ديفيد يخرج إلى الدنيا
كان السيد والآنسة ميردستون يَكرهان ديفيد. كما واصلَا إهمالَه في عنادٍ وصرامة. وهما لم يكونَا في الحقيقة قاسيَين عليه؛ وإنما فقط يُهملانه. ولم يتكلم أحدٌ عن ذهابه إلى المدرسة، فظلَّ ديفيد يُضيع وقته سُدًى من دون شيءٍ يفعله. وقد كان يُفضِّل أن لو أُرسل إلى مدرسةٍ تُدار بأقسى الطرق في الدنيا على أن يبقى في هذه الحالة من الفتور وانعدام الأصدقاء؛ ولكنَّ في تلك الفترة أصبح عمل السيد ميردستون — حيث كان يتعامَل مع مؤسسةٍ لتجارة الخمر في لندن — غيرَ مزدهر بالصورة المُرضية، وقد اتخذ من هذا مبررًا لعدم إرسال ديفيد إلى المدرسة؛ وفي الواقع، لقد حاول إقناع نفسه بأنه ليس للصَّبي حقٌّ في أن يطالبه بشيءٍ على الإطلاق.
كما رفض السيد والآنسة ميردستون أن يُصبح له أصدقاء في بلاندستن؛ وأسوأ شيءٍ على الإطلاق أنهما نادرًا ما كانَا يسمحان له بزيارة بيجوتي. فربما كانَا يخافان من احتمال أن يشكوَ الصبيُّ من معاملتهما؛ لكن بيجوتي، وفاءً منها بوعدها، كانت إما تأتي لزيارته، أو تقابله في مكانٍ قريب، مرةً كلَّ أسبوع، ولم تأتِ مرةً دون أن تُحضرَ معها شيئًا من الطعام الطيب من صنع يدها.
وهكذا ظلَّ ديفيد يعيش حياة الوحدة هذه أسبوعًا وراء أسبوع، وشهرًا وراء شهر. وفي يومٍ من الأيام، وبينما هو يتسكع في مكانٍ ما بلا حماس أو هدف، تقابَل فجأةً مع السيد ميردستون وهو يسير مع أحد الأشخاص.
فضحك الرجل وتكلَّم مع ديفيد، وعندما نظر ديفيد إليه أحسَّ أنه رآه من قبل، ثم تذكَّر أنه السيد كوينين، ذلك الرجل الذي كان قد قابله في الفندق في مدينة لُويستوفت، عندما أركبه السيد ميردستون أمامه على حصانه ليَقضيَ ذلك اليوم مع أصدقائه.
سأل السيد كوينين: «وكيف حالك في الدراسة، وأين تدْرُس؟»
لم يعرفْ ديفيد بمَ يُجيب، ورمق السيد ميردستون بعينه.
قال السيد ميردستون: «إنه في البيت في الوقت الحالي. وهو لا يَدرس في أيِّ مكان. لا أعرف ماذا أفعل به. إنه فتًى مُشاكس.» واكفهرَّت عيناه وهو يتجهَّم.
قال السيد كوينين وهو ينظر إلى كليهما: «إنه أمر مؤسف!»
«يا لَه من جوٍّ جميل.»
ثم بعد قليلٍ قال: «أعتقد أنك لا تزال فتًى حادًّا للغاية، أليس كذلك؟»
قال السيد ميردستون: «بلى. إنه حادٌّ جدًّا، يجدر بك أن تتركه.»
رفع السيد كوينين يده من على كتف ديفيد، فانطلق ديفيد مسرعًا إلى البيت؛ لكنه نظر خلفه فرآهما ينظران إليه ويتكلمان، وأحسَّ أنهما كانَا يتكلمان عنه.
جاء السيد كوينين للمبيت في بيتهم تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي، بعد الإفطار، وبينما ديفيد يَنصرف من الغرفة، ناداه السيد ميردستون مرةً أخرى.
