو مُنصِتًا بآذانٍ صاغية إلى ما يحدُث بالخارج، ومُحدِّقًا في خيط الضوء الرَّمَادي المنبعثِ من تحت الباب، وكانت أنفاسُهُ سريعةً ومُتلاحِقة. عندما بدأتْ أمُّه في الشخير؛ ظلَّ يربتُ فوق كتفها؛ كي تتوقَّف.
جلَسَ «مايكل» في وضعٍ مستقيم مُستنِدًا بظهره إلى الحائط حتَّى استسلَمَ أخيرًا للنوم. وعندما استيقظ كان الضوء المُنبعِث من تحت الباب أكثَرَ إشراقًا. فتَحَ الباب وتسلَّلَ إلى الخارج، فوجَدَ الزجاجَ مُتناثِرًا في الممرِّ، وعند مدخل البِناية شاهَدَ جنديَين من ظَهْرهما جالسَين فوق الدَّكة، ويرتدي كلٌّ منهما خُوذَته، ورَاحَ يُحدِّق في قطرات المطر وفي مياه البحر الرَّمادية، ثمَّ تسلَّلَ عائدًا إلى حُجْرة أمِّه وذَهَب إلى النوم فوق الحصيرة.
بدأ سكان ساحل «آزور» في اليوم نفسه بترتيب الفوضى التي لحِقَتْ بهم، وراحُوا يحزِّمون أشياءهم وأمتِعَتَهم، وبالنظر إلى الأضرار والخسائر لم يقدروا على فعْلِ أيِّ شيءٍ سوى البكاء. وعندما توقَّفت الأمطار قام «مايكل» بمسيرةٍ إلى شارع «أوليفانت» الواقع في منطقة «جرين بوينت»، قاصدًا إرسالية سانت جوزيف التبشيرية؛ حيث كان المرء في السابق يستطيع الحصول على طَبَق من الحساء وسريرٍ للنوم دون توجيه أسئلة. ساوَرَه الأمل أن تُقيم أمُّه في الإرسالية بعضَ الوقت بعيدًا عن البِناية المدمَّرة، لكنَّه لم يجِدْ تمثال سانت جوزيف وصولجانه ولا حتَّى اللوحة البرونزية فوق واجِهَة البوَّابة، وكانت النوافذ مُغلَقة. طرَقَ البابَ المجاورَ للبوَّابة فسمِعَ صوتَ ألواحِ الأرض الخشبية، لكنَّ أحدًا لم يفتَحْ له الباب.
كان «مايكل» يعبُر شوارع المدينة أثناء ذهابه إلى العمل، ويُواصل سيرَه عبر الممرَّات بصعوبة كلَّ يوم بصُحبةِ حشدٍ كبيرٍ من العاطلين والمُعدِمين الذين قاموا في السنوات الماضية بتنظيف الشوارع ورصْفِها في الأحياء الرئيسية، وكانوا يتسوَّلون أو يسرقون، أو ينتظرون في طوابيرَ أمامَ وكالات الإغاثة، أو يجلسون بهدوء في ردهات المباني العامة؛ بحثًا عن الدفء أو العثور على مَأوًى في الليل في ممرَّات المخازن والمُستودَعات الضيِّقة حول أحواض السُّفن أو البِنايات المهجورة بجوار شارع «بري»؛ حيث لا تستطيع الشُّرطة المغامرةَ باقتحامِ مثلِ تلك الأماكن. كانت مدينة كيب تاون الكبيرة تعجُّ بالناس القادِمين من الريف بحثًا عن أيِّ نوعٍ من العمل قبل أن تَفرضَ السُّلُطات سيطرتَهَا على حركة الناس وتنقُّلاتِهم، ولم تكُنْ فُرَص العمل متوفرةً، ولم يكُنْ من اليسير العثورُ على مكانٍ للإقامة، ففكَّر «ك» بينَهُ وبين نفْسِه وقال: ماذا لو انضممتُ أنا وأمِّي إلى تلك الجُمُوع الغفيرة من الأفواه الجائعة؟ وكَمْ من الوقت الذي سأُمضيه في مساعدة أمي لعُبور الشوارع بالعَرَبة اليدوية ونحن نتوسَّل طلبًا للطعام؟ كان يسير هائمًا في الشوارع كلَّ يومٍ بلا هدف، ثمَّ يعود للحُجْرة غارقًا في الظلام والكآبة بعد أن يستبدَّ به التعب ولا يجِدُ لوجبة العشاء سوى الحساءِ والبُقْسُماط وسمك الرنجة المجفَّف، وكان حريصًا على إخفاء المَوقِد خلْفَ البطانية حتَّى لا تتسبَّب النار المنبعِثة منه في شدِّ انتباه الناس الجَوعَى، وإلَّا لمَا استطاع هو وأمُّه أن يَنعَما بوجبة العشاء.
ظلَّ «مايكل» وأمُّه يأمُلان في السماح لهما بمغادرة المدينة، لكنَّ صندوق البريد المفترَضَ أن تُرسل الشُّرطة إليه الإذنَ بالرحيل؛ كان مُغلَقًا، ولم يكُنْ بمقدور أحدٍ معرفةَ أيِّ شيء؛ لأنَّ رجال الشرطة المسئولين قد فرُّوا بعدَ أحداث السلْبِ والنَّهْب في تلك الليلة، وتركوا مكاتِبَهم دون أن يقولوا كلمةً واحدةً تُفيد بمَوعِد عودتهم، فأرسلتْ «أنَا ك» ابنَها إلى البيت في محاولةٍ للعثور على مفتاح الصندوق.
لم يكُنْ «مايكل» قد اجتاز عتبةَ المبنى من قبلُ، ولحظةَ دخوله وجَدَه في حالةٍ من الفوضى والارتباك. كانت الرياح القادِمة من خلال النوافذ شديدةً فتحطَّم الأثاث وتآكلت المراتب وتناثرتْ منها الحشرات وانتشرتْ شظايا الزجاج والأواني الفَخَّارية في كلِّ مكان. وكانت النباتات المزروعة ذابلةً والأسِرَّة والسجاجيد مُبلَّلة. وأثناء سَيرِه وفي محاولةٍ منه لتخطِّي كلِّ تلك العَقَبات الْتصَقَ حذاؤه بعجينة الكعك وحبوب الإفطار والسُّكَّر وبقايا إفرازات القِطط والتراب. وفي المطبخ كانت الثلَّاجة مقلوبةً على وجهها ومحرِّكُها لا يزال يعمل وتنبعث منه أصواتٌ كخَريرِ المياه. وكانت الأرضيَّة القِرْمِيدية مُلطَّخةً بالرغاوي الصفراء، وصفوفٌ من الأباريق كانت مقلوبةً فوق الأرفُف، وكان من اليسير على «مايكل» أن يشَمَّ رائحة نبيذٍ عَفِن، وفوق الحائط الأبيض اللامع كتَبَ شخصٌ ما: إلى الجحيم.
قام «مايكل» بإقناع أمِّه بالدخول بنَفْسها لرؤية ما لحِقَ بالمبنى من دمار، ولم تكُنْ قد صعِدتْ إلى الدور العلويِّ في الشهرَين الأخيرَين، وقفتْ فوق اللوحة عند مَدخل باب حُجْرة الاستقبال وقد اغرورقتْ عيناها بالدموع، وقالتْ وهي تهمِس لنَفْسها: لماذا فعلوا كلَّ ذلك؟
لم ترغبْ في دخول المطبخ، وقالتْ: كيف سيستطيع مثلُ أولئك الناس الطيِّبين التعافي من ذلك الدمار؟ وكيف سيجتازون تلك المحنة؟
ساعدها «مايكل» في الوصول إلى حُجْرتها، لكنَّها لم تشعُر بالاستقرار، وظلَّتْ تسأل مرةً بعد أخرى عن المكان الذي اختبَأَ فيه رجال الشرطة، ومَن الذي سيقوم بتنظيف المكان بَعْد عودتهم؟
ترَكَ «مايكل» أمَّه وعاد إلى البِناية المدمَّرة وأفرَغَ محتويات الثلَّاجة المقلوبة، ثمَّ عَدَلها وراح يكنس الزجاج المهشَّم ويضعه بأحد الأركان، كما قام بمسْحِ المياه وقام بتعبئة كثيرٍ من أكياس القُمامة وترَكَها عند عتبة الباب الأمامي. كان بعضُ الطعام لا يزال صالحًا للأكل فوضَعَه في مكانٍ معيَّن، لكنَّه لم يحاول تنظيفَ الصالون، وإنَّما عمِلَ كل ما يستطيع لتثبيت الستائر في فجوات النوافذ، وقال لنفسه: إنَّني أفعَلُ ما أفعَلُهُ من أجل أمي وليس من أجل الناس كبار السنِّ.
كان من الواضح أنَّ رجال الشرطة لم يستطيعوا العيشَ في ذلك المكان قبل إصلاح النوافذ وإزالة الروائح الكريهة عن السجاجيد، وحتَّى «مايكل» لم يكُنْ يُفكِّر قَط في الحصول على شقَّةٍ لنفسه إلَّا حين شاهَدَ الحمَّام لأول مرة.
قال لأمِّه وكأنَّه يتوسَّل: فقط لليلةٍ واحدة أو ليلتَين! يُمكننا عندئذٍ أن نَنعَم بفرصةِ النوم والتمدُّد بحرِّية، ونستطيع أيضًا أن نُفكِّر فيما سوف نفعَلُهُ بعد ذلك. سأضَعُ أريكةَ الاسترخاء داخل الحمَّام، وفي الصباح التالي سأُعيد كلَّ شيءٍ إلى مكانه، أعِدُكِ بذلك، ولن يستطيعوا معرفة ما حدَثَ.
سحَبَ الأريكة داخل الحمَّام ووضَعَ فوقها مجموعةً من المُلاءات ومَفارِش المائدة، وقام بحَشْر ورَقِ الكرتون المقوَّى بين فتحات النافذة، ثمَّ أضاء الحمَّام، وكان الماء الساخن متوفِّرًا فانتهَزَ الفرصة وأخَذَ حمَّامًا ساخنًا. وفي الصباح سارَعَ بإخفاء كلِّ الآثار الناجِمة عن وجوده، وحين جاء البوسطجي لم يكُنْ ثمَّة شيءٌ يخصُّ رجال الشُّرطة. وكانت الأمطار تتساقط عندما خرَجَ وجلَسَ تحت سَقيفةِ الحافلة وهو يتأمَّل سقوط الأمطار. عند منتَصَف الظهيرة أصبَحَ واضحًا أنَّ رجال الشُّرطة لن يَعُودوا، فلَمْ يتردَّد في العودة إلى البِناية.
ظلَّت الأمطار تتساقط يومًا بعد يوم، ولم يحدُثْ ما يُنبِئ عن قُدوم رجال الشرطة، فرَاحَ «مايكل» يُزيح المياه الراكدة ويعمل على تسليك المواسير. وعلى الرغم من تعرُّض البِناية للرياح؛ فإنَّ رائحة الأرضيَّات العَفِنة لم تتوقَّف وأصبحتْ أكثر عُفُونة. قام بتنظيف أرضيَّة المطبخ وذهَبَ لوضْعِ أكياس القُمامة في الطابق الأسفل.
لم يعُدْ يقضي وقته في البِناية بالليل فقط، وإنَّما طوال فترة النهار أيضًا، وقد اكتشَفَ — ذاتَ مرة — كومةً من المجلات في دولاب المطبخ، وكان يرقُد مُسترخيًا فوق السرير أو في الحمَّام وهو يتصفَّح صُوَر النساء الفاتنات والطعام الشهي، لكنَّه لم ينبَهِر بالنساء قدْرَ انبهارِهِ بالطعام. وعرَضَ على أمِّه صورةَ القطعة اللامعة من لحْمِ الخنزير المشويِّ المُزَركَشة بحبَّاتِ الكرز وقِطَع الأناناس الدائرية الموضوعة في طبَقٍ كبير، يتزيَّن من جوانبه بحبَّاتِ التُّوت والكريمة وكَعكِ الفاكهة.
قالت أمُّه: لم يَعُد الناسُ يأكلون مثل هذه الأشياء.
لم يُوافق على ما قالتْه أمُّه، وقال: إنَّ الخنازير لا تعْلَم أنَّ الحرب قائمة، وكذلك الأناناس لا يعرف شيئًا عن الحرب، والطعامُ موجود، ولا بدَّ من وجودِ شخصٍ ما ليتَنَاوَله.
عاد إلى المكان الذي كان يسكُن فيه ودفَعَ الإيجار المتأخِّر، وقال للمسئول: لقد تخلَّيتُ عن عملي وسأذهب أنا وأمي إلى الريف؛ كي نبتعد عن هذا القَلَق والتوتُّر ونحن الآن في انتظار التصريح.
تناوَلَ درَّاجته وحقيبَتَه، ثمَّ خرَجَ وتوقَّفَ عند فِناء بيْعِ الخُرْدة، واشترى قَصَبةً لقياس الأطوال، وكانت عَرَبة اليدِ بمقعدها الخشبيِّ موجودةً حيث تركها في أحد الأزقَّة خلْفَ البيوت، وعاد في التوِّ للتخطيط في كيفية استخدام عَجَلات درَّاجته لعَمَل عَرَبة الكارُّو؛ حيث يُمكنه القيام باصطحاب أمِّه فوقَهَا للتنزُّه. وعلى الرغم من تحرُّك العَجَلة بسلاسةٍ حوْلَ المِحور؛ فإنَّه لم يجِدْ طريقةً لمنْعِ العَجَلة من الدوران السريع، وظلَّ لعِدَّة ساعاتٍ — قبل أن يتوقَّف — يُحاول دون جَدوَى في تثبيتِها بالسِّلك، ثمَّ قال لنفسه: سيحدُث لي شيءٌ ما.
ثمَّ ترَكَ الدرَّاجة مُفكَّكةً فوق أرضيَّة المطبخ.
عثَرَ على راديو صغيرٍ، وكان مؤشِّر الراديو متوقِّفًا عند نهايته والبطَّاريات على وشكِ النفاد، فلَمْ يُحاول كثيرًا تشغيله. وبالبحث في أدراج المطبخ عثَرَ على وصلةٍ من السِّلك، قام بتوصيلها بالتيار الكهربائي؛ فأصبح قادرًا على الرُّقاد في الحمَّام في الظلام وهو يستمع إلى الموسيقى في الحُجْرة المجاوِرة، وكانت الموسيقى تساعده أحيانًا على النوم، ولا يستيقظ سوى في الصباح دون أن تتوقَّفَ الموسيقى. وبين قطعةٍ من الموسيقى وأخرى؛ كان الراديو يتحدَّث بلغةٍ لا يَفهَم منها «مايكل» ولا كلمةً واحدةً؛ غير أنَّه استطاع أن يلتقط بعض أسماء الأماكن البعيدة؛ مثل: «ووكرستروم»، و«بيترسبورج»، و«مدينة كينج وليام». وفي بعض الأحيان كان يُغنِّي بلا نغماتٍ ودون أن يَدرِي.
شاهَدَ كلَّ المجلات، وبعد أن عاوَدَ تصفُّحها مِرارًا؛ بدأ في تقليب صفحات الجرائد القديمة المُلقَاة تحت حوض المطبخ. كانت الجرائد قديمةً جدًّا حتَّى إنَّه لم يتذكَّر أيًّا من الأحداث المكتوبة فيها، لكنَّه استطاع معرفةَ بعض أسماء لاعبي كرة القَدَم، وكان أحدُ العناوين الرئيسية في واحدةٍ من تلك الصُّحُف يتحدَّثُ عن قاتِلِ «كاميسكرون»، وتَعرِض صورَتَه بقميصه الأبيض المقطوع ويدَيه المُقيَّدتَين بالأغلال واقفًا بين شُرطيَّين ترتسم على وجهَيهِما علاماتُ الصَّرَامة. وعلى الرغم من تأثير الأغلال على حركة كتفَيه؛ فإنَّ قاتِلَ «كاميسكرون» كان ينظُر إلى الكاميرا بابتسامةٍ هادئةٍ تُوحي بالانتصار، أو هكذا رآه «مايكل». وتحت هذه الصورة كانتْ صورةٌ أخرى لبُندقيَّة بحاملٍ مكتوبٍ عليها: «سلاح القاتل.»، لصَقَ «مایكل» صفحةَ الجريدة فوق باب الثلَّاجة، وبعد ذلك بعِدَّة أيامٍ حين كان يُعاودُ عمَلَه المتقطِّع في عَجَلات العَرَبة اليدوية؛ لم تبرح عيناه عينَي القاتل.
ارتبَكَ من كثرة الأشياء التي ينبغي عليه القيام بها، فحاوَلَ أولًا أن يُجفِّف الكتُب التي غمرتْها المياه، وراح يصُفُّها في خطٍّ مستقيم بالصالون، لكنَّه فقَدَ اهتمامه وتوقَّفَ بعد مُضيِّ وقتٍ طويل من المحاولة. لم يكُنْ مهتمًّا بالكُتُب من قبلُ قَط، ولم تَكُن القراءة من أولوياته، ولم يجِدْ شيئًا يشدُّ انتباهَه في قِصص رجال الجيش أو في حكايات النساء اللاتي يحمِلْنَ أسماءً مثل «لافينيا»؛ مع أنَّه كان يقضي بعض الوقت في نَزْع الصفحات من الكُتُب المصوَّرة التي تحمل صُورًا لجُزُر الأيوني، وبرابِرة إسبانيا، وبحيرات فنلندا وبالي، وأماكنَ أخرى كثيرةٍ من العالم.
سمِعَ «مايكل» ذات صباحٍ صريرَ الباب الرئيسي، وعندما بادَرَ بالتوجُّه ناحيتَه؛ وجَدَ نفْسَه في مواجهة أربعة رجال يرتدون ثياب العمل، اندفعوا بجواره دون توجيه كلمةٍ واحدةٍ له، وشرعوا في الاستيلاء على محتويات الشقة، فسارَعَ بتحريك أجزاء درَّاجته بعيدًا عن طريقهم، لكنَّ أمَّه أوقفتْ واحدًا من الرجال الأربعة عند السلالم حين كانت ترتدي الرُّوب وتُجرجِر قدمَيها للخروج من الحُجْرة وسألتْه: أين الرئيس؟ أين السيد «بوهرمان»؟
تجاهَلَها الرَّجُل، وكأنَّه لم يسمعْ شيئًا، وخرَجَ «ك» في تلك الأثناء إلى الشارع، وراح يتحدَّث مع سائق الحافلة حتَّى سأَلَه قائلًا: هل أنتم قادمون من عند السيد «بوهرمان»؟
قال السائق: عمَّن تتحدَّث يا رَجُل؟
قالتْ أمُّه وهو يهمُّ بمساعدتها في العودة إلى سريرها: لا أعرف لماذا لم يساعدوني في معرفة أيِّ شيء، وماذا ينبغي إذن أن أفعل إذا طرَقَ شخصٌ ما الباب وأخبرني أنَّه يريد أخْذَ كلِّ شيء في الحال، وأنَّه يريد الحُجْرة لخادمته؟ وأين يُمكنني عندئذٍ أن أذهب؟
جلَسَ إلى جوار أمِّه فترةً طويلة، ظلَّ خلالها يُداعِب شَعْرها بيده، ويستمع إلى نُواحها وكلماتِ الرثاء المتتالية المُنطلِقة من فمها، ثمَّ تناوَلَ عجلتَي الدراجة والقضيب الصُّلب ومُعِدَّاتِه وخرَجَ إلى المَمشى؛ حيث جلس عند بقعةٍ من الضوء للعمل من جديد على إصلاح الدرَّاجة، وظلَّ يعمل طوال فترة ما بعد الظهر. وعندما حلَّ المساء تمكَّن من تثبيت السِّلك حول قضيب المِحور، ووضَعَ الحلقات المعدنية حولَهُ لمنْعِ تسرُّب الزيوت فوق العَجَلات. وبدا في النهاية أنَّه قد أوشَكَ على حلِّ المشكلة، لكنَّه لم يستطعْ أن ينام جيدًا في تلك الليلة، كما أنَّه لم يتناوَلْ إلَّا القليل من الطعام، وكان متعجِّلًا لمواصلة عمَلِه والتقدُّم فيه؛ فسارَعَ بالبَدء في تفكيك مقعد عَرَبة اليد وأعاد تشكيله على شكل صندوقٍ ضيِّق بثلاثة جوانب ومقبضَين طويلَين، قام بتوصيلهما في مِحور العَرَبة بسِلك، وأصبح عندئذٍ يمتلِكُ عَرَبةً هنديةً صغيرة. وعلى الرغم من أنَّه قام بعمَلِها وإصلاحها بمشقَّة؛ فإنَّه يستطيع أن يحمل أمَّه عليها. وحتَّى حين تهبُّ الرياح القوية الباردة قادمةً من الجهة الشمالية الغربية ولا يستطيع الناس الخروج؛ فإنَّه يكون قادرًا على اصطحاب أمِّه بعد أن يلفَّها بالمعطف والبطانية والسَّير بها بمحاذاة البحر الذي يجعل الابتسامة ترتسم فوق شفتَيها.
شعَرَ أنَّ الوقت قد حان، وقال لنَفْسه: نحن نُبدِّد وقتنا في انتظار التصاريح، والتصاريحُ قد لا تأتي أبدًا.
لن يستطيع «مايكل» وأمُّه أن يستقلَّا القطار دون الحصول على التصاريح، وهما مُعرَّضان في أيِّ يوم من الأيام للطَّرد من الحجرة، وهل ستكون عندئذٍ غير قادرةٍ على السماح له باصطحابها في العَرَبة اليدوية إلى مُقاطَعة الأمير ألبرت؟ لقد رأتْ بنفسها أنَّها عَرَبةٌ مريحة وهي تُعاني من تدهور صحَّتها هنا؛ بسبب ذلك الجوِّ المشبَّع بالرطوبة، وأيضًا لِقَلقها الدائم بشأن المستقبل، لكنَّها تعرف أنَّها ستستعيد صحَّتها بسرعة إذا ما استقرتْ في مُقاطَعة الأمير ألبرت، وأنَّ الطريق إلى هناك لن يستغرق سوى يومٍ أو يومَين على الأكثر، كما أنَّها متأكِّدة من كرَمِ الناس وطِيبَتِهم وأنَّهم لن يتردَّدوا في تقديم يدِ العَون.
ظلَّ يتناقَشُ مع أمِّه وقتًا طويلًا مستخدِمًا كلَّ مهاراته في التوسُّل، وشرَحَ لها كيفية اعتراضه على أن تسافر فوق العَرَبة اليدوية المفتوحة في ذلك الشتاء، لكنَّها لم تُوافِق على تحفُّظاته فاستجاب لها. إنَّ الرحلة إلى مُقاطَعة الأمير ألبرت قد تستغرق يومًا كاملًا، وهي الرحلة نفسها التي تستغرق خمس ساعات بالسيارة؛ فقالت الأم متسائلةً: وماذا سيحدُث لو أنَّ الأمطار تساقطت؟
أجاب «مايكل»: سأضَعُ سقْفًا من القماش فوق العَرَبة.
– وماذا لو قامت الشُّرطة بإيقافنا؟
قال «مايكل»: أعتقد أنَّ الشُّرطة لديها الكثير ممَّا يجب أن تفعله، وليس من بين تلك الأشياء الكثيرة أن تَشغَل نفْسَها بالعمل على إيقاف الأبرياء من أمثالنا، الذين لا يحلُمون بشيءٍ سوى فرصةِ الابتعاد عن المدينة المزدحِمة بالناس والسيارات! ثمَّ لماذا تريد لنا الشُّرطة أنْ نقضي الليالي مُختبئين في حفرات الناس الصغيرة، ويريدوننا أن نتسوَّل في الشوارع، ونعمل على إزعاج أنفسنا ومضايقتها؟! اقتنعتْ أمُّه بما قاله، ولكنَّها اشترطتْ أن يذهب إلى الشُّرطة أولًا في زيارةٍ أخيرةٍ لمعرفة أخبار التصاريح، وأن تُجهِّز هي نفْسَها للرحلة دون تسرُّع. فَرِح «مايكل» بما قالتْه أمُّه ووافَقَ على الفَور.
في الصباح التالي، وبدلًا من انتظار الحافلة لفترةٍ طويلة قد لا تأتي بعدها أبدًا؛ هروَلَ من اﻟ «سي بوينت»، قاصدًا المدينة عبْرَ الطريق الرئيسي بعد الاطمئنان على دقَّات قلبه والتأكُّد من قوَّة أعضاء جسَدِه، كان عشراتٌ من الناس يقفون في طوابير تحت لافتةٍ مكتوب عليها «هيرفستايجينج للنقل»، مضتْ ساعةٌ كاملة، وجَدَ نفْسَه بعدها أمام الشبَّاك في مواجهةِ امرأةٍ من الشُّرطة ذاتِ عينَين يقِظَتَين.
أخرج تذاكِر القطار، وقال لها: إنَّني أريد فقط أن أسأل عن التصاريح الخاصة بهذه التذاكِر.
ثمَّ راحت تُحدِّق من فوق كتف «ك» إلى الرَّجُل الواقف خلفه، وقالت له: نعم!
قال «ك» وهو يُجاهد لكي تُعاوِدَ الانتباه له: لا، لكنَّني قدَّمتُ طلبًا بالفعل من أجل الحصول على التصريح؛ فهل وصَلَ التصريح أم لا؟ هذا كلُّ ما أريد معرفته الآن.
– قبل أن تتمكَّن من الحصول على التصريح يجب أن تكون قد انتهيتَ من عملية الحجز، هل قمتَ بالحجز إذن؟ ومتى؟
– في الثامن عشر من أغسطس لكنَّ أمي …
– باقٍ شهر كامل على الثامن عشر من أغسطس، وإذا كنتَ قد قدَّمتَ طلبًا للحصول على التصريح كما تقول، وإذا تمَّت الموافقة على طلبكَ؛ فسوف يأتي التصريح، وسيتمُّ إرساله إلى عنوانك.
ثمَّ نادت على الشخص الذي يليه قائلةً: التالي.
قال «مايكل»: وهذا ما أريد معرفته؛ لأنَّني يجب أن أُفكِّر في خُططٍ أخرى في حالة عدم الموافقة على التصريح؛ لأنَّ أمي مريضة.
ضربت المرأة بيدها فوق المنضدة؛ كي تُجبره على السكوت، وقالت: لا تُبدِّد وقتي وها أنا ذا أقول لك للمرة الأخيرة: إنَّ التصريح سيصل إليك إذا وافقوا، ألَا ترى كلَّ أولئك الناس في الطابور؟ وهل أنت غير قادرٍ على الفهم؟ أم أنك مغفَّلٌ وأحمق؟
رفعت نفْسَها فوق المنضدة، وراحت تُحدِّق بحِدَّة من فوق كتف «ك»، ثمَّ استطردتْ وهي تُشير إلى الواقف خلفه: التالي، نعم، أنت.
لكن «ك» لم يتزحزح من مكانه، وبدا أنَّه يتنفس بطريقةٍ متسارعة وهو يتفرَّس ما حوله بعينَين جاحظتَين ممَّا جعلها تُعاود النظر إليه على مَضَض، ثمَّ نظرتْ إلى شاربه الرقيق وشَفَته الكبيرة وقالت: التالي.
في اليوم التالي، وقبل حلول الفجر بساعةٍ؛ قام «مايكل» بإيقاظ أمِّه من النوم. وأثناء ارتدائها لملابسها وتجهيز نفْسِها؛ راح يملأ العَرَبة الكارُّو بأغراضهما، ويحشو الصندوق بالبطاطين والوسائد، ويربط الحقيبة حول قضيب العربة. غطَّى العَرَبة بغطاءٍ بلاستيكيٍّ أَسوَدَ؛ فبدتْ شبيهةً بعَرَبة الأطفال الطويلة. وحين شاهدتْها أمُّه هزَّتْ رأسها وقالتْ: أنا لا أعرف، لا أعرف، لا أعرف ولا أستطيع الصعود.
مضى وقتٌ طويل في محاولة إقناعها بالصعود إلى العَرَبة الكارُّو التي أدرَكَ فجأةً أنَّها لم تكُنْ في الحقيقة كبيرةً بما يكفي لصعودها بطريقةٍ سهلة. كانت العَرَبة قادرةً على تحمُّل وزنها، ولكنْ كان عليها أن تجلِسَ متكوِّرةً تحت الغطاء البلاستيكي الأَسوَد، ولم يكُنْ بمقدورها أن تُحرِّك أطراف جسدها. وضَعَ «مايكل» بطانيةً فوق قدمَيها، ثمَّ قام بحشو كيسٍ من الطعام ومَوقِد الغاز وزجاجةٍ من الوقود وبعضِ أطراف وبقايا الملابس داخلَ أحد الصناديق. لمَحَ ضوءًا ينبعث من الشُّقق المجاوِرة، ثمَّ استطاع هو وأمُّه أن يسمعا صوتَ ارتطام الأمواج فوق الصخور، فهمَسَ لنفسه قائلًا: إنَّه يومٌ أو يومان فقط ونصِلُ إلى هناك.
أشارت الأمُّ برأسها قائلةً: لا تتحرَّكْ كثيرًا من جانبٍ لآخر؛ حفاظًا على التوازُن.
بدأ «مايكل» في إخفاء وجهها بقفَّازاتها الصوفية، وانحنى ناحيتها وقال: أترغبين في البقاء يا أمي؟ إذا كنتِ ترغبين في البقاء فإنَّنا نستطيع البقاء.
هزَّتْ رأسها فسارَعَ بارتداء قبَّعته ورفَعَ المقابض، وراح يجرُّ العَرَبة عبْرَ الطريق المليء بالضَّبَاب.
مضى عبْرَ أقصرِ الطُّرق بمحاذاة المنطقة المدمَّرة، وحول خَزَّانات الوقود القديمة، ووسط دمار وخراب البِنايات المحروقة، مرورًا بأحواض السفن وهياكل المخازن الملطَّخة بالسواد التي استولتْ عليها عصابات الشوارع في العام الماضي، لم يتوقَّفا في سَيْرهما، غير أنَّهما لم يَسْلَما — في تلك الساعة المبكِّرة — من نظراتِ بعض الناس المحدِّقة. وكانت وسائل نقْلِ الغرباء قد بدأتْ تظهر في الشوارع، وكذلك سيارات النقل المُحمَّلة بالقضبان والدرَّاجات ذات الصناديق بعجلاتها الثلاث المثبَّتة عند محاورها الخلفية، وثمَّة سلالٌ وصناديقُ مُكدَّسة فوق عَرَبات يدٍ من مختلف الأحجام، وأكثر من مائة عربةٍ كارُّو تمشي على عجلاتٍ وأخرى يجرُّها حِمار.
ظلَّ «ك» يمشي بخطواتٍ ثابتة، ولم يتوقَّف إلَّا كلَّ نصفِ ساعة؛ ليفرُك يدَيه الباردتَين، ويحرِّك كتفَيه المتألمتَين. عندما اطمأن إلى جلوس أمِّه بارتياحٍ فوق العَرَبة الكارُّو؛ اكتشَفَ أنَّ الأمتعة الثقيلة المُكدَّسة في مقدمة العَرَبة قد تسبَّبتْ في زحزحةِ المِحور عن المركز مسافةً كبيرةً إلى الخَلْف، ممَّا جعَلَه يشعُر بثقلٍ أكثر، وخاصَّة كلما اعتدلتْ أمُّه في جلستها بحثًا عن الراحة، لكنَّه احتفَظَ بالابتسامة مرتسِمةً فوق وجهه؛ للتغلُّب على الإجهاد الذي يشعُر به.
قال وهو يلهث: ها نحن على وشك الوصول إلى الطريق العام الخالي من العقبات، وعندئذٍ سنجِدُ أنفسنا أمام شخصٍ ما مُكلَّف بإيقافنا.
في وقت الظهيرة كانا يسيران في حي «باردن إيلاند» الصناعي المُخيف، ومرَّا بالقُرب من رجُلَين يتناولان الشطائر وهما مستندان إلى الحائط. شعَرَ «ك» بخدرٍ في ذراعَيه، ولم يعُدْ يشعُر بهما؛ لكنَّه مضى في سَيْره نصفَ ميلٍ آخر. وعندما وصَلَ إلى الطريق السريع المليء بالأشجار، القريب من النهر؛ راح يُساعد أمَّه في النزول من فوق العربة، ثمَّ عاونها في الجلوس عند حافة العُشب تحت الجِسر؛ حيث تناولا طعام الغذاء، لكنَّه أُصيبَ بالدهشة من الطُّرق الشاغرة غير المزدحِمة وذلك الهدوء الذي تمكَّن من خلاله أن يسمع غناءَ الطيور، رقَدَ فوق الأعشاب الكثيفة ثمَّ أغلَقَ عينَيه.
استيقظ على صوتِ قعقعةٍ في الهواء، فاعتقد في البداية أنَّه صوتُ رعدٍ قادِمٍ من بعيد، ثمَّ ارتفعتْ حِدَّة الأصوات، وأصبحت أكثر صخَبًا، وراحتْ تضرب قاعدةَ الجِسر على شكل موجاتٍ من فوقهما ومن على يمينهما. ومن ناحية الاتجاه المؤدِّي إلى المدينة؛ جاء اثنان يرتديان زيًّا موحَّدًا ويركبان دراجتَين بخاريتَين، ويضعان الأسلحة النارية خلْفَ ظَهْرَيهما. ثمَّ ظهرتْ سيارةٌ مصفَّحة من خلْفِهما، يقِفُ فوقَها أحدُ رجال المدفعية، وقد تبِعَها موكبٌ طويلٌ ومُتنوِّعٌ من السيارات الثقيلة، كانت معظمها من الشاحنات الفارغة من الحمولة. زحَفَ «ك» ناحيةَ أمِّه وجلسا جنبًا إلى جنبٍ وظلَّا يُراقبان ما يحدُث وسط ضجيج تلك السيارات والشاحنات الثقيلة؛ فلَمْ يَعُد الجوُّ هادئًا، ولم يَعُد بمقدوره سماع غناء الطيور. لم يستغرقْ عبور القافلة سوى دقائقَ معدودة، وكانت شاحنة الجيش بلَونِها الزيتونيِّ الأخضرِ وسقْفِها القماشيِّ تسير في المقدمة، ويقف في وسطها جنديَّان يرتديان الخُوذات العسكرية، وإلى جوارها زوجان آخران من الدرَّاجات البخارية، أمَّا مؤخرة القافلة فكانت تتكوَّن من عشرات السيارات والحافِلات الصغيرة والشاحنات الخفيفة.
ألقى أحدُ راكبي الدراجات البخارية نظرةً فاحِصةً إلى «ك» وأمِّه أثناء مروره بجوارهما. وفي اللحظة نفسها؛ كان آخر اثنَين من راكبي الدرَّاجات قد انسلخا عن الموكِب، وراح أحدهما ينتظر على جانب الطريق، بينما كان الآخر يعبُر المنحَدَر ويُشير إلى «ك» وأمه. قال لهما وهو يرفع حافة الخوذة: ممنوع الوقوف في الطريق السريع.
ثمَّ نظَرَ إلى داخل العَرَبة نظراتٍ فاحصةً، وقال مخاطبًا «ك»: هل هذه عَرَبتُك؟
أشار «ك» برأسه قائلًا: نعم.
– وإلى أين أنت ذاهب؟
همس «ك» بصوتٍ متحشرِج: إلى مُقاطَعة «الأمير ألبرت».
تساءل الرَّجُل باندهاش وهو يصفِّر: بهذه العَرَبة الكارُّو؟!
هزَّ العَرَبة برفقٍ وخاطَبَ رفيقَه بشيءٍ ما، ثمَّ عاوَدَ الحديثَ مع «ك»، وقال له: عبْرَ الطريقِ وعند المُنحنَى بالضبط توجد نقطةُ تفتیش، ستقِفُ عند نقطة التفتيش وسيُطالبونك بالتصريح، لا بدَّ لك من الحصول على تصريحٍ لمغادرة «بينينسولا».
– نعم.
– لا تستطيع مغادرة «بينينسولا» دون تصريح، اذهبْ إلى نقطة التفتيش واعرضْ عليهم التصريح وكلَّ أوراقك الثبوتية.
ثمَّ استطرد قائلًا: اسمعني جيدًا، تحتاج للتوقُّف عند الطريق السريع وعليك أن تبتعد خمسين مترًا عن جانب الطريق، هكذا هو القانون وتلك هي القاعدة، خمسون مترًا من كلَا الجانبَين، وإذا اقتربت أكثر سيُطلقون عليك الرصاص دون تحذيرٍ ودون مُساءلة، هل فهمت؟
أومأ «ك» برأسه فانطلق الرَّجُل فوق درَّاجته؛ كي يلحَقَ بالقافلة. ثمَّ قال «ك» لأمِّه دون أن يجرؤ على النظر في عينَيها: ينبغي أن نسلك طريقًا آخرَ أكثرَ أمنًا.
شعَرَ بالخزي والعار، لكنَّه استدار في الحال إلى الخلف وساعَدَ أمَّه في الصعود إلى العَرَبة، وراح يدفع العَرَبة، حتَّى وصَلَ بالقرب من سيارةٍ جيب عسكرية كانت مُتوقِّفةً عند جانب الطريق، وإلى جوارها ثلاثةٌ من الجنود يصنعون الشاي فوق أحد مواقد المُخيَّمات. توسَّل إليهم بكلِّ الطُّرق أن يَمضيَ في طريقه، لكن كل توسُّلاته باءتْ بالفَشَل، وقال له أحدهم: هل معك تصريحٌ بالمغادرة؟ نعم أم لا؟ أنا لا يهمُّني مَن تكون، ولا تعنيني أمُّك في شيء، وما إذا كانت مريضةً أم لا؟ وإذا لم تكُنْ تملِك تصريحًا فلنْ تستطيع مغادرة هذه المنطقة، هذا كلُّ شيء!
اتَّجه «ك» ناحية أمِّه، كانت تجلس داخل العَرَبة وراحتْ من تحت سقْفِها القماشي تنظُر بإمعانٍ وبلا مشاعرَ إلى الجنديِّ الشابِّ الذي أشاح بيدَيه، وصاح قائلًا: لا تُحمِّلينني المسئولية، فأنا لا أريد سوى التصريح وعندئذٍ سأترككما تعبُران.
ظلَّ الجندي يُراقب «ك» وهو يُحرِّك عجلات العَرَبة، وكانت إحدى تلك العجلات قد بدأتْ تتمايل.
بعد عبور «مايكل» وأمِّه الإشارةَ الضوئية المُشيرة إلى طريق الشاطئ؛ ساد الظلام، وكانت المخلَّفات المرفوعة التي أغلقت الطريق بعد حصار البِنايات السكنية قد انتقلتْ إلى المُروج المجاوِرة. كان المفتاح لا يزال في باب الحُجْرة تحت السُّلَّم وكانت الحُجْرة كما هي، لكنَّها بدتْ نظيفةً أكثر ممَّا كانت عليه؛ استعدادًا لتأجيرها لساكنٍ آخر، ارتدتْ «أنَا ك» مِعطفها وألقتْ بنفسها فوق الفِراش، بينما راح «مايكل» يُحضِر أمتعته من العَرَبة الكارُّو، حينها اكتشف أنَّ الوسائد مُبلَّلةٌ من الأمطار؛ فهمَسَ قائلًا لأمِّه: سنُحاول مرةً أخرى خلال يومٍ أو يومَين.
هزَّتْ رأسها فأضاف: إنَّ التصريح لن يأتي يا أمي! وسنُحاول مرةً أخرى، لكنَّنا سنتوجَّه في تلك المرة عبْرَ الطُّرق الخلفية، إنَّهم لا يستطيعون إغلاق كلِّ الطُّرق المؤدِّية للخروج من اﻟ «سي بوينت».
جلَسَ إلى جوارها فوق الفِراش واضعًا يدَه حول ذراعَيها وظلَّ هكذا حتَّى غلَبَها النوم، ثمَّ صعِدَ السلالِم لينام في طابق اﻟ «بوهرمان».
بعد يومَين، وقبل الفجر بساعةٍ كاملة؛ بدأ «مايكل» وأمُّه في الرحيل ومغادرة منطقة اﻟ «سي بوينت» من جديد، وقَدْ فقَدَا شعورهما بالاستمتاع الذي صاحَبَهما في المغامرة الأولى. عرَفَ «ك» منذ اللحظة أنَّهما سيقضيان لياليَ كثيرة في الطريق، وعرَفَ أيضًا أنَّ أمَّه قد فقدتْ حماسها للسفر إلى أماكن بعيدة؛ إنَّها تُعاني من آلامٍ في صدرها، وكانت تجلس متيبِّسةً كالجثَّة، ومتجهِّمة داخل الصندوق فوق العَرَبة الكارُّو وتحت غطاء القماش المشمع الذي قام «ك» بتثبيته لكي يحفظها من الأمطار. مضى في الطريق الجديد من خلال وسط المدينة، وعبْرَ طريق «سیر لاوري» والطريق الرئيسي المؤدِّي إلى الضواحي؛ بخطواتٍ ثابتة. وكانت إطارات العجلات تُصدِر أصواتًا كالأزيز فوق الطريق الأسفلتيِّ المُبلَّل. ثمَّ مضى في طريقه بجِسر «ماوبراي» للسكَّك الحديدية بالقرب من مستشفى الأطفال في شارع «كليبفونتين» القديم، ولم يتوقَّف للمرة الأولى إلَّا بالقرب من حاجزٍ مكسورٍ يؤدِّي إلى مجموعةٍ من الأكواخ الحديدية المُغطَّاة بورَقِ الكارتون. تناول «ك» بعض الطعام مع أمِّه، ثمَّ وقَفَ عند جانب الطريق. تعلَّقتْ أمُّه بأحَدِ ذراعَيه وراحتْ تُشير إلى السيارات العابرة. وكان من بين تلك السيارات ثلاث شاحنات تُغطِّي الأسلاكُ نوافذها وفوانيسَ إضاءتها، وبعد فترةٍ قصيرةٍ عبَرَتْ أمامهما عَرَبة فاخرةٌ تجرُّها جيادٌ ذاتُ ألوانٍ كَسْتَنائية تُحيط بها عناقيدُ من الأجراس مُثبَّتةٌ فوق السَّرج ويقودها مجموعةٌ من الأطفال، ظلَّ الأطفال يسخرون من «ك» وأمِّه ويُشيرون إليهما بإشاراتٍ قبيحة.
بعد استراحةٍ طويلةٍ توقَّفتْ إحدى سيارات النقل الكبيرة ووافَقَ السائق على توصيلهما حتَّى منطقة الأشغال الأسمنتية، كما ساعد «ك» في رفْعِ عَرَبته الكارُّو فوق سطْحِ السيارة، ثمَّ جلَسَ مع أمِّه في الكابينة، وقَدْ ساوَرَهما شعورٌ بالأمان، وراح يحسِب عددَ الكيلومترات وهو ينظُر خلسةً إلى العدَّاد، وما هي إلَّا لحظاتٌ قليلة حتَّى دفَعَ أمَّه بكُوعِه دفعةً خفيفة فالْتقتْ عيناه بشفتَيها المبتسمتَين.
كانت تلك الابتسامة هي الشيءَ الوحيد السعيد في ذلك اليوم. وبعد أن وصلا إلى منطقة الأشغال الأسمنتية؛ ظلَّا خارجها لمدَّة ساعة، لكنْ وعلى الرغم من تدفُّق المُشاة وراكبي الدرَّاجات؛ لم تعبُر أيُّ سياراتٍ من أيِّ نوعٍ سوى سيارات المجاري. تراجعت الشمس وهبَّت الرياح؛ فسحَبَ «ك» عَرَبته الكارُّو، وبدأ في الرحيل من جديدٍ عبْرَ الطريق بَعْد أن فكَّر قائلًا لنفسه: من الأفضل ألَّا يعتمد المرء على الآخرين.
لقد حرَّك مِحور عجلات العَرَبة بوصتَين إلى الأمام منذ أن بدأ رحلته الأولى وحتَّى الآن. وما إن أعاد تثبيته حتَّى أصبحت العَرَبة خفيفةً كالرِّيشة؛ ممَّا جعله يشدُّ العَرَبة بسرعةٍ أكثرَ، تجاوَزَ على إثرها رجلًا آخر يجرُّ عربةَ يدٍ محمَّلة بأغصان الأشجار، لكنَّه لم يشأْ أن يتجاوَزَه دون إلقاء التحيَّة. جلستْ أمُّه في وضعٍ عمودي داخل صندوق العَرَبة المُظلِم الصغير وقد انحنى رأسُها إلى الأمام بعد أن أغلقتْ عينَيها.
بزَغَ قمرٌ ضبابيٌّ من خلال السُّحب قبل الوصول إلى الطريق الرئيسي بنصف مِيل، فتوقَّف «ك» وساعَدَ أمَّه في النزول من العَرَبة، وراحا يمشيان وسط أشجارِ «بورت جاكسون» المنخفضة؛ بحثًا عن مكانٍ آمِن لقضاء تلك الليلة. وفي ذلك العالَم من أوراق الأشجار المتفرِّقة والأرض الرطبة المبلَّلة بالندى وتلك الروائح العفِنة؛ لم يكُنْ ثمَّة مَأوًى أفضل من الآخر، فقرَّر «ك» العودة إلى جانب الطريق، ثمَّ قال لأمِّه وهو يرتعش: إنَّه ليس مكانًا مناسبًا، ولكنْ ينبغي علينا التكيُّف معه، خاصة وأنَّها ليلةٌ واحدة.
قام بإخفاء عَرَبته الكارُّو بقدْرِ ما استطاع بعيدًا عن الأنظار بعد أن حمَلَ الحقيبة، ثمَّ أمسك بذراع أمِّه وتحسَّسَ طريقه عائدًا لقضاء الليلة وسط الشُّجيرات.
تناولا طعامًا باردًا ورقَدَا فوق أوراق الأشجار المُبلَّلة؛ فتسرَّب البَلل إلى ملابسهما. وعند منتصَف الليل بدأت الأمطار الخفيفة في التساقُط. مضى «ك» نحو شجرةٍ مُنخفضة، وجلَسَ تحتها بعد أن ضمَّ أمَّه إلى جواره، وراحت الأمطار تتساقَطُ فوق البطانية التي يُغطيان بها رأسَيهِما. وعندما غرقت البطانية في المياه؛ زحَفَ «مايكل» على يدَيه وركبتَيه لإحضار غطاءِ العَرَبة البلاستيكي، وقام على الفَور بوضْعِ رأسِ أمِّه بين ثنايا كتفه، واستطاع عندئذٍ أن يسمع أنفاسها الضعيفة؛ فأدرك للمرة الأولى أنَّ إحساسها بالإجهاد الشديد وفقدان الأمل في الشفاء هو سبب توقُّفها عن الشكوى.
كان ينتوي الرحيل مُبكِّرًا جدًّا على أمَلِ الوصول إلى الطريق الجانبي المؤدِّي إلى «ستيلينبوش» و«بارل» قبل بزوغ الشمس؛ غير أنَّ أمه كانت لا تزال نائمةً أثناءَ الفَجْر ومُستلقيةً فوق جانِبِه الأيمن؛ فلم يحتمل فكرة إيقاظها. أصبح الجوُّ أكثر دفئًا عندما انتصف الصباح، وشعَرَ بضرورة التحرُّك؛ فبدأ على الفَور في مساعدة أمِّه للخروج من تحت الشُّجيرة والعودة لمواصلة السير في الطريق. سارَعَا بنقْلِ فِراشهما المُبلَّل إلى العَرَبة الكارُّو، لكنَّ اثنَين من المارَّة اقتربا منهما في مكانٍ مهجور؛ أحدهما رجل هزيل، والأخرى امرأة عجوز. وقالا لهما: يُمكننا تجريدكما من كلِّ ما تمتلكان دون أن يستطيع أحدٌ معاقَبَتنا!
وللتأكيد على قدرتهما على القيام بعملية التجريد؛ بادَرَ أحدُ الغرباء بإظهار السِّكين ووضَعَ يده في الحقيبة. وفي اللحظة التي بدأتْ تتلألأ فيها شفرة السكين؛ عاود «ك» مشاهِدَ الإذلال والمَهانة التي سيتعرض لها من جديدٍ بعد تجريدهما من كلِّ شيء، وخاصةً حين يجِدُ أمَّه تسير بعَناءٍ ومشقَّة في طريق العودة إلى الحُجْرة في اﻟ «سي بوينت»، وحين يجلس فوق الحصيرة واضعًا كلتا يدَيه فوق أذنَيه وهو يتحمَّل يومًا بعد يومٍ معاناة أمِّه وعذابات صَمْتها.
