عيدُ ميلادٍ لا يُنسى
كان ديفيد قد قضى شهرين فقط في المدرسة عندما عادت ذكرى يوم ميلاده من جديد. وقد خيَّم الضبابٌ على المكان، واكتست الأرضُ بصقيعٍ فِضيٍّ؛ في صباح يوم بارد قارس البرودة من أيام شهر مارس.
وعندما انتهى الفطور واستُدعي الأولاد للدخول من ملعب المدرسة، دخل السيد شارب حجرةَ الدرس وقال: «ديفيد كوبرفيلد مطلوبٌ في الردهة.»
قفز قلبُ ديفيد في صدره. إذ كان يتوقع أن تُرسل له بيجوتي سلة هدايا عيد مولده. وطلب منه الأولاد ألَّا ينساهم عندما تأتي الأشياء الجميلة، لأنهم كانوا يعلمون ما الذي كان يتطلع إليه. وقفز ديفيد من مقعده في الحال.
فقال السيد شارب بنبرةٍ رقيقةٍ غيرِ مُعتادةٍ منه: «لا تتعجل يا ديفيد، فهناك متَّسعٌ من الوقت يا بُني، لا تتعجل.»
لكنَّ ديفيد أسرع بالدخول إلى الردهة، حيث كان السيد كريكل جالسًا على مائدة الإفطار وأمامه العصا وإحدى الجرائد. ولم يرَ ديفيد سلة الهدايا.
قالت السيدة كريكل وقد أخذته إلى أريكةٍ وجلستْ إلى جواره: «ديفيد كوبرفيلد، أُريد أن أكلمك كلامًا خاصًّا جدًّا. إن لديَّ شيئًا أريد أن أُخبرك به يا بُني.»
هزَّ السيد كريكل رأسَه، وسدَّ تنهيدتَه بقطعةٍ كبيرةٍ جدًّا من الخبز المحمص المدهون بالزبد.
قالت السيدة كريكل: «إنك أصغر بكثيرٍ من أن تعلم كيف يتغيَّر العالم كلَّ يوم، وكيف يموت الناس الذين فيه. لكن علينا جميعًا أن نعلم هذا يا ديفيد؛ بعضنا يموت وهو صغير، وبعضنا يموت وهو كبير، وبعضنا يموت في أي وقت من أوقات حياتنا.»
كان ديفيد ينظر إليها بجدية.
قالت السيدة كريكل، بعد فترة صمتٍ قصيرة: «عندما عدتَ من المنزل في نهاية الإجازة، هل كانوا جميعًا على ما يرام؟» ثم بعد فترةِ صمتٍ أخرى قالت: «هل كانت صحةُ والدتك على ما يرام؟»
بدا وكأن غشاوةً قد ظهرت بين ديفيد والسيدة كريكل. وأحسَّ بدموعٍ حارقةٍ في عينيه.
قالت: «لقد كانت مريضةً على نحوٍ خطير.»
فعلم ديفيد ما الذي كان قادمًا.
قالت السيدة كريكل: «ثم ماتت.»
صرخ ديفيد صرخةً حزينةً، وشعر أنه قد أمسى يتيمًا في ذلك العالم الكبير المتسع.
كانت السيدة كريكل طيبةً معه للغاية؛ إذ أبقته في الردهة طوال اليوم، وكانت تتركه بمفرده أحيانًا. ثم نام من فرط ما أرهق نفسه في البكاء، وعندما استيقظ بكى ثانيةً؛ حيث كان يشعر بثقلٍ كئيبٍ على صدره؛ وراح يتصوَّر والدته كما رآها آخر مرة؛ ترفع الرضيع بين ذراعيها أمام البوابة.
تصور ديفيد المنزلَ ساكنًا مُغلَقَ الأبواب والنوافذ؛ وراح يفكر في الرضيع الصغير، الذي قالت السيدةُ كريكل إنه ظلَّ يضعف بعضَ الوقتِ، والذي يعتقدون أنه سيموت هو الآخر؛ كما أخذ يُفكر في العودة إلى المنزل، لأنهم أرسلوا له كي يحضر الجنازة.
وظلَّ ديفيد يتمشَّى في الملعب بعد ظهر ذلك اليوم بينما كان الأولاد الآخرون في المدرسة؛ ولمْ يَقصَّ عليهم شيئًا من القصص في غرفة النوم تلك الليلة، وأصرَّ ترادلز على أن يُعيرَه وسادته، رغم أنه كانت لديه واحدة.
غادر ديفيد مدرسة سِيلم هاوس بعد ظهر اليوم التالي؛ وقد خرج منها خروج مَن لن يعود إليها للأبد؛ لكنه لم يكن يعلم ذلك حينها.
أخذ ديفيد ينظر حوله بعناية في مدينة يارمث بحثًا عن وجه باركس المألوف؛ لكنَّ رجلًا عجوزًا لطيفَ المنظر قصيرَ القامة ذا ملابس سوداء أقبل ينفخ دخان سيجاره في نافذة العربة، وسأله قائلًا: «السيد كوبرفيلد؟»
«نعم يا سيدي.»
قال الرجل وهو يفتح باب العربة: «هلا تتفضل بالمجيء معي يا سيدي الصغير، إذا سمحت، وسأنال شرفَ إيصالك إلى المنزل.»