وقال: «ديفيد، إن هذه الحياة بالنسبة للشباب حياةُ نشاط؛ وليست من أجل التسكُّع وتضييع الوقت في …»
أضافت الآنسة ميردستون: «كما تفعل أنت.»
نظر السيد كوينين خارج النافذة.
تابع السيد ميردستون كلامَه قائلًا: «أعتقد أنك تعلم يا ديفيد أنني لستُ غنيًّا. وأنت قد تلقيتَ قدرًا كبيرًا من التعليم بالفعل. إن ما أنت مقبلٌ عليه هو معركةٌ مع الحياة؛ ومن الأفضل أن تبدأها مبكرًا. لقد سمعتَ ذِكر مكتب المحاسَبة يتردَّد أحيانًا، أليس كذلك؟»
قال ديفيد: «مكتب المحاسبة يا سيدي؟»
رد السيد ميردستون: «مكتب ميردستون وجرينبي للمحاسبة، في تجارة الخمر.»
قال ديفيد بشرود: «أعتقد أني سمعتُ كلمة المكتب تُذكَر أمامي يا سيدي.»
قال السيد ميردستون: «إن السيد كوينين يُدير ذلك المكتب، ويقول إنه يوفر وظائف لبعض الأولاد الآخرين، وإنه لا يدري لماذا لا يوفر لك وظيفةً أنت أيضًا بالشروط نفسها.»
قاطعه السيد كوينين بصوتٍ خفيضٍ، وقد استدار نصف استدارة: «ليس لديه أيُّ مستقبل غير هذا يا ميردستون.»
أومأ السيد ميردستون إيماءةَ تبرُّمٍ وغضبٍ، وواصل كلامه قائلًا: «تلك الشروط هي أنك ستَكسب بنفسك ما يكفي لدفع نفقات طعامك وشرابك، ومصروف جيبك. أما إقامتُك (والتي جهزتُها أنا) فسأدفع أنا تكلفتها. وبالمثل غسيلُ ملابسك …»
قالت الآنسة ميردستون: «وهو ما سيَخضع لتقديري أنا.»
«وهكذا فإنك الآن ذاهبٌ إلى لندن يا ديفيد، مع السيد كوينين، لتبدأ الحياةَ على مسئوليتك الخاصة.»
قالت الآنسة ميردستون: «باختصار، إننا نُعِيلُك، وسيكون عليك، من فضلك، أن تقوم بواجبك.»
لم يستطع ديفيد أن يُميِّز أكان مسرورًا أم خائفًا. لقد كان بالكاد في العاشرة من عمره، ومن الطبيعي أن اضطراره لبدءِ الحياة على مسئوليته الخاصة في هذه السن المبكِّرة كان أمرًا مروِّعًا نوعًا ما.
لكنه لم يحظَ بالكثير من الوقت للتفكير في الأمر؛ ففي صباح اليوم التالي مباشرةً حُزمتْ حقيبةُ ملابسه الصغيرةُ، ووجد نفسه جالسًا في عربة البريد التي كانت تحمل السيد كوينين إلى مدينة يارمث حيث العربة المتَّجهة إلى لندن؛ فأحسَّ بأنه «إنسان بائس وحيد» في الحقيقة، كما كان من المُمكن أن تقول السيدةُ جوميدج.
كان مستودع ميردستون وجرينبي قريبًا من الشاطئ، بجوار منطقة بلاكفرايرز. وهو منزل عتيق للغاية له رصيفٌ خاصٌّ به، تَمتلئ أقبيتُه بالجرذان الرمادية الكبيرة. حيث سمع ديفيد أصواتها وهي تتَشاجر وتَنبِش هنا وهناك، عندما ذهب إلى المستودَع للمرة الأولى، ويدُه ترتعش في يد السيد كوينين.
وفي هذا المكان وضعه السيدُ كوينين في عهدة فتًى يرتدي مريلةً باليةً وقبعةً ورقية، يُدعى مِك ووكر، وأمره بتعليم ديفيد عملَه.