ذهَبَ إلى عَرَبته الكارُّو وتناوَلَ سلاحه الوحيد وقضيب المِحور ولوَّحَ بهما في مواجهة الشابِّ الذي يحمل السِّكينَ بعد أن رفَعَ ذراعه الأيسر أمام وجهه لحمايته، استدار الشاب بعيدًا عنه واتَّجه ناحية رفيقه، وراحت «أنَا ك» تصرُخ بكلِّ قوَّتها؛ فتراجع الغرباء. واصَلَ «ك» تهديده بالقضيب دون أن يتفوَّه بأيِّ كلمة، ثمَّ استعاد الحقيبة، وراح يُساعد أمَّه المرتعِشة في الصعود إلى العَرَبة أثناء تراجُع اللصَّين عشرين خطوةً إلى الوراء. سحَبَ العَرَبة إلى الخلف باتِّجاه الطريق، ومضَى ببطءٍ بعيدًا عنهما، لكنَّهما راحا يتعقَّبانه للحظة، وظلَّ الرَّجُل الذي يحمل السِّكين يتلاعب بشفتَيه ولسانه وهو يَسبُّه بأبشعِ الألفاظ ويُهدِّده بالموت، وبعد ذلك اختفيا فجأةً بين الأشجار الصغيرة بالسرعة نفسها التي ظهرا بها.
كان الطريق السريع خاليًا من السيارات، لكنَّ كثيرًا من الناس كانوا يسيرون في منتصف الطريق على غير العادة ويرتدون ملابس الأحد الجميلة. وعند جانب الطريق كانت الأعشاب الكثيفة منتشرةً وعالية، وكان سطح الطريق مُشقَّقًا والأعشابُ تملأ الشقوق، ووجَدَ «ك» نفْسَه مُحاصَرًا بثلاث فتياتٍ صغيرات كُنَّ يرتدِينَ عباءاتٍ ورديةَ اللون ويتوجَّهن صوبَ الكنيسة، توقَّفْنَ وتطلَّعْنَ إلى السيدة «ك» الجالسة داخلَ صندوق العَرَبة ورُحنَ يتبادلْنَ معها الحديث. وفي المسافة الأخيرة المتبقية قبل أن يصل «ك» إلى «ستيلينبوش»؛ أمسكتْ أكبرُ الفتيات بيَدِ السيدة «ك» التي أخرجتْ محفظَتَها وناولتْ كلَّ واحدةٍ منهن قطعةً نقدية.
قالت الفتيات لهما: لا تعبُر هنا السيارات في أيام الآحاد.
لكنَّهما التقَيَا بموكبٍ من الفلاحين أثناء عبورهما طريقَ «ستيلينبوش»، وقافلة من الشاحنات المُضيئة، وبعض السيارات التي كانت تتقدَّمها عَرَبة مُصفَّحة تُحيط بها خيوطٌ شبكيةٌ كثيفة، ويقِفُ عند مؤخرتها رجلان يحملان بنادقَ آليةً، ويعملان على مراقبة الطريق. انسحب «ك» بعيدًا عن الطريق حتَّى الانتهاء من عبور تلك الشاحنة والسيارات والعَرَبة المصفَّحة، ولم يَسلَمَا من نظرات الرُّكَّاب الفُضولية، بينما كانت الفتيات يتحدَّثْنَ ببعض الكلمات التي لم يستطع «ك» سماعها.
كانت كُرُوم العنب الجَدبَاء منتشرةً أمامهما ومن خلفهما، وأسراب من العصافير تُحلِّق في السماء وتستقرُّ بعض الوقت فوق أغصان الشُّجيرات وحولها قبل أن تُرفرِف بأجنحتها وتُعاوِد التحليق من جديد. وفي تلك الأثناء ووسط الحقول سمِعَ «ك» وأمُّه صوتَ أجراس الكنيسة، فقفزتْ إلى ذاكرته تلك الأيام التي كان يُطيل فيها السهَرَ بالمستشفى، ويُداعب وِسادته مستمتعًا بمشاهدة أشعَّة الشمس الأولى وهي تُقبِّل التُّربة.
ساد الظلام عندما اقترَبَا من الوصول بخطواتٍ متثاقِلةٍ إلى «ستيلينبوش»، كانت الرياح عاصفةً والشوارع خاليةً من المارَّة، ولم يكُنْ قد فكَّر بعدُ في مكانٍ يستطيع أن ينام فيه هو وأمُّه التي لم تتوقَّف عن السُّعال وصعوبة التَّنفُّس. توقَّف أمام أحدِ المقاهي واشترى بعض الفطائر بِالكَارِي، وقام بتناولِ ثلاثٍ منها وتناولتْ أمُّه واحدةً بالكاد؛ لأنَّها كانت فاقدةً للشهية، فقال لها: ألَا تُريدِينَ الذهابَ إلى طبيب؟
هزَّتْ رأسها وربَّتتْ فوق صدرها وأجابتْ: لا، فأنا أُعاني فقط من جفافٍ في الحَلْق.
كانتْ تعتقد أنَّهما سيصلان إلى مُقاطَعة الأمير ألبرت في اليوم التالي أو اليوم الذي يليه، ولم يشأْ «ك» أن يُخيِّبَ أمَلَها، ثمَّ قالتْ: لقد نسيتُ اسم المزرعة الحقيقي، ولكن يُمكننا أنْ نسأل والناس سوف يعرفونها.
فوق جِدار إحدى الزرائب كانت تنتشر أسرابٌ من الدجاج، وثمَّة مِضخَّات تمكَّنا من سماعها فوق الهضبة، فاستطردت الأمُّ قائلةً: كان لنا منزلٌ في تلك الهَضْبة، وكانوا يزرعون الكُمَّثْرى عند الباب الخلفي، ولا بدَّ أنَّ ذلك هو المكان الذي تبحث عنه.
نَامَا في أحدِ الأزقَّة فوق سريرٍ من ورَقِ الكارتون المُسطَّح، وقام «مايكل» بإسنادِ جزءٍ كبير من الكارتون المقوَّى عند حافة سريرهما، لكنَّ الرياحَ أطاحتْ به. ظلَّتْ أمُّه تَسعُل طوال الليل فلَمْ يستطِع النوم، وعندما مرَّتْ سيارة الشرطة ببطءٍ عبْرَ الشارع؛ وضَعَ يده فوق فَمِها.
بزَغَ في الأفق أول ضوءٍ من النهار، فرفَعَ أمَّه فوق العَرَبة، كان رأسُها متدلِّيًا ولم تكُنْ تعرف مكان تواجُدِها؛ استوقفتْ أولَ شخصٍ شاهدتْه وسألتْه عن الطريق المؤدِّي إلى المستشفى، ولم تعُدْ قادرةً على الجلوس في وضعٍ مستقيم. وكانت كلما تحرَّكتْ فوق العَرَبة؛ يحاول «مايكل» جاهدًا الحفاظ على توازُن العَرَبة؛ كي لا تنقلب. وبدا أنَّها ترتعش من الحُمَّى، كما راحتْ تُجاهد من أجل التنفُّس وكان سُعالها خشِنًا، ثمَّ همستْ قائلة: إنَّ حَلْقي جافٌّ جدًّا.
جلس «مايكل» في المستشفى إلى جوار أمِّه، وظلَّ يضمُّها إليه ويشجِّعها بالكلام حتَّى جاء دَورُها في الكَشْف. وعندما رآها بعد ذلك وهي خارجةٌ ومُستلقِية فوق التُّرولِّي وسط كثيرٍ من عَرَبات التُّرولِّي الأخرى، وقد علَّقوا أنبوبةً في أنْفِها، وكانت غائبةً عن الوعي. أصبح عاجزًا عن فِعْل أيِّ شيء، ولم يعُدْ قادرًا على التفكير، وراح يتلكَّأ في ممرِّ المستشفى، حتَّى طلبوا منه الخروج؛ فمضى إلى الفِناء لقضاء فترةِ ما بعد الظهيرة في شمس الشتاء الضعيفة، لكنَّه تسلَّل إلى الداخل مرَّتَين لمعرفة إذا ما كان التُّرولِّي قد تحرَّك من مكانه أم لا. وفي المرة الثالثة مشى فوق أطراف أصابع قدمَيه في هدوء حتَّى وصَلَ إلى أمِّه، ثمَّ انحنى فوقها ولم يستطِع أن يسمَعَ أنفاسها؛ فسيطر عليه الخوف، وسارع نحو المُمرِّضة الجالسة في مكتب الاستقبال، وأمسك بطرف قميصها وقال: أرجوكِ، تعالَي بسرعةٍ لرؤية أمي!
هزَّت الممرِّضة نفسَّها للتخلُّص من قبضة يده، وقالت باستهجان: منْ أنت؟
مضتْ خلْفَه قاصدةً التُّرولِّي، وقامتْ بقياس نبْضِ أمِّه وهي تُحدِّق بعيدًا، ثمَّ عادتْ إلى مكتبها دون أن تنطِقَ بكلمةٍ واحدة، لكن «ك» وقَفَ أمامها كالكلبِ الأخْرَس وهي تُدوِّن ملاحظاتها.
قالت له بطريقةٍ صارِمة: يجب أن تسمعني الآن، هل ترى كلَّ أولئك الناس الموجودين هنا؟
أشارتْ ناحية الممرِّ والعنابر، واستطردتْ: كلُّ أولئك الناس ينتظرون أيضًا مَن يعتني بهم، وأنا حين أنتهي من عملي …
بادَرَ بالابتعاد عنها، لكنَّها شدَّتْه من يده وأعادتْه للوقوف أمامها، واقتربتْ بوجهها من وجهه، واستطاع «مايكل» أن يلْمَح قطراتٍ من الدموع الغاضبة في عينَيها، ثمَّ قالتْ بصوتٍ مرتفع: لا، استمعْ لي ولا تذهبْ بعيدًا. إنَّني حين أنتهي من عملي؛ أشعُر بتعبٍ شديدٍ، ولا أستطيع أن أتناوَلَ طعامي، كما أنَّني أُهرع إلى النوم دون القدرة على خلْعِ حذائي. إنَّني شخصٌ واحد، ولست شخصَين أو ثلاثة. أنا إنسانةٌ واحدة فقط، هل تفهم ذلك؟ أم أنك تجِدُ صعوبةً في الفهم؟
أزاح «ك» بصرَه عنها، وتمتَمَ بكلامٍ غيرِ واضحٍ وقال: آسف.
لم يستطع أن يقول أيَّ شيءٍ آخر، وربما لم يكُنْ يعرف ما ينبغي أن يقوله؛ فسارَعَ بالعودة إلى الفِناء.
كانت الحقيبة مع أمِّه، ولم يكُنْ معه نقودٌ سوى ما تبقَّى بعد شرائه لوجبة الأمس المسائية؛ فاشترى كعكةً صغيرةً، وشرب الماء من الصنبور، ثمَّ فكَّر بالتَّجْوال في الشوارع، وراح يضرب بقدمَيه تلك الأوراق الجافَّة المنتشرة فوق الرصيف. شاهَدَ حديقةً فمضى ناحيتها، وجلس على الأريكة وبدأ يُحدِّق في السماء الزرقاء من خلال أغصان الأشجار العارية، وحين اقترب منه السِّنْجاب؛ هروَلَ بعيدًا. وفجأةً انتابَه هاجسُ أنَّ شخصًا ما قام بسرقة عَرَبته؛ فعاد مُسرِعًا إلى المستشفى، لكنَّه وجَدَها حيث كانت في مكانها. أخرج البطاطين والوسائد والمَوقِد من فوق العَرَبة، لكنَّه لم يكُنْ يعرف مكانًا يستطيع أن يُخفي فيه تلك الأشياء.
شاهَدَ «مايكل» الممرِّضة وهي تُغادر المستشفى بعد الانتهاء من فترة عملها في السادسة مساءً، فشعَرَ بالسرور، وسارع بالعودة إلى داخل المستشفى. لم تكُنْ أمُّه موجودةً في الممرِّ؛ فتوجَّه إلى مكتب الاستقبال لمعرفة مكانها، لكنَّهم أشاروا عليه بالذهاب إلى أحد الأجنحة البعيدة؛ حيث لم يجِدْ هناك أمَّه، وبدا الناسُ وكأنَّهم لا يعرفون شيئًا ممَّا يقول. عاد إلى مكتب الاستقبال فقالوا له: يجب أن تعود غدًا صباحًا.
طلَبَ منهم أن يقضي الليلة فوق أحد المقاعد المنتشرة في ممرِّ المستشفى؛ لكنَّهم رفضوا.
نام في أحد الأزقَّة داخل صندوقٍ من ورق الكرتون، وحلَمَ أنَّ أمَّه جاءتْ لزيارته وهي تحمل حُزمةً من الطعام، وقالت له في الحُلم: إنَّ العَرَبة الكارُّو بطيئةٌ جدًّا، وها هي مُقاطَعة الأمير ألبرت قادمةٌ لاحتوائي.
كانت حُزمة الطعام مُضيئةً بشكلٍ لافتٍ وغريب حين استيقظ من شدَّة البرد، ولم يستطع أن يفرِدَ قدمَيه بسهولة، وسمِعَ دقَّاتِ الساعة من بعيد ثلاثًا أو أربع مرَّات. كانت النجوم تتلألأ في السماء الصافية، أصابته الدهشة؛ لأنَّ الحُلم لم يُسبِّب له قلَقًا أو ارتباكًا. أحاط نَفْسه بالبطانية، وراح يخطو خطواتٍ سريعةً في الزُّقاق ذهابًا وإيابًا، ثمَّ خرَجَ من الزُّقاق، وبدأ يَهيم في الشارع بلا هدف، توقَّفَ أمام نافذةِ أحدِ المحلات المُظلِمة التي تعرِض أزياء الربيع.
عندما تمَّ السماح له أخيرًا بدخول المستشفى؛ وجد أمَّه في عنبر الرعاية الخاصِّ بالسيدات، ولم تكُنْ ترتدي مِعطفها الأَسوَد، وإنَّما رُوب المستشفى الأبيض. وكانت ترقُد وعيناها مغلقتان، ولا تفارقها الأنبوبة المعلَّقة في أنْفِها. كما كانت شفتُها السُّفلى متدلِّيةً ووجهها ذابلًا وبَشَرة ذراعَيها متجعِّدة. ضغَطَ على يدَيها، فبدا أنَّها لا تشعُر بشيء. كان عنبر السيدات يتكوَّن من أربعة صفوفٍ من الأسرَّة لا يفصل بينها سوى مسافةٍ قصيرة جدًّا لا تزيد عن قدَمٍ واحدة؛ فلَمْ يجِدْ مكانًا يجلس فيه.
في الساعة الحادية عشرة أحضَرَ المُمرِّض فنجانًا من الشاي، ووضَعَه إلى جانب أمِّه مع قطعةٍ من البسكويت داخل صحْنِ الفنجان. رفع «مايكل» رأسها، ووضَعَ الفنجان بين شفتَيها، لكنَّها لم تتناوَلْ منه شيئًا. كانت مَعِدتُه فارغةً، وبعد طول انتظار أصبح الشاي باردًا، وكان المُمرِّض على وشك العودة لإحضار شيءٍ آخر؛ فقام على الفَوْر بارتشافِ الشاي في جَرْعةٍ واحدة، وابتلاع قطعة البسكويت.
استعرض الأوراق المُعلَّقة على جانب السرير، لكنَّه لم يعرفْ إذا كانت تلك الأوراقُ خاصَّة بحالةِ أمِّه أم أنَّها خاصَّة بشخصٍ آخر. عاد إلى الممرِّ الفاصل بين العنابر، وحين أبصَرَ رجُلًا يرتدي مِعطفًا أبيض قام بإيقافه، وسأله عن فرصة عمَلٍ وقال له: أنا لا أريد نقودًا وإنَّما أي عمَلٍ يُمكنني القيام به، أستطيع القيامَ بمسْحِ الأرضيَّات أو أيِّ شيء مماثِل؛ كترتيب الحديقة، وتنظيفها مثَلًا.
أجابَهُ الرَّجُل قائلًا: اذهبْ إلى الدور الأسفل، واسألْ في المكتب.
اندفَعَ الرَّجُل من أمامه بسرعةٍ حتَّى اختفى، ولم يستطع «ك» العثور على المكتب المطلوب.
في فِناء المستشفى اندمَجَ في حديثٍ مع أحدِ الرجال الذي سأله قائلًا: هل جئتَ إلى هنا للعلاج؟
هزَّ «ك» رأسَه، وسدَّد الرَّجُل نظراتِه إلى وجهه بنوعٍ من الحَرَج، ثمَّ راح يحكي له بالتفصيل قصةَ الجرَّار الذي انقلَبَ عليه فكَسَر قدَمَه وأصاب فخذه، كما حدَّثه عن المسامير التي قام الطبيب بتثبيتها في عظامه حتَّى قال: إنَّها مسامير فِضيَّة لا تصدأ أبدًا، وأنا أمشي الآن بدِعامةٍ من الألومنيوم.
قال «ك»: ألَا تعرف أين يُمكنني الحصول على طعام؛ فأنا لم أتناولْ شيئًا منذ الأمس.
قال الرَّجُل بعد أن ناوَلَ «ك» قطعةً من النقد: يا رَجُل، لماذا لا تذهب وتُحضر فطيرةً لكُلٍّ منَّا؟
هرول «ك» إلى المخبز واشترى فطيرتَين ساخنتَين بالدجاج، وجلَسَ بجوار صديقه فوق الدَّكَّة، وبدأ في الْتهام الفطيرة. كانت الفطيرة لذيذةً جدًّا وشهيَّة، فانهمرت الدموع من عينَيه، ثمَّ راح الرَّجُل يُحدِّثه عن نوباتِ الارتعاش التي تُعاني منها أخته ولا يمكن السيطرة عليها، بينما كان «ك» يستمع إلى تغريد الطيور فوق الأشجار، ويتساءل بينه وبين نَفْسه مُحاوِلًا أن يتذكَّر: هل عرفتُ مثلَ هذه السعادة من قبلُ؟
أمضى ساعةً كاملة إلى جوار أمِّه بجانب السرير أثناء الظهيرة، ثمَّ ساعةً أخرى في المساء، كان وجهها يميل إلى اللون الرَّمادي ويتَّسم بالكآبة، وكان من العسير سماعُ أنفاسها. وما إن تحرَّك فَمُها؛ حتَّى راح «ك» يُراقب باهتمامٍ شريطَ اللُّعاب وهو يَطُول ويقصُر بين شفتَيها الذابلتَين. وبدَتْ كأنَّها تُريد قولَ شيءٍ ما، غير أنَّه لم يستطع معرفة ذلك الشيء. كانت المُمرِّضة التي طلبتْ منه الرحيل من أمامها قد أخبرتْه أنَّها تُعاني من السكون الناتج عن الألم.
تساءل «ك» قائلًا: لماذا؟ ولأيِّ سبب؟
جاء المُمرِّض بدورة الشاي المُقرَّرة؛ فسارَعَ «ك» بالاستيلاء على كوب الشاي الخاصِّ بأمِّه وكوبِ المريضة في السرير المجاوِر، وقام برشفِهِما بطريقةٍ نهِمَة وكأنَّه كلبٌ مُذنِب.
عاد إلى الزُّقاق فاكتشف أنَّ الصناديق المصنوعة من ورَقِ الكرتون المقوَّى قد تمَّت إزالتها، نام في تلك الليلة أمام مدخل أحد الأبواب في الشارع، وعندما مرَّت الشرطة في الشارع استيقظ، لكنَّه سُرعان ما غَرِق في النوم من جديد، ولم يَكُن الطقس باردًا كالليلة الماضية.
عاد في الصباح إلى المستشفى، كانت امرأةٌ أخرى رأسها مربوطٌ بضِمادات ترقُد فوق سرير أمِّه، فوقف «ك» أمام السرير وظلَّ ينظُر باندهاش، ثمَّ فكَّر قائلًا لنفسه: ربما أكون قد جئتُ إلى العنبر الخطأ!
أوقف المُمرِّضة وقال لها: كانت أمي ترقُد هنا بالأمس، أين هي؟ أجابت الممرضة: اسأل في المكتب.
قالت له الطبيبة: لقد ماتَتْ أمُّك في الليل، ولقد فعلْنَا كلَّ ما في وُسعنا لإنقاذها، لكنَّها لم تستجبْ للعلاج، وعندئذٍ حاولنا الاتصال بك، لكنَّك لم تتركْ لنا رقم تليفونك.
جلَسَ فوق مقعدٍ بأحد أركان المستشفى، فقالت له الطبيبة: هل تريد الاتصال بأحد؟
كان من الواضح أنَّ شيئًا ما يحدُث، لكنَّه لم يستطعْ معرفةَ شيءٍ بعينه؛ فهزَّ رأسه ولاذَ بالصَّمْت.
قدَّم له شخصٌ ما كوبًا من الشاي، لم يتردَّد في احتسائه، وبعد أن الْتفَّ الناس حوله شعَرَ بالغضب وفقَدَ أعصابه، ثمَّ شبَّك يدَيه وراح يُحدِّق في قدمَيه، حرَّر يدَيه وأعاد ضمَّهما مراتٍ ومرات؛ فهل كان من المتوقَّع أن يقول شيئًا؟
نزلوا به إلى الطابق السفلي لرؤية أمِّه، كانت لا تزال ترتدي الرُّوب نفْسَه وذراعاها ممدَّدتَين إلى جنبَيها، وقد نزعوا الأنبوبة المعلَّقة في أنْفِها، نظَرَ إليها لحظةً قصيرة فَقدَ بعدها إحساسه بما يدور حوله، وأصبح عاجزًا عن توجيه نظراته إلى أيِّ شيءٍ آخر.
سألتْه المُمرِّضة الجالسة في مكتب الاستقبال: هل لها أقرباء آخرون تريد الاتصال بهم؟ هل ترغب في أن نقوم نحن بالاتصال بهم؟
قال «ك»: لا يهمُّ.
ثمَّ عاد للجلوس مرةً ثانية فوق مقعده المنعزِل بأحد أركان ممرِّ المستشفى، وبعد ذلك وجَدَ نفْسَه وحيدًا حتَّى منتَصَف النهار؛ حيث جاءوا بصينيَّة الطعام فتناوَلَها كاملةً.
كان لا يزال جالسًا في زاوية الممرِّ حين جاء رَجلٌ يرتدي بدلةً وربطةَ عُنُق للحديث معه، وسأله قائلًا: أخبرْني عن اسم أمِّك وعُمرها ومحلِّ إقامتها وديانتها، وماذا كانت تعمل في «ستيلينبوش».
صمَتَ الرَّجُل لحظةً ثمَّ أضاف: هل لديك الأوراق الخاصَّة بسَفَرها؟
أجاب «ك»: سوف آخذُها معي إلى البيت، كان الطقس باردًا حين كانت تعيش في كيب تاون، ولم تكُن الأمطار تتوقَّف عن السقوط ممَّا أثَّر على صحتها، وكنتُ في طريقي لاصطحابها إلى مكانٍ أفضل على أمَلِ أنْ تتحسَّن صِحَّتها، ولم نُفكِّر قَط بالتوقُّف في «ستيلينبوش».
توقَّف «ك» بعد ذلك وانتابه الخوف من الإفصاح عن أيِّ شيءٍ آخر، وتمنَّى عدمَ مواجهته بمزيدٍ من الأسئلة.
انصرَفَ الرَّجُل عنه ومضى بعيدًا، لكنَّه عاد إليه بعد لحظةٍ قصيرة وجلَسَ أمامه جِلسة القُرْفُصاء، وسأَلَه: هل سبَقَ وأنْ قضيتَ بعضَ الوقت في أحدِ الملاجئ أو داخل مؤسسةٍ للمُعاقين أو في مأوى اللاجئين؟ وهل تعاقدتَ على طلَبٍ بالتوظيف من قبل؟
التزم «ك» بالصَّمْت ولم يُجب بشيء؛ فأخرج الرجل ورقةً من جيبه، وأشار إلى أحد السطور الفارغة، وقال: وقِّع باسمك هنا.
هزَّ «ك» رأسه فلَمْ يستطع الرَّجُل الانتظار، وراح يُوقِّع الورقة بنفسه.
تغيَّرتْ ورديَّةُ العمل في المستشفى فخرَجَ «ك» للتجوُّل في موقف السيارات، وظلَّ يمشي ويتطلَّع إلى سماء الليل الصافية، ثمَّ تذكَّر أنَّ أحدًا لم يُخبرْه بمغادرة المستشفى، فعاد إلى الجلوس فوق مقعده المُلاصِق للحائط. وبعد لحظات، وحين خلا الممرُّ من الناس هبَطَ إلى الطابق الأسفل للبحث عن أمِّه، لكنَّه لم يستطِع العثور عليها، وكان الباب المؤدِّي لها مغلَقًا، فرَاحَ يتسلَّق الحُجْرة الكبيرة المُحاطَة بالأسلاك والمليئة بأقمشة الكتَّان المتَّسخة؛ حيث نام متكوِّرًا كالقِطَّة.
في اليوم التالي بعد وفاة أمِّه وقفتْ أمامه مُمرِّضةٌ جديدةٌ لم يرَهَا من قبلُ وقالتْ: تعالَ، لقد حان وقتُ الرحيل يا «مايكل».
مشى خلْفَها حتَّى وصلا إلى مكتب الاستقبال في الصالة، كانت الحقيبة وحُزمتان من الوَرَق البُنيِّ في انتظاره، فقالت المُمرِّضة الغريبة: لقد قُمْنا بتجميع ملابس المرحومة أمِّك وأغراضها الشخصية ووضعناها في حقيبتها، ويمكنك أن تأخذها الآن.
ارتَدَت المُمرِّضة نظَّارتها وبدتْ كأنَّها تقرأ بعض الكلمات من البطاقة، لاحَظَ «ك» أنَّ الفتاة الجالسة إلى المكتب كانتْ تُراقبهما وتنظر إليهما بطَرفِ عينها.
أضافت المُمرِّضة قائلةً: هذه الحُزمة من الوَرَق تحوي بداخلها رَماد أمِّك، لقد تمَّ حَرْق جثمان أمِّك هذا الصباح يا «مايكل»، ويُمكننا أن نتصرَّف في الرَّماد بالشكل اللائق، أمَّا إذا أردتَ أن تأخُذه معك فلَكَ الحقُّ في الاختيار.
كانت حُزمة الرَّماد أصغرَ من الحُزمة الأخرى، لكن كلتا الحُزمتَين كانتا مربوطتَين بعناية بشريطٍ من الوَرَق البُنيِّ. تحسَّست المُمرِّضة حُزمة الرَّماد بأحد أظافرها، ثمَّ قالتْ وهي تتلمَّس الحُزمة برِفْق: هل تُريد أن نتولَّى أمرَ العناية بها؟
أومأ «ك» برأسه، فدفعت الممرضة بالحُزمة الثانية نحوَهُ بطريقةٍ حازِمة، واستطردتْ قائلةً: وضَعْنا هنا بعضَ الأشياء الصغيرة من أجلك، بعض الملابس وأدوات التجميل، قد تكون تلك الأشياء مُفيدةً بالنسبة إليك.
نظرتْ إلى عينَيه مباشرةً وابتسمتْ له، فعادت الفتاة الجالسة إلى مكتب الاستقبال للانشغال بالآلة الكاتبة.
يوجد إذن مكان لحرْقِ الجُثَث! هكذا فكَّر قائلًا لنفسه، ثمَّ راح يتخيَّل السيدات العجائز في عنبر المستشفى وهنَّ يحترقْنَ ويتآكلْنَ في الفُرن المُلتهِب واحدةً بعد الأخرى بعد أن تزول أعيُنُهن وشفاهُهُن من شِدَّة الحرارة، وما هي إلَّا لحظة قصيرة حتَّى ينتهي كلُّ شيء ويحترق ويتفتَّت.
قال لنفسه بصوتٍ خفيض: يحدث ذلك دائمًا، ولكن كيف يُمكنني أن أعرف؟
سمعتْه المُمرِّضة وقالتْ: وما الشيء الذي تريد معرفَتَه؟
أشار بنفادِ صبرٍ إلى حُزمة الرَّماد، وتساءل بنوعٍ من التحدِّي: كيف لي أن أعرف؟
رفضت المُمرِّضة أن تُجيب، ولكنَّها ربما لم تَفْهَم السؤال.
في موقف السيارات قام بتمزيق الحُزمة الأكبر؛ فوجد بداخلها شفرة حِلاقة، وقطعةً من الصابون، وفوطةً صغيرةً لليد، وسترةً بيضاءَ ذاتَ أزرارٍ لامعة عند الكتف، وبنطلونَين بلونٍ أَسوَد، وقَلَنسُوَة سوداء عليها شارةٌ معدنية مكتوبٌ فوقها: «مستشفى سان جون الميداني.»
ناوَلَ الملابس للفتاة الجالسة إلى المكتب، وكانت المُمرِّضة ذاتُ النظَّارة قد اختفتْ، ثمَّ قال للفتاة: لماذا أعطيتموني هذه الثياب؟
أجابت الفتاة دون أن تنظُر إلى وجهه: لا تسألْني أنا، ربما يكون شخصٌ ما قد ترَكَهم ولم يكُنْ في حاجةٍ إليهم، أو أنَّه قد تعمَّد نسيانهم.
ألقى بقطعةِ الصابون وشفرةِ الحِلاقة بعيدًا، وحين بادَرَ بإلقاءِ الثياب تردَّد كثيرًا ولم يفعل، فقَدْ كانت الرائحة النتِنة تفوح من ملابسه التي يرتديها.
كان من العسير أن يُغادر المستشفى ويرحل رغم عدم وجود سببٍ لبقائه. وفي اليوم التالي راح يدفع عَرَبته في الشوارع القريبة من المستشفى، ثمَّ نام في الليل تحت ماسورة المجاري المُحاطَة بسياجٍ من الشُّجيرات في أحد الأزقَّة. بدا له غريبًا أن يستقلَّ الأطفال درَّاجاتهم وهم عائدون من المدرسة إلى بيوتهم بعد الظهر وهم يدقُّون أجراس الدرَّاجات ويتسابقون في الطريق، كما بدا له أيضًا أنَّ تناول الناسِ للطعام والشراب كلَّ يومٍ أمرٌ غريب. ظلَّ فترةً من الزمن يتنقَّل من شارعٍ لآخر؛ بحثًا عن أيِّ عمَلٍ في الحدائق، لكنَّه تراجَعَ بعد عِدَّة محاولات؛ إذ لم يستطع أصحاب البيوت إخفاءَ نفورهم وكراهيتهم له بمجرَّد فتْحِ الأبواب في وجهه.
تساقطت الأمطار فمَضَى ببطءٍ نحوَ عَرَبته الكارُّو؛ حيث أمضى وقتًا طويلًا وهو يُحدِّق في يدَيه، كان مزاجه سيئًا وعقله مشوَّشًا.
انخرط وسط صُحبةٍ من الرجال والنساء مِمَّن ينامون تحت جِسر السكك الحديدية ويَشغَلون الأماكن الشاغرة خلْفَ محلِّ بيعِ الخمور في شارع «أندرينجا». كان يسمح لهم باستخدام عَرَبته الكارُّو في بعض الأحيان، وذاتَ مرةٍ حين انتابتْه نوبةٌ من السخاء قدَّم لهم المَوقِد، لكنَّ أحدَهم حاوَلَ ذات ليلة أن يسحَبَ الحقيبة من تحت رأسه عندما كان نائمًا، فحدثتْ مشاجرةٌ عنيفةٌ غادَرَ على إثرها المكانَ.
توقَّفتْ سيارة الشُّرطة ذاتَ يومٍ إلى جواره في الشارع، وخرَجَ منها شرطيَّان وراحا يُفتِّشان العَرَبة، فتَحَا الحقيبة وقاما بتفتيش محتوياتها، ثمَّ نزَعَا شريط الوَرَق الذي يُغلِّف الحُزمة الثانية التي كانت تحوي بداخلها صندوقًا كرتونيًّا بداخله حقيبةٌ بلاستيكية بها رَمادٌ أَسوَد، كانت المرةَ الأُولى التي يرى فيها «ك» تلك الحقيبة وذلك الرَّماد؛ فتوجَّه بنظراته بعيدًا عنها، لكنَّ الشرطيَّ سأله: ما هذا؟
أجاب «ك»: إنَّها بقايا حريق جثَّة أمي.
قذَفَ الشرطي بالحقيبة البلاستيكية من إحدى يدَيه إلى اليد الأخرى بطريقةٍ لافِتةٍ للنَّظَر، ثمَّ قال شيئًا لصديقه لم يتمكَّن «ك» من سماعه.
وقَفَ عدَّة ساعات في جانب الشارع الذي يقع فيه المستشفى، فأبصَرَها أصغرَ ممَّا كانت تبدو عليه، كانت مجرَّد بِنايةٍ قديمةٍ منخفِضة يعلوها سقفٌ من القِرمِيد.
توقَّف لمشاهدة غروب الشمس، ولم يشغل باله باحتمال تعرُّضه للأذى، كما لم يكُنْ يهمُّه أن يتعرَّض لأيِّ شيء، ارتدى ملابسه الجديدة: السُّترة البيضاء والبنطلون الأَسوَد والقَلَنسُوة، وراح يدفع عَرَبته الكارُّو ويُحرِّكها في أيِّ وقتٍ يشاء وفي الاتجاه الذي يريده. وفي بعض الأحيان كانت تنتابه نوباتٌ من الابتهاج والمَرَح رغم إحساسه أنَّه فقَدَ بعضًا من قوَّته ولم يعُدْ بقوةِ الاحتمال نَفْسه التي كان عليها من قبلُ، غير أنَّه لم يكُنْ مريضًا. كان يأكُل مرةً واحدةً في اليوم بعد أن يشتري الكعك أو الفطائر من نقود أمِّه التي تركتْها في محفظتها. وكان يشعُر بالسرور من إنفاق النقود وعدم الكسب، ولم يُفكِّر في اللحظة التي ستنتهي فيها النقود.
نزَعَ الشريط الأَسوَد المثبَّت في بِطانة معطف أمِّه وقام بتثبيته حول ذراعه، لكنَّه اكتشف أنه لم يفتقدْها كما افتقَدَها طيلةَ حياته إلَّا بقدْرٍ قليل.
كان يشعُر بفراغٍ كبير ولا يجِدُ شيئًا يفعله؛ فبدأ ينام كثيرًا، وعندئذٍ عرَفَ أنَّه يستطيع النوم في أيِّ مكانٍ وفي أيِّ وقتٍ وأيِّ وَضْع. كان الناس يتخطَّونه وهو مستندٌ إلى الحائط فوق الرصيف واضعًا الحقيبة بين قدمَيه. وحين كان النوم يُباغته بقوةٍ ويتسلَّل إلى داخل رأسه ويُصيبه بحالةٍ من الارتباك والتشوُّش؛ لم يكن يملك الإرادة الكافية على المقاومة؛ فيستسلم لنومٍ عميق دون أن تُراوِده الأحلام.
ذات يومٍ لم يجِدْ عَرَبته الكارُّو فلَمْ يهتمَّ، وأصبح من الواضح أنَّه سيُمضي وقتًا أطول في «ستيلينبوش»، ولم يكُنْ ثمَّة شيءٌ يُوحي أنَّ المُدَّة ستكون قصيرة. وكان يسير مُترنِّحًا طوال اليوم، ولا يعرف له طريقًا في معظم الأوقات.
كان يسير عبْرَ شارع «بانهويك» في يومٍ ما كما كان يفعل أحيانًا وهو يحمل الحقيبة، وكان الصباح هادئًا ومشبَّعًا بالضباب حين سمِعَ خطواتِ حوافِرِ حصانٍ يجري من خَلْفه، وبعد أن تجاوَزَه الحصان تسلَّلتْ إلى أنْفِه في البداية رائحةُ روَثِ البهائم، كان الحصان يجرُّ عَرَبةً صغيرةً ذات صندوقَين مفتوحَين لنقل القُمامة، ويقودها رَجلٌ عجوزٌ يرتدي مِعطفًا واقيًا من المطر. مشى بجوار العَرَبة جنبًا إلى جنب لفترةٍ من الوقت، أشار خلالها الرَّجُل العجوز برأسه إلى «ك» الذي تردَّد لحظةً وراح يُمعن النظر في الشارع الممتدِّ المليء بالضَّباب، أدرك عندئذٍ أن لا شيءَ في الأفق يُوحي بالأمان فشَعَر بالضياع. صعِدَ إلى العَرَبة وجلَسَ بجوار الرَّجُل العجوز، وقال له: شكرًا، يُمكنني مساعدتك إذا شئت.
لم يَكُن العجوز في حاجةٍ إلى المساعدة، ولم يكُنْ في حالةٍ مزاجية تسمح له بالحديث، طلَبَ من «ك» النزول بعد مِيلٍ واحدٍ بعيدًا عن الطريق، حيث قام بتفريغ الحُمولة القذِرة، بينما ظلَّ «ك» يواصل سيره طوال النهار. وعندما حلَّ الظلام، وبعد أن انتصف الليل نام في الحديقة تحت شجرةِ الكينا، لكنَّ الرياح ظلَّتْ تعصف بأوراقها طوال الليل؛ فلَمْ يستطِع أن يَنعَم بنومٍ هادئ. في اليوم التالي، وعند منتصف النهار واصَلَ سَيْرَه قاصدًا الشمال عبْرَ الطريق الدولي ولم يتوقَّف إلَّا حين لاحتْ في الأفق أولُ نقطةِ تفتيش، انتظَرَ في مكانٍ بعيد عن الأنظار حتَّى أصبح مُتيقِّنًا من اللحظة التي لا يقومون فيها بإيقاف السائرين على أقدامهم.
مرَّتْ بجواره قافلاتٌ طويلة عدَّة مراتٍ، وكانت تتقدَّمها سياراتُ حراسةٍ مسلَّحة، لكنَّه شاهَدَ الناس وهم يسيرون بطريقةٍ عادية ويقِفُون دون خوفٍ ولا يُحاولون إخفاء أنفُسَهم؛ ففعَلَ مِثلَهُم.
نام هذه المرة عند جانب الطريق، وحين استيقَظَ وجَدَ نفْسَه مُبلَّلًا بقطراتِ الندى، وكان الطريق أمامه مُشبَّعًا بالضباب، والطيور تُرفرف بأجنحتها فوق الأشجار وتنتقل من غصنٍ إلى آخر وهي تُغرِّد بصوتٍ خافت. علَّقَ الحقيبة في العصا وحمَلَها فوق كتفه، ولم يكُنْ قد تناوَلَ طعامًا منذ يومَين، وبدا واضحًا أنَّ قدرته على الاحتمال بلا حدود.
أبصَرَ من خلال الضباب شُعلةً من النار على بُعد مِيل من الطريق وسمِعَ أصواتًا، وعندما اقترَبَ من شُعلة النار استطاع أن يشمَّ رائحةَ لحمِ خنزيرٍ مُقدَّد؛ فانتفضتْ مَعِدته، وكان بعض الرجال يقفون حول النار ويمدُّون أياديهم بحثًا عن الدفء. توقَّفَ الرجالُ عن الحديث لحظةَ اقترابه منهم وراحوا يُحدِّقون فيه. بدأ في تحسُّس قَلَنسُوته لعلَّهم يُدرِكون أنَّه جائع، لكنَّهم تغافلوا عنه وكأنَّه غير موجود. ابتعَدَ عنهم ومضى في طريقه عابرًا شُعلةً أخرى من النار على الجانب الثاني من الطريق، كما تجاوَزَ صفًّا من السيارات، كانت السيارات تقِفُ ملاصِقةً لبعضها البعض في طابورٍ طويل، وفوانيس الإشارات كلها مُضَاءة. أدرك سبَبَ وقوفِ السيارات بعد لحظات، كانت شاحنة النقل الكبيرة ذاتُ اللونِ الأزرقِ اللامِعِ مقلوبةً عند مُنعطَف الطريق المؤدِّي إلى ممرٍّ ضيِّق، وكانت عَجَلات المقطورة التي تجرُّها تسدُّ الطريق، كما احترقت الكابينة عن آخرها واكتست الشاحنة باللونِ الأسْوَد بفعل الدُّخان. كانت الشاحنةُ تحمل أنواعًا مختلفة من الطُّرود وأجْوِلَة الدَّقيق، وما إن اصطدمتْ بكَومةٍ مُلقاةٍ على الطريق؛ حتَّى اكتسى الطريقُ بلونِ الدقيق الأبيض. استطاع «ك» بالكاد أن يرى بقيَّة القافلة حول المنعطف، وسمِعَ أصواتًا عاليةً لمِذياعَين من محطتَين متنافستَين وصوتَ أغنامٍ بائسة من بعيد، ثمَّ فكَّر للحظةٍ في التوقُّفِ لملْء جيوبه بالدقيق المُنسكِب على الأرض، لكنَّه تساءل قائلًا لنفسه: وماذا يُمكنني أن أفعَلَ به؟
مضى بخطواتٍ مُتثاقِلة، عبَرَ شاحنةً تلو الأخرى حتَّى اجتاز الشاحنة المُحمَّلة بالأغنام المربوطة بإحكامٍ فوق الشاحنة، وكان بعضها يقِفُ على أقدامه الخلفية، لمَحَ مجموعةَ الجنود المتحلِّقين حول شُعلةِ النار، الذين تجاهلوه حين وقَفَ يُداعب قَلَنسُوَته ومضى مُتجاوزًا إياهم بالخطوات المُتثاقِلة نفْسِها، ثمَّ أبصَرَ ضوءًا يتلألأ من فانوسَين عند مؤخرة القافلة وبعض أدواتِ قَذْف الحِجارة المحترِقة في وسط الطريق.
شعَرَ بالاطمئنان فوْرَ تجاوزه للقافلة، وعرَفَ أنَّه أصبح حرًّا، لكنَّه ما إِنْ وصَلَ إلى المنعطَف التالي مباشرةً؛ حتَّى خرَجَ له من بين الشجيرات جنديٌّ يرتدى زيًّا مموَّهًا، ورفَعَ البندقية الآلية نحو قلبه. توقَّف «ك» فأنزل الجندي بندقيَّته وأشعل سيجارة، وبعد أن تناوَلَ نَفَسًا منها؛ رفَعَ البندقية من جديد، ثم بدا على وجه «ك» وصوته أنَّه ميِّتٌ لا محالة.
سأله الجندي: مَن أنت؟ وإلى أين أنت ذاهب؟
أوشك «ك» على الإجابة، لكنَّ الجنديَّ قاطَعَه قائلًا: دعْنِي أرى، تعالَ ودعْنِي أرى ما لديك.
كانا بعيدَين عن القافلة، وكانت الموسيقى الخافتة لا تزال تُصدر أنغامها في الفراغ حين فكَّ «ك» الحقيبة من فوق كتفه وفتَحَها. تناوَلَ الجندي نفَسًا من سيجارته وأشار له أن يرجع إلى الخَلْف، ثم قلَبَ محتويات الحقيبة بحركةٍ واحدةٍ؛ فتناثَرَ كلُّ ما بداخلها فوق الطريق: الشبشب الأزرق المصنوع من اللباد، والسراويل النسائية البيضاء، وزجاجة الغسول البلاستيكية ذات اللون الوردي، وزجاجة أقراص الدواء، وحقيبة اليد البلاستيكية، ووشاحٌ مطرَّز بالزهور وآخر بالأصداف عند حوافه، بالإضافة إلى المِعطف الصوفيِّ الأَسوَد، وعلبة المجوهرات، والتنُّورة البُنيَّة، وحُزمةٍ بلاستيكيةٍ بيضاءَ، وعلبةِ القهوة الصفيحيَّة، وبودرةِ التَّلك، وبعضِ المناديل والرسائل والصور الفوتوغرافية، ثمَّ حُزمة الرَّماد المتبقي من إحراق جثَّة أمِّه. لم يتزحزح «ك» من مكانه.
قال الجندي: من أين سرقتَ كلَّ تلك الأشياء؟ أنت لِص، أليس كذلك؟ أنت لِص يُحاول الهرَبَ عبْرَ الجبال.
قذَفَ حقيبة اليد بحذائه، وأضاف: دعْنِي أرى ما بداخلها.
تحسَّس علبة المجوهرات وعلبة القهوة الصفيحية وأشياء أخرى، وكرَّر السؤال: دعْنِي أرى تلك الأشياء.
تراجَعَ إلى الوراء قليلًا، ففتَحَ «ك» علبة القهوة. كانت تحتوي على حلقاتِ الستائر، فأخرجها من العلبة، ووضَعَها في كفِّ يده، ثمَّ أعادها إلى داخل العلبة من جديد وأغلقها. فتَحَ بعد ذلك علبة المجوهرات، وقام بتفريغها، لكنَّه أُصيبَ بالفزَعِ وراح قلبُه يدقُّ بين ثنايا صدره حين حرَّك الجندي محتويات العلبة وعثر بداخلها على دبوس مزخرَف. سارَعَ بالْتقاطه، ثمَّ انتصَبَ واقفًا وهو يبتسم. أغلق «ك» العلبة، وفتَحَ حقيبة اليد، وقام أيضًا بتفريغها فوق الطريق كما أشار له الجندي. كانت تحوي بداخلها منديلًا، ومشطًا للشعر، ومرآة، ومسحوقًا للتجميل، وحافظتَين للنقود.
أشار الجندي إلى الحافظتين، فقام «ك» بتسليمهما له، حيث وضَعَهما الجندي داخل جيب سُترته القصيرة.
لعِقَ «ك» شفتَيه، وقال بغِلظة: إنَّها ليست نقودي، إنَّها نقود أمي التي جاهدتْ في العمل من أجلها.
لم يكُنْ ذلك حقيقيًّا؛ فقد كانت أمُّه مُفلِسة، وليست في حاجة إلى النقود. ومع ذلك ساد صمْتٌ غريبٌ بينهما للحظاتٍ قليلة، قال «ك» بعده متسائلًا: ما السبب في رأيك الذي تقوم من أجله المعارك والحروب! أتحدُث مثلُ تلك المعارك حين يستولي شخصٌ ما على نقودك مَثلًا؟
قال الجندي ساخرًا وهو يُحاكي طريقة «ك» في الكلام والطريقة التي فتح بها فمه: ما السبب في رأيك الذي تقوم من أجله المعارك والحروب! أنت لِص، انظرْ إلى تلك الأشياء. إنَّك تستطيع أن تنام في الأدغال وسط كومةٍ من الذباب؛ فلا تقل لي شيئًا عن المعارك.
أشار ببندقيته نحو الكِيس البلاستيكي داخل الحقيبة وقال: أرِني هذا الكِيس.
خلع «ك» القَلَنسُوَة، وقام بإخراج الكِيس من الحقيبة، فنظر إليه الجندي وقال: ما هذا؟
أجاب «ك» بثبات: رَماد.
قال الجندي: افتحْهُ.
فتح «ك» الكيس، فتناول الجندي بعضًا من محتوياته، وراح يشمُّه بحذَرٍ، ثمَّ قال وهو ينظر إلى «ك»: يا إلهي!
جلس «ك» فوق رُكبتَيه، وبدأ في تجميع مقتنيات أمِّه ووضْعِها داخل الحقيبة، وكان الجندي يقف إلى جواره، فقال له: هل يُمكنني الانصراف الآن؟
قال الجندي: ربما يكون مسموحٌ لك بالانصراف.
وضَعَ «ك» العصا بين يدَي الحقيبة، ثمَّ رفَعَها فوق كتفه، فقال الجندي: دقيقةً واحدة فقط، هل تعمل في سيارةٍ للإسعاف أو في مستشفى؟
هزَّ «ك» رأسه فقال الجندي: دقيقةً واحدة، دقيقةً واحدة.
عاد «ك» إلى الوراء قليلًا، والْتقط الورقة النقدية، ثمَّ راح يُواصل طريقه، وما هي إلَّا دقيقة واحدة أو اثنتان حتَّى اختفى الجندي وسط الضباب.
لم يشعر «ك» أنَّه جبان، وانتابه إحساسٌ بعدم جدوى الاحتفاظ بالحقيبة، فتسلَّق أحد المنحنيات بصعوبةٍ وترَكَها بين الأدغال، لكنَّه احتفظ بكِيس الرَّماد والمِعطف الأَسوَد؛ تحسُّبًا لموجات البَرد.
ظلَّ يسير طوال اليوم، وحين هبَطَ الليل واستبدَّ به التعب؛ أمضى ليلته داخلَ كوخٍ مصنوع من القشِّ في زاويةٍ من زوايا ملعب الرجبي المكسوِّ بالأعشاب، الذي يفصله عن الشارع صفٌّ طويل من أشجار الكينا. كانت نوافذ الكوخ مُحطَّمة ومفاصل الباب لا تعمل، وكانت الأرض مليئةً بالزجاج المكسور وأوراق الصحف القديمة ورُكام من أوراق الشجر. كما كانت شقوقُ جِدار الكوخ مشبَّعةً بالعشب الأصفر الذابل، وكانت القواقع مُتجمِّعةً تحت مواسير المياه، غير أنَّ السقف كان سليمًا. قام بتجميع كومةً من أوراق الشجر وأوراق الصُّحُف، وصنَعَ منهما سريرًا، لكنَّه لم يستطِع أن ينامَ نومًا هادئًا؛ بسبب الرياح العاتية والأمطار الغزيرة.
