الفصل الثالث
شعَرَ «مايكل ك» بضَعفٍ في ركبتَيه بعد رحلةٍ طويلة من المشي، فتَحَ عينَيه بصعوبة في ضوء الصباح المُشرق، وجلَسَ فوق مقعدٍ بجوار ملعب الجولف الصغير في اﻟ «سي بوينت» مواجِهًا للبحر؛ طلبًا للراحة، ومن أجل استعادة قواه. كان الجوُّ هادئًا واستطاع أن يسمع صوت الموج فوق الصخور وهمسات المياه المرتدة. تبوَّل أحد الكلاب تحت قدمَيه وراح يتشمَّم قدمَيه، بينما كانت تمرُّ من أمامه ثلاثُ فتيات يرتدين الشورتَ القصير والملابس الداخلية فقط وكنَّ يجرينَ جنبًا إلى جنبٍ وهنَّ يتبادلن الحديث. انتشرتْ رائحةٌ جذَّابة بعد مرور الفتيات، وكان من اليسير سماعُ صوتِ جَرَسِ بائعِ الآيس كريم قادمًا من الطريق المؤدِّي إلى الشاطئ. اقترب الصوت في البداية، ثمَّ تراجع، وعندئذٍ تنهَّد «ك»، ثمَّ مال برأسه جانبًا، ولم يكُنْ يعرف ما إذا كان قد نام أم لا؟ لكنَّه حين فتَحَ عينَيه شعَرَ أنَّه في حالةٍ جيدة تسمح له بمواصلة السَّير.
كانت النوافذ الموازية لطريق الشاطئ مُغلَقةً، وكانت السيارات نَفْسها موجودةً في أماكن الانتظار نَفْسها، غير أنَّها اكتست الآن بمزيدٍ من الصَّدَأ، وكانت العَجَلات مُهترئةً ومحترقةً ومقلوبةً على جوانبها بجوار سُور الشاطئ. مضى في طريقه عبْرَ المتنزَّه، وكان مُدرِكًا لِعُرْيه داخل بدلة العمل الزرقاء، وأنَّه الوحيد من كلِّ المُتشرِّدين الذي لا يرتدي حذاءً، لكنَّ ذلك لم يكُنْ لافتًا للنظر؛ لأنَّ وجهه هو الذي كان يلفت الانتباه أولًا وليس قدمَيه.
تسلَّقَ صبيٌّ صغير قضبانَ الجهاز الأَسوَد بصعوبة بحذائه وكفَّيْه المُلطَّختَين بالسُّخام، ثمَّ مضى في طريقه فوق الأعشاب الخضراء وعَبَر الطريق تحت أشعة الشمس حتَّى وصَلَ إلى مدخل صالة «كوت دا أزور» المُظلِم حيث هدَأَ قليلًا، ثمَّ زحَفَ على كعبَيه بمحاذاة الجِدار وراح يُفكِّر ويقول: كلُّ شيء على ما يُرام، سوف يأخذني الناس للتسوُّل.
تذكَّر قَلَنسُوَته التي فقَدَها، والتي كان ينبغي عليه أن يضَعَها بجواره ليضَعَ الناس فيها الصَّدَقَات؛ حتَّى تكتمل الصورة.
جلَسَ أمام الباب عدَّة ساعات دون أن يأتي أحد، ولم يشَأْ أن ينهض ويُجرِّب الدخول؛ لأنَّه لم يكُنْ يعرف ما يتوجَّب عليه القيام به. وفي منتصف النهار، وبعدما شعَرَ بالبرودة تتسلَّل إلى عِظامه؛ ترَكَ المَبنى مرةً أخرى، وذهَبَ إلى الشاطئ ونام بعُمقٍ تحت الشمس الدافئة وفوق الرِّمال البيضاء.
شعَرَ بالعطش وانتابتْه حالةٌ من الارتباك حين استيقظ، وكان جسده تحت بدلة العمل الزرقاء مُتَّشيئًا بالعَرَق، اكتشَفَ دورةً عموميةً عند الشاطئ، لكنَّ الصنابير لم تكُنْ تعمل، وكانت أحواض المراحيض مليئةً بالتُّراب.
كان «ك» واقفًا عند الحوض وهو يُفكِّر فيما سيفعله بعد ذلك حين شاهَدَ في المرآة ثلاثةَ أشخاصٍ يدخلون خلْفَه. كانت من بينهم امرأةٌ ترتدي فستانًا أبيضَ ضيِّق، وتضع باروكة شقراء فوق رأسها، وتحمل زوجًا من الأحذية ذات لونٍ فضيٍّ وكَعبٍ عالٍ. أمَّا الآخران فكانا رَجلَين. توجَّه الرَّجُل الأطول مباشرةً ناحية «ك» وأمسَكَ بذراعه وقال: أتمنَّى أن تكون قد انتهيتَ من مهمَّتك هنا؛ لأنَّ هذا المكان مُغلَق.
ثم قام بإخراجه إلى حيث ضوء الشاطئ المتلألئ، وصفَعَه فوق وجهه وأضاف: هناك كثيرٌ من الأماكن التي يمكنك الذهاب إليها.
جلَسَ «ك» فوق الرمال، وكان الرَّجُل الطويل يرتدي قبَّعةً مائلة إلى أحد جانبي رأسه، ويقف بجوار باب دورة المياه ولا يتوقَّف عن مراقبته.