وكان عمله هو أن يَغسل ويشطف الزجاجات المُعدَّة لأن تُملأ بالخمر، وأن يرفعها في الضوء، ويستبعد المكسورة أو التالفة منها. كما توجد سداداتٌ من الفلين تحتاج أن تُوضَع على مقاسها، أو شمعٌ يُوضع على السدادات، ولُصاقاتُ تعريفٍ تُلصَق على الزجاجات بعدما تُملأ بالخمر، ثم بعد ذلك تُعبَّأ تلك الزجاجات في براميل خشبية.
وقد أخبره مِك ووكر أن أباه يعمل على مركبٍ لنقل البضائع؛ وأن الصبي الآخر الذي سيَعمل معهما يُدعى ميلي بوتيتوز، وهو لقبٌ أطلقه عليه العاملون في المستودَع بسبب بشرته الشاحبة.
وكان والد ميلي يعمل سقاء، وإطفائيًّا أيضًا، حسبما قال؛ وكانت أخت ميلي الصغيرة تلعب دور عفريتةٍ صغيرةٍ في المسرحيات الإيمائية، ويبدو أنهم كانوا فخورين جدًّا بهذا.
فتذكَّر ديفيد زميلَيه ستيرفورث وترادلز، وبقيةَ طلاب مدرسة سِيلم هاوس؛ وكان كلما خرج مِك من الحجرة لإحضار أيِّ شيءٍ، تنحدر الدموع على وجنتَي ديفيد، وتمتزج بالماء الذي يغسل فيه الزجاجات، ويبكي وكأنما سينفطر قلبُه.
وفي الثانية عشرة والنصف نهض الأولاد ليتناوَلُوا غداءهم، ونقر السيد كوينين على نافذة مكتب المحاسبة، وأشار إلى ديفيد كي يدخل إلى حجرته حيث وجده ديفيد جالسًا وراء مكتب.
فدخل ديفيد الحجرة ووجد فيها رجلًا بَدينًا في خريف العمر، يرتدي معطفًا طويلًا بنِّيَّ اللون وبنطلونًا ضيقًا أسود اللون وحذاءً، ولم يكن يعلو رأسَه (الذي كان ضخمًا وشديد اللمعان) من الشعر أكثرُ مما يعلو بيضة. كانت ملابسُه رثَّة، لكنه يرتدي ياقةَ قميصٍ مهيبة المنظر؛ ويحمل عصًا أنيقةً نوعًا ما، وشُرَّابتَين بلون الصدأ من أجل العصا؛ بينما تتدلَّى من معطفه عدسةٌ مكبرة.
قال السيد كوينين، قاصدًا ديفيد: «هذا هو.»
قال الرجل الغريب بصوتٍ عالٍ يتصنع اللطف: «هذا هو السيد كوبرفيلد. أرجو أن تكون بخيرٍ يا سيدي؟»
قال ديفيد، الذي كان يشعر بارتباكٍ شديدٍ، إنه على ما يرام، وتمنَّى للرجل أن يكون بخيرٍ كذلك.
قال الرجل الغريب: «أنا، بفضل الله، على خير ما يرام.» وأردف يقول إنه تلقَّى رسالةً من السيد ميردستون يطلب منه فيها أن يستقبل ديفيد في منزله.
قال السيد كوينين: «هذا هو السيد ميكوبر، وقد أرسل له السيد ميردستون بشأن إقامتك، وسوف تُقيم عنده في غُرفةٍ مفروشةٍ من بيته.»
قال السيد ميكوبر: «عنواني في شارع وندسور تيراس، من طريق سيتي رُوود.» ثم أضاف بنبرةٍ بدتْ مهذَّبة: «إنني، باختصارٍ، أسكن هناك.» وانحنى له ديفيد احترامًا.