استيقظ ولم تَكُن الأمطار قد توقَّفتْ بعدُ. شعَرَ بدُوارٍ من شدَّة الجوع، ثمَّ وقَفَ عند باب الكوخ وظلَّ لمُدَّة ساعةٍ كاملة في انتظار أن تتوقَّف الأمطار، راح خلالها يتطلَّع إلى المراعي والمُروج والأشجار المُبلَّلة وإلى التلال المشبعة بالضباب من خلفها. ثمَّ رفع ياقةَ المِعطف أخيرًا وسارع بالجري تحت الأمطار المنهمرة. عند أحد أطراف ملعب الرجبي البعيدة تسلَّقَ جدارًا من السِّلك الشائك؛ فوجَدَ نفْسَه داخل بستانٍ من بساتين الفاكهة مليءٍ بالحشائش والأعشاب الضارَّة. كانت الفاكهة المعطوبة متناثرةً في كلِّ مكان على الأرض، ولم تَكُن الفاكهة فوق أغصان الأشجار في حجمها العادي، بالإضافة إلى أنَّها لم تكُنْ ناضجةً بما يكفي. كانت القَلَنسُوَة مُتدليةً حتَّى أذنَيه، وكان المعطف الأَسوَد مُلتصِقًا بجسده؛ فوقف وراح يقضم الأجزاء السليمة من كل قطعة فاكهة، ويمضغها بسرعة كالأرنب، بينما كانت عيناه غائبتَين تمامًا وخاليتَين من أيِّ تعبير.
كان البستان مُهمَلًا، وحين بدأ «ك» التَّجوُّل في أرجائه؛ عرَفَ أنَّه مهجورٌ، ولا يوجد مَن يهتمُّ به، حتَّى ساوَرَه إحساسٌ أنَّه يسير في أرضٍ مهجورة. كانت أشجار التفاح متناثرةً فوق الأرض المنبسِطَة، واستطاع «ك» أن يُشاهد من خلفها بيوتًا صغيرةً مصنوعةً من طوب القِرمِيد وأسقفًا من القشِّ وبيتًا ريفيًّا تُحيط بها جدرانٌ ذاتُ طِلاءٍ أبيض. كانت بعض الخضراوات موضوعةً بعناية فوق الأرض المُنبسِطة الخالية من الأوساخ كالقَرنَبِيط والجزر والبطاطس، فترك «ك» مكانه تحت أوراق الشجر، حيث كان يحتمي من الأمطار، وبدأ يزحف بيدَيه وركبتَيه تحت وابلٍ من الأمطار. حتَّى استطاع أن ينزع حُزمةً من الجزر الأصفر المغروس في باطن الأرض المُبلَّلة، وهو يقول لنَفْسه: إنَّها أرضُ الله، وأنا لستُ لصًّا.
سمِعَ صوتَ ارتطامٍ في النافذة الخلفية للبيت الريفي، وتراءى له شخصٌ ما على شكلِ شبحٍ ضخمٍ يُسارع بالهجوم عليه. وعندما امتلأ جيبُه بالجزر، انتصَبَ واقفًا وألقى بالجزر فوق الأرض بدلًا من تناوله والاحتفاظ به تحت الأشجار كما كان ينتوي.
توقَّفت الأمطار أثناء الليل؛ فعاد في الصباح لمواصلة طريقه بملابسه المُبلَّلة، وكانت بطنُه منتفِخةً من الطعام غير الناضج. وعندما سمِعَ صوت القافلة وهي تقترب زحَفَ مُتسلِّلًا للاختباء بين الأدغال، ثمَّ بدأ بعد تلك اللحظة في السير هائمًا بملابسه القذِرَة وشكله الهزيل المرهَق بلا هدفٍ وبخطواتٍ طليقة، وقد نسي تمامًا أنَّ العبور في الطريق يتطلَّب الحصول على الأوراق والتصاريح اللازمة، كما لم يطرأ بذهنه أنَّه مُعرَّض للأذى، كان «ك» غارقًا في اللامبالاة!
عبَرَتْ إحدى القوافل، تتقدَّمها الدراجات البخارية، كانت القافلة تتكوَّن من سياراتٍ مصفَّحة وشاحناتٍ مليئة بالجنود الشباب ذوي الخُوذَات المستديرة فوق رءوسهم. استغرَقَ عبور القافلة خمس دقائقَ كاملة، ظلَّ «ك» ينظُر خلالها بإمعانٍ من مخبئه إلى الخارج. كان المَدفَع في السيارة الأخيرة ملفوفًا بقطعة من القماش وغطاء من الصوف، وبدا كأنَّه موجَّه إلى عينَيه قبل أن يغيب بعيدًا.
نام في الليل تحت ماسورةِ مياهٍ كبيرة، وفي التاسعة صباحًا من اليوم التالي كان على مَرأًى من مداخن وأبراج «ورسيستر». لم يعُدْ وحيدًا في الشارع، وأصبح وسط «مجموعة» من الناس المتشرِّدين، ثمَّ عبَرَ أمامه ثلاثةُ شبابٍ بخطوات رشيقة. كان الدُّخان الأبيض يتطاير من أفواههم وهم يتنفَّسون.
في ضواحي المدينة كانت المتاريس التي لم يرَ «ك» مثلها من قبلُ إلَّا في «بارل» تسدُّ الشوارع، وكان الناس يحتشدون بكثرةٍ حول سيارات الشرطة. ارتعَشَ «ك» للحظة، وكانت البيوت على يساره ومصانع القِرمِيد والطوب اللَّبِن على يمينه. وكان الطريق الوحيد المؤدِّي إلى الخروج في الخلف، لكنَّه واصَلَ السير.
همس قائلًا للمرأة الواقفة أمامه في الصفِّ: ماذا يريدون؟
نظرت المرأةُ إليه ثمَّ ابتعدتْ ببصرها بعيدًا عنه ولم تقُلْ شيئًا.
جاء دَوره فأخرج بطاقته الخضراء، واستطاع أن يرى في أول الصفِّ وبين شاحنتَين من شاحنات الشُّرطة؛ أولئك الذين تجاوزوه عند نقطة التفتيش، وكذلك مجموعةً من الرجال الصامتين، لم تكُنْ بينهم امرأةٌ واحدة، وكانوا تحتَ حراسةِ رجُلٍ من رجال الشُّرطة يمسك في يدَيه بحبلٍ في نهايته كلبٌ. قال «ك» لنفسه: قد يسمحون لي بالمرور إذا بدا لهم أنَّني رَجلٌ أَبْلَه.
سأله الشرطي: من أيِّ منطقة أنت؟
كان فمُه جافًّا فأجابَ بصعوبة: من «برنس ألبرت»، وأنا في طريقي للعودة إلى هناك.
سأله عن التصريح، فقال له «ك»: لقد ضاع منِّي.
أشار الشرطي بعصاه وقال: انتظرْ هناك.
قال «ك» هامسًا: ليس عندي وقتٌ كافٍ؛ فلا أريد التوقُّف.
ثم استطرد قائلًا لنَفْسه: هل شعَرُوا بخوفي؟
أمسَكَ شخصٌ ما بذراعه، فراح يَخفِق كما تفعلُ البهائم لحظةَ الهجوم عليها. كان الناس في الصفِّ من ورائه يُلوِّحون بالبطاقة الخضراء، ولم يجِدْ مَن يستمع إليه بعد محاولاتٍ فاشلة للحديث مع بعضهم، فأشار له الشرطيُّ المُمسِك بالكلب بإيماءةٍ تُوحي بنفادِ صبْرِه. وعندئذٍ شقَّ «ك» طريقه إلى الأمام، وتقدَّم بخطواته الأخيرة نحو الأَسْر بينما راح الناس من خلْفِه يجرجِرُون أقدَامَهم بتثاقلٍ، وكأنَّهم يتجنَّبون شيئًا مُلوَّثًا. وضَعَ الصندوق بين ذراعيه وأحكَمَ القبضَ عليه ثمَّ راح ينظُر إلى عينَي الكلب الصفراء.
اقتادوا «ك» بصُحبة خمسين من الغرباء إلى فِناء السكك الحديدية، وقدَّموا لهم العصيدة والشاي، ثمَّ ساقُوهم في سيارةٍ واحدة إلى مسارٍ جانبي. كانت أبواب السيارة مُغلَقة، وكان الحارس المُسلَّح يُراقبهم، ولم يكُنْ بمقدورهم فِعْل أيِّ شيءٍ سوى الانتظار، حتَّى وصَلَ عددٌ آخر من المساجين يقترب من الثلاثين وصعِدُوا إلى السيارة نفسها.
رجلٌ عجوزٌ يرتدي بدلةً كان يجلس إلى جوار «ك» بالقُرب من النافذة، لمَسَ «ك» كُم سُترته وسأله: إلى أين سوف يأخذوننا؟
نظر الرَّجُل الغريب إليه مُتفحِّصًا وجهه، ثمَّ هزَّ كتفَيه وقال: ولماذا الاهتمام بالمكان الذي سيأخذوننا إليه؟ وهل هناك فرق؟ لا يوجد سوی مكانَين فقط: أحدهما في اتجاه خط السكك الحديدية، والآخر في الاتجاه المضاد. تلك هي طبيعة القطارات!
ثمَّ أخرج قطعتَين من الحلوى، وقدَّم واحدةً ﻟ «ك».
تقدَّمتْ قاطرةٌ بخارية نحو مسار الطريق الجانبي والْتصقتْ بالسيارة، استطرَدَ الغريب حديثه مع «ك» الذي فقَدَ اهتمامه بالغريب ولم يردَّ عليه.
بدءوا في التحرُّك من مسار الطريق في اتجاه ساحات «ورسيستر» الخلفية؛ حيث كانت النساء يغسلْنَ الثياب، بينما يقِفُ الأطفال فوق الأسوار يُلوِّحون لهنَّ بأياديهم حين مرَّ القطار بجوارهم، نظر «ك» إلى أسلاك التلغراف المُمتدَّة وهي ترتفع وتهبط، ثمَّ تُعاود الارتفاع والهبوط، ومضت السيارة بهم مِيلًا بعد مِيل عبْرَ حقول الكُروم الخالية والمهجورة التي تُحلِّق فوقها الغربان، وما إن اقتربت السيارة من الجبال حتَّى بدأتْ أصوات المحرِّك في التصاعد. ارتعش «ك» وأصابَه الخوف، واستطاع أن يشمَّ رائحة عرَقِه الممتزجة مع رائحة ملابسه العفِنة.
فتَحَ الحارس أبواب السيارة حين وصلوا إلى الموقف، وقد بدا سبب التوقُّف واضحًا فَورَ نزولهم من السيارة. كانت الصخور الكثيرة والطين الأحمر والوحل الذي دمَّر جزءًا كبيرًا من جانب التلِّ أثناء انحداره؛ سببًا في توقُّف القطار وعدم قدرته على مواصلة السَّير، عَلِق شخصٌ ما بشيءٍ ما فانفجر الجميع في الضحك.
شاهدوا قطارًا آخر عند الجزء المنخفض من الأرض في الجانب الآخر وقد انحرف عن مساره، وكان بعض الرجال يُصارعون كالنمل لإخراج المِجرفة الآلية من الشاحنة، ووضْعِها عند الرصيف المُنحدِر.
وجَدَ «ك» نفسَه ضمن مجموعةِ العمل المُكلَّفة بإصلاح خطِّ السكك الحديدية، وظلَّ طوال فترة ما بعد الظهر يعمل مع زملائه تحت مراقبة مُشرف العمال والحارس في تحريك القضبان المُلتوِية وتثبيت العوارض. وفي المساء كان كثير من الخطوط يسمح بمرور الشاحنات الفارغة للوصول إلى أسفل المُنحدر. توقَّفوا فجأةً لتناولِ العَشاء المُكوَّنِ من الخبز والمربَّى والشاي، ثمَّ راحوا يتسلَّقون التلَّ على ضوء القاطرة الأمامي، وبدءوا في جرْفِ الطين وإزالة الأحجار. كان التلُّ عاليًا في البداية؛ فلَمْ يجِدُوا صعوبةً في إلقاء الحمولة فوق الشاحنة، وبعد جرْفِ كميةٍ كبيرة من الطين والوحل والتخلُّص من كثيرٍ من الأحجار؛ أصبح التلُّ منخفضًا؛ ممَّا جعَلَهم يرفعون الأحجار بدلًا من إلقائها من فوق التلِّ، وبعد أن امتلأت الشاحنة عن آخرها تحرَّكتْ عائدةً باتجاه قُضبان السكك الحديدية؛ حيث قام بتفريغها الرجال أنفُسُهم، ولكنْ في الظلام.
استعاد «ك» نشاطَه من جديد بعد استراحة العشاء، وقد كلَّفتْه كلُّ الحمولات التي رفَعَها مجهودًا كبيرًا، وعندما انتصَبَ واقفًا شعَرَ بوخزاتٍ في ظَهْره، عمِلَ أكثرَ وأكثر ولكنْ ببطء، ثمَّ جلَسَ بعض الوقت عند جانب الطريق واضعًا رأسه بين ركبتَيه، ولم تكُنْ لديه أيَّةُ فكرةٍ عن الوقت الذي مضى عليه في ذلك الوضع، كان الإغماء قد أصابه وكانت الأصوات تتردَّد داخل أذنَيه باهتةً وغامضة.
كان يضغط على ركبتَيه حين سمِعَ صوتًا يقول: انهض!
نهَضَ ثمَّ جَرْجَر قدمَيه في الضوء الخافت حتَّى أصبح في مواجهة مُشرف العُمَّال بمِعطفه الأَسوَد وقبَّعته.
كانت رأس «ك» مُفكَّكة، وبدا صدى كلماتِه كأنَّه قادمٌ من بعيد وهو يقول للمشرف: لماذا تُجبرونني على العمل هنا؟
هزَّ المشرف كتفَيه، ثمَّ رفَعَ عصاه ودفَعَ بها صدر «ك» وقال: افعلْ فقط ما تُؤمر به.
الْتقط «ك» جاروفه، وراح يُواصل العمل.
ظلُّوا يعملون بمشقة حتَّى منتصف الليل، وكانوا يتحرَّكون كما يفعل السائر في نومه من شدَّة التعب، ثمَّ اقتادُوهم إلى السيارة أخيرًا، حيث نام بعضهم فوق المقاعد، بينما تمدَّد البعض الآخر فوق أرضيَّة السيارة الباردة، وكانوا جميعًا متلاصقِين إلى بعضهم البعض، ويُعانون من الإرهاق الشديد. كان برْدُ المرتفعات قارسًا؛ فأغلقوا النوافذ. بينما كان أفراد الحِراسة يرفعون أقدامهم إلى أعلى وأسفل وهم يرتعِشُون من قسوة البَرْد، وكانوا يذهبون إلى داخل السيارة بالتناوب فيما بينهم؛ لتدفئة أياديهم وهم يُطلقون اللعنات، ومختلف أنواع الشتائم.
كان «ك» مُرهَقًا ويُعاني من شدَّة البرد، فرقَدَ مُحتضِنًا كِيس الرَّماد بين يدَيه، وراح الرَّجُل المجاور له يعانقه ويضغط عليه أثناء نومه.
فكَّر «ك» قائلًا: ربما يعتقد بأنَّني زوجته التي كان نائمًا إلى جوارها ليلةَ أمس!
سرَحَ بنظراته خارج النافذة المُبلَّلة بالضَّباب، وراح يحلُم بانتهاء تلك الليلة ورؤية الصباح، لكنَّه نام أخيرًا ولم يشعُر بشيء. وعندما فتَحَ الحرَّاس أبواب السيارة في الصباح كان جسَدُه مُتيبِّسًا فوقَفَ بصعوبة ثمَّ سارَعَ بالنزول.
قدَّموا لهم مرةً أخرى العصيدة والشاي، ووجَدَ «ك» نفسه جالسًا بجوار الرَّجُل الذي بادَلَه الحديث في رحلة العودة من «ورسيستر».
قال الرجل: هل أنت مريض؟
حرَّك «ك» رأسه، فأضاف الرجل: كنتُ أعتقد أنك مريض.
قال «ك»: أنا لستُ مريضًا.
إذن لا يجب أن تكون بائسًا إلى هذا الحدِّ، نحن لسنا في سجنٍ وليس محكوم علينا بشيء، إنَّها فقط مجموعةُ عمل.
لم يستطع «ك» الانتهاء من تناول شريحةَ العصيدة الباردة المصنوعة من الدقيق، وكان طاقم الحراسة والمشرفون يسيرون بينهم ويصفِّقون بأياديهم؛ لِحَثِّهم على الوقوف.
قال الرجل مُشيرًا إلى المساجين والحرَسِ والمشرفين: لا يوجد شيءٌ محدَّد يتوجَّب إدانتك عليه، ونحن جميعًا لسنا مذنبين.
وقفوا جميعًا، فسارَعَ «ك» بإلقاء ما تبقَّى من العصيدة فوق الأرض، مرَّ المشرف ذو الأنف المعقوف إلى جواره، وضرَبَ ضربًا خفيفًا بالعصا فوق مِعطفه، ثمَّ قال له مبتسمًا وهو يربِّت فوق كتفَيه: ابتهجْ يا رَجُل، سوف تصبح حرًّا في الحال.
وصلت الجرافة الآلية إلى الجانب الآخر من المُنحَدَر؛ حيث ظلَّتْ تعمل بانتظامٍ في تجريف الأرض، وعند الظهيرة كانت إحدى الشاحنات المكشوفة مقلوبةً في الطريق، وقد أحدثتْ حفرةً كبيرة في الأرض بعُمْق ثلاثة أمتار، فتوقَّف المرور حتَّى جاء طاقم الصيانة واستطاع ردْمَ الحفرة ورَفْع الشاحنة، انطلق البخار من القطار في الجانب الشمالي؛ إيذانًا بالتحرُّك، وكان «ك» يرتدي سترة الإسعاف البيضاء المتَّسخة، ويحمل المعطف وكِيس الرَّماد في يدَيه، فسارَعَ بتسلُّق القطار، كما فعل كثيرٌ من الرجال الصامتين المرهَقين، لم يُوقفه أحدٌ وبدأ القطار في التحرُّك ببطء في اتجاه الشمال عبر مسار خطِّ السكك الحديدية الفردي، وكان يقف في نهاية القاطرة اثنان مُسلَّحان من جنود الحِراسة لمراقبة الطريق.
طوال ساعتَين من الركوب تظاهَرَ «ك» بالنَّوم، وربما كان الرَّجُل الجالس قُبالته يبحث عن شيء يأكله، فقام بدفْعِ كِيس الرَّماد من بين أقدام «ك»، وعندما شاهَدَ الرَّماد بداخله سارَعَ بإغلاقه وإعادته إلى مكانه. كان «ك» يُراقبه بعينَين نصف مفتوحتَين، لكنَّه لم يقُلْ شيئًا ولم يُبدِ أيَّ اعتراض.
نزلوا عند نَهْر «توز» بعد الظهر في تمام الخامسة، ووقَفَ «ك» فوق الرصيف دون أن يعرف ما سوف يحدُث بعد ذلك، ربما يكتشفون أنَّه استقلَّ القطار الخطأ، فيقومون بترحيله عائدًا إلى «ورسيستر»، أو ربما يتحفَّظون عليه في هذا المكان المُنعزِل والعاصف بحجَّة عدم امتلاكه أوراقًا ثُبوتية أو تصريحًا بالمغادرة، وقد يكون بقيَّة الطريق في حالةٍ من الطوارئ الناتجة عن كثيرٍ من المنحدَرَات والمسارات الوعِرة؛ فيقومون عندئذٍ بتفريق الرجال شمالًا وجنوبًا للعمل في إصلاح الطريق من جديد دون مقابلٍ بالطبع، وإنَّما بتقديم العصيدة والشاي فقط لضمان بقائهم أحياءً.
لكنَّ الحارِسَين عبَرَا بجانب الرجال فوق الرصيف، ومضيا في طريقهما دون أن يتفوَّها بأيِّ كلمة تاركَين إيَّاهم وسط رقعة من الأرض مليئةٍ بالجمر ورَمَاد الفحم؛ لاستئناف حياتهم المُتوقِّفة.
لم ينتظر «ك» كثيرًا وبدأ في عبور الطريق، وراح يسلُك المسار المؤدِّي إلى مواقف الحافلات وملاعب الأطفال والفنادق الصغيرة المنتشرة على طول الطريق الدولي، وكانت ألوان الحواجز الخشبية عند مُنعطَفَات الطريق باهتةً، وبدا أنَّ مواقف الحافلات مُغلقة منذ زمنٍ بعيد، غير أنَّ دُكَّانًا صغيرًا تُعلن اللافتة من فوقه عن مشروب الكوكاكولا كان مفتوحًا وإلى جواره قفصٌ من البرتقال الذابل. وصَلَ «ك» إلى باب الدُّكان، فالْتقى بامرأةٍ عجوز تحمل قفَّةً سوداء، فرَدَت المرأة ذراعَيها لتحيَّته والترحيب به، وقبل أن يقترب منها ويرفع يدَيه كي يُبادلها التحية؛ أجبرتْه على التراجع بعيدًا عن العتَبَة، ثمَّ أغلقت الباب بالقُفْل في وجهه. نظَرَ من خلال الزجاج، وظلَّ يطرُق الباب ويُلوِّح بورقةٍ نقدية من فئة العشرة راندات لطمأنَتِها، لكنَّ المرأة العجوز اختفتْ خلْفَ مِنضدة الدُّكان العالية. جاء من بعده رجلان آخران كانا معه في القطار وشاهَدَا ما حدَثَ له فألقى أحدهما حِفنةً من الحصى فوق نافذة الدُّكان، ثمَّ استدار الرجلان وغادَرَا المكان.
ظلَّ «ك» في مكانه، واستطاع أن يرى الحافة السوداء من ثياب المرأة العجوز فيما وراء صناديق الحلوى المكشوفة وخلف الأرفُف، فرفَعَ يدَيه قُبالة عينَيه، وظلَّ ينتظر دون أن يتمكَّن من سماع شيءٍ سوى صوتِ الرياح القادمة من المُروج وصوتِ ارتطام لافتةِ الكوكاكولا فوق رأسه. أطلَّت العجوز برأسها بعد لحظةٍ من خلْفِ المنضدة، وشاهدتْ نظراته المُحدِّقة داخل الدُّكان. كانت ترتدي نظَّارة بإطاراتٍ سوداءَ سميكة، وكان شَعرُها الفضيُّ معقودًا إلى الخلف، واستطاع «ك» أن يُشاهِدَ فوق الأرفُف من ورائها الدقيق والسُّكر وبعض الطعام المُعلَّب والمنظِّفات. وكانت سلَّةٌ مليئةٌ بالليمون مُلقاةً فوق الأرض أمام المنضدة، فعاود التلويح بالورقة النقدية عبْرَ الزُّجاج، لكنَّ المرأة العجوز لم تتزحزح من مكانها، ولم تتأثَّر برؤية النقود.
فتَحَ حنفيَّة المياه المجاوِرة لمحطة الوقود، لكنَّها لم تعمل، فذهَبَ للشَّراب من الحنفيَّة الواقعة خلْفَ الدُّكان، وفيما وراء الواحة كانت تقِفُ عند الموقف مجموعةٌ كبيرةٌ من هياكل السيارات. جرَّب كثيرًا من الأبواب حتَّى وجَدَ باب إحدى السيارات مفتوحًا، واكتشف عدم وجود المقعد الخلفي للسيارة، لكنَّه كان مُرهَقًا بشدَّة فلَمْ يُحاول البحث عن مكانٍ مُريحٍ وآمِن في سيارةٍ أخرى. كانت الشمس في طريقها للغروب خلْفَ الجبال، وتلوَّن السحاب باللون البرتقالي حين شدَّ الباب لإغلاقه، ثمَّ رقَدَ فوق أرض السيارة المليئة بالتراب بعد أن وضَعَ كِيس الرَّماد تحت رأسه، وما هي إلَّا ثوانٍ قليلةٌ حتَّى غرِق في نومٍ عميق.
في الصباح كان الدُّكان مفتوحًا، وخلْفَ المنضدة كان يقِفُ رجلٌ طويلٌ يرتدي ثيابًا بلونٍ كاكي، اشترى منه «ك» ثلاثَ عُلَب من الفول بخلطةِ الطماطم، وعلبةً من لَبَن البودرة، وعلبةَ كِبريت دون أيِّ مشاكل. ثمَّ عاد إلى خَلْف الموقف وأشعَلَ النار لتسخين عُلَب الفول، بینما راح يصبُّ بودرة اللبن في كفِّه ويَلعَقها بلسانه. وبعد الانتهاء من تناول علبةِ فولٍ واحدةٍ؛ بدأ في الرحيل عبْرَ الطريق السريع، وكان الطريق شاقًّا من كثرة الوحل، وكانت الشمس على يمينه. ظلَّ يمشي بثباتٍ طوال اليوم مرورًا بمساحاتٍ كبيرة من الأراضي المُنبسِطة الشاغرة إلَّا من الأشجار المنخفضة والأحجار؛ فلم يكُن العثور على مكانٍ للاختباء شيئًا يسيرًا. وكانت القافلات تعبُر في كلا الاتجاهَين، لكنَّه لم يهتمَّ بها. وحين حلَّ المساء انطلق من الطريق وعَبَر السياج، حيث وجَدَ مكانًا لقضاء الليلة بجوار ضفَّة النهر القاحل. أشعَلَ النار مرةً أخرى وتناوَلَ علبة الفول الثانية بعد تسخينها. ثمَّ نام بالقرب من جَذْوَة النار دون الإحساس بضوضاء الليل أو الرياح الجالبة للحَصَى أو حفيف ورَقِ الأشجار.
فوْرَ عبُوره السياجَ ودخوله الواحةَ المليئة بالمروج أصبَحَ السَّيْرُ مُريحًا، فلَمْ يتوقَّف عن المُضيِّ في سَيْرِه طوال اليوم، واستطاع في الضوء الخافت أن يصطاد حمَامَةً برميةِ حَجَر من فوق غُصن الشجرة، قام على الفور بقَطْع رَقَبتها وتنظيفها، ثمَّ أحضَرَ سِيخًا من الحديد وبدأ عمليةَ الشِّواء، الْتَهمَ الحمَامَة مع علبة الفول الأخيرة بِنَهمٍ شديد.
في الصباح أيقَظَه رَجلٌ عجوز من أبناء البلد يرتدي مِعطفًا عسكريًّا مُمزَّقًا ذا لونٍ بنِّي، وأخبره بطريقةٍ غريبةٍ وعنيفة عن ضرورة الرحيل الفوري من مكانه، فقال «ك» معترِضًا: لقد نِمتُ هنا فقط، ولا أبغي شيئًا آخر.
قال الرَّجُل العجوز: لا تجلبْ لنَفْسك المتاعب؛ فسوف يعثُرون عليك وسط مُروجهم ويُطلقون عليك الرصاص … أنت تُثير القلاقل … ارحل الآن!
سأله «ك» عن الاتجاهات المناسبة والآمنة، لكنَّ العجوزَ أشاح مُلوِّحًا بيدَيه، وبدأ في إطفاء ما تبقَّى مشتعِلًا من النار بإلقاء القاذورات فوقها. تراجَعَ «ك» وراح يخوض في الوَحْل لمدَّة ساعةٍ كاملة بموازاة الطريق السريع، وحين شعَرَ بالأمان عَبَر السياج مرةً أخرى. تناوَلَ نصفَ قبضةٍ من الذُّرة المسحوقة والسماد من حَوْض التغذية المجاوِر للسدِّ وصنَعَ منهما العصيدة وأكَلَها، ثمَّ ملأ قَلَنسُوته بما تبقَّى منها، وقال لنفسه: وأخيرًا، أنا ما زلتُ حيًّا.
لم يكُنْ يسمع شيئًا في بعض الأحيان إلَّا صوتَ قدمَي بِنطاله وهما يصطدمان بعضهما ببعض. وكانت الطبيعة من مكانٍ لآخر خاليةً من الحياة، فراح يتسلَّق التلَّ، ورقَدَ فوقه وهو يستمع إلى همسات الصَّمْت والهدوء القاتل، وشعَرَ بدفءِ الشمس يتخلَّل عِظامه.
تراءتْ له من خلْفِ شجرةٍ صغيرةٍ ثلاثة مخلوقاتٍ غريبةٍ وكلابٌ صغيرةٌ بآذانٍ كبيرة، لكنَّها لاذتْ بالفرار بعيدًا عنه.
فكَّر قائلًا لنفسه: أستطيع العَيش هنا حتَّى أموت وللأبد، لا شيء يحدُث هنا وكلَّ يومٍ سيكون مِثلَ سابقه، ولا يوجد شيءٌ يمكن قولُه، ولن يكون. يجب أن يأتي الناس للعَيشِ هنا وسط ذلك الهدوء الكامل وأن يقوموا بتوريث المكان لأبنائهم وأحفادهم للأبد.
بدأ القلق الذي عانى منه طوال الطريق يتلاشى، حتَّى إنَّه كان أحيانًا وهو يواصل سَيرَه؛ لا يعرف إذا كان مستيقظًا أم نائمًا؟
انطلقتْ طائرتان في السماء بسرعةٍ كبيرةٍ من الجنوب إلى الشمال، وخلَّفَتَا وراءهما موجاتٍ مُتلاحقةً من الضجيج وسُحبًا من الدخان راحتْ تتلاشى ببطء.
تسلَّقَ ربوةَ التلِّ الأخيرة حين كانت الشمس تتراجع، ثمَّ عَبَر الجِسر، حتَّى وصَلَ إلى شارع المدينة الرئيسي الواسع، وكان الضَّوء يميل إلى اللون البنفسجي القاتِم، مرَّ بجوار محطَّة الوقود ومجموعةٍ من المحلات والدكاكين والفنادق الصغيرة، وكانت جميعها مغلقة. ثمَّ سمِعَ نُباح كلبٍ تبِعتْه كلابٌ أخرى راحتْ تُشاركه النُّباح، وكانت أنوار الشارع مُطفَأة. كان واقفًا أمام فاترينة أحد المحلات المغلَقة التي تعرض ملابس الأطفال حين مرَّ من خلفه شخصٌ ما. مضى الشخص في طريقه، لكنَّه توقَّف فجأةً، ثمَّ عاد إليه وقال: سيكون هناك حظرٌ للتَّجْوال عندما تدقُّ الأجراس، ومن الأفضل أن تبتعد عن الشارع وترحل بعيدًا.
استدار «ك» وشاهَدَ رجلًا أصغَرَ منه يرتدي بدلةً خضراء ويحمل صندوقًا خشبيًّا، سأله الرَّجُل الشابُّ: هل أنت بخير؟
أجاب «ك»: أنا لا أريد التوقُّفَ لأنَّني متوجِّه إلى مُقاطَعة الأمير ألبرت، والطريق إلى هناك طويل جدًّا.
ذهَبَ مع الشاب الغريب، ونام في بيته بعد أن تناولا وجبةً من الشوربة والخبز المحمَّر، وكان بالبيت ثلاثة أطفال، أصغرُهم فتاةٌ كانت جالسةً فوق رُكبة أمِّها دون أن تتوقَّف عن التحديق في «ك» أثناء تناوله الطعام، ولم تُبعِدْ نظراتها عنه رغم تحذيرات أمِّها، بينما كان الطفلان الأكبر منها منشغِلَين تمامًا بطعامهما، تردَّد «ك» كثيرًا قبل الحديث عن رحلته، ثمَّ قال: قابلتُ رجلًا منذ أيامٍ قليلة وأخبَرَني أنَّهم سيُطلقون النار على أيِّ شخص يجِدُونه في أرضهم.
هزَّ صديقه الشابُّ رأسه، وقال: لم أسمعْ بذلك مطلقًا، ينبغي على الناس أن تُساعد بعضها البعض، هكذا أعتقد.
فرِحَ «ك» بكلام مُضِيفه الشاب، وتساءل: هل أُومِن أنا بمساعدة الناس؟ قد أُساعِد الناس وقد لا أفعل، أنا في الحقيقة لا أعرف مُسبَقًا، فكلُّ شيء قابلٌ للحدوث، لستُ متأكِّدًا وأشكُّ كثيرًا في كلِّ ما يتعلَّق بالمساعدة.
ثمَّ فكَّر قائلًا: قد أكون إنسانًا صعبًا كالأرض المليئة بالأحجار.
انطفأت الأنوار، فرَقَد «ك»، وظلَّ فترةً طويلة يستمع إلى تحرُّكات الأطفال وأصواتِهم بعد أن احتلَّ سريرهم وناموا فوق المرتبة على الأرض. استيقظ «ك» لأول مرَّة أثناء الليل بعدما شعَرَ أنَّه يتحدَّث وهو نائم، غير أنَّ أحدًا لم يسمعْهُ على ما يبدو، وعندما استيقظ للمرة الثانية كان ضوء النهار قد سطع، وكان الأبُ والأمُّ يُجهِّزان أطفالهما للذهاب إلى المدرسة، ويطلبان منهم عدم إزعاج الضَّيف، تحرَّك ببطءٍ وخفَّة من تحت البطاطين وتسلَّل إلى الخارج، حيث وقَفَ في الهواء الطَّلق أمام عتبة الباب، كانت النجوم لا تزال متلألئةً، وثمَّة بريقٌ قرنفليُّ اللون كان ساطعًا في الأفق باتجاه الشرق.
خرَجَ الولد لدعوته على الإفطار، وعلى مائدة الطعام انتابتْه رغبةٌ في الحديث، فأمسك بحافة المائدة وجلَسَ منتصِبًا، كان قلبه مُفعَمًا بالمشاعر، وأراد أن يُعبِّر عن مدى امتنانه وتقديره، لكنَّه لم يَجِد الكلمات المناسبة، ولم يستطع أن يتفوَّه بشيء. نظَرَ الأطفال إليه وساد الصَّمْت، بينما كان الأبُ والأمُّ يتوجَّهان ببَصَرِهما بعيدًا.
طلَبَ الوالدان من الطفلَين الكبيرَين أن يسيرا مع «ك» حتَّى المُنعطَف المؤدِّي إلى «سيويويكسبورت». وعندما وصَلَوا إلى المُنعطَف، وقبل أن يفترق الطفلان عن «ك»؛ قال الولد مُشيرًا إلى الكِيس: هل هذا هو الرَّماد؟
أومَأَ «ك» برأسه، وفكَّ عقدة الكِيس البلاستيكية، ثمَّ قال له: هل تريد أن تراه؟
انحنى الولد في البداية ليشمَّ الرَّماد، ومن بعده فعلتْ أخته الشيء نَفْسه، ثمَّ سأله الولد: وماذا تنوي أن تفعل بهذا الكِيس؟
أجاب «ك»: سوف آخذه معي إلى المكان الذي وُلِدتْ فيه أمي منذ زمنٍ بعيد، وهي التي طلبتْ منِّي ذلك.
سأله الولد مرةً أخرى: هل قاموا بإحراقها؟
شاهَدَ «ك» هالةً من القداسة فوق الرماد، وقال: لم تشعُر بأيِّ شيء، كانت مجرَّد رُوحٍ في تلك اللحظة.
استغرقت المسافة من «لينجسبورج» إلى مُقاطَعة الأمير ألبرت ثلاثة أيام؛ حيث مضى في اتجاه الطريق المُوحِل وعَبَر منحنياتٍ كبيرةً حول بيوت الفلَّاحين. كان الجوُّ حارًّا ذات يوم من الأيام الثلاثة؛ فخلع ملابسه، وألقى بنفسه في مياه السدِّ المهجور. وحدَثَ ذات مرةٍ أن توقَّفَ أَحدُ الفلاحين عند جانب الطريق، وكان يقود سيارة نقلٍ صغيرةً، وسأله عن وجهته؛ فأجاب «ك» بلهجةٍ غريبة: أنا ذاهب إلى «الأمير ألبرت» لزيارة عائلتي.
لم يقتنع الفلَّاح بلهجته الغريبة ونبرة صوته، لكنَّه قال له: اصعد.
أشار «ك» برأسه، فقال الفلاح مرَّةً ثانية: اصعد، سأقوم بتوصيلك.
واصَلَ «ك» سَيْرَه، وقال: أنا بخير.
انطلقت السيارة الصغيرة بسرعةٍ وسطَ سحابةٍ من الغُبار، فهُرِعَ «ك» في الحال بعيدًا عن الطريق، واقترَبَ من حافة النهر؛ حيث ظلَّ مختفيًا إلى ما بعد غروب الشمس.
تذكَّرَ الفلَّاح بعد ذلك، ولم يستطع أن يستدعي في ذهنه سوى قبَّعته الطويلة وأصابعه القصيرة البدينة التي أشار بها حين طلَبَ منه الصعود، وتذكَّر كذلك الشعر البرونزي بين كل عُقلة إصبع من أصابع الفلَّاح، وبدا واضحًا أنَّ «ك» لا يستطيع تذكُّر كلِّ شيء، لكنَّه كان قادرًا على استدعاء بعض التفاصيل الصغيرة فقط.
في صباح اليوم الرابع كان يجلس القُرْفُصاء فوق الرابية يُراقب الشمس وهي تتسلَّل إلى مُقاطَعة الأمير ألبرت، وسمِعَ صياح الدِّيَكَة، وكان وميض الضوء ينبعث من زجاج النوافذ، وثمَّة طفلٌ يقود حمارَين في الطريق الرئيسي. كان الجوُّ هادئًا تمامًا، وأثناء هبوطه من الرابية قاصدًا المدينة انتَبَه لصوتِ رَجلٍ يطلب مقابلته والحديث معه حديثًا مُنفرِدًا وهادئًا وبلا انقطاع. لكنَّ الرَّجُل لم يَظهرْ؛ فشعَرَ بالحيرة والارتباك، ثمَّ توقَّفَ ليسمع من جديد، وقال لنَفْسه متسائلًا: هل هو صوت الأمير ألبرت؟ لكن الأمير ألبرت ميت!
حاوَلَ أن يُميِّز الكلمات، لكنَّها كانت خافتةً جدًّا، ولم يستطع حتَّى أن يسمعها جيِّدًا رغم انتشار الصوت في الهواء مثلما ينتشر الضَّباب. توقَّفَ الصوتُ عن الكلام بعد لحظة فسمِعَ من بعيد صوت الموسيقى.
مضى في الطريق المؤدِّي إلى المدينة من ناحية الجنوب، ومرَّ في طريقه بطاحونةٍ قديمة وبعض حدائق يُحيطها السِّياج، وكان زوجٌ من الكلاب الملوَّنة داخل السياج يجري بسرعةٍ إلى الأمام وإلى الخلف متلهِّفًا للنَّيْلِ من «ك»، كانت بعض البيوت القليلة على بُعد مسافةٍ صغيرة، وثمَّة امرأةٌ شابَّةٌ تجلس راكعةً أمام حنفيَّة البيت الخارجية، كانت تغسل الطاسةَ حين نظرتْ من فوق كتفها إلى «ك» الذي تحسَّس قَلَنسُوته ومضى بعيدًا عنها.
كانت الدكاكين والمحلات على جانبَيِ الشارع؛ مخبزٌ ومَقهًى ومتجرٌ للملابس وبنكٌ وورشةُ لِحام وتاجرٌ عمومي ومواقفُ سيارات. كان دكَّان التاجر العمومي مُغلقًا بسلسلةٍ حديدية، فجلَسَ «ك» فوق عتبة الدكَّان، ولم يستطع أن يفتح عينَيه في مواجهة الشمس. أغلق عينَيه وقال: أخيرًا، لقد وصلت، وها أنا ذا هنا.
كان لا يزال جالسًا فوق عتبة الدكَّان بعد مرور ساعة، وكان مُستغرِقًا في النوم وفمُه فاغرًا، الْتفَّ حوله الأطفال وكانوا يهمسون ويضحكون، رفَعَ أحدهم القَلَنسُوة من فوق رأسه، وقام بارتدائها وهو يُحرِّك فمَه يمينًا ويسارًا في سخرية، فانطلق زملاؤه في الضَّحك. ألقى الطفل بالقَلَنسُوة فوق الجانب الأيسر من رأس «ك»، وحاوَلَ اختطاف كِيس الرَّماد لكن «ك» كان يقبض بكلتا يدَيه فوق الكِيس.
جاء صاحبُ الدكَّان حاملًا مفاتيحه، فتراجَعَ الأطفال، ثمَّ استيقظ «ك» حين بدأ الرَّجُل يفكُّ السلسلة الحديدية.
كان الدكَّان مُظلِمًا من الداخل وغير منظَّم، كانت مواسير الحمَّام الحديدية وعَجَل الدرَّاجات مُعلَّقة في السقف، وإلى جوارها سيور المراوح وخراطيم التدفئة، كما كان الدكَّان يعجُّ بصناديق المسامير ورُكامٍ من الجرادل البلاستيكية وأرفُفٍ من البضائع المُعلَّبة والمشروبات الكحولية والحلوى وملابس الأطفال حديثي الولادة والمشروبات المُثلَّجة.
تقدَّم «ك» ناحية صاحب الدكَّان، وقال له: السيد «فوسلو» أو السيد «فيسر».
كانت تلك هي الأسماء التي استعادتْها أمُّه من الماضي وأخبرتْه عنها، فاستطرد قائلًا: أنا أبحث عن السيد «فوسلو»، أو ربما هو السيد «فيسر» وهو فلَّاح.
سأله صاحب الدكَّان: هل تعني السيدة «فوسلو»؟ إنَّها في الفندق، ولكن لا يوجد ما يُسمَّى بالسيد «فوسلو».
قال «ك»: إنَّني أبحث عن السيد «فوسلو» أو السيد «فيسر» الذي كان فلَّاحًا منذ زمنٍ بعيد، ولكنَّني لا أتذكَّر الاسم بالضبط، وإذا وجدتُ المزرعة فإنني سأعرفها.
– لا توجد مزرعةٌ أو فلَّاح باسم «فوسلو» أو «فيسر»، فهل تعني «فيساجي»؟ وماذا تريد من اﻟ «فيساجي»؟
أشار «ك» إلى كِيس الرَّماد وقال: يجب أن أضع شيئًا هناك.
– لقد جئتَ إذن من بعيد إلى المكان الخطأ، فلا يوجد أحد في «فيساجي»، إنَّه مكانٌ مهجور منذ زمنٍ بعيد، هل أنت متأكد من أنك تريد «فيساج»؟ لقد رحَلَ أهل «فيساج» منذ سنواتٍ طويلة.
طلَبَ «ك» قطعةً من البسكويت بالزنجبيل، فسأله صاحب الدكان: مَن الذي أرسلك إلى هنا؟ كان يجب أن يُخبروك بهُويَّة الشخص الذي تُريده واسمه الكامل، قلْ لهم ذلك حين تُقابلهم.
بدا «ك» وكأنَّه أحمق، ثمَّ تمتَمَ بكلماتٍ مبهَمة، وغادَرَ الدكَّان.
مشى في الشارع، وراح يسأل نفسه: أين يُمكنني محاولة السؤال مرةً أخرى؟
كان أحد الأطفال يجري خلْفَه، ويُنادي: أيُّها السَّيد، أستطيع إخبارك بمكان اﻟ «فيساج».
توقَّفَ «ك» فأضاف الطفل: لكنَّه مكانٌ مهجور وخالٍ من الناس.
أشار الطفل له أن يتوجَّه ناحية الشمال على طول الطريق المؤدِّي إلى «كرودفونتاين»، ثمَّ باتجاه الشرق بموازاة طريق المزرعة بامتداد وادي «موردین آرسريفيير».
سأل «ك»: وكم تبعُد المزرعة عن الطريق الرئيسي؟ هل هو طريقٌ طويلٌ أم قصير؟
الْتبس الأمر على الطفل ولم يكُنْ متأكِّدًا، ولم يكُنْ أحدٌ من زملائه يعرف، فقال الطفل: ستجِدُ اﻟ «فيساج» بعد الإشارة وقبل أن تصِلَ للجبال، وهو طريقٌ طويل إذا قطعْتَه سَيرًا على الأقدام.
ناوَلَهم نقودًا وطلَبَ منهم أن يشتروا بها بعض الحلوى.
وصَلَ إلى الإشارة في وقت الظهيرة، واستدار نحو الطريق المؤدِّي إلى البيوت الخَرِبة المهجورة، وحين شارفت الشمس على الغروب تسلَّقَ أحدَ المرتفعات، فشاهَدَ مزرعةً مهجورةً عبَرَ منها، وراح يتسلَّقُ السُّفوح والمنحنيات شديدةَ الانحدار حتَّى وصَلَ إلى البيت. كانت كل الأبواب والنوافذ مُغلَقة، وكان الجزء العلويُّ من البيت مُحطَّمًا وتظهر منه العوارض الخشبية، وكانت ألواح السقف الصفيحية المَطليَّة بالزنك ملتويةً. وثمَّة حمَامَةٌ بريَّةٌ تطير وتُحاول الدخول في إحدى فتحات الجزء العلوي المكسور، بينما كان أحد الألواح الصفيحية يُرفرِف من شِدَّة الرياح. خلْفَ البيت كانت الحديقة جرداءَ وخاليةً من النباتات والفاكهة، ولم يجِدْ «ك» جراج السيارات كما كان يتوقَّع، وإنَّما مجرَّد سقيفةٍ من الخشب والحديد وفي مواجهتها حظيرةٌ للدجاج مصنوعةٌ من السِّلك الشائك وشرائطَ من البلاستيك الأصفر المتهالك، وفي مكانٍ مرتفعٍ خلْفَ البيت كانت مِضخَّة المياه دون حنفيَّة ولا تعمل، لكنَّ مِضخَّةً أخرى كانت تُومِض على بُعدٍ من الواحة والمرج العُشبي.
كانت الأبواب الأمامية والخلفية مغلقةً فانتزع القُفل بقوة، حتَّى تزحزح الخُطَّاف من مكانه، ثمَّ راح ينظُر بإمعانٍ من نافذة الشُّبَّاك، لكنَّه لم يستطع رؤيةَ شيء.
سارَعَ زوجٌ من عصافير السنُونُو بالطيران فَورَ دخوله المرج العشبي، وكانت الأتربة تُغطِّي أدوات تقليب التربة، وخيوط العنكبوت تحتلُّ جزءًا كبيرًا من الأرض، وكانت الدنيا مُعتِمة، فلَمْ يستطع الرؤية إلَّا بالكاد. وحين تسلَّلتْ رائحة الخشب والوَبَر والقار إلى أنفه؛ انسحب بمُوازاة الجُدران مُتخطِّيًا المَعاوِل والمجاريف والمواسير والأسلاك وصناديقَ من الزجاجات الفارغة حتَّى وصَلَ إلى كومةٍ من أجولة البُذور الفارغة، سحَبَ الأجولة إلى مكانٍ نظيف وصنَعَ منها سريرًا.
انتهى من تناولِ آخرِ قطعةٍ من البسكويت الذي اشتراه، وكانت لا تزال نصف النقود بحوزته، لكنَّه لم يعُدْ في حاجة إليها، تلاشى الضوء وكانت الخفافيش تُرفرف، فرَقَد فوق سريره وظلَّ يستمع إلى الأصوات المصاحِبة لهواء الليل الذي كان أكثر شِدةً من هواء النهار، ثمَّ قال لنفسه قبل أن ينام: أنا هنا الآن، أو إنَّني هنا تقريبًا على الأقل.
كانت الخِراف وهي تجري في المزرعة هي أول الأشياء التي شاهَدَها حين استيقظ في الصباح. كان قطيع الخراف المكوَّن من اثني عشر أو أربعة عشر يمشي الهُوَينَى من خلْفِ البيت مُتوجِّهًا إلى الفِناء تحت قيادة رجلٍ عجوزٍ ذي شَعرٍ مجعَّد. وقَفَ «ك» فوق سريره لرؤية المشهد، وعندئذٍ انطلقتْ الخِراف وتبعثرتْ في الطريق المؤدِّي إلى ضفَّة النهر، وما هي إلَّا لحظةٍ قصيرة حتَّى اختفتْ تمامًا. جلَسَ وبدأ في ربْطِ حذائه على مَهلٍ وهو يُفكِّر قائلًا: إذا أردتَ البقاء حيًّا فيجب اللَّحاق بتلك البهائم ذاتِ الشَّعر الطويل وذَبْح واحدةٍ منها وتقطيعها إلى أجزاءٍ صغيرة، كما يفعلون مع بقيَّة المخلوقات المشابِهة لها.