كان بعض السبَّاحين يتجوَّلون بمحاذاة الشاطئ خارج المياه، لكن امرأة واحدة كانت تقِفُ فوق الأمواج الضَّحلة بعد أن رفعتْ تنُّورتَها إلى أعلى وباعدتْ بين قدمَيها، كانت تُؤرجِح الطفل الرضيع بين ذراعَيها إلى اليمين وإلى اليسار، لكنَّه كان يصرُخ، وكانت صرخاته مزيجًا من الخوف والسعادة في آنٍ واحد.
أشار الرَّجُل الواقف عند المدخل إلى المرأة الواقفة في الماء وقال: هذه أختي وتلك أيضًا أختي، لديَّ كثيرٌ من الأخوات؛ نحن عائلةٌ كبيرة.
شعَرَ «ك» برعشة في رأسه، وتمنَّى لو أنَّه كان يمتلك قبَّعةً أو قَلَنسُوة ثمَّ أغلَقَ عينَيه.
خرَجَ الرَّجُل الآخر من دورة المياه، وسارَعَ بالذهاب إلى ساحة التنزُّه، ولم يقُلْ شيئًا.
كانت أشعة الشمس تُلامس سطحَ مياه البحر الخالي من الناس، وعندئذٍ فكَّر «ك» قائلًا: سأنتظر حتَّى تُصبح الرِّمال باردة، ثمَّ سأُفكِّر في الذهاب إلى مكانٍ آخر.
وقَفَ الرَّجُل الطويل بجواره، وراح يضربه في ضلوعه ضرباتٍ خفيفةً بطرف حذائه، وكانت أختاه تقفان خلْفَه، وواحدةٌ منهما تربط طفلها فوق ظَهْرها والأخرى تحمل الباروكة والحذاء في يدَيها وتسير عارية الرأس. اكتشَفَ الرَّجُل الطويل فتحةً في جانب بدلة العمل التي يرتديها «ك»، ففتحها بإصبع قَدَمه، وكشَفَ عن فخذ «ك» العاري، ثمَّ قال مُخاطبًا الرَّجُل الغريب الآخر والسيدتَين: انظروا لهذا الرَّجُل، إنَّه عارٍ.
ضحِكُوا وهم يُردِّدُون: رَجلٌ عارٍ، رَجلٌ عارٍ.
ضرَبَ «ك» في ضلوعه مرةً ثانية وقال: متى تناولتَ الطعام آخر مرةٍ يا رَجُل؟
ثمَّ خاطَبَ مَن معه مُستطرِدًا: فلْنُقدِّم له شيئًا يُساعده على البقاء حيًّا.
أخرجت الأخت التي تحمل الطفل الرضيع زجاجةً من النبيذ من داخل حقيبتها، كانت ملفوفةً في ورَقَة بُنيَّة اللون؛ فجلس «ك» وراح يشرب منها.
قال الرَّجُل الغريب: من أين أنت إذن؟
أشار بإصبعه الطويل إلى بدلة العمل التي يرتديها «ك» وأضاف: هل تعمل لصالح أولئك الناس؟
أوشك «ك» على الإجابة على أسئلته، لكنَّ مَعِدته تقلَّصتْ فجأةً، ثمَّ تقيَّأ ما شرِبَه من النبيذ فوق الأرض وشعَرَ بالعالَم يدور من حوله فأغلَقَ عينَيه.
قال الرَّجُل الغريب وهو يضحك ويربِّتُ بيده فوق كتف «ك»: هاي، ذلك ما يحدث حين يشرب المرء وتكون مَعِدته خاوية، دَعْني أخبرك أنَّني حين رأيتُك للوهلة الأولى قلتُ لنفسي: إنَّ ذلك الرَّجُل يُعاني من سوء التغذية، وإنَّه في حاجةٍ ماسةٍ وضروريةٍ لوجبةٍ كبيرة.
ساعَدَ «ك» على الوقوف وقال: تعالَ معنا لنُقدِّم لك شيئًا لا يجعلك نحيفًا بشِدَّة هكذا.
سارا معًا عبْرَ ساحة التنزُّه حتَّى وقَفَا تحت مظلة أحد مواقف الحافلات، وعندئذٍ أخرَجَ الرَّجُل الغريب قطعةً من الخبز من داخل حقيبته وعلبةً من اللبن المُجفَّف، ثمَّ ظهَرَ من مكان بارز في جيبه شيءٌ أَسوَدُ نحيل سارَعَ برَفْعه في وجه «ك». ضغَطَ على شيءٍ ما فتحوَّل ذلك الشيء الأَسوَد إلى سِكين، وراح يعرضه على الجميع وهو يصفر بدهشة، ثمَّ بدأ في إطلاق الضحكات وهو يضرب ركبتَيه ببعضهما البعض ويُشير إلى «ك» في اللحظة نَفْسها التي فتَحَ فيها الطفل الرضيع عينَيه عن آخرهما وهو جالسٌ فوق كتف أمِّه، وراح يضحك أيضًا ويضرب الهواء بقبضة يده.
قطَعَ الغريب شريحةً كبيرة من الخبز، ورشَّ فوقها اللَّبن المُكثَّف على شكلِ دوائر، ثمَّ قدَّمها إلى «ك» الذي سارَعَ بالْتهامها أمام الجميع.
عبروا الممشى، وأبصر «ك» صنبورًا تقطر منه المياه؛ فانفصَلَ عنهم، وراح يشرب من الصنبور بِنَهَم، وكأنَّه كان يشرب للمرة الأولى في حياته. انسحَبَ عند نهاية الممشى بعدما شعَرَ بالتعب فجلَسَ القرفصاء، ثمَّ عاوَدَه الإحساس بالدُّوار حتَّى إنَّه استغرَقَ وقتًا طويلًا في الإمساك بأكمام بدلة العمل.
