زِفاف بيجوتي
كان أول ما فعلته الآنسة ميردستون بعد انتهاء يوم الجنازة أن أخطرت بيجوتي بالفصل من عملها بعد شهر. أما بخصوص مستقبل ديفيد، فلم تقل كلمة، ولم تتخذ خُطوة. ذات مرةٍ تجرَّأ وسأل الآنسة ميردستون متى سيرجع إلى المدرسة، فقالت له بأسلوبٍ جافٍّ إنها تعتقد أنه لن يعود إلى المدرسة على الإطلاق.
لا السيد ولا الآنسة ميردستون أرادَا رؤيته في الردهة، لذا كان يقضى الوقت مع بيجوتي؛ ولم يبدُ أن السيد ميردستون كان يكترث لهذا ما دام ديفيد لم يُزعجه.
قالت بيجوتي ذات يوم: «ديفي، لقد سلكتُ، يا عزيزي، كلَّ طريقٍ هداني تفكيري إليه لكي أجد عملًا مُناسبًا هنا في بلاندستن، لكنْ لا وجود لشيءٍ كهذا يا حبيبي.»
«وماذا تنوين أن تفعلي يا بيجوتي؟» هكذا سألها ديفيد بنبرةٍ ملأها الحزنُ والشفقة؛ فقد كانت هي الصديق الوحيد الذي له في الدنيا في هذه اللحظة؛ وقد كان متشبِّثًا بها.
أجابت بيجوتي: «أتوقع أني سأُضطر للذهاب إلى يارمث والعيش هناك.»
قال ديفيد وعلاماتُ الابتهاج تبدو على وجهه: «كان من الممكن أن تبتعدي أكثر من هذا، وتُصبحي في مكانٍ سيئٍ بالنسبةِ لي وكأني فقدتك. سوف أراكِ هناك بين الحين والآخر يا عزيزتي بيجوتي؛ فلن تكوني في الطرف الآخر من الأرض، أليس كذلك؟»
صاحت بيجوتي: «بالعكس، وأرجو أن يساعدني الله! ما دمتَ هنا يا حبيبي، فسآتي كلَّ أسبوعٍ طوال حياتي كي أراك. يومٌ كلَّ أسبوع على مدى حياتي!»
وبعد ذلك أخبرتْه أنها ستذهب إلى بيت أخيها أولًا، إلى أن يتسنى لها الوقتُ للبحث عن وظيفةٍ أخرى حولها. ثم قالت إنه من المحتمل أن يسمحَا لديفيد بالذهاب معها إلى يارمث لبعض الوقت، لأنه يبدو ألَّا أحد منهما يرغب في وجوده في المنزل؛ وفيما بعد تجرَّأت بما فيه الكفاية لاقتراح هذا على الآنسة ميردستون.
قالت الآنسة ميردستون وهي تنظر في برطمان مُخَلل: «سوف يضيع الولدُ وقته في البطالة هناك، لكنه بالطبع سيضيعه في البطالة هنا … أو في أي مكانٍ آخر، في رأيي.» وبعد فترةٍ أضافت: «إن من المهم للغاية ألَّا يُزعِجَ أخي شيءٌ أو يُضايقَه شيء. أظن أنه يجدر بي أن أوافق.»
شكرها ديفيد، دون أن يُظهرَ أيَّ علامةٍ تدل على الفرح، خشيةَ أن يدفعها هذا إلى سحب موافقتها. وعندما انقضى الشهر، رحل هو وبيجوتي في عربة الحمَّال.
كانت بيجوتي بطبيعة الحال في حالةٍ من الحزن لمفارقتها ذلك المكان الذي ظلَّ بيتًا لها على مدى سنواتٍ عديدة. كما أنها زارت مدفن فناء الكنيسة، مبكرًا جدًّا، لذا فقد جلستْ في العربة ومنديلُها على عينيها.
ظلَّ باركس طوال مدة بقائها على هذه الحال ساكنًا سكون الأموات؛ لكنه، عندما بدأت تنظر حولها، راح يَبتسِم لديفيد عدة مرات.
قال ديفيد: «إنه يومٌ جميل يا سيد باركس.»
قال السيد باركس: «ليس سيئًا.»
«لقد هدأت بيجوتي الآن تمامًا يا سيد باركس.»