هُرع خلْفَ قطيع الخراف مُتسلِّحًا بالمِطواة، وظلَّ يطارد القطيعَ طوال اليوم، كانت الخرافُ جامحةً في البداية، لكنَّها استسلمتْ أخيرًا من كثرة الهرولة خَلْفها. وحين أصبحت الشمس حارقةً، توقَّفت الخِرافُ لالتقاط أنفاسها؛ فاستطاع الاقتراب منها. رفعت الخِرافُ أرجُلَها أمامه وفي تلك اللحظة شعَرَ «ك» بجَسَده يرتعش وكان من العسير عليه أن يتخيَّل نفسه شخصًا وحشيًّا وهمجيًّا وهو يحمل المِطواة، حتَّى إنَّه لم يستطع التخلُّص من الخوف الذي انتَابَه حين بادَرَ بطَعْنِ الخروف البُنيِّ المنقَّط في رَقَبَته البيضاء؛ ممَّا جعَلَ المِطواة تهتزُّ في يده وتُصيبها بجروح. سارعت الخِراف بالهرولة من جديد، وقال «ك» لنَفْسه مُحاوِلًا رفْعَ معنوياته والتخلُّص من عقدة الذنب: إنَّ للخراف أفكارها الخاصة الكثيرة وليست لديَّ سوى فكرةٍ واحدة، غير أنَّ فكرتي الوحيدة أقوى وأهمُّ من أفكار الخِراف الكثيرة.
حاوَلَ أن يسوق الخِراف باتجاه آمِن ومُحاطٍ بالأسوار، وظلَّ يدور حولها في دائرةٍ كبيرة حول مِضخَّة المياه بجوار الخزَّان الأسمنتي المربَّع الذي شاهَدَه بالأمس عند بيت الفلَّاحين، لكنَّها كانت دائمًا تهرب منه ولم يستطع التحكُّم فيها. اقترَبَ من الخزَّان واكتشَفَ أنَّه مليءٌ إلى آخره، وكانت المياه تفيض منه وتُغرق الأرض حَوَالَيه بالوحل. وحين اقترَبَ أكثرَ سمِعَ نقيق الضفادع. شرِبَ قليلًا من الماء وشعَرَ بالحيرة والارتباك من وفرة المياه بذلك القَدْر. وفي وقتٍ متأخِّر من بعد الظهر راح يواصِل مطاردة الخراف التي كانت تسير أمامه على مَهلٍ من مكانٍ مظلَّلٍ إلى آخر. هبَّتْ رياحٌ خفيفةٌ، وصدرتْ أصواتٌ مُجلجِلة من سَيْر المِضخَّة، ثمَّ بدأتْ قطراتٌ من الماء المتقطِّع تتدفَّق من الماسورة.
كان جائعًا ومُرهَقًا ويخشى التخلِّي عن الْتزامه بالمطاردة، ويخاف من فقدان الخِراف أثناء الليل في ذلك المرج العشبي المُمتدِّ. الْتقَطَ حقائبه وصنَعَ لنفسه سريرًا فوق الأرض المكشوفة العارية تحت القمر المُكتمل، وكان حريصًا أن يكون مرقده قريبًا بقَدْر المستطاع من الخِراف، ثمَّ نام نومًا مُتقطِّعًا ولم يستيقظ إلَّا في منتصف الليل على إثر أصواتها وتحرُّكاتها أثناء ذهابها للشَّراب. كان لا يزال مُرهَقًا بشِدَّة، فنهَضَ وتعثَّرَ في السَّير في اتجاهها، تجمَّعت الخِراف حول نفسها في دائرةٍ صغيرة، وألقتْ بنفسها في الماء، وحين غطَسَ في الماء تبعثرت الخِراف في كلِّ الاتجاهات وراحتْ تصرُخ طالبةً النَّجدة. انزلَقَ واحدٌ من الخراف تحت قدمَيه وراح يَرفُس كالسمكة في الوحل لاستعادة اتِّزانه، لكن «ك» قفَزَ بكلِّ جسَدِه فوقه، وقال لنفسه: يجب أن أتحلَّى ببعض القسوة وألَّا أتهاوَنَ في الضَّغط عليه، ولا يجب التراجُع عن قراري.
شعَرَ بالأجزاء الخلفية من الخروف تخفِق تحت يدَيه ولم تتوقَّفْ عن الثُّغاء المتواصِل من شدَّة الفَزَع، وكان جسَدُه يرتعش من التشنُّج. باعَدَ «ك» بين قدمَي الخروف ووضَعَ يدَيه حول رَقَبته، ثمَّ ضغَطَ على رأسه بكلِّ قوَّته تحت سطح الماء حتَّى وصَلَ به إلى القاع، غير أنَّه ظلَّ مُمسِكًا بالخروف بين ركبتَيه، بعد لحظةٍ بدأتْ ركلاتُ الخروف تضعُف فتوقَّفَ «ك» عن الضَّغط، وحين توقَّف جسَدُ الخروف عن الارتجاف بعد وقتٍ طويل عاد «ك» للضغط على رأس الخروف مرةً ثانية. شعَرَ ببرودةِ المياه التي تسلَّلتْ إلى أطرافه؛ فسارَعَ بالخروج من الماء.
كان مُلتحِفًا بملابسه المُبلَّلة وكانت أسنانه تصطكُّ ببعضها البعض فلَمْ يستطع النوم طوال الفترة المُتبقية من الليل. أوشَكَ القمر على الاختفاء، وحين اقترب موعد الفجر سطَعَ أول خيطٍ من الضوء، فاستطاع رؤية الأشياء، عاد إلى بيت المزرعة ووضَعَ كُوعَه فوق زجاج الشُّبَّاك دون أن يُفكِّر، ثمَّ أزاح القُفل المفتوح وفتَحَ الشُّبَّاك عن آخره، وبدأ يتحرَّك من غرفةٍ إلى أخرى، وباستثناء قِطَع الأثاث الكبيرة والخِزانات الصغيرة والأَسِرَّة والدواليب؛ لم يكُنْ يوجَد شيءٌ. كانت آثار أقدامه فوق الأرضية المليئة بالأتربة واضحةً، وعندما دخَلَ المطبخ كانت الطيور مُختبِئةً في كلِّ الأركان فأصابَهَا الفَزَع، وسارعَتْ بالتحليق والفِرار إلى الخارج عن طريق فتحةٍ في السقف. تبعثَرَ الرَّوَث في المطبخ، وكانت كومةٌ من الطُّوب مُتراصَّةً عند الجدار البعيد؛ حيث كان الجزء العُلوي من الجدار متآكلًا، وتنمو بداخله وحَوَالَيه بعض النباتات العُشبية.
قُبالة المطبخ كانت توجد حُجْرةُ المُؤَن، فتح «ك» باب الحجرة وألقى داخلها بالقفل، وكان صفٌّ من شمَّاعات الملابس الخشبية مُثبَّتًا على طُول أحد الجدران، كانت الشمَّاعات خاليةً من الملابس، لكنَّ واحدةً منها كانتْ مُغطَّاةً بالرِّمال ومخلَّفات الفأر، وكانت أدوات المطبخ مرصوصةً فوق أحد الأرفف إلى جانب مجموعةٍ من الأطقُمِ المنزلية والأكواب البلاستيكية والأباريق الزجاجية، وكانت الأتربة وخُيوط العنكبوت تُغطِّي كلَّ شيء. كانت زجاجات الزيت والخلِّ المملوءة إلى نِصْفِها فوق رفٍّ آخر بجوار أباريقَ من مكعبات السُّكَّر ولبن البودرة وثلاث زجاجات من الطعام المُعلَّب. فتَحَ «ك» زجاجةً واحدةً بعد أن أزال خَتْم الشَّمع وراح يلتهم محتوياتها بِنَهَم، ثمَّ اكتشَفَ أنَّ مذاقها مثلُ مذاق المشمش. اختلطتْ حلاوة الفاكهة في فمه برائحة العَرَق القديم المُنبعِث من ملابسه المُبلَّلة؛ فلم يستطع أن يمنع نفسَه من التقيُّؤ، لكنَّه تناوَلَ الزجاجة وخرَجَ، ثمَّ وقَفَ تحت ضوء الشمس وبدأ في تناول ما تبقَّى من الزجاجة ببطء.
عاد إلى السدِّ بعد مسيرةٍ طويلة داخل المرج العُشبي، وكان جسده يرتعش رغم أنَّ الطقس كان دافئًا.
كان الخروف يطفو فوق المياه وتُحيط به كومةٌ من الطِّين البُنيِّ، فتقدَّم «ك» بصعوبةٍ واستجمَعَ كل قوَّته، ثمَّ سحَبَه من أقدامه الخلفية. كانت أسنانُه مكشوفةً وعيناه الصفراوان مفتوحتَين عن آخرهما، وكانت قطرات من الماء تنساب من فمِه؛ ففقَدَ شهيَّته، ولم يعُدْ يُفكِّر في تقطيع ذلك الشيء الكريه والْتهامه، كما لم يعُدْ يشعُر بشِدَّة الجوع الذي انتابَه بالأمس. كانتْ بقيَّة الخِراف تقِفُ فوق أحد المرتفعات على بُعد مسافةٍ قريبة، وتَميل بآذانها ناحية «ك»، ولم يستطع أن يُصدِّق أنَّه أمضى جزءًا كبيرًا من اليوم في مطاردة الخِراف بالمِطواة، وكأنَّه رجلٌ مجنون. ثمَّ راح يُفكِّر في الذهاب بالخروف عبْرَ الطريق المُوحِل وتحت ضوء القمر إلى مكانٍ ما ليتولَّى بنفسه أمْرَ دفنه بعد أن يموت وينسى بعد ذلك كلَّ ما حدَثَ. لكنَّه فكَّر أيضًا في ضرب الخروف فوق أفخاذه حتَّى يزحف فوق قدمَيه ويلوذ بالفِرار، ورأى أنَّ تلك الفكرة هي الأفضل.
مضتْ ساعاتٌ عديدة وهو يسحب الخروف عبْرَ المرج العشبي عائدًا إلى البيت في المزرعة، وكانت الأبواب مُغلَقةً فاضطرَّ إلى تسلُّق النافذة رافعًا إيَّاه لدخول المطبخ، لكنَّه قال لنفسه: من الغباء أن أذبحه في المطبخ المليء بالطيور ورائحة الروث والأتربة!
سحَبَه إلى الخارج مرَّةً أخرى، وانتابَهُ شعورٌ بالضعف؛ فلَمْ يستطع الإمساك به، فوضَعَ يده فوق وجهه، وأغلَقَ عينيه لاستعادة قوَّته من جديد.
لم يسبق له القيام بذَبْح أو سلخ وتنظيف حيوانٍ من قبلُ، ولم يكُنْ يملك شيئًا يُساعده في ذلك سوى المِطواة. شقَّ بطْنَ الخروف وضغَطَ بذراعه فوق الشَّق وانتظَرَ تدفُّق الدم الساخن، غير أنَّه فُوجئ بطِينِ المستنقع المُوحِل داخل بطنه، ضغَطَ فوق البطن فتدفَّقت الأعضاء والأحشاء بألوانها الزرقاء والبَنَفْسَجية والقرنفلية إلى الخارج حتَّى وصلتْ إلى قدمَيه، ثمَّ سحَبَ الجسد بعيدًا عن الأحشاء المتناثرة قبل أن يُواصل عمله، وبدأ في سَلْخ ما استطاع من الجلد، لكنَّه لم يستطع تقطيع القدمَين والرأس إلَّا بعد عُثوره على مِنشارٍ في الزَّريبة، وفي النهاية علَّقَ جسَدَ الخروف المسلوخ في سَقْف حُجْرة المُؤَن، وبدا الجسَدُ صغيرًا جدًّا بالنسبة إلى كومة الفضلات، جمَعَ كومة الفضلات في كِيس ودَفَنها في الحديقة، كانتْ يداه وأكمامه مُلطَّخةً بالدم. وحين اكتشَفَ عدم وجود مياه بالقُرب منه؛ راح يُنظِّف نفسه بالرمال، لكنَّ الذباب ظلَّ يُلاحِقه أثناء عودته إلى المزرعة.
قام بتنظيف المَوقِد ثمَّ أشعَلَ النار، ولم يجِدْ من أدوات المطبخ ما يُساعده في عملية الطهو، قطَعَ فَخذَ الخروف وأمسَكَ به فوق اللَّهب حتَّى تغيَّرَ لونه إلى اللون البُنيِّ القاتم، وبدأتْ تتساقط منه عُصارة الدهون، ثمَّ بدأ في الأكل دون إحساسٍ بالمتعة أو السرور، ودون أن يتوقَّفَ عن التفكير قائلًا: ماذا سأفعل بعدَ آخرِ قطعةٍ من الخروف؟
كان يبتلع الطعام بصعوبةٍ، وشعَرَ بألمٍ في رأسه، كما كانت بشَرَتُه ساخنةً وجافَّة؛ فعرَفَ أنَّه مُصابٌ بالزُّكام. تناوَلَ الأباريق الزجاجية ومضى في اتجاه السدِّ كي يملأها بالماء. وفي طريق عودته شعَرَ بإرهاقٍ شديدٍ ولم يستطع مواصلة السير؛ فجلس فوق أرض المرج العشبي القاحلة. وضَعَ رأسه بين ركبتَيه وتخيَّل نفسه راقدًا فوق سريرٍ نظيفٍ مفروشٍ بمُلاءات ناصعةِ البياض، ثمَّ راح في نوبةٍ من السُّعال، وانطلَقَ منه صوتٌ كنَعِيبِ البُوم، وسمِعَ صوتًا دون صدًی ينطلق من داخله. حاوَلَ إطلاقَ الصوت نَفْسه مرةً ثانية رغم ما كان يشعر به من ألَمٍ في حَلْقه، وكانت هي المرة الأولى التي يسمع فيها صوته منذ أن غادَرَ مُقاطَعة الأمير ألبرت، فقال: أستطيع هنا إطلاق أيِّ صوتٍ يعجبني.
كان يرتعش من الحُمَّى مع بداية الليل؛ فسحَبَ الأكياس التي ينام عليها إلى الحُجْرة الأمامية ونام فوقها، ثمَّ حلَمَ أنَّه نائمٌ في بلدته بأحد عنابر النوم في الظلام الشديد. وعندما فرَدَ يده؛ لمَسَ هيكل السرير، وكانت رائحة البول تنبعث من المرتبة المصنوعة من الألياف. لكنَّه لم يتحرَّك؛ خشية إيقاظ الأطفال النائمين حوله. بدأ في الرُّقاد من جديدٍ دون أن يُغلق عينَيه حتَّى لا يغرِق في مخاطر النوم وفي أحلامه الغريبة. قال لنفسه وقَدْ شعَرَ بثقل جُفُونه: إنَّها الساعة الرابعة وسوف يطلع النهار في السادسة، لكنَّني مُرهَق بشِدَّة وأوشَكَ على السقوط.
شعَرَ في الصباح بحالٍ أفضل؛ فارتدى حذاءه، وراح يتجوَّل حول البيت. عثَرَ على حقيبةِ سفَرٍ في الرفِّ العُلوي من دولاب الملابس، وكانت الحقيبة تحتوي مجموعةً من لُعَب الأطفال المكسورة وبعض قِطَع المكعَّبات، لكنَّه لم يجِدْ شيئًا يستطيع أن يستخدمه ويستفيد منه، ولا أيَّ شيءٍ يُساعده في معرفة السبب الذي رحَلَ من أجله اﻟ «فيساج»، وقد كانوا يعيشون في هذا المكان من قَبْله.
كان طنِينُ الذُّباب يملأ المطبخ وحُجْرة المُؤَن، وكان فاقدًا للشهيَّة، لكنَّه أشعَلَ النار ووضَعَ فوقَهَا علبةً من الصفيح بداخلها قطعةٌ صغيرة من لحم الخروف، ثمَّ لمَحَ أوراق الشاي داخل أحد البرطمانات في حُجْرة المُؤَن، فصنَعَ لنفسه كُوبًا ساخنًا وعاد إلى السرير، وبدأ في السُّعال من جديد.
كان كِيسُ الرَّماد في أحد أركان حُجْرة المعيشة، نظَرَ إلى الكِيس وتمنَّى أن تكون رُوح أمِّه مُنطلقةً في الهواء وأن تَنعَم بالسلام.
أصبح في صحة أفضل فشعَرَ بالسرور، فتَحَ كلَّ النوافذ وراح يستمع إلى صوت الحمَامِ والسكون وهو راقدٌ على ظَهْره في حالة من الاسترخاء، وظلَّ طوال اليوم يغفو قليلًا ويُعاود الاستيقاظ، لكنَّه نهَضَ وأغلَقَ النوافذ عندما تسلَّلتْ شمسُ الظهيرة إلى الحُجْرة.
في المساء عاوَدَه الشعور بالهَذَيان أثناء محاولته عبورَ أرض البستان القاحلة، انبطَحَ فوق الأرض وحفَرَ أصابعه في الرمال، ثمَّ شعَرَ بشيءٍ ما يبتلعه في الظلام.
أصبح الجوُّ معتدلًا بعد يومَين، وبدأ في التعافي مع مطلع اليوم الثالث، وأُصيب الخروف في حُجْرة المُؤَن بالتَّلف حتَّى صدرتْ منه الروائح الكريهة، وبدا أنَّ عدم اللجوء لقَتْل مثلِ تلك الحيوانات الكبيرة هو الدَّرس أو الدروس التي يجب تعلُّمها من ذلك الحَدَث. قطَعَ قطعةً من الخشب بالمِطواة وصنَعَ منها عصًا مُدبَّبة، ثمَّ ثبَّتَ فيها لسانَ حِذاءٍ قديم وأشرطةً من المطاط؛ لاستخدامها في إلقاء الحجارة على العصافير المستقرَّة فوق الأشجار، وقام بعد ذلك بدفن بقايا الخروف.
بدأ في فحْصِ البيوت الريفية ذات الحُجْرة الواحدة الواقعة عند جانب التَّل خلْفَ المزرعة والمُشيَّدة بالقِرميد واستكشافها، وكانت أرضيَّاتها من الأسمنت والسَّقف من الحديد، ولم يكُنْ من اليسير الاعتقاد أنَّ عمر تلك البيوت أكثر من نصف قرن؛ فقال لنفسه: إذن لا يُمكن أن تكون أمي قد وُلِدَت هنا!
كانت بِنايةٌ مستطيلة من الطوب اللَّبِن تقِفُ على بُعْد يارداتٍ قليلةٍ فوق الأرض المهجورة وسط حديقة الكُمَّثْرى المليئة بالأشواك، فهل كانت تلك البِناية هي التي شهِدتْ مولد أمِّه؟
أحضَرَ كِيس الرَّماد من البيت، ووضَعَه في وسط البِناية المستطيلة، ثمَّ جلَسَ وبدا في حالةٍ من الانتظار، ولم يكُنْ يتوقَّع حدوث شيءٍ بعينه، وإنَّما مجموعة من التوقُّعات لم يحدُث منها شيء. هبَّت الرياح، وكانت الخُنْفَساء تُهَرول أمامه، وفي ضوء الشمس كان صندوق من ورَقِ الكرتون المُقوَّى موضوعًا فوق صفيحة معدنية مليئةٍ بالطين ولا شيء آخر، وبدا أنَّ خطوةً تالية يجب الإقدام عليها لكنَّه لم يستطع.
تجوَّل بمحاذاة السُّور المحيط بالمزرعة، ولم يجِدْ جيرانًا أو أيَّ شيءٍ يُوحي بالحياة، لكنَّه شاهَدَ طعامًا مُتعفِّنًا داخل حوضٍ مُغطًّى بأسياخٍ من الحديد، تناوَلَ حفنةً من الذرة ووضَعَها في جيبه وعاد إلى مِضخَّة المياه، وراح يتفحَّصها ويتحسَّس أجزاءها حتَّى عرَفَ طريقة عمَلِها، قام بتوصيل السِّلك المقطوع وأوقَفَ دوران العجلة السريع.
واظَبَ على النوم في البيت، لكنَّه لم يشعُر بارتياح، وكان يتنقَّل من حجرةٍ فارغة إلى أخرى كما يتنقَّل الهواءُ بلا هدف، وكان يُغنِّي ويُحاول الاستماع إلى صدى صوته المُتردِّد عبْرَ الجُدران والسَّقف. نقَلَ سريره إلى المطبخ وهو يقول: أستطيع هنا على الأقلِّ رؤيةَ النجوم من خلال فتحة السقف.
في أحد الأيام التي قضاها في السدِّ خلَعَ كلَّ ملابسه، وقام بغَسْلها في الماء، وبعد أن طَرَقها بقوةٍ فوق الحائط كي تجفَّ بسرعة، أمضى بقيَّة اليوم نائمًا تحت ظلال الشجرة.
حان وقتُ دفن أمِّه فحاوَلَ عمَلَ حفرةٍ فوق قمَّة التلِّ في الجهة الغربية من السدِّ، لكنَّ صخرةً جامدةً اعترضت المِجرفة التي يحفِر بها على بُعد بوصةٍ واحدة من السطح، ممَّا جعَلَه يمضي نحو حافة التلِّ؛ حيث مساحة الأرض الزراعية أسفل السدِّ. حفَرَ حُفرةً بعُمق المسافة بين كُوعه ويده، ثمَّ وضَعَ كِيس الرَّماد في الحفرة ورمى فوقه أول كومةٍ من الرمل. انتابتْه الهواجس والشكوك فأغلق عينَيه، وراح يُفكِّر بعمق، وتمنَّى أن يسمع صوتًا يؤكِّد له أنَّ ما فعَلَه هو الصواب، صوت أمه مثلًا إذا كان صوتها ما زال موجودًا، أو صوت أيِّ شخصٍ أو حتَّى صوته هو شخصيًّا. كان في حاجةٍ ماسَّة لسماع صوتٍ يُخبره بما يجب فِعله، غير أنَّه لم يَسمع شيئًا، فأخرَجَ كِيس الرَّماد من الحفرة، وقرَّر أن يتحمَّل المسئولية بنفسه، وعندئذٍ بدأ في تنظيف مساحةٍ مُربَّعة في منتصف الحقل لا تتعدَّى أمتارًا قليلة، وحفَرَ بداخلها حفرةً منخفضة بحيث لا تستطيع الرياح الإطاحة بكِيس الرَّماد، ثمَّ قام بتوزيع الرَّماد الناعم فوق التراب وراح يُقلِّبه من مكانٍ لآخر.
كانت تلك هي بداية حياته في أعمال الفِلاحة، وحين عثَرَ فوق أحدِ أرفُفِ زريبة البيت على بُذور قَرْع العسل؛ قام بتحمير بعضها وأكلها، وكانت بُذور الذُّرة لا تزال معه، واستطاع الْتقاط بعضِ حبَّات الفول المتفرِّقة من حُجْرة المُؤَن، ثمَّ عمِلَ لمدَّة أسبوعٍ تقريبًا في تنظيف وحرث قطعةٍ من الأرض بالقُرب من السدِّ، وحفَرَ حَوَالَيها مجموعةً من الأخاديد. زرَعَ بُذور قَرْع العسل في جزءٍ صغير من الأرض، وبُذور الذُّرة في جزءٍ آخر، وعلى بُعد مسافةٍ قليلة من ضفَّة النهر غرَسَ حبَّات الفول التي يُمكن أن تتسلَّق الأشجارَ حين تَنبُت.
عاش معظم الوقت على تناول الطيور التي كان يصطادها، وكان يقضي أيامَه بين اصطياد الطيور بالقُرب من المزرعة وحَرْث التُّربة، وكان يشعُر بمتعةٍ كبيرة عند غروب الشمس حين يفتح الصُّنبور المُثبَّت في جدار السدِّ وتنطلق منه المياه وتُغرِق الأرض، حتَّى إنَّه قال لنفسه ذات مرة: ذلك لأنَّني بستانيٌّ وتلك هي طبيعتي!
شحَذَ مِجرفته فوق الحَجَر واستيقظتْ بداخله من جديد الرغبة في الزراعة، وفي غضون أسابيعَ قليلةٍ اكتشف أنَّ حياته قد تجاوزتْ رُقعة الأرض التي يزرعها والبُذور التي غرَسَها في تلك الأرض.
كانت تعتريه نوباتٌ من الفرَحِ والابتهاج خاصةً في فترات الصباح حين كان يجِدُ نَفْسه وحيدًا وغير معروف. لكنَّ نوباتٍ أخرى من الألم والقَلَق؛ كانتْ تنتابه كلما فكَّر في المستقبل، غير أنَّ نشاطه في العمل حَالَ دون إصابته بالكآبة.
جفَّ البئرُ، ولم تعُدْ مِضخَّة المياه تجلِبُ سوى قطراتٍ قليلةٍ وضعيفةٍ من الماء، وتمنَّى بشدَّة أن يعود تدفُّق المياه كما كان. استطاع ضخَّ ما يكفي فقط للمساحة التي يزرعها وما سمَحَ به مستوى ارتفاع السدِّ من قطرات قليلة. وكان يُراقب المُستنقَع وهو يجفُّ دون انفعال، تشقَّق الطِّين وذَبَلت الأعشاب وانقلبت الضفادع على ظهورها وماتتْ، ولم يكُنْ يعرف كيفية الحصول على المياه من جوف الأرض، لكنَّه كان يعرف أنَّ حصوله على تلك المياه — إذا استطاع — يُعدُّ نوعًا من الإسراف غيرِ المُحبَّب؛ فهو لا يعرف ولا يُمكن أن يتخيَّل كمية الماء الواقعة تحت قدمَيه، وهل هي بُحيرة أم جدول تندفع منه المياه، أو بَحْر داخلي سريع، أو حوض عميق جدًّا وليس له قاع؟ كانت تبدو له المياه أثناء تدفُّقها وكأنَّها معجزة، وكان يستند برأسه إلى جدار السدِّ ويُغلق عينَيه ويمدُّ أصابعه في اتجاه تيار المياه.
عاش حياته بين شروق الشمس وغروبها، وكأنَّه خارجَ الزمن، ولم يعُدْ يذكر شيئًا أو يهتمُّ لأيِّ شيء حتَّى أصبحت «كيب تاون» والحرب والطُّرُق المؤدِّية للمزرعة شيئًا فشيئًا في دائرة النسيان، حتَّى شاهَدَ ذات يومٍ أثناء عودته للبيت في وقت الظهيرة الباب الأمامي مفتوحًا عن آخره فوقَفَ مرتبِكًا حتَّى خرَجَ شخصٌ ما من الداخل ووقَفَ في ضوء الشمس، كان شابًّا بدينًا يرتدي الزيَّ الكاكي، وقَفَ الشاب فوق السلالم بثقةٍ وكأنَّه يمتلك البيت، وقال مُخاطِبًا «ك»: هل تعمل هنا؟
ارتبك «ك» ولم يستطع فعْلَ شيءٍ أو قَولَ أيِّ شيءٍ سوى الإشارة برأسه، فقال الغريب: لم أُشاهدْكَ هنا من قبلُ قَط! هل أنت مَن يقوم بالاعتناء بالمزرعة؟
أشار «ك» برأسه مرةً أخرى، فسأله الغريب: متَّى سقَطَ سقْفُ المطبخ بهذه الطريقة؟
تعثَّر «ك» في الكلام بينما ظلَّ الغريب يُحدِّق في فم «ك» الكريه، ثمَّ أضاف: ألَا تعرف مَن أكون؟ هل تعرف؟ أنا حفيد زعيم اﻟ «فيساجي».
أخرج «ك» أكياسه وأغراضه من المطبخ، ووضعها في إحدى الغُرَف عند جانب التلِّ، وتنازَلَ عن البيت لرجل اﻟ «فيساج» الجديد، لكنَّه شعَرَ بغباءٍ كبير ففكَّر في العودة قائلًا لنفسه: ربما أستطيع البقاء ليومٍ أو يومَين، وربما يتوجَّب على الرَّجُل أن يرحَلَ وأكون أنا مَن يستحق البقاء.
لكن الحفيد كما بدا لم يكُنْ ينتوي الرحيل. وفي ذلك المساء أشعَلَ «ك» النار عند جانب التلِّ، وبدأ في شِواء زوجٍ من الحمَامِ لطعامِ العشاء، وعندئذٍ ظهَرَ الحفيد من الظلام وراح يحوم حول المكان لمدَّة طويلة، فاضطُر «ك» أن يُقدِّم له جزءًا من الطعام الذي لا يكفي شخصَين، لكنَّ الغريبَ سارَعَ بالْتهامه كالولد الجائع، وبدأ بعد ذلك في سَرْد حكايته، وقال: عندما تذهب إلى مُقاطَعة الأمير ألبرت أرجو ألَّا تُخبر أحدًا بأنَّني موجودٌ هنا، إنَّني هاربٌ من الجُنديَّة، ولقد قفزتُ ليلة أمس من القطار الذي يُقلُّ الجنودَ عند المسار الجانبي لمدينة «كرودفونتاين»، ثمَّ مشيتُ في المدينة طوال الليل حتَّى وصلتُ أخيرًا إلى المزرعة فتذكَّرتُ أيام الطفولة في المدرسة. لقد اعتادتْ أُسرتي قضاء الكريسماس هنا دون انقطاع، ولم ننقطع عن الحضور هنا إلَّا بعد انفجار البيت. لم أتذوَّقْ طعامًا في حياتي كذلك الذي اعتدنا تناوله هنا؛ كانت جدَّتي تملأ المائدة بطعام المُدُن الجيِّد كلَّ يوم، وكنَّا نأكله حتَّى آخر قطعةٍ صغيرة، خاصةً لحمَ الخروف اللذيذ الذي لم نتذوَّقْ مِثلَه بعد ذلك.
كان «ك» يجلس على كُعُوب قدمَيه ويسمع بالكاد، ثمَّ فكَّر قائلًا: لقد تركتُ نفسي أسيرًا للاعتقاد أنَّ تلك واحدةٌ من الجُزُر التي لا يملِكها أحدٌ، لكنَّني عرَفْتُ الحقيقة الآن ولقد تعلَّمتُ الدَّرس.
أصبح الحفيد أكثر حماسًا كلما استطرد في الكلام، وأضاف أنَّه مُصابٌ بفَقْر الدَّمِ وضعْفٍ في القلب وأنَّ ذلك مُسجَّلٌ في أوراقه، غير أنَّ أحدًا لم يُناقش حالته وأرسلوه إلى الجبهة، كما أعادوا تجنيد الموظَّفين وأرسلوهم أيضًا إلى الجبهة، هل كان باستطاعتهم الاستغناء عن الموظفين؟ وهل كان بمقدورهم خَوضُ غِمار الحرب دون موظَّف لصَرْف الرواتب؟
فكَّر «ك» وهمَسَ قائلًا لنفسه: يجب أن ألتزم الصَّمْت إذا جاءت الشُّرطة النظامية أو الشُّرطة العسكرية للبحث عنه والعودة به إلى الجبهة ليكون عبرةً لغيره، سوف ألتزم الصَّمْت وسألعب دورَ الأحمق الذي لا يعرف أيَّ شيء.
كان الحفيد في تلك الأثناء يبحث عن مخبأ، خاصَّةً وأنَّه يعرف المزرعة جيدًا، وكان مُتأكِّدًا أنَّه سيعثُر على مكانٍ للاختباء لا يحلُم أحدٌ باكتشافه، وكان من الأفضل له ألَّا يعرف «ك» ذلك المكان.
صمت «ك» فترةً طويلة، سأله الحفيد بعدها: هل هذا هو كلُّ ما استطعتَ تناوله من الطعام؟
هزَّ «ك» رأسه.
قال الحفيد مستطرِدًا: يجب أن تزرع البطاطس والبصل والذُّرة، كلُّ شيءٍ يمكن أن ينمو هنا إذا استطعتَ توفير الماء اللازم، هذه تربةٌ جيدة وأنا مندهشٌ لأنَّك لم تزرع لنفسك بعض الأشياء القليلة بموازاة السدِّ.
شعَرَ «ك» بخيبة الأمل، فأضاف الحفيد: إنَّ أجدادي محظوظون لوجود شخصٍ مثلك، فالناس في هذه الأيام لا يستطيعون العثور على الفلاحين بسهولة، ما اسمك؟
أجاب «ك»: مايكل.
كانت الدنيا مُظلِمة فوقَفَ الحفيد، وسأل «ك»: هل معك بِطَّارية؟
قال «ك»: لا.
مضى الحفيد في طريقه بمحاذاة التلِّ مُسترشدًا بضوء القمر، بينما كان «ك» ينظر إليه حتَّى اختفى.
في الصباح لم يجِدْ شيئًا يفعله، ولم يستطع التوجُّه ناحية السدِّ دون أن يهجُر قطعة الأرض التي يزرع فيها، جلَسَ فوق كعب قدمَيه واستند إلى حائط الحجرة، وقد شعَرَ بدفء الشمس. ومع مرور الوقت ظهَرَ الحفيد وهو يتسلَّق التلَّ مرَّةً ثانية، فتدفَّقَ الدمُ إلى جسده واستعاد قوَّته وقال: إنَّه أصغرُ منِّي بعشر سنوات.
قال الحفيد مُتذمِّرًا: لا يوجد شيءٌ نأكله يا مايكل، هل ذهبتَ من قبلُ للتسوُّق؟
فتَحَ باب الحُجْرة بسرعةٍ وراح ينظُر داخلها بإمعانٍ قبل أن يَسمع إجابة «ك» على سؤاله، وبدا أنَّه كان على وشك التعليق بشيءٍ ما لكنَّه لم يقُلْ شيئًا.
قال: كم يدفعون لك يا مايكل؟
فكَّر «ك» قائلًا: إنَّه يعتقد أنَّني أحمقُ أو معتوه، هو يرى أنَّني ذلك الأبله الذي ينام فوق الأرض كالحيوانات ويعيش من اصطياد الطيور والسحالي ولا يعرف شيئًا عن النقود، لقد نظَرَ إلى الشارة المرسومة فوق قَلَنسُوتي وتساءل بينه وبين نَفْسه عن الطفل الذي منحني إيَّاها.
أجاب «ك»: اثنَين من الراندات، اثنَين في الأسبوع.
– وما الأشياء التي تعرفها عن أجدادي؟ وهل جاء أحدٌ منهم إلى هنا؟
لم يقُلْ «ك» شيئًا، وظلَّ صامتًا؛ فأضاف الحفيد مُتسائلًا: من أين أتيت؟ أنت لستَ من هنا، أليس كذلك؟
أجاب «ك»: لقد جئتُ من كل الأماكن، ومن كل الاتجاهات، ومن كيب تاون أيضًا.
قال الحفيد: ألَا توجد ماشيةٌ في المزرعة؟ وهل توجد خِرافٌ أم لا؟ أعتقد أنَّني رأيتُ حوالي عشرة أو اثني عشر من الخراف بالأمس فيما وراء السدِّ.
نظَرَ إلى ساعته، وقال مُخاطبًا «ك»: دَعْنا نذهب إلى هناك للحصول على الخِراف.
تذكَّر «ك» الخروف الذي كان يُصارع في الوحل فقال: تلك الخِراف متوحِّشةٌ، ولن تستطيع الإمساك بها.
– سوف نُمسك بها، نستطيع نحن الاثنين أن نفعل.
قال «ك»: إنَّها تأتي إلى السدِّ في الليل فقط، أمَّا أثناء النهار فهي لا تُغادر المرج العشبي.
ثمَّ قال لنفسه: جنديٌّ بلا سلاح كصبيٍّ في مغامرة، إنَّ المزرعة بالنسبة إلى الصبي ليستْ سوى مكانٍ للمغامرة.
واستطرد مُخاطِبًا الحفيد: دَعْك من الخِراف، وسأُقدِّم لك شيئًا لتأكله.
تناول «ك» مِصيدته، ومضى باتجاه النهر، ثمَّ عاد بعد ساعةٍ وقد اصطاد ثلاثةَ عصافيرَ وحمَامَة. حمَلَ الطيور الميتة وطرَقَ الباب الأمامي ففتَحَ له الحفيد، كان جسَدُ الحفيد مُتصبِّبًا بالعَرَق، وكان عاريًا من الملابس حتَّى خَصْره، وقال: جيد جدًّا، هل تستطيع تنظيفهم بسرعة؟ سأكون مُمتنًّا لك.
رفع «ك» الطيور الأربعة المتشابكة مع بعضها من مخالبها، وكان أحدُ العصافير ينزف دمًا فاتِحَ اللون من مِنقاره، وقال: لا تستطيع أن تأكله هكذا حتَّى لا تتَّسخ وتمتلئ أصابعك بالدم.
قال حفيد اﻟ «فيساج»: ماذا يعني ذلك بحقِّ الجحيم؟ وماذا تعني عليك اللعنة؟ إذا أردتَ قولَ شيءٍ فعليك بقوله، واترك هذه الأشياء على الأرض وسأتولَّى أنا الاهتمام بها.
وضع «ك» الطيور فوق الأرض أمام الباب ورَحَل.
كانت أوراق قَرْع العسل السميكة منتشرةً هنا وهناك فوق الأرض، ففتَحَ «ك» قناةَ المياه لآخر مرة، وظلَّ ينظُر إلى المياه وهي تجري ببطءٍ في الحقل، حتَّى تحوَّل لون الأرض إلى اللون الأَسوَد، وعندئذٍ قال لنفسه: وها أنا ذا الآن أهجُر أطفالي بعد أن أصبحتُ مطلوبًا بشِدَّة.
أغلق قناة المياه ثمَّ حرَّك القضيب العالِقَ بعوَّامة الحنفية حتَّى تمَّ إغلاقها، فتوقَّف تدفُّق المياه إلى الحوض الذي تشرب منه الخِراف.
أعاد أربعةً من أباريق الماء إلى مكانها على بُعد مسافةٍ قصيرة، وكان الحفيد قد ارتدى قميصه ووقَفَ واضعًا كلتا يدَيه في جيوبه وراح يُحدِّق بعيدًا، ثمَّ تحدَّث بعد صَمْتٍ طويل بعد أن توجَّه بنظراته إلى «ك» وقال: مايكل، لستُ أنا الشخص الذي سيدفع لك، كما أنَّني لا أستطيع أن أتركك تُغادر المزرعة هكذا، ولكن علينا أن نعمل معًا وإلَّا …
أُصيب «ك» باختناقٍ من كلامه، ولم يستطع أن يتفهَّم ما تنطوي عليه الكلمات، اتهامٌ أم تهديدٌ أم توبيخ، فقال لنفسه: إنَّها لا شيء لكنَّها الطريقة التي يتحدَّث بها، يجب أن أتحلَّى بالهدوء.
وعلى الرغم من محاولاته لتهدئة نفسه؛ فإنَّه شعَرَ بغباءٍ شديد مرَّةً ثانية، ولم يعُدْ يعرف ما الذي يُمكن أن يفعله بخصوص وجهه، حكَّ فَمَه ونظَرَ إلى حِذاء الحفيد البُنيِّ ذي الرقبة الطويلة وقال مُحاوِلًا كبْحَ جِماح نفْسِه: لم يعُدْ بمقدورك شراء حِذاءٍ كهذا من أيِّ محلٍ تجاري بعد الآن.
قال الحفيد: أُريدك يا مايكل أن تذهب إلى الأمير ألبرت من أجلي، سأُعطيك قائمةً ببعض الأشياء التي أريدها والنقود التي ستشتري بها، وسوف أمنحك شيئًا خاصًّا بك أيضًا بشرط ألَّا تتحدَّث مع أيِّ شخصٍ ولا تقُلْ إنَّك شاهدتَني أو تُخبر أحدًا بالشخص الذي تشتري الأشياءَ من أجله، ولا تشتري كلَّ شيءٍ من محلٍ واحد، وإنَّما عليك بشِراءِ نصفِ الأشياء من محل «فان رينز» والنصف الآخر من المطعم. لا تقِفْ وتتحدَّث مع أيِّ شخص، وتظاهَرْ أنك في عَجَلةٍ من أمْرِك، هل فهمت؟
أشار «ك» برأسه وقال: دَعني لا أفقِدُ طريقي.
استطرَدَ الحفيد قائلًا: إنَّني أتحدَّث إليك يا مايكل كإنسانٍ يتحدَّث إلى إنسان، إنَّ الحربَ دائرةٌ والناس يموتون، وأنا لستُ مع طرفٍ ضدَّ آخر، إنَّني شخصٌ مُسالِم فهل تَفهَمني؟ أنا أتعامَلُ بسلامٍ مع كلِّ الناس، ولا توجد حربٌ هنا في المزرعة، ونستطيع أنا وأنت أن نعيش هنا في هدوء حتَّى يأتي يومٌ يَسُود فيه السلام كلَّ مكان، وعندئذٍ لن يُزعجنا أحد، سوف يَسُود السلام قريبًا. لقد عملتُ يا مايكل في مكتبٍ لصَرْف الأجور، وأعرف ما يجري في مِثل تلك المكاتب، وأعرف أنَّهم يقومون بترحيل كثيرٍ من الرجال إلى أماكنَ مجهولةٍ ولا يدفعون لهم أجورهم؛ فيرفعون دعاوى قضائية ولكن دون جدوى، هل تفهم ما أعنيه؟ ستُصيبك الصدمة يا مايكل إذا حكيتُ لك عن أرقامٍ وشخصياتٍ مختلفة، أنا لستُ الشخصَ الوحيد، وقريبًا لن يكونوا في حاجةٍ للاستعانة بالرجال، نَعَم يا مايكل لن يستعينوا بعدد كبيرٍ من الرجال الذين يُساعدونهم في تعقُّب الرجال الهاربين. هذا بلدٌ كبير، وإذا نظرتَ حولك مثلًا ستجِدُ كثيرًا من الأماكن التي تستطيع الذهاب إليها وكثيرًا من الأماكن التي يُمكنك الاختباء فيها.
أضاف قائلًا: أنا أريد فقط أن أظلَّ مختبئًا وبعيدًا عن الأنظار لفترةٍ قليلة؛ لأنَّهم سيتجاهلون أمري عمَّا قريب؛ لأنَّني لستُ سوى سمكةٍ صغيرة في محيطٍ كبير، غير أنَّني أطمع في مساعدتك، لا بد أن نتعاون يا مايكل وإلَّا فلَنْ يكون لنا مستقبل، هل تفهمني؟
أمسك «ك» بقائمة الأشياء التي طلَبَها الحفيد ووضَعَ النقود في جيبه ثمَّ غادر المزرعة. الْتقَطَ علبةَ صفيحٍ قديمة عند جانب الطريق، وعندما وصَلَ إلى مدخل المزرعة خبَّأ النقود في العلبة الصفيحية ووضَعَ فوقها حَجرًا ومضى قاصدًا المدينة، وكان حريصًا على تجنُّب السير في الأماكن المأهولة بالسكَّان، وحين تجاوزت الساعة منتصفَ النهار وجَدَ نفْسَه مضطرًا لتسلُّق بعض الطُّرُق الوعِرة حتَّى لاحتْ في الأفق بيوت الأمير ألبرت البيضاء المرتَّبة بعنايةٍ من ناحية الغرب. الْتزَمَ بالسَّيْر في المنحدرات وطاف حولَ المدينة من بعيد حتَّى وصَلَ إلى الطريق المُؤدِّي إلى «سوارتبيرج» فصعِدَ المرتفعات بمشقَّة في الظلام وكان يرتدي مِعطف أمِّه؛ اتقاءً للبَرْد.
على بُعدٍ قليل من المدينة، ومن فوق مكانٍ مرتفِع؛ ظلَّ ينظر حواليه بحثًا عن مكانٍ للنوم حتَّى عثَرَ على كَهْف، اقترَبَ من الكهف وعرَفَ أنَّه كان مسكونًا بمجموعةٍ من الكشَّافة وبداخله مَوقِدٌ للنار وسريرٌ مصنوعٌ من نبات الزعتر الجاف، قذَفَ واحدةً من السَّحالي بحَجرٍ ثمَّ أمسك بها وقام بشِوائها بعد أن أشعَلَ النار، فتحوَّلت المِدخنة في السَّقف إلى اللون الأزرق القاتم وظهرت النجوم من فتْحَتِها، مَالَ بجسَدِه ودسَّ يدَيه داخلَ أكمامه وراح في نومٍ عميق.
لم يستطع أن يُصدِّق أنَّه يعرف شخصًا ما من أحفاد اﻟ «فيساج»، وأنَّ هذا الشخص يُريده خادمًا له، لكنَّه في خلال يومٍ أو يومَين قرَّر أن ينسى ذلك الحفيد ولا يتذكَّر سوى المزرعة.
فكَّرَ في أوراقِ قَرْع العسل التي بدأتْ تَنبُت في الأرض، وقال: غدًا هو آخر يومٍ لتلك الأوراق وفي اليوم الذي يليه سوف تذبُل، ثمَّ ستموت في اليوم الثالث وأنا موجودٌ هنا وسْطَ الجبال، فكيف يُمكنني إنقاذها؟ أستطيع أن أستيقظ مبكِّرًا وأحاول الانتهاء من مهمتي على عجل، حتَّى أعود بسرعةٍ للاعتناءِ بتلك الأوراق وببقيَّة البُذور الأخرى قبل أن تموت تحت الأرض لعدم تعرُّضها لضوء النهار.
نشأتْ عَلاقةٌ عاطفيةٌ قوية بينه وبين قطعةِ الأرض المُجاوِرة للسدِّ، وامتدَّ بينهما حبْلٌ من المشاعر الرقيقة، ويبدو أنَّ شخصًا ما يعمل على قطْعِ ذلك الحبل. جلَسَ أمام الكهف مُحدِّقًا في قِمم الجبال البعيدة المغطَّاة بالثلج دون أن يفعل شيئًا. وكان يُعاني حالةً من الكسَلِ الشديد، حتَّى إنَّه حين شعَرَ بالجوع؛ لم يُحاول أن يفعل شيئًا، وبدلًا من الاستماع إلى صرخات بطنه راح يستمع إلى همسات السكون الرهيب من حوله. ثمَّ دخَلَ الكوخ ونام، حيث حلَمَ أنَّه كان يجري بسرعة الرياح نَفْسها عبْرَ أحدِ الطرق المفتوحة بينما كانت عَرَبةٌ صغيرةٌ تجري وراءه.
كانت حدود الوادي الجانبية مليئةً بالمنحدرات؛ فلَمْ تظهر الشمس إلَّا قبل الظُّهر بقليل، ثمَّ ما لبثتْ أن اختفتْ خلْفَ قِممِ الجبال الغربية بعد منتصف الظُّهر. كان يشعُر بالبَرْد طوال الوقت، فرَاحَ يَصعَد إلى أعلى عبْرَ المُنحدَر المتعرِّج حتَّى اختفى الطريق من المشهد. نظَرَ إلى الأرض المنبسطة الشاسعة المؤدِّية إلى مُقاطَعة الأمير ألبرت، فاكتشَفَ كهْفًا جديدًا وبعض الشُّجيرات المنخفضة، ثم قال: لقد وصلتُ وبأسرعِ ما يُمكن، ومن المؤكَّد أن لا أحدَ — حتى لو كان مجنونًا — يستطيع عبورَ تلك السهول والأراضي المُنبسِطة وتسلَّقَ تلك الجبال للبحث عنِّي وسط تلك الصخور، إنَّني الوحيد في العالم الذي يعرف مكانَ تواجُدي وهكذا يمكنني الاعتراف أنَّني تائهٌ وضائع.
توقَّفَ عن التفكير في كل شيء، وعندما استيقظ في الصباح وجَدَ نفسه في مواجهة يومٍ طويل، ورأى نفسه كأنَّه نمْلٌ أبيضُ يمشي فوق الصخور بمَلَل ولا يجِدُ شيئًا يفعله سوى رغبته في البقاء حيًّا. جلَسَ بلا حَرَاك وبدا في صورةٍ لا تستطيع الطيور من خلالها أن تُحرِّكه إذا حطَّتْ فوق كتفَيه.
ضغَطَ على عينَيه فاستطاع بصعوبةٍ أن يرى سيارةً تهبط من الطريق المنبسِط إلى شارع المدينة الرئيسي، وعلى الرغم من الهدوء القاتل وحالةِ السكون المحيطة به، فإنَّه لم يسمع أيَّ صوتٍ يطغى على صوتِ الحشرات الزاحفة فوق الأرض، وعلى طنين الذباب الذي لم يتوقَّفْ عن ملاحقته ولا حتَّى على صوتِ نبضاتِ الدم في أذنَيه.
لم يكُنْ يدري شيئًا عمَّا يحدُث له، لكنَّه كان يعرف أنَّ حياته لم تكُنْ مثيرةً في يومٍ من الأيام، وكان في حاجةٍ دائمةٍ لشخصٍ ما يُخبره بما يجب عليه القيام به، والآن هو وحيدٌ تمامًا ولا يوجد مثل ذلك الشخص، فبدا أنَّ الانتظار هو الحلُّ الأفضل وربما الوحيد.