غادروا المنطقة السكنية وبدءوا في تسلُّق مُنحدَرات التلِّ المنخفضة، وكان «ك» في مؤخرة المجموعة فتوقَّفَ لحظة لالتقاط أنفاسه، ثمَّ توقَّفتْ بعده الأخت التي تحمل الرضيع، وقالت وهي تُشير إلى الطفل الرضيع وتبتسم: ثقيل!
عرَضَ «ك» عليها أن يحمل حقيبتها نيابةً عنها، لكنَّها رفضتْ وقالت: إنَّها لا تشكل عبئًا، إنَّها لا شيء، وأنا معتادةٌ على ذلك.
عَبَروا من خلال فتحةٍ في السُّور، تلك الفتحة التي تُشير إلى حدود الغابة. كان الغريب والأخت الأخرى يسيران في المقدمة عبْرَ مسارٍ مُتعرِّج مؤدٍّ إلى التلِّ، ومن تحتهما بدأتْ أضواء اﻟ «سي بوينت» في الظهور، وكانت ألوان البحر والسماء القِرمِزية تملأ الأفق.
وقَفَا تحت مجموعةِ أشجارٍ من الصَّنَوبَر، واختفت الأخت ذات الرداء الأبيض في العَتَمة، ثمَّ ما لبثتْ أن عادتْ بعد دقائقَ قليلةٍ وهي ترتدي الجينز وتحمل كِيسَين منتفخَين من البلاستيك. فتحت الأخت الأخرى قميصها وعرضتْ عليها إرضاع الطفل؛ فارتبَكَ «ك»، ولم يعرف الاتجاه الذي يجب أن ينظُر إليه. وفي تلك الأثناء فرَشَ الرَّجُل بطانيةً فوق الأرض، ثمَّ أشعَلَ شمعةً وقام بلَصْقها فوق وعاءٍ صفيحي، وبعد ذلك أخرَجَ طعام العَشاء المُكوَّن من رغيف خبز، ولَبَن مُجفَّف، وبعض من السُّجُق، وثلاث حبَّات من الموز. ثمَّ أزاح السُّجُق باتجاه «ك» وقال: من أجل هذا أنت تدفع المال.
فتَحَ غطاءَ زجاجة النبيذ بعد ذلك، ثمَّ مرَّرها على الجميع. تناوَلَ «ك» جرعةً كبيرة وعاد لتناول جرعةٍ أخرى، وقال للرجل مُتسائلًا: هل لديك ماء؟
هزَّ الرجل رأسه وأجاب: لدينا نبيذ.
وأشار إلى المرأة التي تحمل الطفل واستطرد قائلًا: ولدينا نوعان من اللبن، لكنَّنا لا نملك الماء يا صديقي، وأنا آسف لعدم وجود ماءٍ في هذا المكان، لكنَّني أعِدُك بأنَّ غدًا سيكون يومًا جديدًا وأنَّك ستمتلك كلَّ شيءٍ تريده وسوف تصنع من نَفْسك رجُلًا جديدًا.
لعِبَ النبيذ برأس «ك» فشعَرَ بدُوارٍ شديد بعدما تناوَلَ قطعةً من الخبز باللبن المُجفَّف ونصف موزة، لكنَّه رفَضَ تناوُلَ السُّجُق.
استفاض الغريب في الحديث عن اﻟ «سي بوينت» حتَّى قال: هل تعتقد أنَّه أمرٌ غريب أن ننام فوق الجبال كالمُتشرِّدين؟ نحن لسنا متشرِّدين، ونحن نمتلك الطعام، ولدينا المال، ونصنع حياتنا بطريقتنا الخاصة. هل تعلم المكان الذي اعتدنا العيش فيه؟ كنَّا نعيش في «تلي مستر تريفيلر».
قالت الأخت التي ترتدي الجينز: «نورماندي».
ثمَّ استطرد الغريب قائلًا: جئنا إلى هنا بعد أن أعيانا التعب، وهذا هو مُنتجَعُنا الصيفي؛ حيث نأتي إلى التنزُّه.
ضحِكَ وأضاف: وهل تعرف أين كنَّا نعيش قبل ذلك؟
أشار إلى الأخت وقال لها: قولي له عن المكان الذي كنَّا نعيش فيه.
قالت الأخت: «كليبرز».
– وهكذا يُمكنك أن تُدرِك مدى سهولة أن تعيش في اﻟ «سي بوينت» إذا أدركتَ الطريق. والآن أَخبرْني من أين جئتَ ومن أيِّ بلدٍ أنت؟ أنا لمْ أشاهدْكَ من قبل.
أدرَكَ «ك» أنَّ دوره قد حان للحديث فقال: لقد أمضيتُ ثلاثة أشهُرٍ في مُعسكَر «كينيلورث» ولم أُغادرْهُ إلَّا بالأمس فقط. كنت أعمل بستانيًّا منذ زمنٍ بعيد، إلى أن وجدتُ نَفْسي مضطرًا إلى تركِ العمل واصطحاب أمي إلى الريف؛ حفاظًا على صحتها. كانت أمي تعمل في اﻟ «سي بوينت»، وكان لديها حُجْرة هنا، مررنا عليها أثناء سيرنا في الطريق.