قال السيد باركس: «حقًّا؟»
بعد تفكيرٍ جديٍّ في الأمر، نظر لها السيد باركس وقال: «هل هدأتِ الآن تمامًا؟»
ضَحِكت بيجوتي وقالت نعم.
قال السيد باركس بهمهمةٍ، وهو ينزلق مقتربًا منها أكثر في المقعد، ويكِزُها بمرفقه في رفق: «لكن أخبريني، حقًّا وبصراحة، هل أنت مرتاحة؟ أخبريني؟ هل حقًّا وبصراحةٍ تشعرين بارتياحٍ كبير؟ حقًّا؟ أخبريني؟» ثم وكزها ثانيةً.
كان السيد باركس لطيفًا للغاية؛ حيث توقَّف لأجلهما أمام إحدى الحانات، واشترى لهما لحم ضأنٍ مسلوقٍ وجعة، وكثيرًا ما عبَّر لبيجوتي أثناء ذلك عن تمنِّيه لها بأن تشعر بارتياحٍ كبير.
كان السيد بيجوتي مع هام ينتظرانهما عند المكان القديم، وحملَا الحقائب على أكتافهما ومضَوا جميعًا، وهنا أشار السيد باركس بسبَّابته لديفيد بجديةٍ.
وقال في همهمةٍ: «أرى أن الأمر قد سار على ما يرام.»
قال ديفيد: «أوه!»
«لم ينتهِ الأمر عند ذلك. لقد سار على ما يُرام.»
قال ديفيد مرةً أخرى: «أوه!»
قال الحمَّال: «أنت تعلم مَن كان راغِبًا، إنه باركس، وباركس فقط.» ثم صافح ديفيد. وقال: «إنني صديقك المُخلِص. أنت من بدأتَ بجعل الأمر يسير على ما يرام. إنه على ما يرام الآن.»
لم يفهم ديفيد شيئًا مما عناه السيد باركس؛ وظل واقفًا يُحدِّق فيه إلى أن نادتْه بيجوتي. وعندئذٍ سألتْه ما الذي كان يقوله له باركس، فأخبرها ديفيد.
قالت بيجوتي: «هذا يليقُ بوقاحته، لكنني لا أكترث لهذا. عزيزي ديفي، ما رأيك لو أنني فكرتُ في الزواج؟»
قال ديفيد: «يا للمفاجأة؛ أظنُّ أنكِ ستُحبينني عندئذٍ بقدر ما تحبينني الآن.»
عانقته بيجوتي في الطريق. ثم سألته عندما سارَا: «قل لي ما رأيُكَ يا عزيزي؟»
«لو أنكِ فكرتِ في الزواج … من السيد باركس يا بيجوتي؟»
قالت بيجوتي: «نعم.»
«أعتقد أنه سيكون شيئًا جيدًا جدًّا. لأنكِ عندئذٍ يا بيجوتي ستجدين الحصان والعربة دائمًا ليُحضرانكِ لزيارتي، وستَستطيعين المجيء دون أن تدفعي شيئًا، وستكونين واثقةً من قدرتكِ على المجيء.»
صاحت بيجوتي: «كم أنتَ ذكيٌّ يا حبيبي! هذا ما ظللتُ أُفكر فيه طوال ذلك الشهر الماضي!» وأضافت أنها ربما ما عادت تصلح للعمل كخادمة عند أحدٍ غريب؛ وتكلَّمت عن رغبتها في أن يكون لها منزلٌ خاصٌّ بها، وألَّا تكون بعيدةً عن قبر ابنتها الحبيبة.
قالت بيجوتي: «إن باركس إنسانٌ بسيطٌ طيب، وإذا ما حاولتُ أن أفعل ما يُتوقع مني وفقًا لما يريده، فأظنُّ أنه سيكون من الخطأ ألَّا … ألَّا أشعر بارتياحٍ كبير.» وراحت تضحك من قلبها.
ضحك ديفيد هو الآخر؛ وظلَّا يتكلَّمان عن السيد باركس إلى أن لاح البيت المركَّب لأعينهما.
كانت السيدة جوميدج تَنتظِر أمام الباب، حيث كلُّ شيءٍ على حاله تمامًا في البيت المركَّب القديم الحبيب، حتى العُشب البَحري الذي في الكوب الأزرق في غرفة النوم. لكن إيميلي الصغيرة لم تكن موجودةً ليراها، وقد سأل ديفيد السيدَ بيجوتي أين هي.