فكَّرَ في حديقة «واينبرج» التي كانتْ أحدَ الأماكن التي عمِلَ فيها منذ زمنٍ بعيد، فتذكَّر الأمهات الشابات اللاتي كنَّ يُحضِرْنَ أطفالهنَّ لركوب المراجيح، والأزواج الذين كانوا يستلقون تحت ظلال الأشجار، ومجموعات البطِّ البريِّ بألوانها البُنيَّة والخضراء وهي تتهادى بالقرب من المستنقع، وفكَّرَ في احتمال أنَّ الأعشاب ما زالت تنمو في حديقة «واينبرج» بعد الحرب وأنَّ أوراق الأشجار لم تتوقَّفْ عن السقوط، لأنَّهم كانوا دائمًا في احتياجٍ لرجال يقومون بجزِّ الأعشاب وكنْسِ أوراق الأشجار، لكنَّه لم يعُدْ مُتأكِّدًا من اختياره العيشَ وسط المروج الخضراء وأشجار البلوط.
على إثر حديقة «واينبرج» تذكَّر أيضًا تلك الأرض النباتية غير المشبعة بالمواد المعدنية، التي تُغطِّيها أوراق الأشجار التالفة من السنوات الماضية ومنذ الأزل، تلك الأرض الرِّخوة التي يستطيع المرء أن يُواصل الحفْرَ فيها دون أن يصِلَ إلى نهايتها.
قال: لم أعُدْ أُحبُّ تلك النوعية من الأرض، كما أنَّني فقدتُ اهتمامي بها ولم تعُدْ أصابعي تشعُر بها، إنَّها لم تعُدْ تلك الأرضَ ذاتَ اللون الأخضر والبُنيِّ التي أرغب فيها، ولكنَّها أصبحت الآن ذاتَ لونٍ أحمرَ وأصفر، كما فقدتْ لُيُونتها وطَراوَتها وأصبحتْ جافَّةً وتغيَّرَ لونُها من اللون الداكن إلى الفاتح، أصبحت الأرض صلدةً بعد أن كانت طريَّةً ولَدْنة، وهكذا أصبحتُ أنا أيضًا نوعًا مختلفًا من الرجال.
أمسَكَ بمعصمَيه وراح يتطلَّع إليهما، ثمَّ أضاف مستطرِدًا: لم يَعُد الدَّم يتدفَّق من جسدي، ولكنَّه يسيل وما يلبث أن يجفَّ ويندمل، لقد أصبحتُ أصغرَ ممَّا أنا عليه، ومع كلِّ يومٍ جديد أُصبح أكثرَ قساوةً وذُبولًا في آنٍ واحد، وإذا حدَثَ ومتُّ هنا وأنا جالسٌ أمام فتحةِ الكهف مُتطلِّعًا إلى الأرض الممتدَّة أمامي وأنا أضَعُ ركبتي تحت ذقني هكذا، فسوف أتلاشى مع الرياح في يومٍ واحد، كما يضلُّ المرء طريقَه في رمال الصحراء حتَّى يموت.
في أيامه الأولى فوق الجبال كان يتجوَّل حول المكان، ويدور حول الصخور والأحجار، ويقتات على جذور النبات. وذات مرةٍ فتَحَ عشَّ الحشرات وراح يأكل الدود واليرقاتِ واحدةً بعد الأخرى بشهيَّة وكأنَّه يأكل سمكًا، لكنَّه توقَّف بعد ذلك عن مغامرات البحث عن الطعام والشراب، ولم يكُنْ قد اكتشف عالَمه الجديد بعدُ، ولم يقُمْ بتنظيف الكهف وترتيبه ليجعَلَ منه بيتًا له، كما لم يحتفظْ في ذاكرته بتفاصيلِ تلك الأيام، ولم يكُنْ يتطلَّع إلى شيءٍ أو يُفكِّر في شيءٍ سوى ظلالِ حافة الجبل وهي تقترب منه شيئًا فشيئًا حتَّى تُحيطه فجأةً أشعةُ الشمس من كلِّ اتجاه. كان يجلس أحيانًا ويرقُد في أحيانٍ أخرى مذهولًا أمام الكهف، ولم يكُنْ قادرًا على الحركة من شِدَّة التعب وربما من فقدان الحيوية والهدف، وكان يُمضي كلَّ أوقات ما بعد الظُّهر نائمًا، حتَّى إنَّه تساءل ذات يوم قائلًا: هل أعيش فيما يُعرف بالجنة؟
تساقطت الأمطار ذات يومٍ وكان السحاب قاتمًا؛ فانتشرت الزهور القرنفلية الصغيرة على جانبَي الجبل، كانت الزهور التي شاهَدَها خاليةً من الأوراق، لكنَّه قطَفَها، وملأ كفَّ يده منها، وراحَ يأكلها، ثمَّ شعَرَ بألمٍ في مَعِدته. أصبحت المياه تجري بسرعةٍ أكبر في القنوات المائية كلما ازدادت حرارة الشمس مع مرور الأيام، ولم يستطع معرفة السبب، لكن مياه الجبل النقيَّة أفقدتْه طعْمَ المياه المُرَّة المُستخرجَة من باطن الأرض، وحين نزفتْ لِثَتُه شرِبَ من الدم النازف.
حين كان «ك» طفلًا كان يستبدُّ به الجوع مثل كلِّ أطفال المدينة الذين كانوا يتصرفون كالحيوانات، ويسرقون من أطباق بعضهم البعض، ويتسلَّقون سور المطبخ؛ ليسرقوا سِلال القُمامة والبحث فيها عن العظام وبقايا الطعام، غير أنَّ تلك الرغبة الحيوانية التي كانت تجعل مَعِدته تصرُخ من الجوع قد تغيَّرت، وأصبح هادئًا في مواجهة الجوع، وكانت أيامه الأخيرة في المدينة هي الأفضل، فلَمْ يَكُن الأولاد الكبار يُضايقونه عندما كان يتسلَّل إلى مكانه خلْفَ الكوخ وينفرد بنفسه.
اعتاد أحد مُعلميه على أن يُجلس تلاميذ الفصل ويرفعون أياديهم فوق رءوسهم مع ضمِّ شفاههم وإغلاق عيونهم؛ ليقوم بعد ذلك بالدوران حولهم وضربهم بالمسطرة، لكن الوضع جالسًا هكذا بالنسبة إلى «ك» لم يكُنْ عقابًا بقَدْر ما كان وسيلةً للاستغراق في التفكير، حتَّى إنَّه تذكَّر نفْسَه وهو جالسٌ ويداه فوق رأسه في أحد الأيام الحارَّة، بينما كان يستمع إلى هديل الحمَام فوق أشجار الصمغ وإلى الأناشيد والترانيم الرتيبة الصادرة من الفصول الأخرى حين كان يُغالب النُّعاس اللذيذ. وها هو الآن أمام الكهْفِ يضَعُ أصابعه أحيانًا خلْفَ رأسه، ويُغلق عينَيه ولا يُفكِّر في أيِّ شيء، ولا يُريد أو يتمنَّى أيَّ شيء، ولا يتطلَّع أو يحلم بشيءٍ على الإطلاق.
في أوقاتٍ أخرى كان يعود بذاكرته إلى حفيد اﻟ «فيساجي» المختبئ بمكانه في الظلام تحت الأرض ووسطَ مخلَّفات الفئران، أو أثناء جلوسه صامتًا في خِزانة السقيفة، أو خارج مرج أجداده العشبي خلف الأدغال. فكَّر في تلك الأوقات أيضًا في حِذاء الحفيد الجميل ورأى أنَّه سيفقد جماله داخل الحفرة التي يعيش فيها.
كانت رماحٌ من أشعة الشمس تخترق رأسه، وبدا من العسير أن تظلَّ عيناه مفتوحتَين في مواجهة وهَجِ الشمس. وكان جسده لا يتوقَّف عن الارتعاش، ولم يعُدْ قادرًا على الاحتفاظ بشيءٍ داخل مَعِدته، حتَّى إنَّه كان يتقيَّأ من الماء. شعَرَ بإعياءٍ شديد طوال يومٍ كامل، لم يستطع خلاله النهوض من فوق سريره داخل الكهف، ولم يُساعدْه المِعطف الأَسوَد في التوقُّف عن الارتعاش المتواصِل. شعَرَ باقتراب الموت، وأنَّه مضطرٌّ للبقاء هنا والرُّقاد هكذا حتَّى يرى الطحالب الملاصِقة للسقف، وهي تتحوَّل إلى اللون الأَسوَد، وحتَّى تنتهي حياته وتتلوَّن عظامه باللون الأبيض في هذا المكان البعيد.
مضتْ ساعاتٌ كثيرة من اليوم وهو يزحف في محاولةٍ للنزول من سَفْح الجبل، لم تكُنْ قدماه قادرةً على حَمْله، وشعَرَ بطَرقاتٍ مدوِّية داخل رأسه. وفي كل المرَّات التي حاوَلَ فيها النظر إلى أسفل؛ كان يُصيبه الدُّوار، وكان عندئذٍ يَغرِس قبضة يدَيه في الأرض مُمسكًا بالتراب حتَّى يتوقَّف الدُّوار.
وصَلَ إلى الطريق المسطَّح، ولحظةَ دخوله المدينة انقشَعَ آخرُ ضوءٍ من النهار، ثمَّ غرِقَ الوادي في ظلامٍ دامِس، وأحاطتْ به رائحةُ بَرَاعم الخوخ، وسمِعَ صوتًا قادمًا من كلِّ الاتجاهات، هو الصوت نفسه الذي سمِعَه في أول يوم شاهَدَ فيه مُقاطَعة الأمير ألبرت. وقَفَ عند قمَّة الشارع المرتفع وسط الحدائق المُورِقة دون أن يتفوَّه بكلمةٍ واحدة، وسمِعَ من بعيد أصواتًا رتيبةً ما لبثتْ أن امتزجتْ بتغريد الطيور فوق الأشجار.
كانت الشوارع خاليةً من الناس حين رقَدَ «ك» عند مدخل مكتب «فولكسكاس» ووضَعَ مِمسحة الأرجُل المطاطية تحت رأسه. تسلَّل البَرْد إلى جسده وبدأ في الارتعاش. نام مُمسِكًا فكَّيه بكلتا قبضتَيه في محاولةٍ منه للتغلُّب على آلام رأسه. استيقَظَ على إثر الضوء المُسلَّط عليه، لكنَّه لم يستطع أن يفصل بين الضوء وبين الحُلم الذي كان مُستغرقًا فيه. ردَّ على أسئلة الشُّرطة بإجاباتٍ مشوَّشة وغيرِ واضحة، وكان يصيح ويلْهَث قائلًا: لا … لا … لا!
خرَجَت الكلماتُ من فَمِه وكأنَّه يَسعُل، ولم يفهم رجال الشرطة أيَّ شيءٍ، وقَد اجتاحتْهم رائحةُ جسَدِه وملابسه، ثمَّ اقتادوه إلى الشاحنة وأعادوه إلى المَخْفَر، وحبسوه في زنزانةٍ مع خمسة أشخاص آخرين. ظلَّ جسَدُه يرتعش داخل الزنزانة، وعاد لاستئناف نومه وهَذَيانه.
أخرجوا المساجين من الزنزانة في الصباح للاغتسال وتناوُل الإفطار، وكان «ك» مُتماسكًا ومدركًا لِمَا يدور حوله، لكنَّه لم يكُنْ قادرًا على الوقوف؛ فاعتذر للشُّرطي الواقف عند باب الزنزانة قائلًا: قَدَمي تؤلمني ولا أقوَى على الوقوف، لكنَّ الألمَ سيزول وسأُصبح على ما يُرام.
أخبَرَ الشرطيُّ الضابطَ المسئول عن حالته فرَاحَا يتفحَّصان عظام قدمه المستندة إلى الحائط، ثمَّ حَمَلاه إلى الفِناء حيث انكمَشَ خوفًا من أشعة الشمس المشرِقة، ونقلاه بعد ذلك إلى عنبرٍ آخر من عنابر المساجين لتقديم الطعام له. ارتضى بشريحةٍ كبيرةٍ من العصيدة. لكنَّه وقبْلَ أن تصِلَ أول ملعقةٍ إلى فمه؛ بدأ في التقيُّؤ من جديد.
عاد بقيَّة المساجين إلى الزنزانة، بينما سمَحُوا له بالبقاء في الفِناء، وعند الظهيرة اقتادوه إلى مؤخرة الشاحنة وذهبوا به إلى المستشفى؛ حيث نزعوا ملابسه ووضعوه عاريًا فوق لوحٍ مطاطي، ثمَّ بدأت المُمرِّضة الشابة في تنظيفه وحِلاقة ذقنه، وساعدتْه أخيرًا على ارتداء الرُّوب الأبيض.
لم تَبدُ عليه علامات الخَجَل، وقال للمُمرِّضة الشابَّة مُتسائلًا: مَن الأمير ألبرت؟ أخبريني فكثيرًا ما تمنَّيتُ أن أعرف!
لم تهتمَّ المُمرِّضة بسؤاله، فأضاف: ومَن الأمير ألفريد؟ ألَا يوجد شخصٌ بهذا الاسم أيضًا؟
أغلَقَ عينَيه وظلَّ في انتظار اللحظة التي تُغطِّيه فيها المُمرِّضة بقطعةِ القماش الناعمة الدافئة.
رقَدَ مرةً أخرى وسطَ المُلاءات النظيفة في مُلحق المستشفى الخلفي داخل أحد العنابر الطويلة المصنوعة من الخشب والحديد. كان العنبر يضمُّ الأطفالَ وكبار السنِّ من الرجال فقط، وكان صفٌّ من مصابيح الإضاءة مُعلَّقًا فوق حبلٍ طويلٍ مربوط في عارضتَين خشبيتَين من أطرافه، وضَعُوا زجاجةَ الجلوكوز فوق الرفِّ والأنبوبَ في ذراعه، واستطاع أن يرى بطرف عينه انخفاض مستوى الجلوكوز مع مرور الوقت.
في اللحظة التي استيقظ فيها شاهَدَ المُمرِّضة وأحدَ رجال الشرطة عند مدخل الباب، كانا يُشيران إليه ويتبادلان الحديث، وكان الشُّرطي يحمل غطاء رأسه تحت ذراعه.
كانت أشعة شمسِ الظهيرة تسطع من النافذة، وحين استقرَّت الذبابة فوق فَمِه أشاح بيده لطَرْدِها. طارت الذبابة لكنَّها عادتْ واستقرَّت فوق فَمِه من جديد فلَمْ يُحاول طَرْدَها مرةً أخرى، وفي تلك الأثناء دخَلَ المُمرِّض بعَرَبة الطعام، ثمَّ قدَّم صينيةً لكلِّ المرضى ما عدا «ك». تسلَّلتْ رائحة الطعام إلى أنْفِه فسال لُعابه، وكانت هي المرة الأولى التي ذاق فيها مرارةَ الجوع لمدَّةٍ طويلة، لكنَّه لم يكُنْ راغبًا في معايشة الجوع مرةً أخرى، خاصةً أنَّ المستشفى كما يبدو هو مكانٌ لبناء الأجساد.
بدأ المساء، ثمَّ حلَّ الظلام؛ فأضاء شخصٌ ما الأنوار، أغلق «ك» عينَيه ونام وعندما فتحهما كانت الأنوار لا تزال مُضاءة، لكنَّها بدأتْ تخفُت شيئًا فشيئًا حتَّى انطفأتْ تمامًا. تساقَطَ ضوء القمر فوق أسطُحِ النوافذ الفضيَّة، وفي مكانٍ ما بالقرب من مُحرِّك الديزل؛ رقَدَ «ك» واستسلَمَ للنوم حيث كانت الأضواء مُعتِمة.
تناوَلَ إفطاره في الصباح وشعَرَ أنَّه قادرٌ على النهوض بعد أن استعاد قوَّته، لكنَّه لم يفعل إلَّا بعد أن شاهَدَ الرَّجُل العجوز وهو يُغادر الحُجْرة ملفوفًا في العباءة، كان يشعُر بالخَجَل وأنَّه غريبٌ داخلَ ذلك الرُّوب الطويل.
كان أحدُ الصِّبيَة يرقد في السرير المجاوِر وذراعه ملفوفةٌ بضِمادة، فسأله «ك»: ماذا حدَثَ؟
كانت الخِزانة بجوار سريره فارغةً؛ فقال «ك» لنفسه: سوف أغادر هذا المكان لو عثرتُ على ملابسي.
حضَرَ المُمرِّض في منتصف النهار بعَرَبة المأكولات وقدَّم له الطعام، تناوَلَ «ك» طعامَهُ للمرَّة الثانية في ذلك اليوم، وقال له المُمرِّض وهو يواصل دفْعَ العَرَبة من أمامه: عليك بتناوُلِ الطعام كلَّما سنحتْ لك الفرصة، فالجوع الكبير قادمٌ لا محالة.
بدا غريبًا ما قاله المُمرِّض، فظلَّ «ك» ينظُر إليه وهو يتنقَّل بعَرَبته من مريضٍ لآخر. وعند نهاية العنبر، شعَرَ المُمرِّض بنظرات «ك» المحدِّقة فبادَلَه بابتسامةٍ مُبهَمة. لكنَّه حين عاد لتناوُل الصينية، لم يقُلْ شيئًا.
كانت الشمس تضرب بقوةٍ فوق السقف الحديدي؛ فأصبح العنبر كالفُرن. رقَدَ «ك» فاردًا قدمَيه، وغفا لكنَّه استيقظ أثناء واحدةٍ من غفواته وشاهد الشُّرطي نَفْسه والمُمرِّضة نَفْسها يقفان فوق رأسه، أغلق عينَيه، وعندما فتَحَهما لم يَجِد الشُّرطي والمُمرِّضة، ثمَّ ساد الظلام.
أمسكتْ به المُمرِّضة في الصباح وقادتْه إلى أحد المقاعد في المبنى الرئيسي، انتظَرَ ساعةً كاملةً حتى جاء دوره، فقال له الطبيب: كيف حالك اليوم؟
تردَّد «ك»، ولم يَجِد الكلمات المناسبة للإجابة.
فَقَد الطبيب الأمل في سماع الإجابة؛ فطلَبَ منه أن يتنفَّس لسماع نبضات صدره، ثمَّ قام بفحْصِ أعضائه التناسلية للتأكُّد من عدم إصابته بالعَدوَى. استغرقتْ عملية الكشف دقيقتَين، ثمَّ مضى إلى مكتبه وسأله وهو يكتُب شيئًا ما في ملفه البُنيِّ: هل سبَقَ وذهبتَ إلى طبيبٍ من أجل فَمِك؟
أجاب «ك»: لا.
قال الطبيب: يُمكنك إجراء عملية تجميلٍ في فَمِك.
لكن الطبيب لم يعرض عليه القيام بنفسه بتلك العملية.
عاد «ك» إلى سريره، ورقد واضعًا يدَيه تحت رأسه حتَّى جاءتْ له المُمرِّضة بملابسَ داخليةٍ وقميصٍ كاكيٍّ وبنطلونٍ قصير، كانت الملابس نظيفةً، فقالت المُمرِّضة: عليك بارتداء هذه الملابس.
كان البنطلون كبيرًا جدًّا، وبعد أن وقَفَ اضطرَّ إلى الإمساك بالحِزام كي لا يسقط. وكان الشُّرطي واقفًا عند الباب، قال للمُمرِّضة: إنَّها ملابسُ كبيرةٌ وواسعةٌ جدًّا، هل أستطيع الحصول على ملابسي الخاصة؟
قالت له: ستحصل على ملابسك الخاصة في المكتب.
مضى بصُحبة الشُّرطي عبْرَ الرواق حتَّى وصَلَا إلى مكتب الاستقبال؛ حيث سلَّموه حُزمةً من الوَرَق البُنيِّ دون أن يتحدَّثَ أحدٌ معه، كانت الشاحنة الصغيرة الزرقاء في موقف السيارات، فوقف «ك» مترقِّبًا فتْحَ الباب الخلفي، بينما كان الأسفلتُ تحت قدمَيه ساخنًا جدًّا؛ فراح يتمَلمَل في وقفته، وبدا كأنَّه يرقُص.
كان من المتوقَّع أن يقتادوه إلى قِسم الشرطة، لكنَّ الشاحنة الصغيرة الزرقاء اجتازت المدينة، وسارتْ خمسةَ كيلومترات في طريقٍ مُوحِل حتَّى وصلتْ إلى أحد المُعسكَرات داخل الواحة القاحلة. شاهَدَ «ك» بعض المنشآت ومجموعةً من المعدَّات فوق الجبل، واعتقَدَ أنَّه موقعٌ للبناء. وبعد لحظةٍ قصيرة من اعتقاده شاهَدَ معسكراتٍ لإعادة التأهيل ومجموعةً من الخِيام والبِنايات المصنوعة من الخشب والحديد مُحاطةً بسُورٍ ارتفاعه ثلاثةُ أمتار، وتعلوه الأسلاك الشائكة. نزَلَ من الشاحنة مُمسِكًا بِنطاله بيده حتَّى لا يسقط منه مَرأًى من مئات المساجين غريبي الأطوار والبالغين والأطفال الذين اصطفُّوا في طوابيرَ على جانبَي سُور البوَّابة.
بالقرب من البوَّابة كان الكُشك ذو النافذة المُغطَّاة ببعض النباتات النضِرة ذات اللون الأخضر الباهت، وكان الرَّجُل البدين بملابسه العسكرية واقفًا بجوار نافذة الكُشك، تعرَّف «ك» على قَلَنسُوة الرَّجُل الزرقاء التي يرتديها المجنَّدون في الفيلق الحرِّ، بدأ الشرطي بتحيَّته ودلَفَا معًا إلى داخل الكُشك؛ حيث خضَعَ «ك» للتفتيش وكان يحمل حُزمةَ الوَرَق البُنيِّ تحت ذراعه. نظَرَ في البداية إلى بعيد، ثمَّ إلى قدمَيه، وانتابتْه الحيرة بشأن ما سوف يقوله وكيفية التعبير عن نفسه. سأله شخصٌ ما: من أيِّ مكان سرقتَ هذا البِنطال؟
انطلقتْ في الكُشك موجةٌ من الضحك.
تقدَّم شُرطي آخرُ من جنود الفيلق الحرِّ وسحَبَ «ك» من وسط الزحام داخلَ الكُشك، ثمَّ فتَحَ بوَّابة المعسكَر وعَبَر الأرض القاحلة حتَّى وصَلَ إلى إحدى البِنايات الخشبية. كان المبنى بلا نوافذ ومُظلمًا من الداخل، فأشار الشُّرطي إلى سريرٍ فارغٍ ذي طابقَين، وقال موجِّهًا حديثه إلى «ك»: هذا هو بيتك من الآن فصاعِدًا، إنَّه البيت الوحيد الذي يُمكنك الحصول عليه، فلْتحافظْ عليه وعلى نظافته. صعِدَ «ك» بصعوبة إلى السرير وتمدَّد فوق المرتبة المطاطية المكشوفة، وكانت المسافة بينه وبين السقف الحديدي قصيرةً جدًّا لا تتعدَّى طولَ ذراعه، وظلَّ هكذا في الضوء المُعتِم والحرارة الخانقة في انتظار رحيل الحارس.
رقَدَ طوال فترةَ ما بعد الظُّهر فوق السرير مُستمِعًا إلى ما يحدُث خارج المُعسكَر، اندفعتْ مجموعةٌ من الأطفال إلى داخل المبنى، وراحوا يتعقَّبُون بعضهم البعض فوق الأسِرَّة وتحتها، وبعد أن أحدثوا ضجَّةً في المكان خرجوا وأغلقوا الباب. حاوَلَ أن ينام فلَمْ يستطع، وكان حَلْقه جافًا، ثمَّ راح يُفكِّر في الكَهْف البارد فوق الجبل وفي جداول المياه التي لم تكُنْ تتوقَّف عن الجرَيَان، وقال: ها أنا ذا أعود للمرة الثانية حيث كنت، لكنَّني الآن أكبَرُ كثيرًا ممَّا كنتُ، ولا أستطيع التحمُّل.
خلَعَ قميصه الكاكيَّ وبِنطاله، وفتَحَ حُزمة الوَرَق، لكنَّ رائحة ملابسه المعتادة التي يعرفها جيدًا لم تعُدْ هي الرائحة نفسها، وتحوَّلتْ في أيامٍ قليلةٍ إلى رائحةٍ عفِنةٍ وغريبة؛ فلَمْ يُغيِّر ملابسه، وظلَّ في انتظار قُدوم الليل.
فتَحَ شخصٌ ما البابَ ومشى فوق أطراف أصابعه على الأرض، فتظاهَرَ «ك» بالنَّوم، تحسَّسَ الشخص بأصابعه ذراعَ «ك» العاري، ارتجَفَ «ك»، فقال الشخص الذي بدا من صوته أنَّه رَجُل: هل أنت على ما يُرام؟
لم يستطع «ك» من خلال وهَجِ الضوء القادم من مَدخَل الباب أن يُميِّز وجهَ الرَّجُل، وقال بصوتٍ كأنَّه قادمٌ من بعيد: إنَّني بخير.
عاد الغريب بالخطوات نَفْسها، وقال «ك» لنَفْسه: كنتُ في حاجةٍ لمزيدٍ من الأخبار، وكان يجب أن يُخبرني أنَّهم سوف يُرسلونني للعَيْش وسطَ الناس.
ارتدى بعد ذلك بوقتٍ طويلٍ ملابسه ذاتَ اللون الكاكيِّ، وخرَجَ حيث كانت أشعة الشمس الباعثة على الدِّفء، وكان الجوُّ خاليًا من الرياح، شاهَدَ امرأتَين راقدتَين جنبًا إلى جنبٍ فوق بِطانية تحت ظلال إحدى الخيام، كانت إحداهما نائمةً والأخرى تحمل طفلًا رضيعًا، وكان الرضيع نائمًا فوق صدرها حين ابتسمتْ له، ثمَّ ردَّ لها الابتسامةَ بهزَّةٍ من رأسه، ومضى في طريقه حيث اكتشَفَ خزَّانًا للمياه شرِبَ منه كثيرًا، ثمَّ عاد وسأل المرأة: هل يوجد مكانٌ يُمكنني أن أغسِلَ فيه ملابسي؟
أشارتْ إلى المغسلة، وقالت: هل لديك صابون؟
كذَبَ، وأجاب: نَعَم.
كان بالمغسلة حوضان للغسيل وحمَّامان للاستحمام، وكان راغبًا في الاستحمام، لكنَّه حين فتَحَ صُنبور الحمَّام لم تتساقطْ منه المياه، فرَاحَ يغسل سُترته البيضاء والبِنطال الأَسوَد والقميص الأصفر وملابسه الداخلية بقطعةٍ من المطاط المترهِّل، وانتابتْه حالةٌ من السرور أثناء نَقْع الملابس وفَرْكها وهو واقفٌ بعينَين مغلقتَين وكلا ذراعَيه منغمستَين حتَّى الكوع في الماء البارد. ارتدى حِذاءه، وعندما ذهَبَ بعد ذلك لنَشْر الغسيل فوق الحبل؛ شاهَدَ لافتةً ملوَّنةً مثبَّتةً فوق الحائط مكتوبٌ عليها: «معسكر الانتقال. أوقات الاستحمام: للرجال من الساعة السادسة إلى السابعة صباحًا، وللنساء من السابعة والنصف حتَّى الثامنة والنصف صباحًا. حافظوا على المياه».
بدأ في تتبُّع خطِّ مواسير المياه من عند حوض الغسيل، فاكتشف أنَّه مُمتدٌّ إلى مسافةٍ بعيدة تحت سُور المُعسكَر، ثمَّ إلى مِضخَّة فوق الأرض المرتفعة.
مرَّ بالقُرب من السيدتَين مرةً ثانية، فأوقفتْه المرأة التي تحمل طفلًا، وقالت لتنبيهه: لقد تركتَ ملابسك هناك، وإذا لم تأخذْها معك فلَنْ تجِدَها في الصباح.
الْتقَطَ ملابسه المُبلَّلة من فوق الحبل، وأعاد نَشْرها فوق سريره ذي الطابقَين.
كانت الشمس في طريقها للغروب، وأصبح المكان مليئًا بالناس، كما انتشَرَ الأطفال في كلِّ ناحية، وكان ثلاثةٌ من الرجال الكِبار يلعبون الكوتشينة أمام الكوخ المجاوِر فوقَفَ لحظةً لمشاهدتهم.
كانت ثلاثون خيمةً منصوبةً على أبعادٍ متساوية من بعضها البعض، وسبعةُ أكواخٍ منتشرة فوق أرضِ المعسكَر بجوار المغسلة والمراحيض، وكانت بعض الأساسات والتجهيزات اللازمة لإنشاء صفٍّ آخر من الأكواخ مُلقاةً على الأرض، وثمَّة مساميرُ صدِئة كانت تبرُز من الخرسانة.
سار باتجاه البوَّابة، وكان واحدًا من حرَّاس الفيلق الحرِّ يجلس نائمًا فوق الدَّكَّة أمام نافذة غرفة الحَرَس، وكان قميصه مفتوحًا حتَّى صدرِه. أسند «ك» رأسه فوق شبكة النافذة مُتمنِّيًا أن يستيقظ الحارسُ ليسأله عن سببِ وجوده هنا وعن المُدَّة التي سيقضيها في هذا المكان، غير أنَّ الحارس لم يستيقظ، ولم يمتلك «ك» الشجاعة الكافية للنداء عليه وإيقاظه.
عاد مُتسكِّعًا إلى الكُوخ واتَّجه من الكوخ إلى الخزَّان دون سببٍ واضح، ولم يكُنْ يعرف ما يُمكن أن يفعله تجاه نَفْسه، جاءتْ فتاةٌ صغيرةٌ تحمل دَلوًا أرادتْ أن تملأه، لكنَّها توقَّفتْ حين رأتْه، ثمَّ مضتْ بعيدًا. ذهَبَ إلى سُور المُعسكَر الخلفي وراح يُحدِّق في الواحة الخالية من النباتات والأعشاب.
كانت النيران مشتعلةً بين الخِيام في واحدٍ أو اثنَين من المواقد المُحاطة بالأحجار، والناس يتوافدون ويُغادرون، وبدا المُعسكَر صاخبًا بعد أن دبَّتْ فيه الحياة وحين وصلتْ سيارة الشُّرطة مخترِقةً سُحبَ الغبار، وتوقَّفتْ فجأةً أمام البوَّابة ثمَّ تبِعَتها شاحنةٌ مكشوفةٌ مليئةٌ بالرجال. اندفَعَ الأطفال إلى البوابة. سمَحَ الحارس بمرور السيارة التي سارتْ ببطءٍ حتَّى توقَّفتْ عند مكان المَوقِد في الصفِّ الرابع من صفوف الأكواخ. نهَضَت امرأتان وخرجَتَا من الكُوخ ثمَّ أغلقَتَاه، تبِعَهما سائقُ سيارة الشُّرطة حاملًا صندوقًا من الوَرَق المُقوَّى. استطاع «ك» من مكانه عند السُّور الخلفي أن يسمع بصعوبةٍ صوتَ خشخشة الراديو داخل السيارة التي انطلق الدخان الأَسوَد من مؤخرتها بكثافة.
قام رجال الشاحنة بتفريغ شِحنات الحَطَب ورصِّها بجوار البوَّابة، ثمَّ عاد الشُّرطي إلى سيارته وجلَسَ في الكابينة وراح يُمشِّط شَعْره. ظهرتْ إحدى النساء من الكوخ، وكانت ترتدي بِنطالًا واسعًا، وتطرُق بيدَيها فوق قضيبٍ فولاذيٍّ طرقاتٍ قويةً احتشَدَ على إثرها عددٌ كبير من الأطفال عند الباب حاملين معهم الأكواب والأطباق والعُلَب الصفيحية، كما احتشدتْ أيضًا الأمهات اللاتي يحملْنَ أطفالهنَّ الرُّضَّع فوق صُدُورهنَّ. أفسحت المرأة مكانًا لهم فبدءوا في السماح بدخول الأطفال على مجموعات، وكان «ك» في تلك الأثناء يتجوَّل في المكان ويراقِب ما يحدُث فالْتحَقَ بالحشد ووقَفَ في المؤخرة، ثمَّ شاهَدَهم وهم يُقدِّمون الشوربة وشرائح الخبز للأطفال.
ارتطَمَ أحدُ الصبية بالأرض فوقعت الشوربة فوق قدمَيه، لكنَّه واصَلَ سَيْره بحذرٍ شديد حتَّى عاد للالتحاق بالصفِّ، وكان بعض الأطفال يجلسون خارج الكوخ فوق الأرض القاحلة؛ لتناوُل طعامهم والبعض الآخر يحمل عشاءه عائدًا إلى الخيمة.
اقترب «ك» من السيدة الجالسة أمام الباب وسألها: معذرة … هل يُمكنني أن أجِدَ بعض الطعام؟ إنَّني لم أحصل على نصيبي وأنا خارج من المستشفى.
أجابت السيدة قبل أن تُشيح بوجهها بعيدًا عنه: إنَّه للأطفال فقط.
عاد إلى كُوخه وارتدى البِنطال الأَسوَد الذي كان لا يزال مبلَّلًا، ثمَّ ألقى بالبِنطال الكاكي القصير تحت السرير ذي الطابقَين.
كان الشُّرطي لا يزال جالسًا في السيارة فقال له: أين يُمكنني الحصول على طعام؟ أنا لم أطْلُب الحضور إلى هنا فأين إذن أستطيع الحصول على طعام؟
قال الشُّرطي: هذا ليس سجنًا، إنَّه معسكرٌ وعليك بالعمل مقابل الحصول على الطعام مثلَ أيِّ شخصٍ في المُعسكَر.
– وكيف لي أن أعمل؟ وأين هو العمل الذي يجب أن أقوم به؟
– عليك اللعنة، اذهب واسألْ أصدقاءك فمَن تكون أنت حتَّى أُوفِّر لك حياةً مجانية؟!
فكَّر «ك» وقال لنَفْسه: لقد كانت الحياة في الجبال وفي المزرعة وأثناء عبور الطرق أفضلَ كثيرًا من هنا، وكنتُ أحسنَ حالًا في كيب تاون. أمَّا هذا الكُوخ المُظلِم الحارُّ وأولئك الغُرباء الراقدون فوق الأسِرَّة بأعدادٍ كبيرة في جوٍّ خانق؛ فإنَّهم يُذكِّرونني بأيام الطفولة، إنَّه الكابوس بعينه.
أشعلوا عددًا أكبر من المواقد، وانتشرت في الهواء رائحة الطعام وحتَّى رائحة اللحم المشويِّ، وأشارتْ له المرأة ذاتُ البِنطال الواسع إلى المطبخ، ثمَّ ناولتْه دَلوًا بلاستيكيًّا وقالتْ: اغسلْ هذا الدَّلو وضعْه هنا بالداخل ثمَّ أغْلِق الباب، هل تعرف استخدام القُفل؟
أشار «ك» برأسه فوضعت المرأة كميةً صغيرةً جدًّا من شوربة العصيدة في الدَّلو وقدَّمتْه له.
ركِبَت السيدتان مع سائقِ سيارة الشرطة، ولاحَظَ «ك» أنَّهما تنظران حولهما باهتمام بعد أن مضت السيارة في طريقها، وقال مندهِشًا: لا شيءَ في المُعسكَر يستحقُّ كلَّ هذه النظرات.
ساد الظلام وكانت مجموعاتٌ من الناس تتناول الطعام وتتبادل الحديث حول المواقد، وبعد الانتهاء من الطعام بدأ أحدُهم بالعَزْف على الجيتار ونهض بعضهم للرقص، وراح «ك» في البداية ينظُر إليهم وهو يتحرَّك في الظلام، ثمَّ شعَرَ بحماقة ما يفعلون فذهَبَ للرُّقاد فوق سريره في الكوخ الخالي.
دخَلَ إلى الكوخ شخصٌ ما فاستدار «ك»، بينما كان ظلُّ الشخص الأَسوَد يقترب منه ويقول: أتُريد سيجارة؟
تناوَلَ «ك» السيجارة وجلَسَ مُستنِدًا بظَهْره إلى الحائط، وعلى ضوء عود الثِّقاب شاهَدَ رجُلًا أكبرَ منه، اقترَبَ الرَّجُل منه وسأله من أيِّ بلدٍ أنت؟
أجاب «ك»: لقد مشيتُ حول السُّور الخلفي في هذا المساء وأرى أنَّ باستطاعة أيِّ شخصٍ أن يتسلَّقه، إنَّ الطفل يستطيع تسلُّقَ ذلك السُّور في دقيقةٍ واحدة؛ فلماذا يُصرُّ الناس على البقاء هنا؟
قال الرَّجُل: هذا ليس سجنًا، ألَمْ تسمع الشُّرطي حين قال لك إنَّنا لسنا في سِجْن؟ إنَّه مُعسكَر، مُعسكَر «جاكالسدريف»، ألَا تعرف ما تعنيه كلمة مُعسكَر؟ إنَّه مكانُ العاطلين عن العمل، إنَّه مكانٌ لكل الناس الذين يذهبون من مزرعةٍ لأخرى ويتوسَّلون للعمل عند أصحابها؛ لأنَّهم لا يجِدُون طعامًا ولا مَسكنًا، إنَّهم يضعون كلَّ أولئك الناس معًا في مكانٍ واحد، وهذا المكان هو المُعسكَر، وهكذا يقضون على ظاهرة التسوُّل، وأنت الآن تسألني عن سبب بقائي هنا رغم أنَّ أيَّ شخصٍ يستطيع بسهولةٍ أن يتسلَّق السُّور كما تقول، لماذا على المتشرِّدين من أمثالي مِمَّن ليس لديهم بيتٌ يأويهم أن يهربوا من تلك الحياة الجميلة التي نَنعَم بها هنا؟ وكيف لنا أن نترك هذه الأسِرَّة الطرية والحياة المجانية وذلك الرَّجُل عند البوابة الذي يقف ببندقيَّته لحمايتنا من لصوص الليل؟ من أين أنت إذن بما أنك لا تعرف هذه الأشياء؟
لم يقُل «ك» شيئًا وقال لنَفْسه: مَن مِنَّا يجب أن يلوم الآخر؟
استطرَدَ الرَّجُل قائلًا: أتريد أن تتسلَّق السُّور وتُغادر المكان الذي يأويك؟ إنَّ مُعسكَر «جاكالسدريف» هو المكان الوحيد الذي تستطيع أن تجِدَ فيه سريرًا تنام عليه، وإذا هربتَ من هنا سوف يقبضون عليك؛ لأنَّك مُتشرِّد ولا تملِك مكانًا للإقامة، وفي هذه الحالة قد يُرسلونك إلى مُعسكَر «براندفلي»؟ هل تريد الذهاب إلى «براندفلي»؟ إنَّه مُعسكَر معروف بممارسة أقصى أنواع العبودية وبالعمل الشاقِّ والحِراسة الشديدة والمراقِبين الذين يحملون السِّياط، إذا تسلَّقتَ السُّور سوف يقبضون عليك وسيُلحقون بك الأذى ومختلف أنواع الإهانات، تذكَّرْ ذلك وفي النهاية لك حقُّ الاختيار، لا بد أن تعرف وِجهتك.
أضاف بصوتٍ خفيض: هل ترغب في الذهاب إلى الجبال؟
لم يفهمْ «ك» معنى سؤاله؛ فركَلَه الرَّجُل فوق قدمه، وقال: اخرجْ من هنا، وتعالَ لتُشاركنا الحفلة، إنَّهم يُفتِّشون الناس عند البوَّابة بحثًا عن أيِّ نوعٍ من الخمور؛ حيث لا توجد خمورٌ في المُعسكَر بأوامرَ من النظام، تعالَ إذن وتمتَّعْ بالشراب.
خرَجَ «ك» والْتحَقَ بمجموعةٍ من الناس الجالسين حول عازف الجيتار، توقَّفت الموسيقى، فقال الرَّجُل: هذا «مايكل»، لقد جاء من مسافةٍ بعيدة إلى «جاكالسدريف» من أجل هذا الاحتفال فلنُرحِّبْ به.
جلَسَ «ك» وسط الزحام بصعوبة وقدَّموا له كأسًا من النبيذ من إحدى الزجاجات الملفوفة في ورَقٍ بُنيٍّ ثمَّ حاصَرُوه بالأسئلة: من أيِّ مدينةٍ أو قرية جاء؟ وماذا كان يفعل في الأمير ألبرت؟ وأين تمَّ القبض عليه؟
ولم يستطعْ أحدٌ أن يفهم السبب في مغادرته المدينة ليأتي إلى هذا الجزء المُنعزِل عن العالَم الذي هجرتْه أجيالٌ كثيرة منذ زمنٍ بعيد تاركِين عملهم في المزارع، لم يفهموا سبَبَ قدومه إلى مكانٍ لا تتوفَّر فيه فرص العمل.
حاوَلَ «ك» أن يشرَحَ لهم فقال: كنتُ أصطحِبُ أمي للذهاب والعيش في الأمير ألبرت، وكانت أمي مريضةً، وتُعاني من آلام في قدمَيها، كانت الأمطار لا تتوقَّف حيث كنَّا نعيش فطلبتْ منِّي الذهاب إلى الريف، لتنجو بنفسها من الأمطار الغزيرة ولتَنعَم بقليلٍ من الهدوء والسكينة في أيامها الأخيرة، لكنَّها ماتتْ أثناء الطريق في مستشفى «ستيلينبوش»، وهكذا لم ترَ قَط الأمير ألبرت رغم أنَّها وُلِدتْ هنا.
قالت امرأة: يا لها من سيدةٍ مسكينة!
استطردتْ دون أن تنتظر إجابةَ «ك»: ولكنَّني أعتقد أنك عشتَ أيامًا سعيدة في كيب تاون، نحن لا نَنعَم هنا بالرعاية الاجتماعية ولا نعرف الرفاهية.
ثمَّ أشاحتْ بذراعها وكأنَّها تُعانق فضاء المُعسكَر وأضافتْ: هذه هي رفاهيتنا.
قال «ك»: ثمَّ عَمِلتُ في خطوط السكك الحديدية؛ حيث كنتُ أقوم بإزالة الشوائب عن القضبان وبعد ذلك جئتُ إلى هنا.
سادتْ لحظاتٌ من الصَّمْت، فكَّر «ك» خلالها في الحديث عن كِيس الرَّماد وإخبارهم ببقيَّة القصة، لكنَّه لم يستطع، وربما لم يكُنْ مُستعدًّا لسرْدِ بقيَّة الحكاية. في تلك اللحظة، بدأ عازف الجيتار في عزْفِ مقطوعةٍ جديدة؛ فانصرفت المجموعة عنه وراحوا يستمعون للموسيقى، فقال: لا توجد رفاهيةٌ في كيب تاون أيضًا، لقد انتهى عصر الرفاهية.
انبعَثَ ضوءٌ من الخيمة المجاوِرة بعد أن أشعَلَ أحدهم شمعةً فتحرَّكتْ ظلالٌ وخيالاتٌ كبيرة على الحائط، استلقى «ك» على ظَهْره وراح يُحدِّق في النجوم.
سمِعَ صوتًا بجواره يقول: نحن هنا منذ خمسة أشهر.
كان هو الرَّجُل نَفْسه الذي خرَجَ من الكُوخ وكان اسمه روبرت، قال روبرت مُستطرِدًا: أنا وزوجتي وأولادي، ثلاث فتيات وولد بالإضافة إلى أختي وأولادها نعيش هنا منذ خمسة أشهر، كنتُ أعمل في مزرعةٍ بالقرب من «كلارستروم»؛ حيث مكثتُ هناك مدَّةً طويلة تتجاوز اثني عشر عامًا، ثمَّ توقَّفتْ فجأةً تجارةُ الصُّوف وبدءوا يُطبِّقون نظام الكوتا، وأغلقوا بعد ذلك الطريق المؤدِّي إلى «أودتشورن»، ثمَّ أغلقوا الطريق الآخر، ثمَّ أعادوا فتْحَ الطريقَين وما لبثوا أن أغلقوهما مرةً أخرى، وذاتَ يومٍ جاءني صاحبُ المزرعة وقال لي: أنا مضطرٌ للاستغناء عنك؛ لأنَّك تحمِّلني مسئوليةَ إطعامِ كثيرٍ من الأفواه وأنا لا أستطيع تحمُّلَ ذلك.
قلتُ له: وأين يجب أن أذهب، خاصةً وأنَّك تعرف بعدم وجود فرصٍ للعمل؟
قال صاحب المزرعة: آسف، لا يوجد سببٌ شخصي، وإنَّما هي عدم قُدرتي على تحمُّل المزيد.
تركتُ المزرعة مع عائلتي، لكنَّه احتفَظَ برَجُلٍ لم يَمضِ على عمله معنا وقتٌ طويل؛ لأنَّه شابٌّ وأعزبُ ووحيد، ويستطيع أن يتحمَّله ويُوفِّر له الطعام، قلتُ له: أنا دون عملٍ الآن؛ فماذا يُمكنني أن أفعل؟
ثمَّ أضاف قائلًا: وعلى أيَّة حالٍ فلقَدْ حمَلْنَا كلَّ أشيائنا ورحَلْنَا، وفي الطريق أمسَكَ بنا رجال الشرطة، أنا لا أكذب ولكنَّني أقول الحقيقة، لقد اتصل صاحب المزرعة بالشرطة وقبضوا علينا، ثمَّ جاءوا بنا في الليلة نَفْسها إلى هنا؛ حيث مُعسكَر «جاكالسدريف» ووضَعُونا خلْفَ الأسلاك الشائكة؛ حيث لا توجد أماكنُ محددةٌ للإقامة، وقالوا: هل تُفضِّل أن تنام تحت شجرةٍ في الواحة كالحيوانات، أم فوق سريرٍ نظيف في مُعسكَر تتوفَّر فيه المياه؟
قلتُ: وهل لي من خِيار؟
قالوا: لك حقُّ الاختيار لكنَّك اخترتَ «جاكالسدريف»؛ لأنَّنا لن نسمح للناس بالتَّجوُّل كما يشاءون ووقتما يشاءون لنَشْر القلق في كلِّ مكان.
قال مُوجِّهًا حديثه إلى «ك» مرةً أخرى: لكنَّني سأُخبرك بالسبب الحقيقي، سأقول لك عن السبب الذي جعَلَهم يُسرعون بعملية القبض علينا، إنَّهم يريدون أن يتوقَّف الناس عن الاختباء في الجبال حتَّى لا يعودوا في الليل ويهدموا الأسوار، ثمَّ يستولوا على ممتلكاتهم، هل تعرف عددَ الرجال الشباب في المُعسكَر؟
مال ناحية «ك» واستطرَدَ بصوتٍ خفيض: ثلاثون وأنت الحادي والثلاثون، وهل تعرف عددَ النساء والأطفال وكبار السنِّ؟ انظُرْ حولَكَ واحسبْهم بنفسك، ثمَّ أجبْني على السؤال: أين الرجال المسئولون عن تلك العائلات الموجودة معنا؟
قال «ك»: لقد كنتُ في الجبال ولم أرَ أحدًا هناك.
– لكنَّك إذا سألتَ أيًّا من النساء هنا عن رجالهنَّ ستقول لك إحداهنَّ إنَّ زوجها يعمل في مكان ما ويُرسل لها نقودًا كلَّ شهر، بينما ستخبرك أخرى أنَّه هجَرَها وفرَّ هاربًا، وإذن فمَن ذا الذي يعرف الحقيقة؟
سادتْ لحظةٌ طويلةٌ من الصَّمْت انبعَثَ بعدها ضوءٌ خفيفٌ من السماء، فأشار «ك» إلى أحد النجوم، وقال: نجمٌ مُتألِّق.
جاءت الشاحنة في السادسة والنصف من صباح اليوم التالي لتوزيع رجال المُعسكَر على العمل في هيئة السكك الحديدية، وفي المجلس المحلي لمُقاطَعة الأمير ألبرت وفي أعمال الفِلاحة، فخرَجَ «ك» معهم. وفي تمام الساعة السابعة والنصف وصَلُوا إلى أعمالهم في شمال منطقة «لي جامكا»، وراحوا يُزيلون الأشجار المُتشابِكة من قاع النهر ومن فوق قُضبان السكك الحديدية، كما عملوا على حَفْر فتحاتٍ في الأرض وإلقاءِ الأسمنت بداخلها؛ لتثبيت السُّور. كان العمل شاقًّا، فبدأ «ك» يترنَّح قبل انتصاف النهار وعندئذٍ همَسَ لنفسه: إنَّ الأيام التي قضيتُها في الجبال جعلتْني رجلًا عجوزًا.