شعَرَ بألمٍ في مَعِدته، لكنَّه حاوَلَ جاهدًا السيطرة على آلامه واستطرد قائلًا: لقد ماتتْ في «ستيلينبوش» فدارتْ بي الدنيا، ثمَّ عُدتُ للاستقرار من جديد.
كان مُدرِكًا للمرأة التي تحمل الطفل وهي تهمس للرَّجُل؛ فتوقَّفَ لحظةً قصيرة، ثمَّ أضاف: لم أجِدْ دائمًا الطعام اللازم لبقائي على قيد الحياة.
ظهرت امرأةٌ أخرى وسط ضوء الشمعة المُتردِّد، وبدا أنَّه متأثِّر بمشاهدة الأختَين وهما تُشيران إلى بعضهما البعض وتتبادلان الهمسات، فأصابه الإحباط؛ لإدراكه أنَّ قصته لا تتعدَّى كونها حكايةً تافهة، وأنَّها لا تستحقُّ الحكي. عاوَدَه إحساسه الدائم بالعجز الذي لم يستطع يومًا أن يتغلَّبَ عليه، وعرَفَ أنَّه لا يُجيد فنَّ الحكي، ولا يُتقن شدَّ الانتباه.
تخلَّصَ من حالة الغثيان التي أصابتْه، لكنَّ جسده كان مُتصبِّبًا بالعَرَق؛ فشعَرَ بالبرد، وبدأ يرتعش، ثمَّ أغلَقَ عينَيه.
قال الرجل الغريب وهو يلكز «ك» فوق ركبته: أرى أنَّك نائم؛ لقد حان وقت النوم. غدًا ستكون رَجلًا آخر، وسوف ترى.
وضَعَ يده فوق ركبة «ك» مرةً أخرى واستطرد قائلًا: أنت على ما يُرام يا صديقي.
صنَعَا لنَفْسَيهما سريرًا من أوراق الصَّنَوبَر، بينما أخرج الآخرون ملابسهم من الحقائب والأكياس وفرشوها على الأرض، وكان معهم غِطاءٌ من البلاستيك السميك، لم يتردَّدوا في تقديمه إلى «ك» كي يلفَّ نَفْسه به. وضَعَ نَفْسه داخل الغطاء البلاستيكي؛ فتصبَّبَ جسده بالعَرَق، وأصابه الارتعاش، وشعَرَ بآلامٍ في أذنَيه. استسلم للنوم في النهاية، لكنَّ نومه كان مُتقطِّعًا، وكانت إحدى المرَّات التي استيقَظَ فيها عندما عَبَر من فوقه ذلك الرَّجُل الذي ما زال لا يعرف اسمه وحجب عنه مشهد النجوم وقمم الأشجار؛ فقال لنَفْسه: يجب أن أتكلَّم قبل فوات الأوان.
لكنَّه لم يفعل.
يدٌ غريبة لامستْ حنجرته برفقٍ، وراحتْ تتحسَّس أزرار جيب بدلة العمل الفوقية. برَزَ كِيسُ البُذور بوضوحٍ من جيب البدلة؛ فلم يستطع «ك» أن يتظاهر بالنوم، وراح يتأوَّه ويتقلَّب في رقدته، ثمَّ انسحَبَ صاحبُ اليد الغريبة، واختفي في الظلام.
أمضى «ك» بقيَّة الليل مُتطلِّعًا إلى القمر وهو يعبر السماء من خلال أغصان الأشجار، ثمَّ بدأ عند الفجر في الخروج من الغطاء البلاستيكي وذهَبَ حيث يرقد الآخرون. كان الرَّجُل نائمًا بجوار المرأة صاحبة الطفل، وكان الطفل مستيقظًا وهو يُداعب أزرار قميص أمه. رمَقَ الطفل «ك» بنظراتٍ واثقةٍ وخاليةٍ من الخوف.
هزَّ «ك» الرَّجُل في كتفه وقال له بصوتٍ خفيضٍ كي لا يستيقظ الآخرون: هل لي أن أستعيد كِيسي؟
لم يَقُل الرجل شيئًا، لكنَّه تنحنح، وأصدر صوتًا كالشخير، ثمَّ انقلَبَ على جانبه الآخر.
عثر «ك» على الكِيس على بُعد يارداتٍ قليلة، وبالبحث جاثمًا على يدَيه وركبتَيه استطاع أن يستردَّ نصفَ البذور المُبعثَرة، فربطها في بِنطاله، وترَكَ الباقي قائلًا لنَفْسه: من المُؤسِف ألَّا ينبتُ شيءٌ بجوار شجرة الصَّنَوبَر.
مضى بعد ذلك في طريقه عبْرَ مسار الطريق المُتعرِّج، ومرَّ في الصباح المُبكر بالشوارع الفارغة حتَّى وصَلَ إلى الشاطئ. كانت الشمس لا تزال قابعةً خلْفَ التلِّ، وكانت الرمال باردةً؛ فمضى في سَيره بين الصخور، وراح يرقب المدَّ والجزر؛ فشاهَدَ القواقع وشقائق النُّعمان، تأمَّل القواقع وقال: إنَّها تعيش حياتها الخاصة.