قال السيد ميكوبر: «لديَّ انطباعٌ بأنك لم تتجول في هذه العاصمة كثيرًا حتى الآن، وأنك ربما تواجه بعضَ الصعوبة في كشف أسرار مدينة بابليون الحديثة تلك الواقعة في طريق سيتي رُوود باختصار» قال السيد ميكوبر وقد اعترته ثِقةٌ مفاجِئة: «إنك ربما تضل طريقك؛ لذا فإنه من دواعي سروري أن أصحبك هذه الليلة، وأدلَّك على أقصر الطرق المؤدية إلى المنزل.»
رأى ديفيد أن تكبُّدَه مثل هذا العناء كان أمرًا في غاية اللُّطف منه، وشكره من صميم قلبه.
قال السيد ميكوبر: «متى أ…»
قال السيد كوينين: «في الثامنة تقريبًا.»
قال السيد ميكوبر: «في الثامنة تقريبًا، أتمنى لكما يومًا طيبًا.» ثم لبس قبعته، وخرج متأبطًا عصاه؛ حيث سار منتصبَ القامةِ للغاية، وراح يترنم بأغنيةٍ عندما ابتعد عن مكتب المحاسبة.
بعد ذلك قال السيد كوينين لديفيد إن عليه أن يبذل غاية وسعِه لصالح المستودع، وإن مرتبه سيكون ستة شلنات في الأسبوع؛ وناوله مرتب أول أسبوعٍ في الحال.
تولَّى ميلي بوتيتوز مهمة حمل حقيبته إلى منزل السيد ميكوبر، لأنها كانت أثقل بكثيرٍ من أن يحملها ديفيد بنفسه، وأعطاه ديفيد نصفَ شلنٍ من مرتب أول أسبوعٍ نظير ما تجشمه من عناء حمل الحقيبة؛ ثم خرج إلى مطعمٍ صغيرٍ قريبٍ منه واشترى فطيرةَ لحمٍ بنصف شلنٍ آخر، ورشف جرعةَ ماءٍ من مضخة ماءٍ مجاورة.
في الثامنة مساءً جاء السيد ميكوبر، وانصرفَا معًا، وراح صديقه الجديد يؤكد عليه أثناء سيرهما أسماءَ الشوارع، وأشكالَ المنازل الواقعة عند ملتقى شارعين، لعله يستطيع العودة بسهولةٍ في الصباح.
بدا المنزل في شارع وندسور تيراس رثَّ المنظر مثل مالكه؛ الذي حاول جاهدًا أن يُضفيَ عليه كلَّ المظاهر الخادعة. وقد قام السيدُ ميكوبر بمهمة تعريف ديفيد على السيدة ميكوبر، وهي سيدة نحيلة شاحبة، جلست في الردهة لتُرضع طفلًا صغيرًا، وكان أحدَ توءمين.
كان هناك ولدان آخران غير التوءمين؛ السيد ميكوبر بعمر الرابعة، والآنسة ميكوبر بعمر الثالثة. وكذلك امرأةٌ شابةٌ داكنةُ البشرة، لديها عادةُ الشخير، وهي خادمة الأسرة، وقد أخبرت ديفيد، بعد نصف ساعة من مكوثه هناك، أنها «فتاةٌ يتيمةٌ داكنةُ البشرة»، وأنها كانت تعيش في ملجأ سانت لوك.
ثم أخذته السيدة ميكوبر إلى حجرته، التي كانت فوق سطح المنزل، وحملت الرضيعين معها. وهي حجرة ضيقة نوعًا ما، وقليلة الأثاث للغاية.
قالت السيدة ميكوبر: «لم أتوقع قط، قبل زواجي، عندما كنت أعيش مع أبي وأمي، أنني سأضطر يومًا لتأجير غرفةٍ في منزلي. لكن مع وجود العُسر الماليِّ الواقعِ فيه السيد ميكوبر، كان لا بد أن تتراجع أيُّ أهميةٍ للشعور بالخصوصية.»