وقَفَ روبرت إلى جواره وقال: تذكَّرْ يا صديقي، قبل أن ينكسر ظَهْرُك، ما يدفعونه لك؛ أنت تتقاضى أجرًا قيمتُه راند واحدٌ في اليوم، وأنا أتقاضى راندًا ونصف؛ لأنَّني أعول أسرةً فلا تُجهدْ نَفْسك واذهبْ لتتبول، كما أنك كنتَ في المستشفى وصحتك ليست على ما يرام.
حان وقتُ الاستراحة في منتصف النهار، فقدَّم له روبرت ساندويتشًا، ثمَّ تمدَّد إلى جواره تحت ظِل الشجرة، وقال: يُمكنك تدبير طعامك من خلال ما تحصُل عليه في الأسبوع، أمَّا المُعسكَر فهو مكانٌ للنوم فقط، وبخصوص السيدات اللاتي رأيتَهنَّ بالأمس فإنَّهنَّ يقُمْن بالأعمال الخيرية من أجل الأطفال فقط. إنَّ زوجتي تعمل خادمةً في المدينة وتأخذ معها طفلنا الرضيع وتترك بقيَّة الأطفال مع أختي، وهكذا نحصل على اثني عشر راندًا في الأسبوع يجب أن تكفي لإطعام تسعة أفراد؛ ثلاثةٌ منهم كبار وستةٌ أطفال. وعلى أيَّة حال فإنَّ الأمر أكثرُ صعوبة بالنسبة إلى آخرين مِمَّن لا يجِدُون عملًا، إنَّه لأمرٌ سيئٌ أن نجلس خلْفَ الأسلاك الشائكة ونشدَّ على بُطُوننا.
أضاف قائلًا: والآن فإنَّك لا تستطيع إنفاق ما تحصل عليه من المال إلَّا في مكانٍ واحد هو الأمير ألبرت، لكنَّك حين تذهب إلى أيِّ دكَّان هناك ستكتشف أنَّ الأسعار قد أصبحتْ غاليةً فجأةً، هل تعرف لماذا؟ لأنَّك قادمٌ من المُعسكَر وهم لا يرغبون في أن يظلَّ المُعسكَر قريبًا من مدينتهم ويتمنَّون نقله إلى مكانٍ آخر بعيد، لقد أداروا حملةً شرِسة ضدَّ المُعسكَر في البداية بعد أن اتَّهمونا بنَقْل الأمراض إليهم، وقالوا: إنَّنا لا نعرف شيئًا عن الأخلاق وعن النظافة، وأضافوا أنَّ جميعنا رجالًا ونساءً لسنا سوى وكْرٍ للرذيلة والنقائص، وطالبوا بضرورة إنشاء سور عند منتصف المُعسكَر يفصل بين الرجال والنساء مع أهمية وجود كلابٍ للحِراسة ليلًا. كانوا — في رأيي — يُريدون إبعاد المُعسكَر عِدَّة أميال إلى وسط منطقة اﻟ «كوب» بعيدًا عن الأنظار، لنأتي بعد ذلك مُتسلِّلين على أطراف أصابع أقدامنا في منتصف الليل كالجنِّيات؛ لنقوم بأعمالهم كشَقِّ القنوات في الحدائق وغَسْل الأواني، بشرط أن نُغادر في الصباح بعد أن يُصبح كلُّ شيء مُرتَّبًا ونظيفًا.
أسمعك الآن تسألني عن أكثرهم فائدةً للمعسكر فأقول لك: إنَّهم المسئولون عن خطوط السكك الحديدية أولًا؛ فهم يريدون مُعسكَرًا يضمُّ أمثالنا كلَّ عشرة أميال على طول الطريق، ثمَّ أصحاب المزارع الذين يحصلون من المُعسكَر على عِمالةٍ رخيصةٍ ما تلبث أن تعود في الشاحنة بعد انتهاء اليوم، وبالتالي لا يقلقون بشأن إقامتهم وإعاشتهم هم وعائلاتهم. وبالطبع لا يهمُّهم إذا تضوَّرُوا من الجوع أو إذا شَعَروا بالبرد؛ فصاحب المزرعة لا يعرف شيئًا عن مُعاناتهم ويعتبر أنَّ ذلك أمرٌ ليس من شأنه.
على بُعد مسافةٍ قصيرة، وبعيدًا عن مرمى السمع كان رئيس العُمَّال جالسًا فوق مقعدٍ صغيرٍ قابلٍ للطيِّ؛ نظَرَ إليه «ك» وهو يصبُّ القهوة في فنجانه الفارغ، ولم تكُنْ أصابعه الطويلة المُنبسِطة قادرةً على الإمساك بيَدِ الفنجان فأمسَكَ به بإصبعَين ورفَعَه في الهواء وشَرِب، ثمَّ التقتْ عيناه بعينَي «ك» من خلال حافة الفنجان، ففكَّرَ «ك» وقال: ماذا يرى الآن؟ وكيف يراني؟
أزاح رئيس العُمَّال الفنجان عن فَمِه ووضَعَه على الأرض، ثمَّ وضَعَ الصفَّارة بين شفتَيه وأطلَقَ صفَّارةً طويلةً دون أن يقِفَ أو يتحرَّك من جلسته.
كان يعمل في تقطيع أشواك الشُّجيرات في وقتٍ متأخِّر من بعد الظُّهر حين وقَفَ خلْفَه رئيس العُمَّال نفسه، وراح يُحدِّق تحت ذراعه، فشاهَدَ زوجَ الأحذية الأَسوَد والعصا الخَيْزُرَانية وهي تتحرَّك ببطءٍ فوق التراب، ارتجَفَ جسَدُه من شِدَّة الهَلَع، وعاد لمواصلة عمَلِه في تهذيب الشُّجيرات، لكنَّه شعَرَ بضعفٍ في ذراعَيه ولم يستطع أن يلتقِطَ أنفاسه أو يشعُر بالاطمئنان إلَّا بعد أن ذهَبَ رئيس العُمَّال بعيدًا عنه.
كان التَّعب قد استبدَّ به في المساء، فلَمْ يستطع أن يأكُل، وقام بإخراج المرتبة من داخل الكُوخ، ورقَدَ فوقها، وراح يتطلَّع إلى النجوم وهي تَظهَر واحدةً بعد الأخرى في السماء البَنَفْسَجية، وفي تلك الأثناء اصطدَمَ به شخصٌ ما كان في طريقه إلى المراحيض، حمَلَ المرتبة وعاد إلى داخل الكُوخ، ثمَّ رقَدَ في الظلام فوق السرير ذي الطابقَين تحت ألواح السَّقف الصفيحيَّة.
دفعوا لهم أجورَهم في يوم السبت، وجاءت الشاحنة المُحمَّلة بالسلع الغذائية، ثمَّ حضَرَ القسُّ في زيارةٍ يومَ الأحد لإقامة شعائر الصلاة، وظلَّت البوَّابات مفتوحةً حتَّى وقت الغروب. ذهَبَ «ك» للصلاة، فوقف بين النساء والأطفال، وانضم إلى جَوْقة المُنشِدين. أحنى القسُّ رأسَه وبدأ في الصلاة والدعاء قائلًا: فلْتنعم قلوبنا بالسلام يا إلهي، واضمن لنا العودة إلى بيوتنا سالمين، وارفع الآلام عن كل الناس ليعيشوا معًا في مودَّة ولْنلتزم بالوصايا باسمك يا صاحب الجلالة.
توجَّه القسُّ بعد ذلك بحديثه إلى بعضٍ من كبار السنِّ، ثمَّ استقلَّ السيارة الزرقاء التي كانت بانتظاره عند البوَّابة ورَحَل.
أصبح الناس الآن أحرارًا، وكان باستطاعتهم الذهاب إلى الأمير ألبرت أو زيارة الأصدقاء أو على الأقلِّ القيامُ بنزهةٍ في الواحة وسطَ المروج. شاهَدَ «ك» أسرةً من ثمانية أفراد، وكان الرَّجُل وزوجته يرتديان أفضل ما عندهما من ملابسَ سوداء. وظهَرَت الفتيات بملابسهنَّ القرنفلية والبيضاء والقبَّعات البيضاء فوق رءوسهن، أمَّا الأولاد فكانوا يرتدون البدلات الرَّمادية وربطاتِ العُنُق والأحذية السوداء اللامعة. بدءوا جميعًا في التحرُّك نحو المدينة عبْرَ طريقٍ طويل، وتبِعَهم مجموعةٌ من الفتيات كنَّ يضحكْنَ وتضع كلُّ واحدةٍ منهنَّ ذراعها في ذراع الأخرى، وكذلك رَجلٌ يحمل جيتارًا بصُحبة أخته وصديقته.
سأل «ك» روبرت: لماذا لا نذهب معهم؟
أجاب روبرت: فلْيَذهب الشباب إذا أرادوا، فما الميزة التي تتمتَّع بها مُقاطَعة الأمير ألبرت يوم الأحد؟ لقد شاهدتُها كثيرًا من قبلُ، وأنا لستُ شغوفًا بها، كما أنَّها لا تعني شيئًا بالنسبة إليَّ، ولكن يُمكنك الذهاب معهم إذا كنتَ راغبًا في ذلك، واشترِ لنفسك شرابًا باردًا واجلسْ خارج المقهى وقُمْ بحكِّ جلدك من لسعات البراغيث، لا يوجد شيءٌ آخر يُمكنك أن تفعله، وبما أنَّنا مُنعزِلون هنا في المُعسكَر فعلينا أن نقبل هذه العُزلة ولا نتظاهَرُ بغير ذلك.
وعلى الرغم من ذلك، غادَرَ «ك» المُعسكَر وبدأ في السَّيْر حتَّى اختفت الأسلاك الشائكة والأكواخ ومِضخَّات المياه عن الأنظار، ثمَّ رقَدَ فوق الرِّمال الرَّمادية الدافئة ووضَعَ قَلَنسُوته فوق وجهه، وراح في نومٍ عميق، وعندما استيقَظَ كان جسَدُه متشرِّبًا بالعرق. رفَعَ القَلَنسُوة من فوق وجهه ونظَرَ إلى الشمس بعينَين نصف مفتوحتَين فتلوَّنتْ رموش عينَيه بألوان قوسُ قُزَح وقال لنَفْسه: إنَّني مثلُ النَّملة التي لا تعرف مكان الحفرة.
ضربَ بكلتا يدَيه فوق الرمال فتسرَّبت الرمال من بين أصابعه.
بدأ شارِبُه يُغطِّي شفَتَه العليا من جديدٍ بعد أن كان قد حلَقَه في المستشفى، تحسَّسَ شارِبَه وتذكَّر أنَّ أمْرَ إقامته مع روبرت وعائلته؛ كان ولا يزال صعبًا بالنسبة إليه، حيث كان يجلس معهم حول النار وعيون الأطفال لا تتوقَّف عن النظر إليه، كما كان أحد الأولاد الصِّغار يتعقَّبه حيثما ذهَبَ ويُواصِل التحديق في وجهه. وكانت أمُّه تشعر بالحَرَج فتُحاول الإمساك به، لكنَّ الولد كان يتملَّص منها ويبكي لكي تتركه؛ ممَّا يجعل «ك» عاجزًا عن فعْلِ أيِّ شيء، وكان يستبدُّ به الخَجَل ولا يعرف إلى أين يتوجَّه بنظراته، وكان يظنُّ أيضًا أنَّ الفتياتِ يضحَكْنَ من وراء ظَهْره، فكانت تنتابه الحيرة، خاصةً وأنَّه لم يَعرفْ طوال حياته كيفية التعامل مع النساء. كانت النساء تتعامل معه بصفته إنسانًا نحيلًا وضعيفًا، وكنَّ يطلُبْنَ منه تنظيفَ أواني الشوربة بانتظامٍ ثلاث مرات في الأسبوع مُقابل الحصول على وجبةٍ يومية، وكان يضع مع روبرت نصف ما يحصُل عليه من نقودٍ ويحتفظ بالنصف الآخر في جَيبِه، ولم يكُنْ في حاجةٍ لشراء أيِّ شيء، فلَمْ يذهب للمدينة قَط. وكان روبرت دائمَ الاهتمام بشئونه والاعتناء به، وكثيرًا ما كان يُقدِّم له النصيحة، قال له ذات مرةٍ في معرض حديثه عن المُعسكَر: لم أرَ قَط في حياتي شخصًا خاملًا وكسولًا مثلك.
أجابه «ك» قائلًا: نعم.
انتهى العمل حول الكوبري فاستغنوا عن العمِالة لمدَّة يومَين، جاءت بعدها الشاحنة، وطلبوا عددًا من الرجال للعمل في رصْفِ الطريق. وقَفَ «ك» في الصفِّ عند البوَّابة مع بقيَّة الرجال، لكنَّه تراجَعَ في اللحظة الأخيرة عن ركوب الشاحنة، وقال للحارس: إنَّني مريضٌ ولا أستطيع أن أعمل.
قال الحارس: كما تُحبُّ، ولكنَّهم لن يدفعوا لك.
حمَلَ «ك» المرتبة وفرَدَها في الظلِّ خارج الكوخ، ثمَّ رقَدَ فوقها واضعًا ذراعه فوق وجهه، بينما كانت الحياة في المُعسكَر مستمرةً من حوله. كان مُستلقيًا في هدوء، فلَمْ يقترب منه الأطفال الصِّغار في البداية، لكنَّهم حاولوا إيقاظه بعد فترة، وحين لم يستيقظ استخدموا جسَدَه في ألعابهم، فراحوا يتسلَّقون فوقه ويقعون عليه كما لو أنَّه جزءٌ من الأرض، ظلَّ واضعًا ذراعه فوق وجهه. وحين استدار بجسَدِه ورقَدَ على بطنه؛ اكتشف أنَّ النُّعاس يستطيع أن يُغالبه حتَّى حين يمتطِي ظَهْره الأطفال الصِّغار، وشعَرَ بنوعٍ من السرور الخفي في ألعابهم وأنَّ لمساتهم لجسَدِه كانتْ تُمدُّه بالصحة، لكنَّه شعَرَ أيضًا بالأسف حين جاء رجال المجلس لردم فتحات المراحيض بالجير، ثمَّ قال للحارس من داخل السور: أيُمكنني أن أخرج؟
– كنتُ أعتقد أنك مريض، لقد أخبرتَنِي هذا الصباح بأنَّك مريض.
– أنا لا أريد أن أعمَلَ، لماذا يجب أن أعمل؟ نحن لسنا في سِجْن.
– أنت لا تريد أن تعمل لكنَّك تُريد أن يُطعمك الآخرون!
– لا أريد تناوُل الطعام في كل وقت، وسوف أعمل حين أحتاج للطعام.
جلَسَ الحارس فوق مقعده بجوار نافذةِ حُجْرة الحِراسة الصغيرة، وكانت بندقيته مستندةً إلى الحائط، ثمَّ راح يتطلَّع بعيدًا ويبتسم.
قال «ك» مُتسائلًا: هل من الممكن أن تفتح البوَّابة؟
قال الحارس: الطريقة الوحيدة للخروج من هنا هي الخروج للعمل.
– وإذا تسلَّقتُ السُّور فماذا ستفعلون؟
– حين تتسلَّق السُّور سوف أُطلق النار عليك، وأُقسمُ بالله أنَّني لن أُفكِّر مرتَين، سأُطلق النار بلا تردُّد فلا تحاولْ إذن.
أمسك «ك» بالسلك الشائك، وظلَّ يتحسَّسه بأصابعه وكأنَّه كان يُفكِّر في عواقب المخاطرة، فقال له الحارس: دَعني أُخبرك بشيء يا صديقي من أجل مصلحتك، فأنت جديدٌ هنا على أيَّة حال: إذا سمحتُ لك بالخروج الآن فسوف تعود بعد ثلاثة أيام، وتتوسَّل للدخول مرةً أخرى. أنا متأكِّد أنك ستعود في خلال ثلاثة أيام وستقِفُ هنا أمام البوَّابة والدموع تملأ عينَيك وأنت تتوسَّل لي كي أسمَحَ لك بالدخول، لماذا إذن تريد الفِرار؟ لديك هنا ملجأ ومكانٌ للإقامة وسريرٌ خاص بك، كما أنك تستطيع الحصول على الطعام مقابل ما تقوم به من عَمَل، إنَّ الناس في الخارج تُعاني أوقاتًا عصيبة كما تعرف، وأنا لستُ في حاجةٍ لإخبارك، فلماذا إذن تريد اللَّحاق بهم؟
أجاب «ك»: لا أرغب في البقاء هنا في المُعسكَر وفقط، هذا كلُّ ما في الأمر، دَعني أتسلَّق السُّور لأخرج من هنا، وعليك فقط أن تُدير ظَهْرك، ولن يلاحِظ أو يعرف أيُّ شخص شيئًا عن رحيلي فأنت نفْسُك لا تعرف عدد الناس في المُعسكَر.
قال الحارس: إذا تسلَّقتَ السُّور سأُطلق عليك النار وستموت في الحال أيُّها السيد، ولن ينتابَني أيُّ شعور بالندم، لقد أخبرتُك وأنا أعي ما أقول.
في الصباح التالي كان «ك» راقدًا فوق السرير، بينما ذهَبَ بقيَّة الرجال للعمل وحين نهَضَ توجَّهَ على الفَور إلى البوَّابة مرةً ثانية وكان الحارس نَفْسه هو القائم بالخدمة، تبادلا الحديثَ عن كُرَة القَدَم، وقال الحارس: أنا مصابٌ بمرض السكري، ولهذا السبب فإنَّهم لم يُرسلوني قَط إلى الشمال، وأعملُ منذ ثلاث سنوات في الأعمال المكتبية وفي المخازن ومهام الحِراسة، وأعرف أنك تعتبر وجودي في المُعسكَر شيئًا سيِّئًا، وترى أنَّني أجلس بجوار النافذة اثنتي عشرة ساعةً في اليوم لا أفعل خلالها شيئًا، ولا أجد ما أفعله غير النظر إلى أوراق الشجر، وعلى الرغم من أنك على صواب فإنَّني سأُخبرك بشيء يا صديقي هو الحقيقة بعينها: سوف أهرب بعيدًا في اليوم نفْسِه الذي سأتلقَّى فيه أمرًا بالذهاب إلى الشمال، ولن يجِدُوني مرةً ثانية. إنَّها حربٌ لا تخصُّني، وإنَّما هي حربهم، وعليهم خوضها دوني.
انتابتْه رغبة في معرفة حكاية فَم «ك» فقال: أريد أن أعرف من باب الفُضول فقط.
أخبره «ك» بالحكاية، فأشار برأسه وقال: كنتُ أعتقد ذلك، لكنَّني كنتُ أعتقد أيضًا أنَّ شخصًا ما قد جرَحَك.
في غُرفة الحراسة كان الحارس يحتفظ بغذائه المُكوَّن من دجاجةٍ باردةٍ وخبز داخلَ ثلَّاجةٍ صغيرة تعمل بالزيت، تناوَلَ الغذاء ثمَّ اقتسَمَه إلى نصفَين وأعطى «ك» نصيبه من خلال فتحةٍ في السلك الفاصل بينهما، وقال وهو يبتسم ابتسامةً خبيثة: أعتقد أنَّنا نعيش بشكلٍ جيد في ظلِّ ظروف الحرب هذه.
ثمَّ حكى له عن النساء في المُعسكَر وعن زيارات الليل، حتَّى قال إنهنَّ مُتعطِّشات لممارسة الحُب.
تثاءب بعد ذلك وعاد إلى مقعده.
جاء روبرت في الصباح وراح يهزُّ جسَدَ «ك» حتَّى أيقظه، وقال: هيا انهضْ وقمْ بارتداء ملابسك، سوف تذهب للعمل رغمًا عنك.
دفَعَ «ك» ذراع روبرت بعيدًا عنه، فأضاف روبرت قائلًا: هيا، إنَّهم يريدون كلَّ الناس اليوم، ولن يقبلوا أيَّةَ أعذار، ولن يستمعوا إلى أيِّ حُجَّة؛ لا بد أن تأتي.
وقَفَ الرجال في صفوف، وكان كلُّ صفٍّ يبعُد عن الآخر ثلاثَ خطوات، ثمَّ بدءوا العمل في الحقل، فراح بعضهم يعمل بالتقويس والقصِّ، بينما عمِلَ الآخرون في التجميع. وما إن تقدَّموا خطوةً واحدة للأمام بإيقاعٍ ثابتٍ ومُملٍّ؛ حتَّى تصبَّب وجه «ك» بالعَرَق وأصابه الدُّوار، فحاوَلَ أن يستريح قليلًا، لكنَّه سمِعَ صوتًا زاعقًا من خَلْفه يقول: لا تتوقَّفْ عن العمل، عليك بمواصلة عمليات القصِّ والتشذيب.
استدار «ك» وأصبَحَ في مواجهة الفلَّاح بزيِّه الكاكي واستطاع أن يشمَّ الرائحة الجميلة لمزيل العَرَق الذي يستخدمه الرَّجُل، صاح الفلَّاح قائلًا: أين نشأتَ أيُّها القِرد؟ اعملْ بشكلٍ جيد، إنَّ طريقتك في القصِّ والتنظيف ليست كما ينبغي أن تكون.
تناوَلَ المِنجل من يد «ك» وأزاحه بعيدًا، ثمَّ جمَعَ الحُزمة التالية من البرسيم، وقام بقصِّها وتنظيفها، وصاح قائلًا: أترى؟
أومأ «ك» برأسه فاستطرد الفلَّاح بالصوت العالي نفسه: فلْتَعمل إذن بالطريقة التي شاهَدْتَني أعملُ بها يا رَجُل، هيَّا.
انحنى «ك» وقطع حُزمة البرسيم التالية بالطريقة نَفْسها، ثمَّ سمِعَ الفلَّاح وهو يُنادي على واحد من جنود الاحتياط قائلًا: أين يضعون مثل تلك القُمامة الناتجة عن عمليات القصِّ والتنظيف؟
كان الجندي مُتهالِكًا وبدا كأنَّه شِبه ميتٍ حين قال: في المرة القادمة سيستخرجون الجُثَث من باطن الأرض.
قال «ك» لروبرت أثناء فترة الاستراحة الأولى وهو يلهث: لستُ قادرًا على الاستمرار في العمل، إنَّ ظَهْري يؤلمني، ويكاد أن ينكسر. وفي كلِّ مرةٍ أقِفُ فيها فاردًا ظَهْري؛ يُصيبني دُوارٌ شدید.
قال روبرت: استمرَّ في العمل ولكنْ ببطء؛ فلن يستطيعوا إجبارك على عملِ ما لا تستطيع القيام به.
نظَرَ «ك» إلى المساحة التي قام بقصِّها وتنظيفها، فقال له روبرت هامسًا: أتريد أن تعرف مَن يكون هذا الفلَّاح؟ إنَّه نسيبَ نقيبِ الشُّرطة «أوزثوزيان» الذي اتصل بمركز الشُّرطة حين أصاب ماكينته التلَفُ، وطلَبَ منهم بعض الرجال للعمل، فأرسلوا في الصباح التالي مباشرةً ثلاثين من الرجال للعمل في مزرعته، نحن يا صديقي أولئك الرجال وذلك هو النظام.
انتهَوا من عمليات قصِّ الحقل وتنظيفه قبل حلول الظلام، وتركوا البالات والأكياس لليوم التالي. وكان «ك» يترنَّح من التعب؛ فجلس في الشاحنة وأغلق عينَيه، ثمَّ انتابه شعورٌ بأنَّ الشاحنة تَمضي به في طريقٍ فارغٍ ولا نهائي. وعندما وصَلَ إلى الكوخ؛ غرِقَ في نومٍ عميق، ولم يستيقظ إلَّا في منتصف الليل على صوتِ صُراخ طفلٍ رضيع، فسمع همهماتٍ وهمساتٍ ساخطةً من حوله، وبدا أنَّ الكلَّ مستيقِظٌ، كانوا يرقدون ويستمعون لسلسلةٍ متواصِلةٍ من صُراخ وعويل وزعيقِ أحدِ الأطفال الصادر من إحدى الخيام، فشعَرَ «ك» بغضبٍ شديد. ولم يستطع النوم، لكنَّه تمدَّد بجسده واضعًا قبضتَيه فوق صدره وراح يتمنَّى موتَ الطفل.
في مؤخرة الشاحنة كان تيار الهواء يَلفَح وجوههم، وراح «ك» يُذكِّرهم بصُراخ الطفل في الليلة الماضية؛ فقال روبرت: أتريد أن تعرف السبب الذي جعَلَ الطفل يسكُت في النهاية؟ إنَّه البراندي وقرص الأسبرين. إنَّه العلاج الوحيد؛ فلا يوجد أطباء أو مُمرِّضات في المُعسكَر.
صمَتَ روبرت لحظةً ثمَّ أضاف: دَعني أُخبرك بما حدَثَ حين افتتحوا هذا المُعسكَر الذي تمَّ بناؤه للمتشرِّدين، وأولئك الذين احتلُّوا الأرضَ دون وجهِ حقٍّ وللمتسوِّلين والعاطلين عن العمل والمتسكِّعين الذين ينامون في الجبال، وأيضًا لأولئك الذين يطوفون حول المزارع، لقد فتَحُوا البوَّابات أيضًا لمرضى الحصبة والدوسنتاريا والأنفلونزا بعد شهرٍ أو أقلَّ من إقامة المُعسكَر، وكان أولئك المرضى يتكدَّسون في مكانٍ ضيِّق متلاصقين ببعضهم البعض كالحيوانات داخل القفص، هل تعرف ما فعلتْه مُمرِّضةُ الحيِّ حين جاءت؟ إذا سألتَ أيَّ شخص كان هنا فسوف يُخبرك؛ كانت تقِفُ في منتصف المُعسكَر وتصرُخ ولم تكُنْ تدري شيئًا عمَّا يجب أن تفعله بعد أن تنظُر إلى الأطفال الذين تبرُز عظامهم من أجسادهم، كانت تقِفُ فقط وتصرُخ، كانت مُمرِّضة الحي تلك امرأةً قوية.
استطرد روبرت: على أيَّة حال، لقد أثاروا الرعب والفزع في النفوس، غير أنَّهم بدءوا بعد ذلك في إلقاء الحُبَيبات في الماء وفي عمَلِ المراحيض وقاموا بعمليات الرشِّ لمكافحة الذباب، كما أحضروا جرادلَ صغيرةً للشوربة، ولكنْ أتعتقد أنَّهم فعلوا ذلك لأنَّهم يُحبوننا؟! أرجو ألَّا تعتقد ذلك. لقد فعلوا ذلك لأنَّنا نبدو في صورةٍ مُخيفةٍ وبشِعة حين نمرض أو نموت، ولْتعلمْ جيدًا أنَّهم لن يُقدِّموا لنا أيَّ شيء إذا ساءت أحوالنا الصحية وأصبحنا عاجزين عن العمل، إنَّهم يُقدِّمون لنا القليل من أجل العمل وليس من أجلنا ويريدون الحفاظ على صحتهم والعيش في سلام بعيدًا عن مشاكلنا، إنَّهم يرغبون في النوم بشكلٍ هادئ دون إزعاج.
قال «ك»: لا أعرف، أنا لا أعرف.
قال روبرت: أنت لا تنظُر للأمور بعمقٍ كافٍ. إذا استطعتَ أن تخترق بنظراتك قلوبهم؛ فسوف تعرف كلَّ شيء، وسوف تَفهَم.
هزَّ «ك» كتفَيه، فقال روبرت: أنت طفلٌ صغيرٌ ظلَّ نائمًا طوال حياته، وآن الأوان لكي تستيقظ. لماذا يتصدَّقون عليك وعلى الأطفال؟ لأنَّهم يعرفون بأنَّك شخصٌ مُسالمٌ وغيرُ ضارٍّ وأنَّ عينَيك مُغلقتان؛ وبالتالي لا تستطيع رؤيةَ الحقيقة من حولك.
بعد يومَين مات الطفل الذي كان يصرُخ وتمَّ دفنه في مقبرة المدينة خلْفَ إحدى البِنايات الكبيرة؛ لأنَّ قانونًا من الجهات العليا كان يَحظُر بناءَ المدافن بالقرب من أيِّ مُعسكَر. كانت أم الطفل في الثامنة عشرة من عمرها. وبعد أن انتهتْ من عملية دفن طفلها، رفضتْ أن تأكل، ولم تذرف الدموع، وإنَّما جلستْ بجوار خيمتها، وراحت تُحدِّق في اتجاه الأمير ألبرت بشرود، حتَّى إنَّها لم تسمع الأصدقاء الذين جاءوا لمواساتها. وحين بادروا بلَمْسِها أزاحتْ أياديهم بعيدًا عنها. وقَفَ «مايكل ك» عِدَّة ساعات مُستنِدًا إلى السُّور وهو يُراقبها، لكنَّها لم ترَه، فتساءل: هل هذا هو كل شيء أعرفه؟ وهل بدأتُ أخيرًا أتعلَّم الحياة هنا في المُعسكَر؟
بدا له أنَّ مَشَاهد الحياة تتراءى أمامه واحدًا وراء الآخر، وما تلبث أن تلتحم مع بعضها البعض، لكنَّه لم يستطع أن يعرف معنى ما يحدُث.
ظلَّت الأمُّ الفتاة يَقِظةً بلا نومٍ لمُدَّة يومٍ كامل، ثمَّ اختفت عن الأنظار داخل الخيمة دون أن تبكي أو تتكلَّم أو تأكل، وكان «ك» في كلِّ صباح يأمُل في رؤيتها. كانت قصيرةً وبدينة ولم يكُنْ أحدٌ يعرف عن يقينٍ والِدَ الطفلة، غير أنَّ الشائعات كانت تؤكِّد أنَّه مُقيمٌ في الجبال. انتابتْ «ك» أحاسيسُ غامضةٌ تساءل بعدها في دهشة: هل وقعتُ في الحب أخيرًا؟
ظهرت الفتاة من جديدٍ بعد ثلاثة أيام وراحتْ تستأنف حياتها، وحين شاهَدَها «ك» وسط جمعٍ من الناس لم يستطع أن يلفتَ انتباهها، وفشل تمامًا في التحدُّث إليها.
استيقَظَ ذات ليلةٍ من أيام سبتمبر إثرَ سماعه صيحاتٍ صاخبةً. كان الناس في المُعسكَر يُهرعون من فوق أسِرَّتِهم؛ لكي ينظروا عبْرَ الأفق في اتجاه الأمير ألبرت إلى براعم البرتقال الجميلة والكبيرة وهي تتفتَّح في مواجهة السماء المظلِمة، وعبَّرُوا عن دهشتهم بالتصفير وصيحات الذهول. وقفوا لمُدَّة ساعة ظلُّوا خلالها ينظُرون إلى المشهد بالدهشة نَفْسها، بينما اشتعلت النيران كالنافورة ولم يتأكَّدوا من سماع انفجاراتٍ وهدير شعلاتِ النار المتوهِّجة عبْرَ أميال من الواحة الفارغة إلَّا بعد لحظاتٍ ليست قليلة، أصبحت الزهور أكثرَ احمرارًا وقاربتْ على الذُّبول من شِدَّة الحرارة. كان بعض الأطفال نائمًا فوق الأذرع والبعض الآخر يُقاوم النوم بدَعْكِ عينَيه، ولم يعُدْ بالمشهد ما يستحقُّ الانتظار، وعندما بدأتْ حِدَّة النيران في الخفوت شيئًا فشيئًا عادوا مرةً أخرى إلى أسِرَّتِهم.
اقتحَمَ رجال الشُّرطة المكان عند الفجر، كانوا مجموعةً تتكوَّن من عشرين شُرطيًّا نظاميًّا وبعض المتطوِّعين من طَلَبة المدارس، وكانوا يُمسكون بالكلاب ويحملون البنادق. وقَفَ الضابط فوق الشاحنة وراح يَصِيح ويُصدر الأوامر باستخدام مُكبِّر الصوت، وعلى الفور قام الجنود والمتطوِّعون بشدِّ أوتاد الخيام وهدْمِها، ثمَّ سارعوا بدخول الأكواخ ولم يتردَّدوا في ضَرْب النائمين فوق أسِرَّتِهم. حاوَلَ أحد الصبية الفرار منهم لكنَّهم تعقَّبوه حتَّى أمسكوا به خلْفَ المراحيض وأمطروه ضربًا، كما حاول أحد الكلاب الانقضاض على أحد الصبية الصِّغار وأصابه بجروحٍ في رأسه، فصرَخَ الصبي من شِدَّة الرعب، وكان بعض الناس يبكي والبعض الآخر يُصلي، بينما أُصيب كثيرٌ منهم بالفزع. اقتادوا الرجال والنساء إلى منطقةٍ مكشوفة أمام الأكواخ وأمروهم بالجلوس، ثمَّ بدءوا في مراقبتهم بمساعدة الكلاب وتحت تهديد السلاح، بينما راح بقيَّتهم يتحرَّك كسِربٍ من الجراد حول الخِيام. قذفوا بكلِّ شيء داخلَ الخيام إلى الخارج، وقاموا بتفريغ الحقائب والصناديق حتَّى أصبح الموقع شبيهًا بكومةٍ كبيرة من القُمامة بعد أن بَعْثَروا الملابس والمفروشات والطعام وأواني الطهي والأواني الفخارية ومستلزمات المرحاض في كلِّ مكان. دخلوا الأكواخ بعد ذلك وحوَّلُوها إلى فوضى عارمة.
أثناء كل تلك الأحداث شدَّ «ك» قَلَنسُوته فوق أذنَيه، وجلَسَ في مواجهة رياح الصباح الباكر، وكانت المرأة الجالسة إلى جواره تحمل طفلًا رضيعًا وفتاتَين مُعلَّقتَين بذراعَيها. كان الطفل عاريًا من الأسفل وكان يبكي. قال «ك» للفتاة الأصغر هامسًا: تعالَي واجلسي معي!
تسلَّقت الفتاة قدمَيه على الفور دون أن تنتبه للخراب المحيط بها ووقفتْ في المنطقة الآمنة بين ذراعَيه وراحت تمصُّ إبهامها، ثمَّ لحقتْ بها أختها ووقفتا متلاصقتَين. أغلَقَ «ك» عينَيه، بينما كان الطفل الرضيع يُواصل ركلاته وبكائه.
اصطفُّوا في طوابير أمام البوَّابة وبدءوا في الخروج واحدًا بعد الآخر بعد أن أجبروهم على ترْكِ كلِّ متعلقاتهم بما فيها البطاطين، التي كانوا يتدثَّرون بها فوق ملابسهم التي ينامون بها. شاهَدَ «ك» الجندي الذي يُمسك بالكلب وهو ينتشل مِذياعًا صغيرًا من بين يدَي امرأة، ألقى الجندي بالمذياع فوق الأرض بقوة، وداس عليه وقال: ليس من حقِّ أحدٍ أن يحتفظ بمِذياع.
خارج البوَّابة أجبروا الرجال على الاصطفاف ناحية الشمال، والنساء والأطفال ناحية اليمين. ثمَّ أغلقوا كلَّ البوَّابات وأصبح المُعسكَر خاليًا. وبعد ذلك استدعى النقيب الأشقر الذي كان يُصدر الأوامر اثنَين من الحَرَس لمراقبة الرجال الواقفين في صفٍّ على جانب السُّور. كان الرَّجُلان المُكلَّفان بالحِراسة غير مسلَّحَين، ويرتديان ملابس غير مرتَّبة؛ فتساءل «ك» بينه وبين نَفْسه عمَّا يحدث لأفراد الحِراسة. ثمَّ قال النقيب: والآن، هل ما زال أحدٌ بالداخل؟
كان ثلاثة من الرجال غير موجودين من أولئك الذين لم يتبادل «ك» معهم الحديث، وكانوا يُقيمون في أكواخٍ أخرى. صاح النقيب في طاقم الحِراسة؛ فسارعوا بالمثول أمامه. واعتقد «ك» في البداية أنَّ صياحه بصوتٍ عالٍ ناتجٌ عن تعوُّده استخدام مُكبِّر الصوت؛ لكنَّه سرعان ما اكتشف أنَّه يُخفي غضبًا عارمًا خلْفَ ذلك الصياح.
قال النقيب بالصوت العالي نَفْسه: ما الذي نحتفظ به هنا في الفِناء الخلفي؟ هل هو وَكْر للمجرمين والمخرِّبين والعاطلين؟
أشار إلى اثنَين من الحَرَس وأضاف: وأنتما، أنتما الاثنان، إنَّكما تنامان وتأكلان حتَّى أصبحتُما بدينَين من كثرة الأكل، لكنَّكما في الوقت نَفْسه ومع مرور الأيام لا تنتبهان لغياب بعض الناس رغم أنكما مُكلَّفان بحراستهم، ماذا تفعلان هنا إذن؟ هل تُديران مُعسكَرًا للترفيه؟ لا، إنَّه مُعسكرُ عمل، إنَّه مُعسكَرٌ لتعليم الكُسالى كيفيةَ العمل، وإذا لم يعملوا فمِنَ الأجدر أن نُغلق المُعسكَر ونقوم بمطاردة أولئك المتشرِّدين في كلِّ مكان، اخرجا من هنا فَورًا ولا يُفكِّرْ أحدكما في العودة؛ فلَقَد استنفَدَ كلٌّ منكما فرصته.
استدار ناحية مجموعةٍ من الرجال، وصاح قائلًا: وأنتم أيُّها الجاحدون الأوغاد، نَعَم، أنتم يا مَن لا تعرفون قيمة ما تَنعَمون به، مَن الذي شيَّد لكم المنازل والأكواخ حين كنتم لا تجِدُون مكانًا يأويكم؟ ومَن الذي قدَّم لكم الخيام والبطاطين عندما كنتم ترتعشون من البرد؟ ومَن الذي قام برعايتكم وعلاجكم؟ وماذا عن الطعام الذي كان يأتيكم يومًا بعد يوم؟ آه، لكنَّكم لا تُدرِكون شيئًا كما يبدو في ردود أفعالكم. حسنًا، من الآن فصاعدًا يمكنكم أن تُعانوا من الجوع!
صمَتَ لحظةً الْتقَطَ خلالها أنفاسه، وبرزت الشمس من فوق كتفَيه كأنَّها كرةٌ من النار، ثمَّ قال بصوتٍ صاخب: هل تسمعونني؟ أتمنَّى أن يسمعني كلُّ شخصٍ فيكم ويفهمني، لقد كنتم السبب في العَداء بيني وبينكم، وها أنا ذا أُكلِّف رجالي بالتخلِّي عن دورهم الرئيسي في الجيش؛ كي يقوموا بأعمال الحِراسة هنا، اللعنة على الجيش. إنَّ رجالي مُكلَّفون بالحِراسة الآن وسوف أُغلق البوَّابات. وإذا ما شاهَدَ رجالي أيَّ شخص منكم سواء كان رجلًا أو امرأةً أو طفلًا خارج الأسلاك الشائكة؛ فلن يتردَّدوا في إطلاق الرصاص عليه في الحال طبقًا للأوامر المفروضة عليهم، كما أُطالبكم بعدم توجيه أيِّ نوعٍ من الأسئلة، ولن يُغادر أحدٌ المُعسكَر إلَّا في حال صدور أوامر للعمل بالخارج، ولْتَعرفوا أيضًا أنَّ الزيارات ممنوعةٌ، وكذلك الخروج للتنزُّه أو الاسترخاء. وستُدقُّ أجراس الإنذار صباحًا ومساءً للتأكُّد من وجود الجميع، لقد كنَّا كرماء معكم إلى حدٍّ بعيد.
رفَعَ ذراعه وأشار بطريقةٍ مسرحيةٍ إلى الرجلَين المُكلَّفَين بالحِراسة، وكانا لا يزالان واقفَين أمامه بانتباه، ثمَّ قال: سأُغلق على هذَين القردَين، وسأتركهما بينكم؛ ليعرفوا مَنْ منَّا الذي يُدير الأمور هنا.
أضاف مُخاطِبًا الرجلَين: وأنتما، أتعتقدان أنَّني غافلٌ عنكما ولا أعرف كلَّ ما تفعلانه؟ أتعتقدان بأنَّني لا أعرف عن الحياة الجميلة التي تُمارسانها؟ إنَّني أعرف عن الحياة الجنسية التي تَنعَمان بها في الأوقات التي يجب أن تقوما فيها بأعمال الحِراسة.
تأجَّجتْ مشاعره فاندفَعَ فجأةً إلى داخل حُجْرة الحراسة، ثمَّ خرج بعد لحظة، ووقَفَ أمام الباب حاملًا ثلَّاجةً صغيرةً مطليَّة بالدهان فوق بطنه، وكانت علامات وجهه تُوحي بالتوتُّر والإجهاد. سقطتْ قُبَّعته على الأرض بعد أن اصطدمتْ رأسه بجانب الباب، ثمَّ تقدَّم بخطواته إلى حافة النافذة، ورفَعَ الثلاجة إلى أعلى ارتفاعٍ وألقى بها على الأرض؛ فحدَثَ ما يُشبه الانهيار على الأرض، وبدأ زيت الثلَّاجة ينساب من الموتور، وعندئذٍ قال لاهثًا: هل تفهمون؟
عدَّل من وَضْع الثلَّاجة؛ فانفتَحَ الباب، وتبعثرتْ زجاجةٌ من البيرة المنشطة وعلبةٌ من السَّمْن وقالبٌ من السجق وكميةٌ من الخوخ والبصل الطازج ودورقُ ماءٍ بلاستيكيٌّ وخمسُ زجاجاتٍ من البيرة العادية، ثمَّ قال وهو يلهث مرةً ثانية ويُحدِّق في الأشياء المُتبعثِرة: هل تفهمون؟
جلسوا طوال فترة الصباح في الشمس، بينما كان اثنان من رجال الشُّرطة الشباب والمُعاوِن ذو القميص الأزرق يُفتِّشون في الأنقاض بهدوءٍ وفُضول، وحين وجدوا قليلًا من الخمر والنبيذ قاموا بإفراغه في التراب، ثمَّ وضعوا كلَّ أنواع الأسلحة التي عثروا عليها في كوماتٍ متقاربة؛ كالقضبان الحديدية الصغيرة، وبعض المواسير، وزوج من المِقصَّات الرخيصة، وكثير من السكاكين والمطاوي. انتهتْ عملية البحث والتفتيش عند منتصف اليوم، وقام رجال الشُّرطة بعد ذلك بإجبار الناس على دخول المُعسكَر، ثمَّ أغلقوا البوَّابات ورحلوا في خلال دقائق. وبقيَ منهم اثنان، حيث جلسا طوال فترة ما بعد الظُّهر تحت سَقيفة الخيمة لمراقبة الناس، داخل المُعسكَر، الذين كانوا يبحثون وسط الفوضى والرُّكام عن أشيائهم.
عرَفُوا مؤخرًا من أحد الشُّرطيَّين المكلفَين بحراستهم سبَبَ غضبهما، فقَدْ حدَثَ انفجارٌ مدوٍّ في منتصف الليل داخل ورشة لحامٍ بالشارع، تَبِعه حريقٌ هائلٌ لحِقَ بالمبنى المُجاوِر ومنه إلى متحف التاريخ الثقافي. كانت قبَّة المتحف مُغطَّاةً بالقشِّ وكان السقف والأرضيَّات من الخشب الأصفر، وقد انهَارَ عن آخره في أقلَّ من ساعة. لكنَّهم استطاعوا أن يُنقذوا بعض الآثار القديمة التي كانتْ معروضةً في فِناء المتحف. باستخدام ضوء البطَّارية، راحوا يبحثون في أنقاض الورشة المُحترِقة فاكتشفوا دليلًا على اقتحام المكان بالقوة. تحدَّث أحدُ السائقين عمَّا حدَثَ في مساء اليوم السابق حين أوقَفَ ثلاثةً من الرجال الغرباء كانوا يركبون دراجتَين بالقرب من طريق المُعسكَر الجانبي، فقام بتحذيرهم بأنَّهم في منطقةٍ محظورٍ فيها التَّجْوالُ، وأنَّهم بُذلك يخالفون الحَظْر. لكنَّهم أقرُّوا له أنَّهم عائدون بأقصى ما يستطيعون من سرعة إلى «أونديردورب»، حيث يعيشون؛ فصدَّقَهم السائق، ولم يُفكِّر في شيءٍ آخر، وبدا واضحًا أنَّ الناس في المُعسكَر متورِّطون في عملية الحريق.
واجَهَ «ك» كثيرًا من المتاعب حين حاوَلَ تجميع حاجِياته القليلة، لكنَّ رجالًا آخرين من الأكواخ الأخرى مِمَّن كانوا يمتلكون الصناديق والحقائب؛ كانوا يهيمون بغضبٍ وسط الأنقاض بحثًا عن أيِّ شيء، وعندما بدءوا في الشِّجار تراجَعَ «ك» منسحِبًا.
كان يوم الأربعاء، ورغم ذلك لم تَصِل السيدات اللاتي كنَّ يُحضِّرن الشوربة؛ فتوجَّه وفْدٌ من النساء إلى البوَّابة لطلَبِ الإذن باستخدام المَوقِد الموجود في مطبخ المُعسكَر، غير أنَّ الحُرَّاس تظاهروا أنَّهم لا يملِكون المفتاح، فألقى شخصٌ ما — ربما كان طفلًا — صخرةً صغيرة فوق نافذة المطبخ.
لم تحضُر الشاحنة أيضًا في اليوم التالي لاصطحاب الرجال إلى العمل، وعند منتصف الصباح كانت ورديَّة الحِراسة تتغيَّر، فقال روبرت بصوتٍ عالٍ جدًّا؛ كي يسمعه الجميع: سوف يقومون بتجويعنا ولم تكُنْ تلك الحريق التي اندلعت سوى ذريعةٍ طالما تطلَّعوا إليها للقيام بما كانوا دائمًا يحلُمون به؛ ألَا وهو سَجْننا في هذا المُعسكَر حتَّى نموت.
وقَفَ «ك» مُستندًا إلى الأسلاك الشائكة وراح يتطلَّع إلى الخارج نحو المرج العشبي الممتدِّ وهو يُفكِّر في كلام روبرت، توقَّف فجأةً عن التفكير، وقال: نعم، إنَّ المُعسكَر ليس سوى مكانٍ تمَّ إنشاؤه خصوصًا لنُقيم داخل أسواره إلى الأبد وحتَّى نموت جميعًا، وليست صُدْفة أنَّ المُعسكَر يقع بعيدًا عن المدينة وبجوار طريق لا يؤدِّي إلى أيِّ مكان، لكنَّني لا أستطيع حتَّى هذه اللحظة أن أُصدِّق هذَين الحارسَين الشابَّين وهما يجلسان برباطةِ جأشٍ ويتثاءبان ويُدخِّنان بجوار نافذةِ حُجْرة الحِراسة وأيضًا وهما يذهبان من وقتٍ لآخر إلى النوم في الوقت نَفْسه الذي يموت فيه الناس أمام أعينهم.
بدأتْ بعض الأفكار في التحرُّر داخل رأسه فأضاف: إذا كانوا حقًّا يريدون التخلُّص منَّا ونسياننا إلى الأبد؛ لقاموا بتزويدنا بالفئُوس والمَجارِف وأمرونا بالحفر. وبعد الانتهاء من تنفيذ حفرةٍ كبيرة في منتصف المُعسكَر، وبعد أن يكون التعب والإجهاد قد حلَّا بنا سيُصدرون أوامرهم أن ننزل إلى الحفرة الكبيرة ونرقُد داخلها جميعًا، ثمَّ سيقومون بتحطيم الأكواخ والخيام وتكسير السُّور ويُلقون بها مع كل حاجياتنا فوق رءوسنا حتَّى يتساوى مستوى الحفرة الكبيرة بالأرض؛ أيْ إنَّهم سيدفوننا أحياء، ثمَّ يقومون بتسوية الأرض وكأنَّ شيئًا لم يَكُن، وعندئذٍ قد يبدءون في نسياننا، ولكن مَن الذي يستطيع أن يحفر حفرةً كبيرة إلى هذا الحدِّ؟
أعاد طرْحَ السؤال بينه وبين نفسه: مَن يستطيع؟ نحن نحتاج لحفرةٍ هائلة، فهل يستطيعون؟ لا أعتقد أنَّ ثلاثين رَجلًا حتَّى بمساعدة النساء والأطفال وكبار السنِّ بمقدورهم عَمَل مثلِ تلك الحفرة، ولا أعتقد أنَّ حكومتنا الحاضرة تستطيع باستخدام الفئُوس والمَجارِف فقط أن تفعل خاصةً في هذه الواحة ذات الأحجار الصخرية.
هل كانت أفكاره تلك هي أفكار روبرت؟ أم أنَّ أفكار روبرت كانت بمثابة البذرة التي كبُرتْ بداخله حتَّى أصبحتْ مِلكًا له؟ لم يستطع «ك» أن يعرف.