شعَرَ بتعبٍ بعد طولِ تأمُّل، فعبَرَ طريق الشاطئ حتَّى وصَلَ إلى باب بيت أمِّه؛ حيث جلَسَ لمدَّة ساعةٍ كاملة مستندًا إلى جدار الباب في انتظار ظهور مَن يعيش خلْفَ الباب. عاد إلى الشاطئ، ورقَدَ فوق الرمال وهو يستمع إلى دقَّات أذنه، وكان صوتُ الدم يجري في عروقه، والأفكار تتسارع في رأسه، وانتابه شعورُ أنَّ شيئًا ما بداخله على وشك التلاشي، شيئًا ما لم يستطع إدراكه، لكنَّه شعَرَ أيضًا أنَّ ما كان يجِدُه صعبًا في السابق قد أصبح يسيرًا، وبدا أنَّ الشعور الأول والثاني قد امتزجا معًا.
كانت الشمس تحتلُّ قمَّة السماء، ولم يكُنْ يعرف عدد الساعات التي مرَّتْ؛ ففكَّر قائلًا: لا بد أنَّني نَعْسان! وربما أكون أسوأ من ذلك، قد أكون مفقودًا أو غائبًا عن الوعي، وربما أيضًا أكون غير موجود.
لم يعُدْ وحيدًا عند الشاطئ، فعلى بُعد خطواتٍ قليلة منه كانتْ فتاتان ترتديان البكِيني راقدتَين في استرخاء، وهما تَنعَمان بحمَّام الشمس وتَضعان القبعات فوق وجهيهما، كما كان بعض الناس الآخرين منتشرين على طول الشاطئ.
ارتبَكَ «ك» من شدَّة الحرارة؛ فتعثَّر في طريقه أثناء الذهاب إلى دورة المياه العمومية. كانت المياه لا تزال مقطوعة، فسحب ذراعَيه خارج البدلة، وقام بتعرية نَفْسه حتَّى الخَصْر، ثمَّ جلَسَ مُقرفِصًا فوق كومةٍ من الرمال في محاولة للخلاص من فَضَلاته.
كان لا يزال جالسًا في موضعه حين دخَلَ الرَّجُل الطويل بصُحبة رَجلٍ آخر، فحاوَلَ أن ينهض ويُغادر المكان، لكنَّ الرَّجُل احتضَنَه وقال: صديقي مستر تريفيلر، كم أنا سعيدٌ لرؤيتك، لماذا تركتَنا مُبكِّرًا في الصباح؟ ألَمْ أُخبرك أنَّ اليوم سيكون يومَكَ الكبير؟
أخرَجَ من جيب سُترته زجاجةً من البراندي واستطرد قائلًا: انظرْ ما أحضرتُه لك.
تعجَّبَ «ك» لاحتفاظ الرَّجُل بأناقته ونظافته رغم أنَّه يعيش في الجبال، ثمَّ واصَلَ الرَّجُل حديثه قائلًا: سنُقيم حفلًا الليلة.
ثمَّ أضاف هامسًا: وستلتقي بكثيرٍ من الناس.
تناوَلَ جرعةً من البراندي، ثمَّ ناوَلَ «ك» الزجاجة. سارع «ك» باحتساء جرعةٍ كبيرة؛ فشعَرَ بالتراخي، وأُصيبَ رأسُه بالخدر، وراح يسبح في دوَّامة من الدُّوار.
سمِعَ بعض الهمسات من حوله، ثمَّ فكَّ شخصٌ ما آخر أزرار البدلة، ودفع يده بهدوء إلى داخل جسده، وحين فتَحَ «ك» عينَيه اكتشَفَ أنَّها امرأة. كانت المرأة راكعةً إلى جواره وتُداعب بيدَها عضوه الذكرى. دفع يدها بعيدًا، وحاول تحريك قدمَيه لكنَّ الرَّجُل قال: لا عليك يا صديقي، هذه هي اﻟ «سي بوينت»، وهذا هو اليوم الذي تحدُث فيه كلُّ الأشياء الممتعة. عليك بالاسترخاء، واستمتعْ بوقتك. وضَعَ الرَّجُل زجاجةَ البراندي فوق الرِّمال بجوار «ك» ثمَّ رَحَل.
سأل «ك» المرأةَ قائلًا: مَن أخوكِ؟ وما اسمه؟
أجابت المرأة: اسمه ديسمبر.
كانت هي المرة الأولى التي تبادَلَ معها الحديث، ولم يكُنْ مُتأكِّدًا أنَّه سمِعَها بطريقةٍ صحيحة، ثمَّ أضافت المرأة قائلةً: ذلك هو اسمه الرسمي كما هو مُدوَّن في البطاقة، وغدًا قد يكون له اسمٌ آخر وبطاقةٌ أخرى للتمويه على الشُّرطة.
انحنتْ فوقه، وهي تلتهمه حاوَلَ دفْعَها بعيدًا بيدَيه، لكنَّ أصابعه توقَّفتْ عند شعْرِ الباروكة الخشن، فاستسلم لحالة الدُّوار التي أصابتْ رأسه ولذلك الإحساس الغريب.
كانت المرأة أصغَرَ ممَّا تبدو عليه، وكانت لا تزال راقدةً فوق كومةٍ من الرِّمال بجواره مُمسِكة به وكانت شفتاها مُبلَّلتَين.
قال لها وهو يفكِّر في الرَّجُل الذي ينتظر بالخارج: هل هو حقًّا أخوكِ؟
ابتسمتْ واستندتْ إلى كُوعها وراحتْ تُقبِّله بحرارة.
بعد الانتهاء من المضاجعة شعَرَ بضرورةِ أن يقول شيئًا من أجله ومن أجلها، غير أنَّه الآن عاجِزٌ تمامًا عن التعبير، وقد بدأت الكلمات في الهرب منه، فقَدَ حالةَ السَّلام التي انتابتْه بعد احتساء البراندي؛ فتناوَلَ الزجاجة وشرب منها، ثمَّ ناوَلَها للمرأة.