ورحل معه ديفيد، وهو يتساءل عمَّن عساه يكون، إلى محلٍّ مكتوبٍ عليه «أُومَر، تاجر ملابس وخردوات، خيَّاط، مجهز جنازات … إلخ.»
أخذه السيد أُومَر إلى هناك ليقيس له بدلةً للحِداد، ثم بعد ذلك أخذه إلى قرية بلاندستن.
احتضنته بيجوتي بين ذراعيها قبل أن يصل إلى الباب، وأدخلته إلى المنزل. حيث بكتْ بكاءً مريرًا، وكانت تتكلم في همسٍ، وتسير برفقٍ، وكأنما تخشى أن تُزعج الموتى. وكان الرضيع الصغير قد مات هو الآخر، ووضعوه بين ذراعَي أمه.
لم يُبالِ السيد ميردستون بديفيد عندما دخل إلى الردهة، وإنما ظلَّ جالسًا بجوار المدفأةِ وعيناه محمرَّتان. ناولتْه الآنسةُ ميردستون أظافر أصابعها ليصافحها — حيث كانت منهمكةً للغاية في كتابة بعض الرسائل — وسألتْه بهمسةٍ حديديةٍ إن كان الخياط قد أخذ مقاسه من أجل بدلة الحِداد.
وقد ظلَّت تكتب طوال اليوم، ويبدو أنها كانت تستمتع بصرامتها وقوةِ عقلها؛ كما أنها لم تُرخِ قَطُّ عضلةً واحدةً من عضلات وجهها، ولا لطَّفتْ نبرةَ صوتِها مرةً واحدة.
كان السيد ميردستون يتناول كتابًا بين الحين والآخر ليقرأه، لكنه يظل ساعةً كاملةً من دون أن يقلب منه ورقة، ثم يضعه في مكانه، ويسير في اضطرابٍ ذهابًا وإيابًا.
وفي تلك الأيام السابقة على الجنازة لم يرَ ديفيد بيجوتي إلَّا قليلًا؛ لكنها كانت تأتي إليه دائمًا في المساء وتجلس إلى جوار سريره حتى ينام.
وبعد يوم الجنازة — ذلك اليوم الحزين الذي لمْ ينسَه ديفيد أبدًا — صعِدت معه إلى غرفته الصغيرة، وجلست معه على سريره الصغير، وأخبرته — وهي ممسكةٌ بيده — بكل ما يريد سماعه.
قالت بيجوتي: «لمْ تكن أمُّك في حالةٍ جيدة أبدًا، وطوال فترةٍ كبيرة. كما أظن أنها بدأت تُصبح أكثر تهيُّبًا، وأكثر خوفًا في أيامها الأخيرة؛ إذ إن أيَّ كلمةٍ قاسيةٍ كانت كاللطمة بالنسبة لها. لكنها ظلتْ تعاملني المعاملة نفسها؛ فلم تُغيِّر قط معاملتها لخادمتها الحمقاء بيجوتي، لمْ تفعل فتاتي الجميلة. كانت آخر مرةٍ رأيتُها فيها وهي تُشبه ما كانت عليه قديمًا هي تلك الليلة التي عُدتَ فيها أنت إلى المنزل يا حبيبي. وفي اليوم الذي رحلتَ فيه قالت لي: «لن أرى حبيبي الجميل بعد ذلك أبدًا. شيءٌ ما يُحدِّثني بهذا، إنه يحدِّثني بالحقيقة، أنا متأكدة. فليحفظ الله ولدي اليتيم وليصُنْه».»
قالت بيجوتي: «لم أتركها بعد ذلك قط. إنها كثيرًا ما كانت تتكلم معهما في الطابق السفلي — فقد كانت تحبهما؛ وما كانت تقوى على ألَّا تحبَّ أيَّ أحدٍ قريبٍ منها — لكن عندما كانَا ينصرفان من جانب سريرها، كانت دائمًا تتوجه إليَّ، وكأنما كان هناك راحةٌ حيث توجد بيجوتي، ولم تكن تنام قط بأي طريقةٍ أخرى.
في الليلة الأخيرة قبَّلتني وقالت: «اجعلي ابني العزيز يرافقني إلى قبري، وأخبريه أن أمَّه، بينما ترقد هنا الآن، لا تباركه مرةً واحدةً فقط، وإنما تباركه ألف مرة … بيجوتي، عزيزتي، قربيني منكِ أكثر.» لأنها كانت تشعر بضعفٍ شديد. وقالت: «ضعي ذراعكِ الطيبة تحت رقبتي، ووجهيني إليكِ، فوجهكِ يبتعد جدًّا، وأنا أريده أن يكون قريبًا مني.» فوضعتُها حيث أرادت؛ ويا لَلألم يا ديفي! لقد جاء الوقت الذي سرَّها فيه أن تضع رأسها المسكين فوق ذراع خادمتها الحمقاء بيجوتي؛ ثم ماتت وكأنها طفلةٌ خلدت إلى النوم!»
منذ ذلك الحين لم يعُد ديفيد يتذكرها إلَّا في صورة تلك الأم الصغيرة التي كانت تلفُّ عِقْصاتِ شعرها الزاهية حول أصبعها، وترقص معه ساعة الشفق في ردهة المنزل. لقد عادت أمُّه بموتها هذا إلى شبابها الهادئ الخالي من الهموم، وألغت كل ما سواه.