قال ديفيد: «نعم يا سيدتي.»
قالت السيدة ميكوبر: «إن العسر المالي الذي يعانيه السيد ميكوبر يكاد يكون خانِقًا هذه الأيام، ولا أدري إن كان من الممكن إنقاذُه منه.»
أخبرتْه السيدة ميكوبر كذلك أنها حاولت أن تبذل جهدها؛ وأنها، في الواقع، قد غطتِ الجزء الأوسط من الباب الخارجي بلوحةٍ نحاسيةٍ كبيرةٍ منقوشٍ عليها «مدرسة السيدة ميكوبر الداخلية للفتيات»؛ لكن لم تأتِ أيُّ فتاةٍ للدراسة هناك.
في الواقع، لم يرَ ديفيد أيَّ زوَّارٍ هناك سوى الدائنين، الذين كانوا يأتون طوال الوقت؛ وكان بعضهم شرِسًا للغاية.
ومنهم رجلٌ متسخُ الوجه اعتاد أن يسير ببطءٍ داخل الدهليز في السابعة صباحًا، وينادي السيدَ ميكوبر من على السلَّم قائلًا: «اخرج إليَّ! إنك لم تغادر المنزل بعدُ. ألن تدفع لنا ما عليك، ألن تفعل؟ لا تختبئ، هذه دناءةٌ منك. لو كنتُ مكانك لما تصرفتُ بدناءة. ألن تدفع ما عليك لنا، ألن تفعل؟ ادفع ما عليك وحسب، هل تسمع؟ اخرج إليَّ!»
وكان أحيانًا يقف في الشارع ويصيح قائلًا: «لصوص» و«نصابون» تحت النوافذ التي يعلم أن السيد ميكوبر موجودٌ عندها.
كان هذا يجرح مشاعر السيد ميكوبر إلى أبعد حدٍّ. وقد يتظاهر في بعض الأحيان بأنه سيقطع رقبته بشفرة الحلاقة؛ لكنه يَعدِل عن ذلك بعد قليل، وبعدما يلمع حذاءه بصعوبةٍ بالغةٍ، يخرج من المنزل وهو يدندن بأغنية.
كانت السيدة ميكوبر، هي الأخرى، تُصاب بنوبةِ إغماءٍ في تلك الأوقات؛ لكنها تبتهج بعد ساعةٍ، وتُرسل ملعقتين من ملاعق الشاي إلى مكتب الرهن، وتشتري بمال الرهن وجبةً من شرائح لحم الحمَل المكسوة بقِطَع الخبز، وكوبًا من الشاي الدافئ.
ذاتَ مرةٍ، بعد زيارةِ دائنٍ شرِس، سقطتْ مغشيًّا عليها تحت شبكة المدفأة وهي تحمل أحد الرضيعين بين ذراعيها؛ لكنها استطاعت في تلك الليلة نفسها أن تتناول شريحةً من لحم العجل المشوي بجوار مدفأةِ المطبخ، وراحت تُسلِّي ديفيد بقصص عن أبيها وأمها، وعن الشركة التي كانوا يمتلكونها.
قضى ديفيد وقت فراغه كله مع أسرة السيد ميكوبر، وبدأ يحبُّهم جدًّا. وقد أعطوه غرفة نومٍ فقط؛ حيث يتوجب عليه أن يشتريَ طعامه كلَّه بنفسه؛ واعتاد أن يضع الخبز والجبن على رفوف خزانةٍ صغيرةٍ هناك لإعداد عشائه عندما يعود إلى البيت في المساء.
وقد كان طوال اليوم يغسل زجاجات الخمر مع ميلي بوتيتوز ومِك ووكر؛ لكنَّ معاناةَ روحه الخفيةَ كانت تكبُر عندما يتذكر ترادلز وستيرفورث، ويتصورهما وهما يكبران ليصيرَا رجلَين مهذَّبَين متعلمَين، بينما رفيقاه الآن في كل يومٍ غلامان جلفان جاهلان، وهو نفسه لا أملَ لديه في أن يصبح أفضل حالًا منهما البتة.