لاحتْ في الأفق بعض الأشكال، ففتَحَ عينَيه وشاهَدَ الفتاة وهي ترتدي حذاءها، وكان الرَّجُل واقفًا بجوارها، وقال بصوتٍ كأنَّه قادمٌ من بعيد: عليك أن تنام يا صديقي؛ لأنَّني سأعود في الليل وأصحبك معي للذهاب إلى الحفلة، أعِدُك بذلك، سيكون الحفل عامرًا بالطعام وسترى بنَفْسك نوعَ الحياة في اﻟ «سي بوينت».
اعتقَدَ «ك» أنَّه رحَلَ مع المرأة، لكنَّ الرَّجُل سرعان ما عاد وانحنى فوقه وهمس في أذنه بالكلمات الأخيرة: من الصعب أن تكون طيِّبًا مع شخصٍ لا يُريد شيئًا، ولا يجب أن تخشى من قول ما تُريد؛ لأنَّك إذا قلتَ ما تريد فسوف تحصل عليه. تلك هي نصيحتي لك يا صديقي النحيل.
ربَّت فوق كتف «ك» ومضى.
أصبح بمفرده أخيرًا وكان يرتعش من البرد، شعَرَ بجفافٍ في حلْقِه وكانتْ قصته مع المرأة تحتلُّ زاويةً كبيرة في رأسه. ربَطَ أزرار بدلته وخرَجَ من دورة المياه قاصدًا الشاطئ؛ حيث كانت الشمس في طريقها للغروب، وكانت الفتيات اللاتي يرتدين البكِيني يُجهِّزنَ أنْفُسَهنَّ للرحيل. مضى في طريقه نحو الشاطئ، لكنَّه اكتشَفَ أنَّ السَّير فوق الرِّمال الآن قد أصبح أكثر صعوبةً ممَّا كان، ففَقَدَ اتِّزانه أثناء السَّير وانقلَبَ على جانبه. سمِعَ رنينَ جرَسِ بائعِ الآيس كريم؛ فحاول الإسراع للَّحاق به، لكنَّه تذكَّرَ فجأةً أنَّه لا يملك مالًا، وفي لحظةٍ خاطفةٍ أدرَكَ أنَّه مريضٌ، ولم يعُدْ قادرًا على التحكُّم في درجة حرارته. كان جسده باردًا وساخنًا في آنٍ واحد — إذا كان ذلك أمرًا ممكنًا. سقَطَ مغشيًّا عليه، وحين وقَفَ مستندًا إلى السِّياج مرَّتْ بجواره فتاتان. لم تتوقَّف الفتاتان عن التحديق فيه كما لم يتوقَّف هو عن النظر إليهما، وقد ساورتْه رغبةٌ عارمة في أن يشقَّ بأصابعه جسَدَ الفتاتَين الطريَّ.
أغلَقَ عينَيه وهو يشرب من صنبورٍ خلْفَ «ساحل آزور»، ثمَّ راح يُفكِّر في المياه الباردة وهي تسقط من الجبل وتملأ الخزَّان، ثمَّ تمرُّ عبْرَ الأنابيب تحت الأرض وفي الظلام حتَّى تصِلَ إليه وتروي ظمَأَه. أفرغ ما في مَعِدته وشرِبَ مرةً أخرى، وبدا واضحًا بعد ذلك أنَّه لا يُدرِك ولا يشعُر بوقْعِ أقدامه فوق الأرض. عبَرَ من خلال آخرِ ضوءٍ للنهار إلى الممرِّ المُظلِم، ثمَّ أدار مقبض الباب دون تردُّد.
إنَّها الحُجْرة التي كانت أمُّه تعيش فيها، فوضى كبيرة من قِطَع الأثاث في كلِّ مكان، واستطاع أن يرى من خلال الظلام عشراتٍ من المقاعد المصنوعة من الصُّلب وهي مرصوصةٌ من الأرض حتَّى السقف، وعددًا من مظلات الشاطئ الملفوفة، وبعض الطاولات البيضاء المثقوبة من عند المنتصف. وكانت ثلاثة تماثيل من الجص المُلوَّن ملقاةً بجوار الباب، وتمثالٌ آخر لغزالٍ بعيونٍ بُنيَّة وقزمٌ برتقالي اللون يرتدي سُترةً دون أكمام، وتمثالٌ آخر لمخلوقٍ بأنفِ خنزير يعرفونه باسم «بينوشيو». كان التُّراب الأبيض يُغطِّي كل شيء.
قادتْه الرائحة إلى اكتشاف الرُّكن المُظلِم خلْفَ الباب، وحين تحسَّسَ طريقه عثَرَ على بطانية فوق ورَقٍ من الكرتون المُسطَّح. ارتطمتْ قدماه بزجاجةٍ فارغة فتدحرجت الزجاجة بعيدًا، وكانت رائحة مزيجٍ من النبيذ والسجائر تنبعث من البطانية بالإضافة إلى رائحة عرَقٍ قديم. لفَّ البطانية حوله ورقد، وما إن استقرَّ في رقدته حتَّى بدأتْ دقَّات أذنه تُعاوده من جديد، قال لنَفْسه: ها أنا ذا قد عُدتُ.