وصلتْ شاحنةُ المجلس الشعبي صباح يوم الإثنين كالعادة لتوزيعهم على العمل، وقبل أن يصعد «ك» إلى مؤخرة الشاحنة كان الحُرَّاس يُراجعون أسماءهم في اللائحة وبدا أنَّ شيئًا لم يتغير، نزلوا من الشاحنة في مزارع المُقاطَعة المختلفة طبقًا لقائمة الأسماء الموجودة مع السائق، وكان من نصيب «ك» العمل مع اثنَين من رِفاقه في إصلاح الأسوار وكان العمل بطيئًا ومُملًّا؛ لأنَّ الأسلاك التي كانوا يستخدمونها لم تكُنْ جديدة، وإنَّما أطوالٌ من الأسلاك الشائكة القديمة الصدِئة، كانت تأخذ أشكالًا مختلفةً ومتفرِّقة بعد القيام بربطها معًا. ارتاح «ك» لطريقة العمل البطيئة التي استطاع من خلالها أن يَنعَم بفتراتٍ من الراحة، كانوا يأتون في الصباح ويعودون في المساء. وبعد مُضِيِّ أسبوعٍ كامل في المزرعة؛ لم يُنجزوا من السُّور سوى مئاتٍ قليلة من الأمتار. وحدَثَ ذات مرة أن استدعى صاحبُ المزرعة «ك»، وقدَّم له سيجارة ثمَّ قال له مادحًا إيَّاه: لديك إحساسٌ بطبيعة الأسلاك الشائكة، ويجب أن تستمرَّ في عمَلِ السُّور؛ لأنَّ هذا البلد سيكون دائمًا في احتياجٍ لمَن يُتقِنون هذا النوع من العمل.
لم يكُنْ صاحب المزرعة سعيدًا باستخدام تلك الأسلاك والمواد المُتهالِكة، غير أنَّه لم يكُنْ يملك البديل. دفَعَ للرجال الثلاثة أجْرَهم المُتفَق عليه في نهاية الأسبوع بالإضافة إلى كميةٍ من الفاكهة المُتنوِّعة، ووجبات من الخضار، وبعض الملابس المستعملة: سترة قديمة كانت من نصيب «ك»، وصندوق كرتوني من الملابس البالية لزوجات وأطفال الرَّجُلَين الآخرَين. وفي طريق عودتهم بالشاحنة فتَحَ أحد الرَّجُلين الصندوق الكرتوني، وعثَرَ على زوجٍ من السراويل القطنية، فرفَعَه بأطراف أصابعه بعيدًا عن وجهه، وأغلق أنفه خوفًا من الرائحة، ثمَّ ألقى به من فوق الشاحنة؛ فراحتْ تتقاذف به الرياح. وبعد لحظةٍ قصيرة ألقى بالصندوق كله فوق جانب الطريق.
وصلوا إلى المُعسكَر في الليل، وكان الناس يتبادلون الشراب حتَّى ثَمِلوا ونشبتْ بينهم المعارك. وحين أمعَنَ «ك» النظَرَ، كان أحدُ رجال الفيلق الحرِّ — الذي قال: إنَّه مُصابٌ بمرض السُّكري — واقفًا وسط ضوء النار وقد أمسَكَ بفخذه طالبًا النجدة. كانت يداه ملوثتَين بالدم، وبِنطاله مُبلَّل، وراح يصرُخ مرةً تلو الأخرى قائلًا: ما هذا الذي يحدُث معي؟
كان الدم يتسرَّب من بين أصابعه سميكًا كالزيت، وجاء الناس من كلِّ الاتجاهات لمشاهدة الرَّجُل.
اندفَعَ «ك» باتجاه البوَّابة؛ حيث كان يقِفُ الحارسان من رجال الشرطة وهما ينظران إلى ما يحدث من فوضى واضطراب، وقال لهما بطريقةٍ مُتلعثِمة: لقد طعَنُوا الرَّجُل، إنَّه ينزف ويجب أن تأخذوه إلى المستشفى.
تبادَلَ الحارسان النظرات، وقال أحدهما: سوف نفعل ما بوُسعنا.
عاد «ك» مسرعًا، وكان الرجل الجريح جالسًا وقد ربَطَ بِنطاله حول كاحل قدمَيه مواصلًا الحديث بلا توقُّف، وكان لا يزال مُمسِكًا بفخذه وبخاصَّة الجزء الذي يتدفَّق منه الدم، صاح «ك» للمرة الأولى منذ وجوده في المُعسكَر: يجب أن نحمله إلى البوَّابة.
نظَرَ الناس إليه باستغراب؛ فأضاف «ك»: احملوه إلى البوَّابة، وهناك يُمكنهم نقْلُه إلى المستشفى.
أشار الرجل برأسه بقوة، وقال: انقلوني إلى المستشفى.
ثمَّ صرَخَ وأضاف: ألَا ترون كلَّ هذا النزيف؟
اندفَعَ رفيقه في الفيلق الحرِّ ناحيته، وحاول ربْطَ الجُرح بفوطة، وقام شخصٌ ما من قاطِنِي الأكواخ الأخرى بلَمْس «ك» في كوعه، وقال له: دَعهم وشأنهم، دَعهم يتحمَّلون مسئولية بعضهم البعض، وليقوموا هم بالاعتناء به.
احتشَدَ جمعٌ كبير من الناس، وظلَّ «ك» يُتابع الرَّجُل الشابَّ وهو يُضمِّد جراح الرَّجُل تحت الأضواء.
لم يعرفْ «ك» قَط الشخص الذي طعَنَ الحارس، ولم يكُنْ مُتأكِّدا من شفائه، فقرَّر أن تكون تلك الليلة هي الأخيرة له في المُعسكَر. وعندما ذهَبَ كلُّ الناس للنوم؛ ربَطَ «ك» كلَّ أشيائه في المِعطف الأَسوَد، وتسلَّل خارجًا حتَّى جلَسَ خلْفَ صهريج المياه في انتظار انطفاء آخرِ جذوةٍ من النار. لم يسمع شيئًا أثناء انتظاره سوی صوتِ الرياح المُنتشِر عبْرَ الواحة، وحين طال انتظاره لمدَّة ساعةٍ أخرى بدأ جسَدُه في الارتجاف من قِلَّة الحركة. خلَعَ حذاءه وعلَّقه فوق رقبته، ثمَّ مشى خلْفَ المراحيض على أطراف أصابع قدمَيه مُتَّجهًا إلى السُّور. قذَفَ بحُزمة أشيائه من فوق السُّور، ثمَّ بدأ في التسلُّق، لكن بِنطاله اشتبَكَ بالأسلاك الشائكة؛ فأصبح مُعلَّقًا في مواجهة السماء الزرقاء. وبعد عِدَّة محاولاتٍ نجَحَ في تخليص نفسه، ونزل من على السُّور، ثمَّ سار بخطواتٍ هادئة فوق الأرض.
واصَلَ سَيْره طوال الليل دونَ أن يشعر بالتَّعب، لكنَّ جسَدَه كان يرتعش في بعض الأحيان كلما أدرَكَ أنَّه أصبح طليقًا. وعندما بدأ أول شعاعٍ من ضوء النهار؛ غادَرَ الطريق، وتحرَّك في اتجاه الرِّيف الواسع والخالي من القيود. لم يشاهِدْ أحدًا من الناس رغم أنَّ الفزَعَ قد أصابه أكثرَ من مرة من الظِّباء والأرانب وهي تقفز وتتسابَقُ نحو التِّلال. وكان العُشب الأبيض الجافُّ يطير مع الرياح والسماء بلونها الأزرق المعتاد حين تدفَّق جسَدُه بالنشاط. مضى في سيره وراح يطوف في البداية من مزرعةٍ لأخرى، وكان المشهد من حوله فارغًا والأرض خاليةً؛ فانتابه إحساسٌ أنَّه أول إنسان تطَأُ قدمَاه تلك البقعة الخاصة من الأرض. ولكنَّ وجودَ سُورٍ كلَّ ميل أو ميلين؛ جعله يتذكَّر أنَّه شخصٌ آثمٌ وهارب من شيءٍ ما. شعَرَ بتلك السعادة التي يحسُّ بها الصانع الماهر أثناء محاولاته تفادي الأسوار وأسلاكها الشائكة، وعلى الرغم من ذلك فإنَّه لم يستطع أن يتخيَّل المُضيَّ في حياته على هذا النحو في تشييد الأسوار والعناية بها، وفي تقسيم الأراضي، وفي مواجهة كلِّ تلك الأنواع من المخاطر.
تسلَّق الارتفاع الأخير فتسارعتْ دقَّات قلبه. وعندما وصَلَ إلى القمَّة تراءى أمامه البيت من بعيد؛ شاهَدَ السَّقف أولًا، ثمَّ الجملون المكسور والجدران ذات اللون الأبيض، وبدا له كلُّ شيء كما كان، ففكَّر قائلًا: لقد استطعتُ الآن بالتأكيد أن أتغلَّب على اﻟ «فيساجي» الأخير. لقد كان كلُّ يوم أمضيتُه في الهواء فوق الجبال، أو أيُّ وقتٍ ضاع منِّي في المُعسكَر؛ أكثرَ مِمَّا أحتمل.
كان الباب الخلفي مفتوحًا، وحين دفَعَ «ك» لسان مصراع القُفل العلويِّ ليفتح الباب؛ انطلَقَ شيءٌ ما بالقرب من وجهه، ووقَعَ عند رُكن الجِدار. كانت قطةً ضخمةً ذاتَ لونٍ أَسوَد وفراء بُنِيٍّ، ولم يسبق أن شاهَدَ «ك» قطةً من قبل في المزرعة.
كان البيت مُمتزجًا برائحة الحرارة والتراب ورائحة الجِلد السميك القديم غير المعالَج، وعندما اقترب من المطبخ أصبحت الرائحة أسوأَ ممَّا كانت عليه، فتردَّد في الدخول وفكَّر بأنَّه يملك الوقت الكافي لإزالة آثار أقدامه، ثمَّ الخروج على أطراف أصابعه وقال: لأنَّه مهما كان السبب الذي عُدتُ من أجله؛ فإنَّه حتمًا لن يكون من أجل العيش مثلما كان يعيش اﻟ «فيساج»، وليس من أجل أن أنام حيثما كانوا ينامون، ولا مجرد الجلوس للتطلُّع إلى أراضيهم؛ أنا لا يهمُّني إذا كان هذا البيت مهجورًا وأصبح منزلًا للأشباح لكل أجيال اﻟ «فيساجي»، لكنَّه ليس البيت الذي جئتُ من أجله.
بدا المطبخ — من خلال ضوء الشمس المُتسلِّل عبْرَ فتحةٍ في السقف — فارغًا، وكانت الرائحة قادمةً من حُجْرة المُؤَن؛ حيث اكتشف «ك» بالنَّظر داخلَ الحُجْرة المُعتِمة خروفًا مُعلَّقًا في خُطَّافٍ لم يَتَبقَّ منه سوى القليل من اللحم وكثيرٍ من العظام، وكان الذباب الأخضر يُحلِّق بكثافة حول بقايا الخروف وعظامه.
غادَرَ المطبخ، وراح يتجوَّل في بقيَّة البيت، ويبحث في الظلام عن أيِّ شيءٍ يُرشده إلى حفيد اﻟ «فيساج»، أو أيِّ أدلةٍ تقوده للمكان الذي يختفي فيه الحفيد؛ لكنَّه لم يجِدْ شيئًا. كانت الأرضيات مغطاةً بطبقةٍ حديثة من الأتربة، وباب السقيفة مُغلقًا من الخارج، والأثاث في مكانه نفسه، ولم يستطع العثور على أيِّ شيء يحمل دلالة من أيِّ نوع. وقَفَ في منتصف حُجرة الطعام، وكتم أنفاسه في محاولةٍ لسماع أيِّ حركةٍ خفيفة من أعلى أو أسفل، فسمِعَ دقاتِ قلبه وهي تتواصل مع دقاتِ قلب الحفيد في اللحظة نَفْسها.
ظهَرَ تحت بقعةِ ضوءِ الشمس المُنبعِثة من السقف أثناء طريقه للعبور نحو الواحة والمرج العشبي، حتَّى وصَلَ إلى خزَّان المياه في الحقل، وقام على الفَور ببعثرة رَماد أمِّه، وفي كلِّ خطوةٍ كان يخطوها لم يجِدْ صعوبةً في التعرُّف على كل الأحجار والشُّجيرات وعند خزَّان المياه شعَرَ بأنَّه في وطنه ومكانه الخاص، ذلك الشعور الذي لم يَنْتَبهُ في البيت. رقَدَ فوق الأرض واضعًا مِعطفه الأَسوَد تحت رأسه وراح يُراقب دوران السماء من فوقه، ثمَّ قال: أريد العيش هنا، أتمنَّى العيش هنا إلى الأبد، هنا حيث كانت أمي وجَدَّتي تعيشان، ذلك ببساطةٍ ما أريده، كم هو مثيرٌ للشفقة أن يحيا الإنسان في مثل تلك الأيام كالبهائم ولا يستطيع العيش في بيتٍ تتسلَّل الأضواء من نوافذه! من المؤسِف أن يعيش المرء في حفرة وأن يختبئ طول النهار وأن يُحاول دائمًا إخفاءَ آثارِ أقدامه، وأن يحرص على ألَّا يخلِّف شيئًا وراءه يُوحي ببقائه حيًّا.
كان خزَّان المياه فارغًا ومن حوله كانت الأعشاب القديمة جافَّةً وميتةً، ولم يجد «ك» أيَّ أثرٍ لبذور قرع العسل والذرة التي بذرها، لكن قطعة الأرض التي حفرها كانت مليئةً بالأعشاب.
فكَّ فراملَ مِضخَّة المياه فأحدَثَ السَّيْر صوتًا كالصرير، وبدأ في التأرجُح والاهتزاز، وعندما ضغَطَ على المِكبس تدفَّقت المياه. كانت المياه ذات لونٍ بُنيٍّ صدئ في البداية، ثمَّ ما لبثتْ أن أصبحتْ مياهًا صافيةً كما كانتْ من قبلُ، وتراءى له كلُّ شيءٍ كما كان أثناء إقامته في الجبال. وضَعَ يده أمام تدفُّق المياه، لكنَّه لم يصمُد طويلًا أمام قوة المياه فتراجعتْ أصابعه إلى الخلف، ثمَّ وقَفَ أمام تيار المياه، وراح يستدير بوجهه يمينًا ويسارًا وإلى أعلى وأسفل كالزهرة. شرِبَ وقام بتنظيف جسده ثمَّ انقطعت المياه.
نام في العراء، ثم استيقظ على حُلمٍ شاهَدَ فيه حفيد اﻟ «فيساجي» مُنحنيًا فوق كُرَة في الظلام تحت لوح الأرضيَّة، وكانت خيوط العنكبوت تسير فوقه وخِزانة الملابس الثقيلة فوق رأسه، وبدا أنَّه سمِعَ بعض الكلمات والتوسُّلات، وربما كانت صرخاتٍ أو أوامر، لم يعرفْ بالضبط ولم يكُنْ بمقدوره أن يسمع جيدًا أو يفهم. شعَرَ بإرهاقٍ شديد، وكان جسده مُتيبِّسًا، فنهض وقال: لن أتركه يسرق منِّي يومي الأول، ولن أعمل مُربِّيًا للأطفال مرةً ثانية، لقد تحمَّل مسئولية نَفْسه دوني طوال أشهرٍ عديدة، وعليه الآن أن يعتني بنفسه لفترةٍ أخرى.
لفَّ جسَدُه بالمِعطف الأَسوَد، وقبَضَ على فكَّيه، وظلَّ مُترقِّبًا طلوع الفجر، فكَّر بجِديَّة في عملِ شيءٍ يُوفِّر له سكنًا يأويه.
ظلَّ يتجوَّل طوال فترة الصباح في الواحة؛ باحثًا عن الجداول الضَّحلة المؤدِّية إلى منحدرات التلِّ وعلى بعد ثلاثمائة ياردة من خزَّان المياه. كان اثنان من التلال المنخفضة الشبيهة بالأثداء الكبيرة المنتفِخة ينحنيان في مواجهة بعضهما البعض، وعند النقطة التي الْتقيا فيها تشكَّلتْ فجوةٌ بعمْقِ خصر الإنسان وبطول ثلاث أو أربع یاردات. كان قاع الفجوة مليئًا بالحصى الناعمة الزرقاء المكسورة من جوانبها، وكانت تلك الفجوة هي التي استقرَّ فيها «ك»، تناوَلَ المِجرفة والإزميل من الكوخ المجاوِر للمزرعة، وأزال خمسة أقدام من ألواح الحديد المضلَّع من فوق سطح حظيرة المواشي، وفكَّ بصعوبة ومشقة ثلاثًا من عوارض السُّور من عند زاوية السُّور المكسور تحت البستان المهجور، ثمَّ حمَلَ كل تلك الأشياء وعاد إلى الخزَّان ليبدأ العمل.
حاوَلَ في البداية توسيع جوانب الفجوة حتَّى أصبحت مُتسِعة من الأسفل أكثرَ ممَّا هي عليه من أعلى. ومن أجل تسوية قاع الفجوة ونهايتها الضيِّقة؛ وضَعَ فوقها كومةً من الأحجار، ثمَّ وضَعَ عوارض السُّور الثلاث وفوقها لوح الحديد مع بلاطاتٍ من الحَجَر، وهكذا أصبح لديه الآن كهْفٌ أو ملجأٌ بعمقِ خمسة أقدام. عاد إلى الخزَّان ليتفحَّصه فوقعتْ عيناه في الحال على حفرة المَدخل المُظلِمة، فأمضى بقيَّة اليوم وحتَّى بداية المساء في البحث عن طُرُق لإخفائه، وعندما حلَّ الظلام أدرك وقد انتابه إحساسٌ بالدهشة أنَّه لم يأكلْ شيئًا منذ يومَين!
ملأ أكياسًا من رمال النهر في الصباح التالي، ونشَرَها فوق الأرضيَّة، ثمَّ جاء ببعض الأحجار المستوية من التلِّ وبَنَى منها الجدار الأمامي. صنَعَ عجينةً من الطين والأعشاب الجافَّة، وملأ بها الشُّقوق بين السقف والجُدران، وقام برشِّ الحصى فوق السقف. لم يتناولْ أيَّ أطعمةٍ طوال اليوم، كما لم يشعر بالجوع؛ غير أنَّه لاحَظَ أنَّه يعمل ببطءٍ شديد، وأنَّ نوباتٍ من الدُّوار كانت تنتابه لحظةَ الوقوف أو الركوع، كما أدرك أنَّ عقله مُشوَّش.
كان يصبُّ الطينَ في الشقوق، ثمَّ يقوم بتنعيمه حين سقطتْ أمطارٌ غزيرة آخرَ مرةٍ تسبَّبتْ في إلحاقِ الضَّرر بكلِّ ما استطاع أن يُنجزه، وفي الحقيقة فلقَدْ كانت مياه الأمطار المُنحدرة من الوادي مباشرةً إلى بيته هي السبب؛ فقال: كان يجب أن أضَعَ بعض الأحجار تحت الرمال.
ثمَّ أضاف: وعلى أيَّة حالٍ فإنَّني لا أُشيِّد بيتًا هنا بجوار السدِّ كي يبقى للأجيال اللاحقة، وينبغي أن أفعل شيئًا بسيطًا ومؤقَّتًا ولا يتعدَّى كونه مجرَّد مَأوًى يُمكن التخلِّي عنه في أيِّ وقت دون التمسُّك به، حتَّى إذا مرَّت جماعة من الناس بجوار بقاياه المدمَّرة في يومٍ من الأيام، فإنَّهم لا يشعرون بالأسف، وإنَّما يهزُّون رءوسهم، ويُعبِّرون عن أسفهم لأولئك الكُسالى والمساكين الذي كانوا يعيشون فيه.
كانت حِفنةٌ من بذور قرع العسل وبذور الليمون لا تزال موجودة في الكوخ، وفي اليوم الرابع منذ عودته بدأ «ك» في زراعة تلك البذور، وقام بتنظيف رقعة من الأرض لكل بذرة على حِدَة، لكنَّه لم يستطع أن يمدَّ قطعة الأرض كلها بالمياه خوفًا من انتشار اللون الأخضر؛ فراح يحمل المياه من الخزَّان في علبة من الصفيح، ويروي البُذور واحدةً تلو الأخرى، ولم يعُدْ بعد ذلك من عملٍ يُمكن القيام به سوی انتظار اللحظة التي تثمر فيها البذور إذا كان من حظِّه أن تثمر. جلَسَ في ملجئه، وراح يُفكِّر في أولئك الأطفال المساكين الذين رافقوه أيام بداياته.
أصبح أقلَّ احتياجًا للطعام أثناء عنايته بالبذور ومراقبتها وأثناء لحظات ترقُّبه للأرض انتظارًا للطعام. كان الجوع بالنسبة إليه مُجرد إحساسٍ لم يشعُر به إلَّا نادرًا، وإذا تناوَلَ أيَّ طعام يستطيع الحصول عليه؛ فذلك لأنَّه لم يستطع التخلُّص من الفكرة القائلة: إنَّ عدم تناوُل الطعام يؤدِّي إلى الموت، لم يَكُن الطعام يعني شيئًا بالنسبة إليه كما أنَّه لم يكُنْ يشعُر بمذاق الطعام.
عندما نبتت البذور التي زرعها قال لنفسه: سوف أستعيد شهيَّتي، وسأشعر بنكهةِ الطعام ورائحته.
كانت الحياة الشاقَّة في الجبال والمعاناة التي لحقتْ به في المُعسكَر سببًا في الضعف والهُزال الذي أصاب جسَدَه. كان من اليسير مُشاهدة العظام والعضلات تحت ملابسه المُمزَّقة، وعلى الرغم من ذلك وبينما كان في طريقه إلى حَقْله الصغير؛ فإنَّه قد شعَرَ بفرحٍ غامرٍ، وكانت خطواته رشيقة، حتَّى إنَّه كان يلمس الأرض بالكاد، وبدا أنَّه يستطيع الطيران بسهولة، وأنَّه قادرٌ على أن يكون جسدًا ورُوحًا في آنٍ واحد.
عاد مرةً أخرى لتناوُل الحشرات، كان يُمضي فترةَ الصباح راقدًا فوق بطنه وهو يلتقط اليرقات واحدةً وراء الأخرى بعُودٍ من الأعشاب، ثمَّ يضَعُها في فَمِه. وأحيانًا كان يقوم بتقشير لِحاء الأشجار الذابلة بحثًا عن الديدان، أو اصطياد الجراد باستخدام سُترته. وبعد الانتهاء من تقطيع رءوسه وأقدامه وأجنحته؛ كان يجمع ما تبقَّى معًا ويصنع منه عجينةً، ثمَّ يضَعُها في الشمس.
لم يكن يتردَّد في أكْلِ الجذور أيضًا، ولم يكُنْ يخشى من التسمُّم؛ لأنَّه كان يعرف الفرق بين الجذور الضارَّة والجذور التي لا ضررَ منها، وكان مُتمرِّسًا في التَّفرِقة بين النباتات الضارة والمفيدة.
تراجَعَ مسافةَ مِيلٍ أو أكثرَ قليلًا من الطريق الذي يمرُّ عبْرَ المزرعة، ثمَّ استدار للمُضيِّ في الطريق الثانوي المؤدِّي إلى «موردين آرسيفالي» وكان عليه أن يتوخَّى الحذَر. سمِعَ مراتٍ كثيرةً صوتَ هديرِ أحد المُحرِّكات فاضطرَّ للاختباء. وذات مرةٍ بينما كان يسير على نحوٍ مُتسكِّع بجوار ضفَّة النهر؛ شاهَدَ عَرَبة كارُّو يجرُّها حمار ويقودها رَجلٌ عجوز ومعه شخصٌ آخر؛ كانت تجلس إلى جواره امرأةٌ أو طفل فتساءل: هل شاهَدَني أحدٌ منهم؟
خاف من التحرُّك في أيِّ اتجاه وبقي ساكنًا في مكانه حتَّى لا يَلفت الانتباه، وظلَّ في حالةٍ من التجمُّد راح خلالها يُراقب العَرَبة الكارُّو وهي تتهادَى عبْرَ الطريق.
كانت مِضخَّة المياه متوقِّفة، وبالتالي كان الخزَّان فارغًا، ولم يكُنْ بمقدوره أن يقوم بتشغيل المِضخَّة إلَّا على ضوء القمر أو بمزيد من القلق وقت المساء للحصول على المياه والذهاب بها إلى حقله الصغير.
حدَثَ ذات مرةٍ وربما مرتَين أن شاهَدَ آثارَ حوافر بعض الأرانب والظِّباء فوق التربة المُبلَّلة، لكنَّه لم يُفكِّر في ذلك، ثمَّ استيقظ ذات ليلة على إثر أصوات بعض الحيوانات ذات الحوافر. زحف خارجًا من بيته وقد شمَّ رائحة تلك الحيوانات قبل أن يُشاهدها، كانت هي الخِراف التي دائمًا ما تهرب كلما جفَّتْ مياه الخزَّان. ركض وراءها وهو يصيح بالشتائم واللعنات ويُلقي بالحجارة. وعلى الرغم من أنَّ النُّعاس كان مُسيطرًا عليه؛ فإنَّ رغبته في إنقاذ البستان كانت أقوى من رغبته في مواصلة نومه، وظلَّ طوال الليل في حِراسة قطعة الأرض، ومع أول شعاعٍ من ضوء النهار ظهرت الخِراف، وظلَّتْ دون حَراك انتظارًا لرحيله، غير أنَّه لم يتوقَّف عن الحراسة طيلة اليوم، وكان يجري خلفها من وقتٍ لآخر قاذفًا إياها بالطُّوب.
كانت تلك الخراف المُتوحِّشة تُهدِّد محصوله؛ فكان يستريح بالنهار، ويظل يقظًا طوال الليل لحماية أرضه والقيام بزراعتها. استطاع في البداية أن يعمل في الليالي القمرية على ضوء القمر، وفي الليالي التي يختفي فيها القمر كان الظلام كثيفًا؛ فكان يقِفُ راسخًا في مكانه ويمدُّ ذراعيه، وكان الخوف ينتابه من الأشكال الغامضة التي كانت تتراءى له أو التي كان يتخيَّلها. لكنَّه ومع مرور الوقت بدأ في اكتساب الثقة التي يتمتَّع بها العُميان؛ كان يتحسَّس الطريق بين بيته والمزرعة حتَّى يصِلَ إلى المِضخَّة، ويقوم بتشغيلها ثمَّ يملأ عُلبته الصفيح، ويحمل المياه إلى كل الأماكن التي زَرَعها. فَقَد بعد ذلك بالتدريج خوفَه من الظلام لكنَّه في الحقيقة وحين كان يمشي بالنهار أحيانًا، ويُمعن النظر كان يرتجف ويخشى من حدَّة الضوء؛ فيُسارع بالانسحاب والعودة إلى سريره، وكانت جفونه في تلك الأثناء تتلألأ بوميضٍ غريب مُشرِق.
مضى شهرٌ كامل منذ غادَرَ المُعسكَر في «جاكالسدريف»، وأوشك الصيف على الانتهاء، ولم يعُدْ يبحث عن حفيدِ اﻟ «فيساجي»، كما حاوَلَ أن يتوقَّف عن التفكير فيه، لكنَّه أحيانًا كان يُفكِّر ويتساءل عمَّا إذا كان الحفيد مُختبِئًا داخل حفرةٍ ما في الواحة أو في مكانٍ ما بالمزرعة؛ حيث يأكل السَّحالي، ويشرب من قطرات الندى، ويعيش ويُمارس حياته حتَّى يتوقَّف الجيش عن البحث عنه. قال لنفسه: يبدو ذلك أمرًا بعيدَ الاحتمال.
كان يتجنَّب الذهاب لبيت المزرعة باعتباره مكانًا للموتى إلَّا في حالاتِ الضرورة كاحتياجه للموادِّ التي يصنع منها النار، ولحُسن حظِّه فقَدْ وجَدَ تليسكوبًا بلاستيكيًّا أحمرَ داخل حقيبةِ الألعاب والدُّمى المكسورة، ثمَّ عثَرَ على قطعةٍ من جلد الظبي داخلَ الكُوخ قام على الفور بتقطيعها إلى شرائح، وصنَعَ منها نبلةً بدلًا من التي فقَدَها.
أخَذَ على عاتقه القيام بعمَلِ أشياءَ أخرى لجعل حياته أكثر سهولةً: شبكة، وإناء للطهي، ومقعدٍ قابلٍ للطيِّ، وشرائحَ من المطَّاط، وكثيرٍ من أكياس الغذاء. ثمَّ فتَّشَ في أركان الكُوخ عن أيِّ شيءٍ يستطيع الاستفادة منه، لكنَّه كان حذِرًا من انتقال نُفايات وبقايا قاذورات اﻟ «فيساجي» إلى بيته خوفًا، وقال لنفسه: كان اﻟ «فيساجي» قومًا ذوي حظٍّ سيِّئ، وأخشى أن تجلب لي أشياؤهم ذلك الحظَّ السيِّئ نفسه. إنَّ أسوأ الأخطاء هي محاولة المرء أن يجِدَ لنفسه بيتًا خارج الخزَّان حتَّى لو كانت مُكوِّنات البيت من الخشب والجلد أو أيِّ موادَّ أخرى؛ لأنَّ الحشرات ستلتهم كلَّ شيءٍ حين يُصبح في يومٍ ما في غير حاجة لمثل تلك المُكوِّنات.
وقَفَ مُستنِدًا إلى مِضخَّة المياه، وشعَرَ بهزَّاتها القوية كلما وصَلَ المِكبس إلى القاع واخترقت رأسه أصوات السَّيْرِ الكبير وهو يلفُّ حول رُولْمَان البِلي الملطَّخ بالشحم، وقال: كم أنا محظوظٌ لأنَّني لا أعول أطفالًا! وكم أنا محظوظ لأنَّني لا أرغب في أن أكون أبًا! لا أعرف ما الذي كان بوُسعي عمله في مُعتَرَك تلك الحياة وفي هذا البلد لو أنَّ لي طفلًا سيحتاج بالتأكيد للملابس واللَّبن والأصدقاء والتعليم، لا بد أنَّني كنت سأفشل في واجباتي وسأصبح أسوأ أبٍ، في حين أنَّه من اليسير أن تحيا فقط من أجل قضاء الوقت.
فكَّر في المُعسكَر وفي أولياء الأمور الذين يقومون بتربية أطفالهم خلْفَ الأسلاك الشائكة، بالإضافة إلى أطفال أبناء عُمُومتهم وأقربائهم فوق أرضٍ جدباءَ تكاد تحترق من الشمس وتخلو من كل الثمار، وقال: لقد أحضرتُ رَماد أمي معي، وقمت برشِّه هنا حيث كانت تريد، وهكذا فإنَّه لشيءٌ جميل ألَّا يكون لديَّ شيءٌ يُجبرني على المُضِيِّ قُدُمًا أو حتَّى مُحاولة اجتياز هذا الشيء، ينبغي أن أُمضي وقتي هنا خارج الزمن.
طوال شهرٍ كامل منذ عودته لم يُشاهِد أحدًا وكانت آثارُ أقدامه، وآثار أقدام القطة فوق الرمال؛ هي الآثار الوحيدة فوق أرض المزرعة. كانت القطة تأتي وترحل كيفما تريد، ولم يكُنْ «ك» يعرف كيف كانت تأتي وكيف كانت ترحل. وبينما كان يمرُّ بالبيت ذاتَ يومٍ أثناء جولة الفَجر؛ شاهَدَ الباب الأمامي مُوارَبًا فأصابتْه صاعقة، خاصةً وأنَّ ذلك الباب مُغلقٌ على الدوام. تحرَّك خطواتٍ قليلةً من أمام الباب المفتوح؛ فشعَرَ فجأةً أنَّه عارٍ، وعندئذٍ مشى على أطراف أصابعه، وتراجَعَ ناحية النهر، ثمَّ عاد مُتسلِّلًا إلى مأواه.
لم يقتربْ من المزرعة لمدَّة أسبوع، لكنَّه كان يزحف إليها في الظلام ببطءٍ شديد؛ لرعاية قطعة أرضه المزروعة. وكان يخشى أن تتسبَّب خطواته البطيئة في ارتطام الحصى بعضها بالبعض؛ فتُحدث صوتًا عبْرَ الواحة. كانت أوراق قَرْع العسل الصغيرة لم تزلْ صغيرةً، ولم تُعلن بعدُ عن وجودها بجوار الخزَّان، فأمسك بأوراق الحشيش الخضراء ونثَرَها بعنايةٍ فوق الكروم. لم يستطع النوم، لكنَّه رقَدَ فوق سريره المصنوع من العشب تحت حرارة السقف، وراح ينتبه لأيِّ صوتٍ قادم للبحث عنه أو اكتشافه.
مع مرور الوقت، أصبحت مَخاوفه غير مبرَّرة، وأدرَكَ بالتجربة أنَّه مُنعزلٌ عن المجتمع الإنساني، لكنَّه كان جبانًا أكثر من الفأر؛ ممَّا جعَلَه يشعُر بالخطر الدائم، ومِمَّا جعله يُفكِّر في أنَّ الباب المفتوح يعني عودة اﻟ «فيساجي»، أو وصول الشرطة للقبض عليه وإيداعه معسكر «براندفلي» سيِّئ السمعة في ذلك البلد الشاسع الكبير، حيث مئات الآلاف من الناس الفارِّين من الحرب. لماذا يقلق إذن ما دام بعض اللاجئين وغيرهم يختبئُون في المزارع الخالية داخل قطاعاتٍ مهجورةٍ من البلد؟
فكَّرَ بعد ذلك وقال: ماذا لو جاء نوعٌ آخر من الناس كالجنود الهاربين من الجندية أو رجال الشُّرطة الذين تركوا الخدمة، وراحوا يُطلِقون الرَّصاص على الخِراف والماشية كما يحلو لهم أحيانًا حين يرغبون في ممارسة الرياضة؟! لا بدَّ أنَّهم سيضحكون من طريقتي في محاولة التخفِّي ومن أساليبي وحِيَلي المُثيرة للشَّفَقة لخداعهم، ومن أوراق قَرْع العسل المُختبِئة وسط الأعشاب، وسيتهكَّمون من ملجئِي المُغطَّى بالطِّين، ثمَّ سيضربونني فوق ظَهْري ويقودونني للعمل في قَطْع الأخشاب والعمل على توفير المياه لهم، وتعقُّبِ الماشيةِ والخِراف حتَّى تُصبح في مواجهةِ بنادقهم؛ لينعموا بتناوُل شرائح اللحم المشويَّة. بينما أكون أنا راقدًا خلْفَ الشُّجيرات من شِدَّة التَّعب، أقتاتُ بما تبقى منهم من الطعام. أليس من الأفضل إذن أن أختبِئ بالليل والنهار، وأن أحتمي بتلك الحفرة بدلًا من أن أُصبح مجرَّد مخلوقٍ يعمل في خدمتهم؟ إنَّ فكرة تحويلي إلى العمل خادمًا لديهم هي أول الأفكار التي يُمكن أن تدور في رءوسهم، كما أنَّهم في حال رؤية رجُلٍ متوحِّش من أمثالي وهو يعبُر طريقَه في اتجاههم؛ فإنَّهم لن يتردَّدوا في إطلاق النار على الشارة النُّحاسية التي تُزيِّن غطاءَ رأسه.
مضت الأيام يومًا تلوَ الآخر دون أن يحدُث شيء، كانت الشمس تُشرق كلَّ صباح والطيور تُحلِّق وتتنقل من شجرةٍ صغيرة إلى أخرى، وكان صدى الصمت يتردَّد من أفقٍ إلى أفق؛ فتراجعت ثقة «ك»، وراح يقضي يومه كاملًا وهو راقدٌ لا يفعل شيئًا سوى النظر إلى المزرعة، بينما كان قوس الشمس يتحرَّك من الشمال إلى اليمين؛ فتتحرَّك الظلال بالتالي من اليمين إلى الشمال. كان البيت بعيدًا بعض الشيء؛ فلَمْ يستطع أن يتبيَّن إذا ما كان خيطُ الظلام الدامس الماثل أمامه هو باب البيت أم لا. وذات يومٍ، ومع بداية الليل وظهور القمر في السماء؛ اقترب شيئًا فشيئًا من البستان القاحل. كان البيت مُظلمًا، وبدا أنَّه خالٍ من الناس، ولم تَكُن الأضواء تنبعث من البيت. مشى في الفِناء فوق أطراف أصابعه، واكتشف في النهاية أنَّ الباب مفتوح. واصَلَ السَّير بالخطوات الحذِرة نفْسِها حتَّى وقَفَ وسط ظلام المَدخل وراح يتنصَّت لعلَّه يسمع شيئًا، غير أنَّ الصمت كان مُطبِقًا.
أمضى بقيَّة الليل نائمًا داخل جِوال في الكُوخ رغم عدم اعتياده النوم بالليل، ثمَّ عاد في الصباح ودخَلَ البيت. بَدَتْ أرضيَّة البيت نظيفةً وكأنَّ شخصًا ما قام للتوِّ بتنظيفها، وبالقُرب من مَوقِد النار، كانت رائحة الدُّخان منتشرةً في أركان البيت. وجَدَ خلْفَ الكُوخ ستَّ عُلبٍ جديدة ولامعة من لحم البقر المُملَّح.
عاد إلى ملجئِه، وأمضى بقيَّة النهار مُختبئًا، وقد ساوَرَه شعورٌ أكيدٌ أنَّ الجنود قادمون إلى المزرعة على أقدامهم، إمَّا للقَبْض على المتمرِّدين المختبئِين في الجبال، أو لتعقُّب الهاربين، أو لمجرَّد القيام بعمليات التفتيش، وتساءل بينه وبين نفسه: لماذا لا يأتون بالشاحنات أو بسيارات الجيب؟ لماذا يعملون في سِريَّة وفي الخفاء؟ ولماذا يُخبِّئون شاحناتهم؟ لا بدَّ أنَّ هناك أسبابًا عديدة وكثيرًا من التفسيرات، لا بد أنَّ هناك آلافًا من التفسيرات!
لم يستطعْ أن يفهم ما يدور في رءوسهم، لكنَّه كان يعي جيدًا أنَّ مجرَّد الحظِّ فقط هو الذي يُبقيه بعيدًا عن أنظارهم حتَّى هذه اللحظة.
لم يذهب إلى مِضخَّة المياه في تلك الليلة على أملِ أن تُجفِّف الشمس والرياح قاعَ الخزَّان. سحَبَ مزيدًا من العشب وملأ به حفنة يده، ثمَّ ألقى به فوق كومة قرع العسل، وراح يلتقط أنفاسه ببطء.
مضى يومٌ ثمَّ تلاه يومٌ آخر، وبينما كانت الشمس على وشكِ الغروب خرَجَ «ك» من ملجئه؛ لكي يفرد عضلات جسده ويُمدِّد أطرافه، فأبصر أشكالًا وخيالات تتحرَّك، ثمَّ مالَ بجسده نحو الأرض، فشاهَدَ رجلًا يمتطي جَوادًا ويتَّجه ناحية الخزَّان، وكان من اليسير مشاهدةُ فوهة البندقية البارزة فوق كتفه. كما كان رجلٌ آخر يسير على قدمَيه بجواره. بدأ «ك» في التسلُّل كالدودة قاصدًا ملجأه وهو يُفكِّر قائلًا: فليأتِ الظلام بسرعة، ولتبتلعني الأرض وتحميني بداخلها من أولئك الناس.
رفَعَ رأسه من خَلْف أعلى نقطةٍ في الرابية القريبة من مَدخل مخبئه، وألقى نظرته الأخيرة.
لم يكُنْ جوادًا هو الذي يمتطيه الرَّجُل، بل كان حمارًا صغيرًا وكانت أقدام الرَّجُل غالبًا ما تلمس الأرض. وعلى بعد أمتارٍ قليلة من الخَلْف؛ كان حمارٌ آخر دون راكبٍ مُحمَّلًا بكِيسَين كبيرَين مربوطَين عند جانبَيه، وفي المسافة القليلة بين الحمارَين أبصَرَ «ك» ثمانيةَ رجال ثمَّ رجلًا تاسعًا في المؤخرة، وكانوا جميعًا يحملون البنادق، وبدا أنَّ بعضهم يحمل حقائبَ وأكياسًا أيضًا. وكان أحَدُهم يرتدي بِنطالًا أزرقَ، وآخر يرتدي بِنطالًا أصفر، وكان بقيَّتهم يرتدون زيًّا مُموَّهًا.
هبَطَ داخلَ ملجئِه بهدوءٍ، وتكوَّرَ بجسده حتَّى يختفي تمامًا؛ فلم يستطع أن يرى شيئًا من فتحة الملجأ، لكنَّه استطاع من خلال الرياح المستمرَّة أن يسمع خطواتِ أقدامهم بجوار الخزَّان، كما التقطتْ أذناه صوت السلسلة أثناء قيامهم بتشغيل مِضخَّة المياه، وسمِعَ أيضًا بعض الهمهمات والكلمات غير الواضحة. تسلَّقَ أحَدُهم السُّلَّم حتَّى وصَلَ إلى المنصَّة المرتفعة عن الأرض ثم نزل.
أظلمت الدنيا، وكانت أصوات الحمير هي الشيء الوحيد الذي استطاع من خلاله معرفةَ مكان وجودهم. كانوا يُشعلون النار فبدأ التلُّ في الظهور من خلال وميض النار البرتقالي الخافت، واستطاع «ك» أن يسمع صوتَ ضربات الفأس فوق ضفَّة النهر، وحين هبَّتِ الرياح تحرَّك سَيْر المِضخَّة مرةً واحدة ثمَّ توقَّف، وعندئذٍ سمِعَ «ك» بوضوحٍ شخصًا ما يقول: لماذا لا توجد مياه؟
كان الهواء مُحمَّلًا بكلماتٍ أخرى كثيرة، تَلَتْها ضحكاتٌ مجلجِلَة، لكنَّه لم يستطع أن يتبيَّنها جيدًا. وبعد ذلك هبَّت الرياح مرة ثانية؛ فدارتْ عجلة المِضخَّة، فسمع «ك» من خلال كفَّيه وباطن قدمَيه هديرَ المكبس وبعض الصيحات المُعبِّرة عن السرور، وساعدت شِدَّة الرياح في نقْلِ رائحة اللحم المشوي.
أغلق «ك» عينَيه، ووضع رأسه بين يدَيه، وبدا واضحًا له الآن أنَّ أولئك الذين جاءوا واستقروا بجوار السدِّ ليسوا جنودًا، وإنَّما هم أولئك الذين جاءوا من الجبال. إنَّهم أولئك الرجال الذين كانوا يُفجِّرون قضبان السكك الحديدية، ويزرعون الألغام في الطُّرق، ويُهاجمون المَزارع ويفصلون المدن بعضها عن البعض، ويستولون على المخازن. إنَّهم أولئك الذين تمَّ الإعلان في المذياع عن القضاء على عشراتٍ منهم، ونشرت الصُّحف صُوَرهم وهم غارقون حتَّى أفواههم في دمائهم. لم يهتمَّ «ك» بوجودهم، ورأى أنَّهم مثل فريقٍ لكرة القدم يتكوَّن من أحد عشر شابًّا جاءوا لِتَوِّهم من الملعب بعد الانتهاء من مباراةٍ صعبة، وها هم يشعرون بالإجهاد والسعادة والجوع.
لم يتوقَّفْ قلبُه عن الخَفَقان، وعندما رحلوا في الصباح فكَّر وقال: كان بمقدوري الخروج من مخبئي والسَّيْر خلْفَهم كما يفعل أيُّ طفلٍ وهو يتتبَّع فرقةً موسيقية، وحين يشعرون بي لا بد أنهم سيتوقفون ويسألونني عن مَطلَبي، وعندئذٍ سأطلُب مساعدتهم في حَمْل الحقائب، كما سأُخبرهم بقدرتي على قَطْع الأخشاب وإشعال النار في نهاية اليوم، أو سأُخبرهم بضرورة العودة إلى الخزَّان مرةً أخرى على أن أُوفِّر لهم الطعام؛ لأنَّني سأمتلك عندئذٍ قرْعَ العسل والكوسة والشمام، وسيكون لديَّ الخوخ والتين والكُمَّثْرى، سأقول لهم: إنَّ كلَّ شيءٍ سيكون مُتوفِّرًا، وألَّا يقلقوا بشأن الطعام، وأنَّني سأجلس معهم حول النار وأستمع إلى كلماتهم وحكاياتهم، أعتقد أنَّ الحكايات التي سيتناولونها ستكون مختلفة عن تلك التي سمِعْتُها في المُعسكَر؛ لأنَّ سُكَّان المُعسكَر من النساء والأطفال وكبار السنِّ وفاقدي البَصَر والعَجَزَة والعاطلين والحمقى والمعتوهين؛ لا يعرفون شيئًا يقولونه سوى بعض الحكايات عن المعاناة والقسوة والصمود، بينما يملك هؤلاء الناس كثيرًا من التجارب والمغامرات، وعاشوا فرحة النصر وقسوة الهزيمة، واختبروا لحظات الفرار؛ وبالتالي فإنَّ لديهم الكثير من الحكايات، حكايات عن الحياة يستطيعون قولها لأحفادهم بعد انتهاء الحرب، بينما يستمع الأحفاد بأفواهٍ مفتوحة.
في اللحظة نَفْسها التي تفحَّصَ فيها رِباط حذائه؛ عرَفَ «ك» أنَّه لن يخرج من مخبئه، ولن يسير في الظَّلام حتَّى يصل إلى بقعة الضوء المُنبعث من النار حتَّى لا يُعلن عن نفسه، وعرَفَ أيضًا سبب عدم إقدامه على تلك الخطوة.
إلى جانب ذلك السبب كانت الحقيقة التي لم يَشَأ البَوحَ بها؛ تتمثَّل في تلك الفجوة الأكثر اتِّساعًا من المسافة الفاصلة بينه وبين شعلة النار. كان دائمًا، وكلما حاول تفسير الأمر لنفسه، يجِدُ نفسه في مواجهة تلك الفجوة التي ظلَّتْ تُلازمه، وكانت تُخفي وراءها قصةً غير مُرضية وغير مألوفة.
تذكَّرَ طفولته وفصله الدراسي والمُدرِّس أثناء مطاردته للتلاميذ، سألهم المُدرِّس ذات يوم: اثنا عشر رجلًا انتهَوا من تناوُل ستة أكياس من البطاطس، وكلُّ كِيسٍ يحتوي على ستةِ كيلوجرامات من البطاطس؛ فكَمْ كيلوجرامًا في كلِّ الأكياس؟
كتَبَ «ك» أمامه رقم ١٢، ثمَّ عاد وكتَبَ رقم ٦، لقد كان جاهلًا بالعمليات الحسابية، وقال لنفسه: سأموت إذا لم أعرف النتيجة.
لم ينَمْ طوال ساعات الليل، وكان يستمع إلى الخزَّان وهو يمتلئ ببطء، وينظُر من حينٍ لآخر من خلال ضوء القمر إلى أرضه المزروعة بقَرْع العسل خوفًا من مهاجمة الحمير لها، لكن النوم غلَبَه بعد حين، وعرَفَ فيما بعد أنَّ شخصًا ما قد مشى بخطواتٍ ثقيلة فوق الأعشاب وهو يُصفِّق بيدَيه ويتعقَّب الحمير. لم تَكُن الرياح قد توقَّفتْ؛ فترامتْ إلى أسماعه بعض الأصوات الخافتة، ورنين حلقةٍ معدنية، وصوتُ ملعقة وهي تدور في الفنجان، وصوت المياه.
كان يَقِظًا تمامًا حين فكَّر وقال: إنَّها فرصتي الأخيرة الآن.
خرَجَ مُتسلِّلًا من ملجئه إلى الهواء الطَّلْق، وزحَفَ على يدَيه وركبتَيه، ثمَّ راح ينظُر بإمعانٍ إلى قمة الجبل، وتراءى له أحد الرجال خارجًا من الخزَّان، خرَجَ الرَّجُل من مياه الخزَّان الباردة واستند إلى الجدار وراح يُجفِّف جسَدَه بفوطةٍ بيضاء، وكان أول ضوء من النهار يتخلَّل جسَدَه العاري.
كان اثنان من الرجال يقودان حمارًا، وكان أحدهما يُمسك باللِّجام، بينما يقوم الآخر بتثبيت جِوالَين كبيرَين من قماشِ الكتان وطرْدٍ أسطواني الشكل فوق ظَهْر الحمار، وكان بقيَّة الناس خلْفَ جدار الخزَّان، وكان بمقدور «ك» رؤية رءوسهم وهي تتحرَّك من آنٍ لآخر.