فقال السيد بيجوتي: «إنها في المدرسة يا سيدي.» ثم نظر إلى الساعة الهولندية، وقال: «سوف تعود إلى البيت في ظرف عشرين دقيقةٍ إلى نصف ساعة. إننا جميعًا نفتقدها، بوركتَ.»
أخذت السيدة جوميدج تئنُّ.
قال السيد بيجوتي: «لا تبتئسي أيتها الفتاة.»
قالت السيدة جوميدج: «أنا أفتقدها أكثر من أيِّ أحدٍ آخر، إنني إنسانةٌ بائسةٌ وحيدة، وقد كانت هي الشخصَ الوحيد الذي لا يشاكسني.»
أخفى السيد بيجوتي فمَه بيده وهمس قائلًا: «المرأة العجوز!»
وتوصل ديفيد إلى أن حالتها النفسية كانت سيئةً كالمعتاد.
بعد قليلٍ ظهر شكلٌ بشريٌّ صغيرٌ من بعيد. ثم تبيَّن أنها الصغيرة إيميلي، فذهب ديفيد لاستقبالها. حيث أصبحت قامتُها أكثرَ طولًا، وبدت جميلةً جدًّا لدرجة أن ديفيد شعَرَ فجأةً بالخجل، وتركها تمرُّ وكأنه لم يتعرف عليها.
لم تزد الصغيرةُ إيميلي على أن ضحكتْ وجرتْ متجاوِزةً إيَّاه، وعندئذٍ اضطر ديفيد للجري وراءها كي يلحقَ بها.
قالت الصغيرة إيميلي: «أوه، إنه أنت، أليس كذلك؟»
قال ديفيد: «يا للعجب، أنتِ تعلمين من رأيتِ يا إيميلي، أليس كذلك؟»
قالت إيميلي: «وأنتَ، ألم تعلمْ مَن رأيت؟»
أراد ديفيد أن يُقبِّلها؛ لكنها قالت إنها لم تعُد طفلةً الآن، وجرت إلى داخل المنزل.
قال السيد بيجوتي، وهو يربتُ عليها بيده الكبيرة: «إنها قطة صغيرة.»
صاح هام: «إنها كذلك! إنها كذلك! نعم يا سيد ديفي، إنها كذلك.»
كانوا جميعًا يدللون الصغيرة إيميلي؛ وخصوصًا السيد بيجوتي، والذي كانت تستطيع أن تنال منه أيَّ شيءٍ عندما تلاطفه فقط بوضع خدها على سوالفه الخشنة.
لكنها كانت رقيقة القلب للغاية؛ وعندما جلسوا جميعًا حول المدفأةِ بعدما شربوا الشاي؛ وتكلم السيد بيجوتي مع ديفيد برفقٍ شديد عن فقدانه والدته، ترقرقت الدموع في عينَي الصغيرة إيميلي.
قال السيد بيجوتي، وهو يُمسك بعِقْصات شعرها: «آه! ها هي ذي يتيمةٌ أخرى، أترى يا سيدي؟» ثم سدَّد ضربةً بظهر يده إلى صدر هام وقال: «وها هو ذا واحدٌ آخر منهم، رغم أنه لا يُشبههم كثيرًا.»
أجابه ديفيد: «لو كنتَ أنتَ وصيًّا عليَّ يا سيد بيجوتي، فلا أظن أني كنتُ سأشعر كثيرًا باليُتم.»
صاح هام في ابتهاجٍ غامر: «أُوافقك تمامًا، يا سيد ديفي! مرحى! أتفق معك تمامًا! لم تكن لتشعر به بعد ذلك! هه! هه!» وردَّ هام ضربةَ السيد بيجوتي، ونهضت الصغيرةُ إيميلي وقبَّلتْ عمَّها.
سأل السيد بيجوتي ديفيد: «وكيف حالُ صديقك يا سيدي؟»
قال ديفيد: «ستيرفورث؟»
صاح السيد بيجوتي، ملتفتًا إلى هام: «هذا هو الاسم! كنتُ أعلم أنه شبيهٌ بشيءٍ ما في مهنتنا.» (كلمة ستير تعني حرفيًّا: يقود السفينة.)