انطلقتْ صفَّارة الإنذار الأولى مُعلِنةً عن بدء حظْرِ التَّجْوَال، ولم يستطعْ «ك» أن ينام؛ فقد داهمتْه — رغمًا عنه — ذكرى المرأة وهي تنحني فوقه بشَعْرها الفضي، وتُداعبه في مناطقَ حسَّاسةٍ من جسده، ثمَّ فكَّر قائلًا: لقد أصبحتُ جزءًا من أعمال الخير كما كان يحدُث في كلِّ مكانٍ أذهب إليه؛ حيث كان الناس يُحاولون تقديم الصَّدَقات لي. كلُّ تلك السنوات وما زلتُ أبدو كاليتيم، إنَّهم يُعاملونني مثلما يعاملون الأطفال في «جاكالسدريف» حيث يُقدِّمون لهم الأطعمة؛ لأنَّهم صِغار جدًّا ولا يشعرون بالذنب من أيِّ شيء، ولأنهم لا ينتظرون من الأطفال شيئًا سوى إشارةٍ تُفيد بالشُّكر. لكنَّهم يُريدون مني أنا المزيد، يُريدون سماعَ كلِّ شيءٍ عن المُعسكَرات التي عشتُ فيها، كما لو أنَّني ببَّغاء أو فأرٌ أبيض أو حمار. لو أنَّني كنتُ قد تعلَّمتُ فنَّ الحَكي بدلًا من جمْعِ البطاطس وتقشيرها، لو أنَّهم جعلوني أُمارس فنَّ الحَكي وسرْدِ الكثير من قصَّة حياتي كلَّ يوم وهم واقفون أمامي كأعواد الخيزران إلى أن أنتهي من عَرضِ قصَّتي دون أن أتعثَّر؛ لتعلَّمتُ عندئذٍ كيفية إدخالِ البهجة إلى أنْفُسِهم، وكنتُ أخبرتُهم عن الحياة داخل السُّجون والمُعسكَرات التي كنتُ أرتادها يومًا بعد يوم وسنةً بعد سنة؛ حيث كانت جبهتي تلتصق بالأسلاك الشائكة وأنا أُحدِّق إلى بعيدٍ وأحلُم بحياةٍ لم أختبرْها من قبل. كنتُ سأحكي لهم أيضًا عن الحُرَّاس وعن الأسماء التي كانوا يُسمُّونني بها، وعن اللحظات التي كانوا يضربونني فيها فوق ضلوعي لإجباري على تنظيف الأرضيَّات. أعرف أنَّهم بعد سماع قصتي سيهزُّون رءوسهم، وسوف يغضبون ويتأسَّفون، ثمَّ سيُمدونني بالطعام والشراب. أمَّا النساء فسوف يأخذْنَني إلى مضاجعهنَّ ويداعبْنَني في الظَّلام. في حين أنَّ الحقيقة تتمثَّل في كوني بُستانيًّا؛ نَعَم، لقد عملتُ بُستانيًّا في قِسم البساتين التابع لبَلَديَّة مدينة كيب تاون أولًا، ثمَّ لنَفْسي بعد ذلك. إنَّ أمثالي مِمَّن يعملون في الحدائق والبساتين؛ يُمضون أوقاتهم بوضْعِ أنوفهم في الأرض.
رقَدَ «ك» فوق قطعةٍ من الكرتون، لكنَّه كان قَلِقًا. وقد أثاره ذلك الاكتشاف وتلك الحقيقة المُتمثِّلة في كونه بُستانيًّا؛ فراح يُردِّد مرةً أخرى بصوتٍ عالٍ: أنا بُستاني، ولكن من ناحية أخرى أليس غريبًا أن ينام البُستاني في المراحيض وسط ضرباتِ أمواجِ البحر المتلاحِقة؟
فكَّرَ لحظةً، ثمَّ أضاف مُحدِّثًا نَفْسه: إنَّني مثل دودة الأرض التي تقوم — بطريقةٍ ما — بعمل البُستاني نَفْسه، وربما أكون كالحيوان الذي يأكل الحشرات، إنَّه أيضًا يقوم — بطريقةٍ ما — بعمل البُستاني نَفْسه. كما أنَّه لا يُجيد فنَّ الحكي، ولا يعرف كيفية سرْدِ القصص؛ لأنَّه يحيا في سكونٍ ولا يعرف الكلام، رغم أنَّ كلًّا من ذلك الحيوان ودودة الأرض يعيشان بين شُقوق الأرضيَّات الأسمنتية.