عاد الرَّجُل الذي خرَجَ من الخزَّان — وكان مُستندًا إلى الجدار — إلى الظهور مرةً ثانية، لكنَّه كان يرتدي ملابسه هذه المرة، انحنى وفتَحَ الصنبور فتدفَّقت المياه عبْرَ الأخاديد التي حفَرَها «ك» في أول يوم جاء فيه، وتسرَّبتْ إلى الحقل.
فكَّر «ك» وقال بينه وبين نفسه: ذلك خطأ.
أغلق الرَّجُل المِضخَّة ثمَّ بدءوا يتحرَّكون في طابورٍ طويلٍ غيرِ مُنظَّم باتجاه الشرق عبْرَ الواحة قاصدِين الجبال. كان أحد الحمير في مقدمة الطابور وحمارٌ آخرُ في المؤخِّرة، وكانت الشمس ساطعةً وتكشف بوضوحٍ عن وجوههم، وظلَّ «ك» يُراقبهم من خلْفِ نُتوء جبليٍّ حتَّى اختفَوا تمامًا، ولم يتبقَّ منهم سوى بُقعٍ صغيرةٍ متراميةٍ فوق الأعشاب الصفراء؛ ففكَّر وقال: ما زال الوقتُ مُبكِّرًا للَّحاقِ بهم، يُمكنني اللَّحاق بهم الآن.
بعد أن ابتعدوا كثيرًا في النهاية؛ نهَضَ من خلْفَ النُّتوء الجبليِّ، وراح يتجوَّل في فدَّان الأرض لرؤية مدى الدَّمار والخراب الذي خلَّفَه الحماران.
ترَكَ الحماران آثارًا وبصماتٍ في كل مكان، ولم يكتفيَا بتخريب الأعشاب، لكنَّهما داسا بأقدامهما فوق كثيرٍ من الأماكن، وكانت الحشرات الزاحفة تتلوَّى فوق الأعشاب، فأصابتْها بالتلف، كما خرجت البُذور من الأماكن المغروسة فيها ولم تعُدْ صالحةً للنمو. فَقَد «ك» نصف محصوله، ومن ناحية أخرى لم يترك الغُرباء وراءهم أيَّ أثر، لكن بقايا النار التي كانوا يُشعلونها تسبَّبتْ في نشْرِ الحصى والنُّفايات. عاد إلى المِضخَّة وأغلَقَ الصنبور.
تسلَّقَ جانب التلِّ القابع فوق مَلجئه، ورقد فوق القمة، وراح ينظُر إلى الشمس، غير أنَّه لم يرَ شيئًا سوى الغرباء أثناء مرورهم عَبْر التِّلال.
قال لنفسه: إنَّني مثلُ امرأةٍ هجَرَها أطفالها، ولا أفعل شيئًا سوى ترتيبِ البيت وتنظيفه والإنصات إلى السُّكون.
زحَفَ نحو ملجئه، وألقى بجسَدِه في مللٍ ثمَّ أغلق عينَيه.
استيقَظَ متأخرًا في الصباح على صوتِ هدير الطائرة الهليوكوبتر وهي تُحلِّق فوقه باتجاه النهر. عادت الطائرة للتحليق من فوقه مرةً أخرى بعد خمس عشرة دقيقة، ولكن بسرعةٍ أكبر ناحية الشمال، فكَّر «ك» وقال: سيُشاهدون الأرض وقد غرِقت بالمياه، وسوف يُلاحظون اخضرار الأعشاب وازدهار قَرْع العسل. إنَّ أوراق الأشجار تلوح لهم كالأعلام، وهم يستطيعون رؤية كلِّ شيءٍ من الجوِّ، كل شيء لا يختبِئ بطبيعته تحت الأرض، يجب أن أزرع البصل.
فكَّر مرةً ثانية وأضاف: ما زلتُ أمتلك الوقت الكافي للهرب نحو الجبال، حتَّى لو أنَّني لم أفعلْ شيئًا سوى الاختباء في أحد الكهوف.
كانت حالةٌ من الخمول والكسل والفتور تُسيطر عليه؛ فعاد لمواصلة نومه وهو يقول: لن أهرب إلى الجبال، فما الذي سيحدُث إذا جاءوا، وليكُنْ ما يكون.
ظلَّ «ك» لمدَّة أسبوعٍ كامل في حالةٍ من الحذَرِ الشديد لم تحدث له من قبل، فلَمْ يخرج من ملجئِه قَط أثناء ساعات النهار، ولم يزوِّد ما زرَعَه بالماء إلَّا نادرًا؛ ممَّا أدَّى إلى ذبول الأوراق، فراح يقتلع الجزء المُزدهِر منها ويقول لنفسه وهو ينظُر إلى ما تبقَّى: إذا تحوَّلتْ كل البراعم إلى ثمراتٍ فلن أحصُل إلَّا على أربعين من قَرْع العسل، وإذا جاءوا بحميرهم وساروا بها فوق هذه الأرض فلن أحصل على أيِّ شيء، وعندئذٍ لن يكون جَنْي المحصول ضمْنَ أحلامي، ولكنَّني سأحلُم فقط ببقاء البذور كما هي.
أضاف مواسيًا نَفْسه: أتمنَّى ألَّا تموت البذور حتَّى لا أنتظر عامًا آخر وصيفًا آخر كي أحاوِلَ من جديد.
كانت نهاية الصيف، وبعد أيامٍ من الحرِّ الشديد والسُّحُب المُتراكِمة؛ اجتاحت الوادي عواصف رملية، وتساقطت الأمطار. خرَجَ «ك» من ملجئه، ثمَّ زحَفَ على ركبتَيه حتَّى استند إلى جدار الخزَّان المُبلَّل بعيدًا عن الرياح، وشعَرَ عندئذٍ كأنَّه قوقعةٌ دون صدَفَة أو قشرة تحميها. وبعد ساعةٍ توقَّفت الأمطار، وبدأت الطيور تُغرِّد، ولاح قوسُ قزح في الأفق من ناحية الغرب. سحَبَ «ك» حصيرةً مُبلَّلة من العشب إلى خارج الملجأ، وجلس في انتظار توقُّف التيار، لكنَّه نهَضَ بعد فترةٍ، وصنَعَ من الوحل كمية من الطين لسدِّ فتحات السقف والجدران في ملجئه.
لم ترجع الحمير ولا الرجال، ولم تَعُد الطائرة الهليوكوبتر تُحلِّق في الفضاء؛ فازدهَرَ قرْعُ العسل، واستطاع «ك» أن يتسلَّل خارج الملجأ في الليل، ويتفحَّص القشور الناعمة للمحصول التي كان يزداد نموُّها كلَّ ليلة. ومع مرور الوقت، عاوَدَه الشعور بالأمل، وبدا له أنَّ كلَّ شيء في طريقه للأفضل. كان يستيقظ أثناء النهار ليُلقي نظرةً على قطعة الأرض التي زرعها، وكان وميضُ قشور النباتات المزدهرة يتلألأ أمام عينَيه تحت الأعشاب.
تذكَّر أنَّه نثَرَ بُذور الشمَّام بين بقيَّة البذور، وها هو يرى اثنَين من الشمَّام الأخضر الشاحب ينموان عند الطرف البعيد من الحقل، شعَرَ بحبٍّ تجاههما وكأنَّهما أختان له، وكانت فرحته بهما أكثرَ من فرحته بقَرْع العسل الذي يعتبره مجموعةً من الأخوة الذكور. وضع حشواتٍ من العشب تحت الشمامتَين لحفظ التوازُن.
في المساء، كانت نبتةُ قرع العسل الأولى كاملةَ النضج، وآنَ أوانُ قِطافها. لقد نضجتْ مبكرًا وبطريقةٍ أسرع من مَثِيلاتها في منتصف الحقل تمامًا. انتزَعَها «ك» واعتبرها المولود الأول، وكانت قشرتها ناعمةً وطريَّة، حتَّى إنَّ السِّكين قطعتْها بسهولة رغم أنَّ لونها من الداخل كان لا يزال أخضر اللون. علَّق بعضًا من قَرْع العسل المنزوع في شريطٍ من السلك الشائك الذي صنَعَه خصوصًا لحماية أرضه تحت كومةٍ من الفحم المُشتعِل، وبعد حلول الظلام كانت الأضواء تتلألأ أكثرَ فأكثر، وشظايا الفحم المُحترِق ترتفع إلى السماء. حرَّكَ شرائط قرع العسل بسيخَين من السلك. وفي تلك الأثناء، شعَرَ فجأةً بامتنانٍ شديد، وكان قلبه يخفق من السعادة، ثمَّ قال لنفسه: إنَّه بالضبط كما كانوا يصفونه، وشبيه تمامًا بالإحساس الرائع الذي ينتاب المرء حين يتعرَّض لتدفُّق المياه الدافئة. لقد اكتمَلَ الأمر الآن، ويبقى أن أعيش هنا بهدوءٍ إلى أن أموت، وأقتات ممَّا أزرعه بنفسي وبما تجود به الأرض.
رفَعَ أول شريط من قَرْعَة العسل قريبًا من فمه، وكان طعْمُها تحت القشرة الهشَّة لذيذًا، فرَاحَ يَقضِم منها ودموع الفرح تملأ عينَيه، وقال: إنَّها أفضل وأجمل قَرْعَةٍ للعسل أتناولها في حياتي.
كانت هي المرة الأولى منذ وصوله التي يشعُر فيها بالبهجة أثناء تناوُل الطعام، ولقد خلَّفتْ بقايا القَضْمة الأخيرة في فمه إحساسًا بالمتعة والبهجة. حرَّكَ الشَّبَكة بعيدًا عن الفحم ثمَّ تناوَلَ القَضْمة الثانية؛ فشعَرَ بسخونتها ونعومتها، وقال: يُمكنني تناوُل مثل هذا النوع من قَرْع العسل كلَّ يوم وطوال حياتي، ولن أكون في حاجةٍ لأيِّ شيءٍ آخر، وسيكون الأمر رائعًا لو أضفنا قليلًا من الملح، فقط قليلًا من الملح ومقدارًا ضئيلًا من الزبدة وبعض السكَّر ونقطتَين من القِرفة.
تناوَلَ القَضْمة الثالثة ثمَّ الرابعة والخامسة حتَّى انتهى من نصفها؛ فامتلأتْ بطنه، ولم يَعُدْ في حاجةٍ للمزيد، لكنَّه راح يحلُم بنكهات الملح والزبدة والسكَّر والقِرفة كل على حِدَة.
جلَبَ له ذلك النُّضجُ الكامل لقَرْع العسل قلَقًا جديدًا؛ فقد كان من الممكن قبل ذلك إخفاء الكروم، كما أنَّ قَرْع العسل نفسه قد خَلَق مجموعة من الحُفَر بدا خلالها الحَقْل في شكلٍ غريبٍ ولافتٍ للنظر، وكأنَّك ترى قطيعًا من الحُملان نائمًا فوق العشب. حاوَلَ «ك» قدْرَ استطاعته إخفاء قَرْع العسل بالأعشاب غير أنَّه لم يجرُؤ على تغطيته كله بالأعشاب؛ لأنَّ عملية النُّضج الكامل كانت في حاجةٍ إلى شمس الصيف، ولم يكن بمقدوره سوى أن يقطفها بأسرعِ ما يستطيع قبل أن تذبُل الجذوع، وفي أحيانٍ أخرى قبل أن تتلطَّخ القشرة ببُقعٍ خضراء.
مرَّت الأيام ببطءٍ، وكانت الليالي باردةً؛ ممَّا جعَلَ «ك» يرتدي في بعض الأحيان مِعطفه الأَسوَد أثناء عمَلِه في الحقل، ولم يكُنْ ينام قبل أن يلفَّ قدمَيه في أحد الأكياس ويضَعَ يدَيه بين فخذَيه، كان ينام أكثر من المعتاد ولم يعُدْ يجلس بالخارج بعد الانتهاء من عمَلِه للنظر إلى السماء ومتابعة النجوم أو للإنصات لهمساتِ السكون في الليل أو للتَّجوُّل في الواحة. كان يتسلَّل إلى ملجئه، ويغرق في نومٍ عميق طوال فترات الصباح، وكان يبدأ في الخروج من الملجأ في أوقات الظَّهيرة وهو يُعاني من الكسل والتَّراخي دون أن يتوقَّف عن أحلام اليقظة. كان يتمدَّد بجسده، ثمَّ يمضي نحو ضفَّة النهر لقطْعِ الأخشاب وتوفير الحطَبِ حتَّى يُصيبه التعب.
حفَرَ حفرةً صغيرة في الأرض لا يُمكن رؤيتها من مسافةٍ بعيدة ثمَّ أشعَلَ فيها الحطب لتجهيز الطعام، وبعد أن انتهى من تناوُل طعامه؛ وضَعَ بلاطتَين من الطوب فوق الحفرة ورشَّ فوقها التراب؛ كي تظلَّ جذوةُ النار كامنةً حتَّى الليلة التالية.
لم يكُنْ «ك» يعرف الشهر الحالي، لكنَّه كان يعتقد أنَّه أبريل؛ لم يكن يملك نتيجةً للأيام أو سِجلًّا للأيام التي يتغيَّر فيها القمر. إنَّه ليس سجينًا أو منبوذًا، وحياته بجوار الخزَّان ليست عقوبةً مفروضةً عليه لا بدَّ أن يقضيها.
أصبح مع الوقت كائنًا ليليًّا حتَّى أصبحتْ عيناه لا تحتمل ضوء النهار، ولم يعُدْ في حاجةٍ لتوخِّي الحَذَر أثناء تحرُّكاته حول الخزَّان، وكان يعرف طريقَه باللَّمس، ولم تكُنْ عيناه تقوم بوظيفتها في الرؤية لمدَّة ساعات، وكأنَّه شخصٌ أعمى، وكان يعتمد أيضًا على حاسة الشمِّ ويعرف نوع الأشجار بمجرد شمِّ أوراقها، كما أنَّ رائحةً بعينها كانت تتسلَّل إلى أنفه كان يعرف من خلالها لحظةَ سقوط الأمطار.
الأهمُّ من ذلك كلِّه أنَّه ومع نهاية الصيف أصبح مُحبًّا للكسل والبطالة، وكان يستمتع بالجلوس على كعبَيه أمام مَشتل الأزهار؛ لتمضِيَة الوقت الذي يمضي بطيئًا. وحين كان يتحتَّم عليه القيام بعملٍ ما؛ لم يكُنْ يشعر بالسعادة أو التعاسة، وكان كلُّ شيء بالنسبة إليه مُساويًا لكلِّ شيء. كان يرقُد طوال فترةِ ما بعد الظُّهر بعينَين مفتوحتَين وهو يُحدِّق في تجاعيد السقف الحديدي وفي آثار الصدأ المُتراكِم بين التجاعيد، ولا يُجهد نفسه في التفكير. وبينما كان الصدأ هو الصدأ نَفْسه إلَّا أنَّ الوقت كان يمرُّ، حتَّى إنَّه قال لنفسه ذات مرة: إنَّني مثل السِّحْلية التي تعيش تحت الحَجَر.
كان الضابط المسئول يستخدم كلمة طُفَيلِيٍّ، وبذلك يكون المُعسكَر في «جاكالسدريف» عشًّا للطُّفَيليِّين الذين كانوا يقتاتون من خيرات المدينة المُشرِقة النظيفة، وها هو «ك» يرقد الآن بكسَلٍ فوق سريره، ويُفكِّر دون حماسٍ، ويتساءل عن المجهول في الأيام القادمة. ولم يعد يعرف مَن هو المُضيف ومَن هو الطُّفَيليُّ، المُعسكَر أم المدينة؟ وإذا كانت الدودة تلتهم الخروف؛ فلماذا يبتلع الخروف الدودة؟ وماذا لو أنَّ ملايين — أو أكثر من الملايين الذين يعيشون في المُعسكَرات على الصدقة والإحسان، وبعيدًا عن المدن، ويستخدمون كل أنواع الدهاء والخداع للعيش، ويزحفون نحو الأركان والزوايا، ولا يحلمون بشيء سوی مرور الوقت — ماذا لو زاد عددهم عن عدد المُضيفين؟ هل سيُطلقون عليهم عندئذٍ اسم الطُّفَيليِّين؟
فكَّرَ في أمِّه حين طلبتْ منه أن يُعيدها إلى المكان الذي وُلِدَت فيه، وها هو قد فعل، ولكنْ ماذا لو أنَّ هذه المزرعة ليستْ هي المكان الذي وُلِدَت فيه؟ وأين الجدارات الصَّخرية التي تحدَّثتْ عنها؟ قام بزيارةٍ نهاريةٍ إلى فِناء المزرعة والأكواخ عند جانب التلِّ وإلى قطعة الأرض المُستطيلة الجرداء المجاوِرة لهما، وقال لنَفْسه: إذا كانت أمي قد عاشتْ هنا؛ فسوف أعرف بالتأكيد.
أغلَقَ عينَيه وحاوَلَ أن يستعيد في خياله الجُدران المصنوعة من الطوب اللَّبِن وسقف القشِّ الذي كانت تحكي عنه كثيرًا وحديقة الكُمَّثْرى، وهروب الدَّجاج من الفتاة ذات القدمَين العاريتَين التي كانت تقف عند المدخل وكانت الظلال تُخفي وجهها، ثمَّ راح يبحث عن المرأة الثانية، المرأة التي أنجبتْ أمَّه وقذفتْ بها إلى هذه الحياة، وفكَّر قائلًا: عندما كانت أمي تموت في المستشفى وحين أدركتْ أنَّ نهايتها وشِيكَة؛ لم أكن أنا الذي تنظُر إليه، لكنَّها كانت تنظُر إلى شخصٍ ما يقِفُ خلْفِي، ربما كان أُمَّها أو رُوحَ أُمِّها، لقد كانت أمي بالنسبة إليَّ مجرد امرأة لكنَّها كانت ترى نَفْسها طفلًا يُنادي على أمِّه ليُمسك يدَيها ويُساعدها. إنَّ أمَّها التي لم نشاهدْها في الحياة الغامضة؛ كانت طفلًا أيضًا، لقد جئتُ ونشأتُ من سلالةٍ طويلة من الأطفال.
حاوَلَ أن يتخيَّل شكلَ وهيئة أول الواقفين عند مُقدِّمة تلك السلالة الطويلة؛ فتراءتْ له امرأةٌ بملابسَ رَمادية دون ملامح، لم تُولدْ من رحِمِ أُم، وإنَّما جاءتْ من فراغ. لكنَّه حين فكَّر في ذلك الفراغ الذي كانت تعيش فيه، وفي صَمْت وسكون ذلك الوقت الغابر قبل بدء الحياة؛ اضطرب عقلُه وأصابه الارتباك.
عادت الحيوانات لمهاجمة أرضه؛ الأرانب البرية، والظبي الرَّمادي الصغير. ولم يُفكِّر إذا ما كانت قد الْتهمتْ أطراف الكروم، لكنَّه غضِبَ بشدَّة لذبول الفاكهة، ولم يكُنْ يعرف ما يجب عليه فِعْله إذا فقَدَ قَرْع العسل المُحبَّب إلى نَفْسه. أمضى ساعاتٍ كثيرةً في محاولةِ عمَلِ فخٍّ خارج الأسلاك، لكنَّه لم يستطع؛ فاضطرَّ لنَقْل سريره إلى منتصف الحقل، لكنَّ ضوءَ القمر كان حائلًا بينه وبين قدرته على النوم، كما أنَّه كان ينهض على إثر أيِّ حركة حتَّى لو كانت مجرَّد حفيف الشَّجر، وكان يفقد الشعور بقدمَيه من شدَّة البرد.
قال: ليت الخزَّانَ كانَ مُحاطًا بأحد الأسوار؛ سُور من الأسلاك القوية المعشَّقة المغروزة على بُعد قَدَم من باطن الأرض حتَّى لا يستطيع اللصوص الدخول.
كان مذاق الدم لا يُفارق فَمَه، وكانت أمعاؤه تُؤلمه، وكان الدُّوار يُصيبه كلما حاوَلَ الوقوف. وفي بعض الأحيان كان يشعُر بِمَعِدته وكأنَّها كفُّ يد مُثبَّتةٌ في منتصف جسده. أجبَرَ نَفْسه على تناوُل مزيدٍ من قَرْع العسل ممَّا خفَّفَ من ألم مَعِدته فقط، لكنَّه لم يُصبح في وضعٍ أفضل. حاوَلَ أن يصطاد الطيور، لكنَّه افتقَدَ مهارة الصيد كما أنَّه لم يَعُد صبورًا بما يكفي، فاكتفى بقتل السحالي وأكْلِها.
انتشَرَ قرْعُ العسل الناضج في كلِّ مكان، لكن الكروم ذبلتْ وتلوَّنتْ باللون الأصفر، ولم يُفكِّر «ك» في كيفية تخزين قَرْع العسل، غير أنَّه حاوَلَ تقطيعه على شكلِ شرائطَ ووضَعَه في الشمس للتجفيف، لكنَّ مُحاولاته باءتْ بالفشل؛ حيث تعفَّنَ قرْعُ العسل وجذَبَ كثيرًا من الحشرات.
قام بوضْعِ ثلاثين من قَرْع العسل على شكلٍ هرميٍّ أمام ملجئه؛ فبدا الشكل كالمنارة. إنَّ قرْعَ العسل يحتاج للدفء والجفاف؛ فلَمْ تكُنْ فكرة الدَّفن صائبة، إنَّها فاكهةٌ لا تستطيع الاستغناء عن الشمس، ففكَّرَ أخيرًا في وضع كلِّ واحدة على بُعد خمسين خطوةٍ من الأخرى بمحاذاة ضفَّة النهر. وحتَّى لا يلفتَ انتباه أحدٍ وضَعَ فوق قشرة كلِّ واحدة كميةً صغيرةً من الطين.
كانت صحته لا تزال معتلَّة، وكان يتملَّكه الضَّعف، وحين اكتمَلَ نُضْج الشمَّام تناوَلَ منه في الأيام التالية وهو يتوسَّل إلى الله أن يُصبح في حالٍ أفضل وأن تتحسَّنَ صحته. كان لون الشمَّام من الداخل كلَونِ طمي النهر البرتقالي، ولم يحدُث أن تذوَّقَ فاكهةً بمثل تلك الحلاوة؛ فقال لنفسه: إنَّ البذور تُنتِج كثيرًا من الأشياء الحلوة.
جمَعَ بُذور الشمَّام معًا، وبعد القيام بتنظيفها وضَعَها في الشمس؛ كي تجفَّ.
لم يخرُج «ك» من ملجئه في اليوم الأول قَط، وحين استيقَظَ في المساء لم يكُن يشعُر بالجوع، وكان الهواء مُحمَّلًا بالرياح الباردة، ولم يكُنْ ثمَّة شيءٌ يُثير انتباهه. كان قد انتهى من إنجاز ما يُساعده على الاستمرار لمدَّة عامٍ كامل؛ فعاد إلى النوم مرةً أخرى، وعند الفجر سمِعَ تغريد الطيور.
فقَدَ إحساسه بالزمن، وكان يتجوَّل أحيانًا بمِعطفه الأَسوَد، بعد أن مضتْ فتراتٌ طويلةٌ قضاها في غيبوبةٍ وحالةٍ من الخَدَر لم يستطع خلالها التخلُّص من كثرة النوم والإحساس بجسده الثقيل وحالة الكسل المُسيطرة عليه، حتَّى إنَّه كان يقول لنفسه: لقد نسيتُ أن أتنفَّس، وها أنا ذا أرقُد الآن دون تنفُّس.
كان نائمًا ذات يومٍ تحت السماء، وحلَمَ برَجلٍ عجوزٍ يرتدي ملابسَ قذِرةً ومُمزَّقةً وتنبعث منه رائحة التَّبغ، انحنى الرَّجُل فوق «ك» وجذَبَه من كتفه، ثمَّ قال: يجب أن ترحل من هذه الأرض.
حاوَلَ «ك» إبعاده لكنَّ قبضةَ الرَّجُل كانت قويةً فوق كتفه، فأضاف الرَّجُل هامسًا: سوف تُعاني هنا من المشاكل.
حلَمَ أيضًا أنَّه كان يسير مع أمِّه عند الجبال وعلى الرغم من أنَّ خطواتها كانت ثقيلةً؛ فإنَّها كانت شابَّةً وجميلة، وكان يُشير بيده من أفقٍ إلى آخر وقد انتابتْه حالةٌ غريبة من السعادة والحماس، ولم تكُنْ هناك شوارعُ أو منازل في أيِّ مكان كما كان الهواء ساكنًا. ساوَرَه إحساسٌ بالخطر من فقدان الطريق؛ لئلا يجِدَ نَفْسه ومعه أمُّه فوق حافة صخرةٍ كبيرة بين السماء والأرض، لكنَّه كان يعرف قدرته على العَوْم؛ فلَمْ يشعر بالخوف.
هل استغرق في النوم يومًا أم أسبوعًا أم شهرًا؟ هكذا كان يتساءل أحيانًا أثناء يقَظَته، وحدَثَ ذات مرة أن فقَدَ الإحساس بنَفْسه تمامًا، وكان يقول لنَفْسه: يجب أن تأكل وتُجاهد من أجل النهوض والبحث عن قَرْع العسل.
لكنَّه كان يعود للنوم مرةً أخرى ولا ينهض، كان يُمدِّد قدمَيه ويتثاءب بفرحٍ ولا يتمنَّى شيئًا سوى الرُّقاد. فقَدَ شهيَّته وكان يضَعُ الطعام داخل حنجرته بالقوة، لكنَّه بدأ بعد ذلك في تنظيم نومه، ولم يعُدْ ينام كثيرًا وأصبحتْ فترات اليقظة أكثرَ ممَّا كانت عليه، وبدأت تُداعب خياله صُورٌ كثيرة ومُتعدِّدة بشكلٍ سريع ومُنفصِل. لم يستطع التوقُّف عندها أو تأمُّلها، بدأ أيضًا يشعُر بالصداع، وكان يصرُّ أسنانه وينتابه الذُّعر مع كلِّ نبضةِ دم في رأسه.
هبَّت عاصفة رعدية شعَرَ بها «ك» بالكاد، ثمَّ انفجرتْ من فوق رأسه مباشرةً قصفاتُ الرَّعد، وبدأت الأمطار في التساقُط فتسرَّبت المياه إلى أطراف مَلجئه وغمَرَت الوادي حتَّى أغرَقَت الملجأ، نهَضَ وهو يحني رأسه وكتفَيه تحت ألواح السقف، ولم يكُنْ ثمَّة مكانٌ أفضل من الملجأ يُمكن الذهاب إليه، انزوى في أحد الأركان وسط المياه المُندفِعة بمِعطفه المُبلَّل المشدود حول جسده ونام قليلًا، ثمَّ استيقظ.
لاح من خلال ضوء النهار وهو يرتعش من البرد، وكانت السماء مُلبَّدة بالغيوم، ولم يتمكَّن من إشعال النار؛ فقال: إنَّ المرء لا يستطيع العيش هكذا.
بدأ السَّيرَ في الحقل والتَّجْوال بالقرب من الخزَّان ومِضخَّة المياه، فأدرَكَ أنَّ كلَّ شيء كما هو، لكنَّه شعَرَ بأنَّه غريبٌ وأنَّه مجرَّدُ خيال، كانت المياه تغمُر الأرض للمرة الأولى، وكانت كمياتٌ كبيرة من الفطر الأبيض تملأ الأرض تراءتْ له من بعيد وكأنَّها حبَّاتٌ من قَرْع العسل.
كان جسده ما زال يرتعش من البرد، وكانت أطرافه عاجزةً عن الحركة، وبدا كرَجُل عجوزٍ وهو ينقل قدمَيه من مكانٍ لآخر، وحين لم يستطع مواصلة السَّير جلَسَ فوق الأرض المُبلَّلة، كان ينتظره كثير من المهام؛ فقال: لقد استيقظتُ مبكرًا جدًّا، ولم أَنعَم بقسطٍ وافر من النوم.
كان لا بدَّ له من تناوُل أيِّ نوعٍ من الطعام للتخلُّص من حالة الدُّوار التي أصابتْه، غير أنَّه لم يكُنْ راغبًا في الأكل، فأجبَرَ نَفْسه على احتساء كوبٍ ساخنٍ من الشاي بالسكَّر، وكانت يدَاه وركبتَاه غارقتَين في بِركةٍ صغيرة من الطين.
كان لا يزال جالسًا حين اكتشفوه، سمِعَ أصوات المركبات من بعيد، وعندما وصلوا إلى البوَّابة في مؤخرة المزرعة شاهَدَهم وأدرَكَ هُويَّتهم، نهَضَ لكنَّه شعَرَ بمزيدٍ من الدُّوار فجلَسَ مرةً أخرى. وحينئذٍ توقَّفت إحدى المركبات أمامه، بينما ارتطمت السيارة الجيب بالمرج العُشبي ووقفتْ بالقرب منه، وكان بداخلها أربعة رجال، ظلَّ ينظُر إليهم بيأسٍ وهُمْ يتحلَّقون حوله.
كانوا معتقدِين في البداية أنَّه مجرَّد مُتشرِّد وليس سوى شخصٍ مفقود من أولئك الذين يقبض عليهم رجال الشرطة من آنٍ لآخر.
قال لهم: أنا أعيش في الواحة، وليس لي مكانٌ محدَّد.
وضَعَ رأسه بين ركبتَيه وسمِعَ دويَّ طَرقَاتٍ قويةٍ في رأسه كما شعَرَ بمرارةٍ في فمه، رفَعَ أحد الجنود ذراع «ك» ثمَّ تركه يتدلَّى، بينما ظلَّ «ك» في مكانه دون أن يتحرَّك، وبدا له ذراعه وكأنَّه شيءٌ غريب عن جسده أو مجرَّد عصًا ناتئةٍ من جسده.
تساءل الجندي قائلًا: كيف يعيش هذا الرَّجُل وعلى أيِّ شيء يقتات؟ الذباب، أم الحشرات، أم الجراد؟
لم يكُنْ «ك» يرى شيئًا سوى أحذيتهم؛ فأغلَقَ عينَيه، وما هي إلَّا لحظةٌ قصيرة جدًّا حتَّى أصبح غائبًا تمامًا وكأنَّه غير موجود، ضرَبَه أحدهم فوق كتفه ودفَعَ ناحيته بساندويتش عبارة عن شريحتَين كبيرتَين من الخبز الأبيض وبينهما قطعة من اللحم. تراجَعَ «ك» للوراء، وهزَّ رأسه فقال فاعل الخير: فلْتأكلْ يا رَجُل لتُصبح قادرًا على الوقوف.
تناوَلَ الساندويتش وقبَضَ عليه بأسنانه، وقبل أن يتمكَّن من المضغ راح يتقيَّأ، لكنَّه لم يقذف شيئًا من فمه؛ لأنَّ مَعِدته كانت خاوية. وضَعَ رأسه بين ركبتَيه مرةً أخرى وبصَقَ قضمةَ الخبز واللحم التي تناوَلَها ثمَّ أعاد الساندويتش للرَّجُل.
قال أحدهم: إنَّه مريض.
وقال آخر: إنَّه مخمور.
عثروا على ملجئه بعد ذلك، وكان الطوب الذي صُنع منه الجدار الأمامي مفتَّتًا بعضَ الشيء من أثر الأمطار الأخيرة، وفي البداية لم يستطيعوا الدخول إلَّا عن طريق الزَّحف على أياديهم، ثمَّ قاموا برفْعِ السقف؛ فكشفوا عن الداخل، وشاهدوا الفأس والمِجرفة والسكين والملعقة والطبق والفنجان فوق الرف المصنوع من الحصى، وكذلك النظارة المُكبِّرة وبعض الأعشاب المُبلَّلة.
وضعوه في مواجهة ملجئه الذي صنَعَه بيده وأمسكوا به ليقف، وقد تخلَّوا عن أدبهم وعطفهم، تدفَّقت الدموع فوق وجهه، فسألوه: هل قمتَ بعمَلِ هذا الملجأ؟
أومَأَ «ك» برأسه، فقالوا له: هل تعيش هنا بمفردك؟
أومَأَ برأسه مرةً ثانية، فأمسَكَ به الجندي ووضَعَ ذراعه بقوةٍ فوق ظَهْره؛ تألَّمَ «ك»، فقال له الجندي: الحقيقة، نحن نريد الحقيقة.
أجاب «ك»: إنَّها الحقيقة.
وصلت الشاحنة أيضًا، وكان الهواء مُحمَّلًا بالأصوات العالية والخشِنَة والصيحات والزعيق والنبرات المُهتاجَة، وكان الجنود محتشدِين لرؤية «ك» والملجأ الذي شيَّدَه بنَفْسه.
صاح أحدهم قائلًا: انتشروا، أريدكم أن تبحثوا في كلِّ مكان بالمنطقة، نحن نتطلَّع إلى الممرَّات والأنفاق والجُحور، إنَّنا نُفتِّش عن أيِّ موقع للتخزين.
توقَّفَ عن الصياح وكان يرتدي زيًّا مُموَّهًا كبقيَّة زملائه، لكنَّه لم يكُنْ يُعلِّق شارةً أو علامةً يستطيع «ك» من خلالها معرفة هُويَّته. كانت عيناه تتحرَّك في كلِّ اتجاه بلا توقُّف وبدا أنَّه لا يتحدَّث إلى شخصٍ بعينه حين أضاف قائلًا: أنت ترى نوعيَّة أولئك الناس، وتعتقد بعدم وجود شيء مع أنَّ الأنفاق البالية موجودةٌ طوال الوقت تحت قدمَيك، انظر حول مكانٍ كهذا وسوف تُقسم بعدم وجود أحياء، لكنَّك إذا ما استدرتَ في اللحظة نَفْسها؛ فستراهم خارجين من باطن الأرض، اسأله عن المدَّة التي أمضاها هنا.
نظر إلى «ك» ورفع صوته مُستطرِدًا: أنت، منذ متى وأنت تعيش هنا؟
قال «ك» دون أن يعرف إذا ما كان يكذب كذبة جيدة وفي صالحه، أم كذبة سيئة وفي غير صالحه: منذ العام الماضي.
قال الجندي: وإذن، فمتى سيأتي أصدقاؤك وزملاؤك، متى سيعودون مرةً ثانية؟
هزَّ «ك» كتفَيه؛ فقال الضابط للجندي وهو يبتعد قليلًا: اسأله مرةً أخرى، لا تتوقَّف عن سؤاله، لا بد أن تعرف موعد عودتهم، واسأله عن آخر مرة كانوا فيها هنا، وتأكَّدْ أولًا أنَّه ليس أبْكَم ويستطيع الكلام، وهل هو أحمق وأبْلَه كما يبدو أم لا؟
أمسَكَ الجندي بمؤخرة عنق «ك» بين سبابته وإبهامه، وأجبره على السَّير حتَّى ركَعَ على ركبتيه وأصبح وجهه مُلامسًا للأرض، ثمَّ قال: أسمعتَ ما قاله الضابط؟ أخبرني إذن، أخبرني عن حكايتك.
خلَعَ قبَّعته، وضغَطَ بقوة على وجه «ك»؛ فتمدَّدتْ أنفه وشفتاه في الأرض، واستطاع عندئذٍ أن يتذوَّق التربة المُبلَّلة، وراح يتنهَّد. رفعوه من الأرض، وساعدوه على النهوض، لكنَّه لم يستطع أن يفتح عينَيه، فسأله الجندي مرةً أخرى: أخبرْنَا عن أصدقائك، أين هم ومتى سيعودون؟
هزَّ «ك» رأسه؛ فضرَبَه الجندي ضربةً قويةً في بطنه أصابتْه بالإغماء.
ظلُّوا طوال فترة المساء يبحثون عن مخازن الطعام والأسلحة التي كانوا يعتقدون أنَّها مخبَّأةً في هذا المكان، فبدءوا أولًا بتمشيط المنطقة المحيطة بالخزَّان ثمَّ واصَلُوا بحْثَهم عند النهر، عثروا على جهازٍ وسماعاتٍ للأذن وصندوقٍ أَسوَد، وكان «ك» يُراقِب أحدهم وهو يتحرَّك ببطء عبْرَ حافةِ ضفَّة النهر وفوق الرمال ويُقلِّبُ الأرضَ بسلاحه؛ حيث اكتشَفَ كثيرًا من قَرْع العسل، واصَلَ الرَّجُل الشابُّ حمْلَ قَرْع العسل حتَّى استطاع أن يصنع منه كومةً كبيرة بالقرب من حافة الحقل.
بعد رؤية تلك الكمية من قَرْع العسل ازداد يقينهم بوجود مستودعاتٍ مخبَّأة للمُؤَن والذخيرة حتَّى إنَّ أحدهم قال: وإلَّا فلماذا يتركون هذا الحيوان هنا؟
سمِعَه «ك» بسهولةٍ، ولاذ بالصَّمْت.
كانوا يأملون في سماع إجاباتٍ قاطعة منه، لكنَّه كان يُعاني من ضعفٍ شديدٍ وواضح، فقدَّموا له كوبًا من الشاي لاستجوابه مرةً أخرى. شرِبَ الشاي، ثمَّ قالوا له بطريقةٍ لائقة: أنت مريض، انظُر إلى نَفْسك؛ ألَا ترى الكيفية التي يُعاملك بها أصدقاؤك؟ إنَّهم لا يُبالون بما يحدُث لك، أتريد الذهاب إلى بيتك؟ سنساعدك في العودة إلى بلدك وسنمنحك الفرصة لبداية حياةٍ جديدة.
ساعدوه في الجلوس بجوار السيارة الجيب، خلَعَ أحدهم القبَّعة وألقى بها فوق ركبتَيه، ثمَّ قدَّموا له شريحةً من الخبز الأبيض الطريِّ، فسارَعَ بالْتهام قطعةٍ كبيرة أتبعها برشفةٍ من الشاي، وعندئذٍ قال شخصٌ آخر: اتركوه وشأنه حتَّى ينتهي من تناوُل شريحة الخبز.
مسَحَ «ك» فمه بطرف أكمامه، وكانوا يتحلَّقون حوله على شكل دائرة، فانْتَابه إحساس بأنَّهم لا يعرفون ما يريدون ولا يُدركون ما يجب عليهم القيام به.
قال «ك»: أنا لستُ كما تعتقدون، لقد كنتُ نائمًا وجئتم لإيقاظي، هذا كلُّ ما في الأمر.
بدا من ملامحهم أنَّهم لم يفهموا شيئًا.
قاموا بتوزيع أنفسهم داخل بيت المزرعة، وفي المطبخ أشعلوا المَوقِد الخاصَّ بهم، وسرعان ما تسلَّلتْ إلى أنْفِ «ك» رائحةُ الصَّلصة، علَّقَ شخصٌ ما المِذياع في الخطَّاف، وكان الجوُّ مثيرًا للقَلَق فأصابه التوتُّر.
قادوه إلى حُجْرة النوم عند نهاية الممرِّ ووضَعُوه فوق قطعةٍ من القماش المشمَّع وفوقها بطانية، قدَّموا له كوبًا من اللبن الدافئ وقرصَين من الدواء قالوا: إنَّه أسبرين. وفي وقتٍ لاحقٍ، وبعد أن حلَّ الظلام، أحضر له أحد الصِّبية طبقًا من الطعام. شاهَدَ «ك» قطعتَين من السجق وسط كمية كبيرة من الصلصة وكمية من البطاطا المهروسة؛ فهزَّ رأسه، واستدار ناحية الحائط، لكن الصبي ترَكَ الطبق بجانبه وقال: ربما تغيِّر رأيك.
لم يُضايقْه أحدٌ بعد ذلك، ولم يستطع أن يَنعَم بقسطٍ وافرٍ من النوم بسبب رائحة الطعام المُجاوِر له؛ فنهض في النهاية ووضع الطبق في ركن الحُجْرة بعيدًا عنه. سمع كلامًا وبعضَ الضحكات من حوله رغم الظلام المحيط به.
في الصباح التالي وصلت الشُّرطة قادمةً من مُقاطَعة الأمير ألبرت بصحبة بعض الكلاب للبحث عن الأنفاق والمُؤَن المخبَّأة، وفي الحال استطاع الكابتن «أوسيزون» التعرُّف على «ك» حيث قال: كيف لي أن أنسى وجهًا كهذا؟ لقد هرَبَ هذا المهرِّج من مُعسكر «جاكالسدريف» في ديسمبر الماضي واسمه «مايكل».
ضرب «ك» بحذائه في ضلوعه، وأضاف: إنَّه ليس مريضًا، لكنَّه دائمًا يبدو كذلك.
استطرَدَ موجِّهًا حديثه إلى «ك»: هاي مايكل.
عادوا به إلى الخزَّان حيث شاهَدَ الكلاب وهي تتجوَّل عبْرَ ضفَّة النهر وحول قطعة الأرض التي زرَعَها، كانوا يجرُّون الكلاب بسلسلة، وكانت الكلاب تنبح بقوة، ولم يستطيعوا في النهاية التوصُّل إلى أيِّ شيءٍ سوى بعض الجحور الصغيرة التي تختفي بداخلها القنافذ والأرانب الوحشية.
صفَعَ الكابتن «أوسيزون» «ك» على جانب رأسه وقال: ما هذا أيُّها الحمار؟ هل تمزح معنا؟
عادت الكلاب إلى الشاحنة، وأصابهم اليأس، وفقدوا رغبتهم في البحث، ثمَّ وقَفَ الجنود الصِّغار في الشمس، وراحوا يتبادلون الأحاديث ويشربون القهوة.
جلَسَ «ك» كعادته واضعًا رأسه بين ركبتَيه، وعلى الرغم من أنَّه كان في حالةٍ من الصفاء؛ فإنَّه لم يستطع التخلُّص من الدَّوخَة التي أصابتْه، كانت تتدلَّى من فمه خيوطٌ من اللُّعاب ولم يكُنْ قادرًا على التحكُّم فيه أو إيقافه، قال لنفسه: سوف تغسل الأمطار كلَّ بِذرة في هذه الأرض، وستساعد الشمسُ في جفافها، والرياحُ في تطهيرها قبل عودة الموسم من جديد.
فكَّر وأضاف: ذلك يربطني بهذه القطعة من الأرض، وكأنَّها وطني الذي لا أستطيع مغادرته، هل لا أستطيع الرحيلَ من هنا حقًّا؟ ومع ذلك ينبغي علينا جميعًا أن نُغادر أوطاننا، ونُغادر أمهاتنا، أم أنَّني مجرَّدُ طفلٍ أنتمي لسلالةِ الأطفال الذين لا يستطيعون المغادرة، وإذا ما رحلوا في يومٍ ما؛ فلا بد لهم أن يعودوا للموت في بيوتهم وهم يضعون رءوسهم بين أحضان أمهاتهم جيلًا بعد جيل.
حدَثَ انفجارٌ كبير، تبِعَه في الحال انفجارٌ آخرُ؛ فاهتزت الأرض، وصاحت الطيور، وتصدَّعت التِّلال. حدَّق «ك» حَوَالَيه بانتباه؛ فقال الجندي وهو يُشير إليه: انظر.
تحوَّل لون بيت اﻟ «فيساجي» إلى سحابةٍ من اللون الرَّمادي والبرتقالي وغطَّاه التراب، وكأنَّ الزوبعة قد قذفتْ به بعيدًا. وحين انقشَعَ الضَّباب بعد لحظة؛ بدا البيت مُدمَّرًا، ولم يعُدْ سوى هيكل. كان الجِدار الخلفي والمِدخنة وثلاثةٌ من الأعمدة التي كانت تستند إليها الشُّرفة ولوحٌ من ألواح السقف تطير جميعها في الهواء، ثمَّ وقعتْ على الأرض وأحدثتْ صخَبًا عنيفًا. انتهى صدى الأصوات الصاخبة فتساءل «ك»: هل نحن في الجحيم، أم أنَّني أهذي وأتخيَّل أشياء لا وجود لها؟
حدَثَ مزيدٌ من الانفجارات بعد لحظة؛ فخُيِّل له أنَّ المباني المُلحَقة قد تلاشتْ، ثمَّ فكَّر قائلًا: لم يعُدْ ثمَّة مكان ﻟﻟ «فيساجي» يُمكنهم الاختباء فيه.
عادت السيارة الجيب للسَّير فوق المرج العشبي، وكانوا من حوله يستعدُّون للرحيل، غير أنَّ جنديًّا واحدًا كان يُواصِل عمله. كان الجندي ينزع عناقيد الأعشاب ويقوم بتجميعها في صفٍّ واحد. نهَضَ «ك»، ووقف على قدمَيه وقد ساوَرَه القَلَق وقال للجندي وهو يترنَّح: ماذا تفعل؟
لم يرد الجندي على سؤاله، وبدأ في عمَلِ حفرةٍ صغيرة، ثمَّ وضَعَ مفرشًا بلاستيكيًّا فوق التراب، كانت تلك هي الحفرة الثالثة التي قام بحفْرِها، وشاهَدَ «ك» بعض كوماتٍ من الرمل الملفوف في مفارشَ بلاستيكيةٍ بجوار آخرين، فسأل مرةً ثانية: ماذا تفعل؟
ارتبك «ك» من منظر الجندي الغريب وهو يُقلِّب التربة بطريقةٍ عشوائية؛ فقال له: دَعني أفعل ذلك بدلًا منك؛ فأنا مُعتادٌ على هذا العمل.
أزاحَهُ الجندي جانبًا، وراح يُواصِل عمله في عملِ الحفرة الثالثة، ثمَّ سار ثماني خطواتٍ وفرَدَ مفرشًا آخر من البلاستيك. وبينما كان يحفر بالمِجرفة في الأرض؛ جلَسَ «ك» القرفصاء وراح يُغطِّي الأعشاب بيدَيه، وقال: أرجوك يا صديقي.
انتصَبَ الجندي واقفًا وهو غاضبٌ بشِدَّة، وقام شخصٌ ما بسحب «ك» من قفاه، فقال الجندي: دَعْه يبتعد عن طريقي.
وقَفَ «ك» بجوار المِضخَّة، وراح يُراقب ما يحدث، وعندما حفَرَ خمس حفرات؛ بسَطَ الجندي حبلًا طويلًا أبيض لتحديد المساحة، ثمَّ أحضَرَ اثنان من زملائه صندوقًا من الشاحنة ووضعوا فيه الألغام. وبينما كانوا يضعون كلَّ لغمٍ على حِدَة في الصندوق؛ بدأ الجندي الأول في غرْسِ الحشائش، ثمَّ ملأ كِفَّة يدَيه بالتراب، وراح يرشُّ فوق الأرض، ويضغط على التراب؛ لتسوية السطح. وراح أخيرًا يُزيل البصمات بالمكنسة اليدوية، ثمَّ عاد للخلف زاحفًا على يدَيه وركبتَيه.
قال شخصٌ ما من خلف «ك»: ابتعدْ عن الطريق، اذهبْ وانتظرْ عند الشاحنة.
كان ذلك الشخص هو الضابط، واستطاع «ك» أن يسمع تعليماته وهو يُضيف: اربط اثنَين في العامود وضع الآخرَ تحت الرصيف، وعندما تبدءون في التحرك فإنَّني أريد أن تأخذوا كل شيء.
قاموا بربط كلِّ شيء ووَضْعه فوق الشاحنة، وكانوا على وشك الرحيل. كان «ك» فوق الشاحنة وسط الجنود عندما أشار شخصٌ ما إلى كومةٍ من قَرْع العسل كانوا قد تركوها بجانب الحقل، فصاح الضابط من داخل السيارة الجيب قائلًا: فَلْتأتوا بتلك الكومة وتضعوها في الشاحنة.
نزلوا من الشاحنة ثمَّ صعدوا مرةً ثانية مُحمَّلين بقَرْع العسل، انطلقت الشاحنة عبْرَ الطريق المليء بالوحل خلْفَ السيارة الجيب، وأمسَكَ «ك» بالشريط المربوط فوق رأسه وشعَرَ بالجنود المجاورين له وهم يُحاولون تثبيت أجسادهم خوفًا من مُلامسته. هبَّت الرياح، وامتلأ الجوُّ بالرمال؛ فلم يعُدْ «ك» قادرًا على الرؤية.
مال بجسده، واقترب من الجندي الشاب حتَّى أصبح في مواجهته، ثمَّ قال له: هل تعرف أنَّ صبيًّا يختبئ في ذلك البيت؟
لم يفهم الجندي؛ فاضطر «ك» أن يُعيد السؤال، فقال أحدهم: ماذا يقول؟
أجابه الجندي الشاب: إنَّه يقول إنَّ صبيًّا يختبئ في البيت.
– أخبرْهُ أنَّه ميتٌ الآن، قل له إنَّه في الجنة.
وصلوا بعد لحظاتٍ إلى طريق جانبي، وبدأت الشاحنة في الانطلاق بسرعةٍ أكبر، وكان الجنود في حالةٍ من الاسترخاء حين لاح في الأفق الطريق الطويل المستقيم المؤدِّي إلى مُقاطَعة الأمير ألبرت.