علَّق هام ضاحكًا: «لقد قلتَ إنه رَدَرفورد.» (كلمة ردر تعني حرفيًّا: دفة السفينة.)
أفحمه السيد بيجوتي قائلًا: «حسنٌ، وأنت تقود السفينة بواسطة دفة، أليس كذلك؟ فالفرق ليس كبيرًا. كيف حاله يا سيدي؟»
قال ديفيد إنه كان في خير حالٍ في آخر مرةٍ رآه فيها، وانطلق يمدح ستيرفورث كالعادة.
وافقه السيد بيجوتي وهام في كل ما قال، وأصغت له الصغيرة إيميلي بأشد ما يكون من الانتباه، وهي تحبس أنفاسها من الدهشة، بينما تلمع عيناها الزرقاوان كالجوهرتين.
مرَّت الأيام في الأغلب كما مرَّتْ من قبل، باستثناء أن الصغيرة إيميلي كان لديها الكثير من الواجباتِ لتتعلَّمها، والتطريزِ لتنجزه، لذا لم تستطع أن تسير كثيرًا مع ديفيد على الشاطئ.
وكان السيد باركس يأتي لزيارتهم كلَّ ليلة. حيث أحضر معه في أول زيارةٍ صرةَ برتقالٍ مربوطةً في منديلٍ من أجل بيجوتي؛ وفي اليوم التالي أربعة أزواجٍ من أقدام البقر، ومرةً أخرى فخذ من اللحم المنقوع في الخل؛ وكان أحيانًا يخرج مع بيجوتي في نزهةٍ على الشاطئ.
في النهاية، وقبل أن يَتركهم ديفيد مباشرةً، جاء السيد باركس في صباح أحد الأيام في عربةٍ خفيفةٍ، وكان مظهره أنيقٌ جدًّا وهو يَرتدي معطفًا جديدًا أزرق اللون، ليأخذ بيجوتي كي تَقضي معه يوم العطلة. فذهب ديفيد والصغيرةُ إيميلي معهما، وعندما ركبوا في العربة ناول السيد بيجوتي السيدةَ جوميدج حذاءً قديمًا لترميَه خلفهم كي يجلب الحظ السعيد.
فقالت السيدة جوميدج: «يجدر بغيري فعلُ هذا يا دانيال، فأنا إنسانةٌ بائسةٌ وحيدةٌ، وكل شيءٍ يذكرني بأشخاصٍ غير وحيدين ولا بائسين يأتي معي بأثر عكسي.»
قال السيد بيجوتي: «هيا أيتها العجوز، خذي الحذاء واقذفيه وراءهم.»
لكنَّ السيدة جوميدج أبَت؛ فألحَّ بيجوتي عليها كي تفعل؛ وهكذا رمت السيدةُ جوميدج الحذاء وراءهم من أجل الحظ السعيد، فانفجرتْ في البكاء من فورها، وراحت تقول إنها تعلم أنها عبء، وأنه ينبغي أن تُنقل إلى الملجأ في الحال.
وقد رأى ديفيد أنها فكرةٌ سديدةٌ جدًّا، وراح يتساءل لماذا لمْ يُنفذوها.
وهكذا رحلوا بعيدًا بالعربة من أجل نزهة عطلتهم؛ وكان أول ما فعلوه هو أن توقفوا أمام إحدى الكنائس، حيث ربط السيد باركس الحصان في قضبان أحد الأسيجة، ودخل هو وبيجوتي، وتركَا الطفلين في الخارج.
وقد بقيا فترةً طويلةً داخل الكنيسة، لكنهما خرجا في النهاية، ثم انطلقوا بالعربة إلى الريف.
سأل السيدُ باركس ديفيد بغمزةٍ من عينه: «ما الاسم الذي كتبتُه على غطاء العربة؟»
قال ديفيد: «كلارا بيجوتي.»
فقال السيد باركس: «أيَّ اسمٍ سأكتبُ إذا كان هناك غطاء أكتب عليه الآن؟»
قال ديفيد مخمنًا: «كلارا بيجوتي مرةً أخرى.»
«كلارا بيجوتي باركس.» هكذا أجاب الحمالُ وانفتح في القهقهة.
وهكذا فقد تزوَّجَا، حيث كانَا في الكنيسة من أجل هذا الغرض؛ وقررت بيجوتي أن يكون زفافها زفافًا هادئًا، لأنها كانت لا تزال تلبس ثوب الحِداد على روح «ابنتها الغالية.»