حاوَلَ أن يستريح، فبدأ في تدليك كلِّ أجزاء جسده على حِدَة كما كان يفعل من قبلُ، وقال: أنا على الأقلِّ لستُ ماهرًا، وها قد عُدتُ إلى اﻟ «سي بوينت» مُحمَّلًا بالحكايات والقصص التي تحكي عن ضرْبِهم الدائم لي في المُعسكَرات حتَّى أصبح جسدي نحيلًا وأصبحت رأسي فارغة. كنتُ صامتًا وغبيًّا في البداية، وسأبقى صامتًا وغبيًّا إلى النهاية؛ فلا شيء يدعو للخجل؛ كونَك إنسانًا بسيطًا. إنَّهم يعتقلون البسطاء قبل اعتقال أيِّ شخصٍ آخر، ولديهم الآن مُعسكَرات للأطفال الذين هرَبَ آباؤهم وأمهاتهم، ومعسكرات للبُلَهاء والمَرضى، وأخرى لذوي الرءوس الكبيرة وذوي الرءوس الصغيرة، ومُعسكَرات لأولئك الذين لا يملكون أيَّ نوعٍ من الدعم، وكذلك للمُطارَدين من الأرض، ومُعسكَرات أخرى لأولئك الذين يعيشون على مياه المجاري. لديهم أيضًا مُعسكَرات لفتيات الشوارع وللجهلاء الذين لا يستطيعون حتَّى جَمْع أبسط العمليات الحسابية، ولأولئك الذين فقدوا أوراقهم في مُدُنهم وقُرَاهم، وكذلك لديهم مُعسكَرات للذين يعيشون في الجبال ويقومون بنسْفِ الكباري في الليل. وربما كانت الحقيقة في أنَّ كلَّ تلك المُعسكَرات هي في حدِّ ذاتها سببٌ كافٍ لأن تكون خارجها، خارج كل المُعسكَرات في وقتٍ واحد، وربما يكون ذلك إنجازًا كبيرًا في الوقت الحالي. كم من الناس في تلك المُعسكَرات مِمَّن يُمكن اعتبارهم غيرَ مسجونين ولا هم في الوقت نَفْسه يقفون حُرَّاسًا على البوَّابات؟
لم يَكُن الخطأ الذي ارتكبْتُه هو امتلاكي لكثيرٍ من البُذور ولكوني كنتُ أحتفظ بأكياسِ البُذور في كلِّ جیوبي: بذور قَرْع العسل، وبذور الكوسة، والفول والجزر والشمندر، وكذلك بذور البصل والطماطم والسبانخ. لم أكُنْ أحتفظ بالبذور في جيوبي فقط وإنَّما في الحذاء وفي بِطانة المِعطَف أيضًا؛ تحسُّبًا لهجمات اللصوص وخوفًا من فقدانها لأيِّ سببٍ كان. لم يكُنْ ذلك هو خطئي، لكن الخطأ الحقيقي هو أنَّني قمتُ بزراعة كلِّ البذور في رقعةٍ واحدة من الأرض، وكان ينبغي زراعتها في مساحات كبيرة من الأرض عبر أميالٍ من الواحة ومعرفة أماكنها حتَّى يتسنَّى لي المرور عليها لريها بالماء، خاصة وأنَّني اكتشفتُ أثناء حياتي في الريف وجود وقتٍ كافٍ لعمل كل شيء.
استطرَدَ وهو يُفكِّر قائلًا: هل تلك هي العِبرة والمَغزى من كلِّ شيء؟ هل وجود وقتٍ كافٍ لعمل كلِّ شيء هو العِبرة المستقاة من الحكاية كلها؟ وهل هكذا تأتي العِبَر من تِلقاء نَفْسها من خلال مسار الأحداث؟
بدأ يُفكَّر في الحقل، وفي المزرعة، وفي أشواك الشجيرات الرَّمادية، وفي التربة الصخرية، وأصوات الرنين القادم من التِّلال، وفي الجبال التي تبدو ألوانها بَنَفسَجية وقرنفلية من بعيد. راح يُفكِّر أيضًا في هدوء السماء الزرقاء الصافية، وفي لون الأرض الرَّمادي والبُنيِّ تحت أشعة الشمس؛ حيث إذا ما نظرتَ بعنايةٍ فإنَّك سترى فجأةً رءوسًا من النباتات الخضراء اليانعة وأوراق قَرْع العسل وأغصان الجَزَر.
لم يبدُ مستحيلًا، مَهمَا كان ذلك الرَّجُل الذي تجاهَلَ حظْرَ التَّجْوَال، أن يأتي وينام في رُكنٍ كَريهِ الرائحة — تخيَّلَ «ك» أنَّه رَجلٌ عجوزٌ نحيل وذو ظَهْر محدودِبٍ، ويحمل زجاجةً في جيبه، ومن نوعية أولئك الناس الذين تتجاهَلُهم الشُّرطة. قد يكون سَئِم الحياة على شواطئ البحر ويُريد أن يَنعَم بإجازةٍ في المدينة إذا استطاع أن يجِدَ مُرشدًا يدلُّه على الشوارع، يُمكنه مشاركة السرير نَفْسه مع ذلك المُرشِد العجوز الليلة كما حدَثَ كثيرًا من قبل. وفي الصباح، ومع أول ضوء للشمس، يُمكنهما الخروج للبحث عن الشواطئ المهجورة في الشوارع الخلفية، وإذا حالَفَهما الحَظُّ فإنَّهما سيصلان إلى الطريق السريع في العاشرة، ويُمكنهما الوقوف لشراء البُذور وشيءٍ آخر أو شيئَين على أن يتجنَّبوا الطريق المؤدِّي إلى «ستيلينبوش»؛ لِمَا هو معروف عنها بالمكان السيئ الحَظِّ.
وإذا هبَطَ الرَّجُل العجوز من فوق العَرَبة الكارُّو وفرَدَ جسده، ثمَّ نظَرَ إلى مِضخَّة المياه التي فجَّرَها الجنود وسمِعَهم وهم يتذمَّرون بالشكوى لعجزهم في الحصول على المياه؛ فقَدْ يُخْرِج عندئذٍ «مايكل ك» ملعقةً صغيرةً من جيبه ولفَّةً طويلةً من الحبال ويقوم بتنظيف العامود من الحصى، وبعد أن يقوم بثَنْي الملعقة حتَّى تُصبح على شكل دائرة وربْطِها في الحبل؛ سيقوم بإنزالها مع العامود إلى أسفل الأرض، وعندما يقوم برفعها سيجِدُ الملعقة مليئةً بالماء، وعندئذٍ سيقول: يستطيع المرءُ أن يحيا!