وشعر بانحطاط القدر بسبب عمله الوضيع، وأحسَّ أيضًا أنه لم يفعل شيئًا يستحق عليه هذه الإهانة؛ ورغم أنه يُراسل بيجوتي كثيرًا، فلم يجرؤ على إخبارها كم كان تعيسًا، من ناحيةٍ لأنه يحبها، وهذا من شأنه أن يحزنها، ومن ناحيةٍ أخرى لأنه كان يشعر بخزيٍ شديد.
لم يتعرف ديفيد على أيِّ أحدٍ سوى أسرة ميكوبر؛ كما لم يتكلم مع أي أحدٍ من الأولاد الكثيرين الذين كان يراهم يوميًّا لدى ذهابه إلى المستودع أو رجوعه منه، أو عندما يتجول خلسةً في الشوارع أثناء أوقات تناول الطعام. لقد كان يزداد تكتمًا، واعتمادًا على النفس، وفقرًا في المظهر كل يوم.
لم يخبر ديفيد الولدَين اللذين يعمل معهما قط كيف صار به الأمر إلى العمل هناك في مثل هذه المهنة الوضيعة، كما لم يخبرهما كم يكرهها. لقد كان يؤدي عمله ويحتفظ برأيه لنفسه؛ لكنَّ التفكير في بيجوتي ووالدته وأيام الماضي السعيد كان يكاد يكسر قلبَه.
وكان الأولاد والرجال الذين في المستودع يشعرون أنه مختلفٌ عنهم. وقد بدءوا يسمونه «الفتى المهذب»، وأحيانًا «الفتى القادم من مقاطعة سافُك.» وذات يومٍ اعترض ميلي بوتيتوز على هذا؛ لكن مِك ووكر أسكتَه في الحال.
وقد كان كبيرُ عُمَّال التعبئة في المستودع، وهو رجلٌ يُدعى جِريجوري، وسائقُ العربة، ويُدعى تِب، يناديانِه «ديفيد» أحيانًا؛ لكن هذا حدث غالبًا بعد أن أَمتعهم بأجزاء من «مغامرات رودريك راندوم» وبقية الكتب القديمة الحبيبة.
وكان غِرًّا وصبيانيًّا جدًّا لدرجة أنه أحيانًا لا يستطيع مقاومة المعجنات البائتة المعروضة للبيع بنصف الثمن على أبواب طهاة المعجنات، وينفق ماله على شراء قطع التورتة الصغيرة، ومن ثم يضطر للاستغناء عن اللحم في غدائه.
وذات مرةٍ أخذ ديفيد خبزَه معه وكان ملفوفًا في قطعةٍ من الورق — حيث أحضره من المنزل في الصباح — وذهب إلى محلٍّ جميلٍ أنيقٍ بقرب مسرح دروري لين، وطلب طبقًا صغيرًا من لحم البقر ليأكله بالخبز الذي معه.
فحدَّق النادلُ بقوةٍ في الفتى الصغير، لكنه أحضر له اللحم، ثم بعد ذلك نادى نادلًا آخر ليأتي وينظر إليه.
يا إلهي! آهٍ لو كان لأمه أن تراه الآن! أو بيجوتي! حيث أصبح طفلًا باليَ الثياب، يعمل من الصباح حتى المساء مع العامة من الرجال والأولاد! ويتسكع في الشوارع في أوقات الوجبات، ولا يكاد يأكل ما يكفيه!
ما مِن أحدٍ قط نصح الصبيَّ أيَّ نصيحة؛ وما كان هناك مَن يُعينه أو يُشجعه. ولولا رحمة الله لربما كان من اليسير أن يصبح سارقًا صغيرًا أو متشردًا.