قبَّلت بيجوتي ديفيد قُبلةً حنونةً جدًّا لتُعلمَه أن حبَّها له لا يزال بالقدر نفسه الذي كان عليه دائمًا؛ وانطلقت المجموعة الصغيرة بالعربة مسافةً ليست بالبعيدة حتى وصلُوا إلى مطعمٍ صغيرٍ تناولوا فيه غداءً رائعًا، واحتسوا بعده شايًا جيدًا جدًّا. وخيَّم عليهم الظلام عندما ركبوا العربة مرةً أخرى، وعادوا بها بينما يُدفئهم جوٌّ عائليٌّ حميم، وهم ينظرون إلى النجوم ويتحدثون عنها.
حسنًا، لقد عادوا مرةً أُخرى إلى البيت المركب العتيق في توقيتٍ مبكِّر من الليل؛ وهناك ودَّعهما السيدُ والسيدةُ باركس وانطلقَا في جوٍّ من الحميميةِ إلى منزلهما الخاص. عندئذٍ أحسَّ ديفيد، لأول مرةٍ، أنه فقد بيجوتي؛ لكنَّ هام والسيد بيجوتي، كانَا يعلمان بما يدور في خلده؛ لذا فقد تجهَّزا بشيءٍ أعدَّاه للعَشاء، وبوجهيهما المضيافَين، لطرد تلك الأفكار.
كان الوقتُ وقتَ مَدٍّ ليليٍّ؛ وما لبث السيد بيجوتي وهام، بعدما استلقيَا في فراشَيهما، أن نهضَا وخرجَا للصيد. فأحسَّ ديفيد بشجاعةٍ كبيرةٍ عندما تركوه في المنزل المنعزل ليحميَ الصغيرة إيميلي والسيدة جوميدج، وما كان يتمنَّى سوى أن يهجم عليهم أسدٌ أو ثعبان حتى يفتكَ به، ويُكلِّلَ نفسه بالمجد. لكن نظرًا لأنه لم يكن شيءٌ من هذه الأشياء يتجوَّل في سهول يارمث في تلك الليلة، تمنَّى ديفيد أن تهاجمهم التنانين بدلًا من ذلك.
جاءت بيجوتي في صباح اليوم التالي، وبعد الإفطار ودَّعَ ديفيد السيدَ بيجوتي وهام والسيدة جوميدج والصغيرةَ إيميلي، وعاد مع بيجوتي إلى بيتها؛ وقد كان بيتًا صغيرًا جميلًا.
في تلك الليلة نام ديفيد في غرفةٍ صغيرةٍ فوق السطح، وقد قالت بيجوتي إنها ستكون غرفتَه دائمًا، وستظلُّ على حالتها نفسها تمامًا من أجله.
قالت بيجوتي: «سواءٌ كنتَ صغيرًا أم كبيرًا يا عزيزي ديفي، ما دمتُ أنا على قيد الحياة وما دمتُ أعيش تحت سقف هذا البيت، فستَجدها دائمًا وكأنني أترقب وصولك إلى هنا كلَّ لحظة. وسوف أعتني بها كل يومٍ كما كنتُ أعتني بحجرتك الصغيرة القديمة يا عزيزي؛ ولو أنك ذهبت إلى الصين، فتأكد أنها ستبقى كما هي تمامًا، طوال مدة سفرك.» قالت له هذا وذراعاها يطوقان رقبته؛ ولم يكن ديفيد في حاجةٍ لمن يُخبرُه بمدى صدقها ووفائها.
حاول ديفيد أن يَشكُرَها، وحاول ألا يبكي؛ لكنَّ قلبه كان مثقلًا بالأسى، لأنه سيعود في الصباح إلى بيته؛ بيته في بلاندستن حيث السيد والآنسة ميردستون من جديد، ولن تكون أمُّه هناك، ولا بيجوتي كذلك للأبد.
وفي صباح اليوم التالي أوصلهما باركس بعربة الحمَّال، حيث تركاه عند البوابة. وكان غريبًا عليه أن يرى العربة ترحل، آخذةً بيجوتي معها، وتتركه تحت أشجار الدردار القديمة ينظر إلى البيت الذي ما عاد فيه وجهٌ ينظر إلى وجهه بحبٍّ أو اهتمام.