العسر المالي لأسرة ميكوبر
ربما كان من الممكن أن تعتنيَ السيدة ميكوبر بديفيد أفضل من ذلك، لأنها طيبة القلب حقًّا؛ لكنها مُثقلةٌ للغاية بهمومها وعُسْرها المالي كي توازن بين دخلها ونفقاتها، كما كانت مهمومةً جدًّا بتخوفاتها من دائني السيد ميكوبر، الذين يزدادون شراسةً كلَّ يوم، لدرجة أن الوقت لم يسمح لها برؤية ديفيد على أنه ابنٌ صغيرٌ عديم الأصدقاء، وأنه ربما يحتاج إلى قليلٍ من النصائح الحانية بين الحين والآخر.
وعلى العكس من هذا، فإن ذهابه إلى المستودع وعودته منه كلَّ يوم، على مسئوليته الخاصة، ليجنيَ قوت يومه وكأنه كان رجلًا، جعلها تنظر إليه باعتباره شابًّا له شيءٌ من التجربة، بدلًا من أن تنظر إليه على أنه ولدٌ صغيرٌ للغاية في العاشرة من عمره؛ واعتادتْ أن تُفضيَ إليه بمشاكلها، بدلًا من أن تسعى لتخفيف مشاكله هو.
وقد كان ديفيد عطوفًا بطبعه، وكثيرًا ما يتكدر بمشاكل أسرةِ ميكوبر أكثر مما يتكدرون هم بها؛ حيث يسير بطريقته شبه اليائسة، ويتأمل وسائل السيدة ميكوبر في تدبير مواردها المالية المعدة لتحمل نفقاتها، وهو مهمومٌ بِثقَل ديون السيد ميكوبر.
وكثيرًا ما كان السيد ميكوبر يعود إلى البيت في ليالي السبت غارقًا في دموعه، معلنًا أنه لم يعُد ينتظره سوى السجن؛ لكنه بعد تناول العشاء يصبح مبتهجًا، ويبدأ في حساب كم قد يكلفه تركيب نوافذ قوسية للمنزل «في حال حدث أيُّ شيءٍ على غير توقع»؛ وهي جملته المفضلة. وكثيرًا ما كان السيد والسيدة ميكوبر، وبدافعٍ من رقة قلبَيهما، يدعوان الصبيَّ للعشاء معهما، لكنَّ ديفيد دائمًا يعتذر بأمرٍ ما، ولم يكن يقبل الدعوة — رغم أنه كان سيستمتع بها كثيرًا — وذلك لعلمه أنهما في الغالب لم يكونَا يملكان الكثير لنفسَيهما.
وبعد ذلك جاء موعد عيد ميلاده من جديد. لقد قضى عيد ميلاده الفائت في مدرسة سيلم هاوس؛ وهو عيد ميلادٍ لا يُنسى، فهو يوم أن استدعتْه السيدة كريكل لتُخبرَه أن والدته قد تُوفيت. يا لكثرة ما أصابه منذ ذلك الحين! لقد كان بالكاد يشعر أنه لا يزال ديفيد كوبرفيلد نفسه — «الصغير كوبرفيلد»، كما كان ستيرفورث يُناديه — الذي يغزل خيوط الحكايات في حجرة النوم في المساء، بينما تومي ترادلز يضحك في الظلام، وستيرفورث ينعشه برشفاتٍ من العصير عندما يصبح صوته «أجشَّ» قليلًا.
بالطبع لم يُخبر ديفيد أيَّ أحدٍ أن اليوم عيد ميلاده؛ فهو أكثر تحفُّظًا من أن يقول هذا؛ لكنه ذهب إلى حانة عامة وسأل صاحبها — حيث كانت تلك مناسبةً مميزة — قائلًا: «ما ثمن كأس أفضل أنواع العصير عندك؛ أفضلها على الإطلاق؟»
قال صاحب الحانة وهو يُحدِّق فيه: «بنسان ونصف ثمن العصير من نوع جينيوين ستانينج.»
قال ديفيد، وهو يقدم له المال: «إذن، صُبَّ لي كأسًا من عصير جينيوين ستانينج، من فضلك، ولتكن له رغوةٌ عالية.»
راح الرجل ينظر إليه من فوق المَشْرَبِ، من رأسه إلى قدمَيه، وعلى وجهه ابتسامةٌ غريبة؛ وبدلًا من صَبِّ العصير، نَظَرَ وراء الستار وقال شيئًا ما لزوجته.
خرجت زوجتُه من وراء الستار وفي يدها شغل التطريز الذي تصنعه، ووقفت إلى جوار زوجها، وراحت تنظر إلى الصبي الصغير الغريب، ووجهه وأسلوبه المحافظَين.
حيث سألاه عن اسمه، وسنِّه، وأين يسكن، وما مهنته، وكيف أتى إلى هناك. فاخترع ديفيد بطريقته الرجولية الصغيرة إجاباتٍ مناسبة. وبعد ذلك أعطاه صاحب الحانة كوبَ العصير؛ لكن زوجته فتحت الباب النصفيَّ الصغير الذي في المَشْرَب، ثم انحنتْ وأعادت نقودَه في يده، وقبَّلته قبلةً امتزج فيها الإعجاب بالشفقة، لكنها كانت قبلةً جيدةً ونسائيةً للغاية.
وهكذا مرت الأسابيع والشهور. بينما ديفيد يتساءل إن كان سينجو أبدًا من هذه الحياة البائسة؛ وراح يتخيل في يأسٍ أنه قد لا يصير إلى شيءٍ — عندما يكبر — أكثرَ من أن يُصبح سائقَ عربةٍ مثل تِب، أو كبيرَ عمال تعبئةٍ مثل جريجوري. لقد بدأ ينسى ما تعلَّمه كذلك؛ وقد أصابه هذا بالحزن، لأنه في الأيام الماضية كان ديفيد ولدًا طموحًا، ويُعد من الأذكياء البارعين.
وذات يومٍ قالت السيدة ميكوبر، التي قابلت ديفيد وعيناها محتقنتان للغاية: «يا سيد كوبرفيلد، أنا لا أعدُّك غريبًا، لذا لا أتردد في القول إن عُسْر السيد ميكوبر المالي يوشك أن يتحول إلى أزمة.»
فأصيب ديفيد بالتعاسة لسماع هذا — وكان قد بدأ يحب أسرة ميكوبر للغاية — ونظر إلى وجهها الملطَّخ بالدموع بأقصى درجات التأثر.
قالت السيدة ميكوبر: «باستثناء قطعة من قالب جبن هولندي، والتي لا تفي باحتياجات أسرةٍ صغيرة، فإنه لا يوجد حقًّا فتاتةٌ واحدةٌ من أي شيءٍ في غرفة المئونة. لقد كنتُ معتادة على الحديث عن غرفة المئونة عندما كنتُ أعيش مع أبي وأمي، وأنا أستخدم الكلمة من دون قصدٍ تقريبًا. ما أقصده هو أنه ليس هناك طعامٌ في المنزل.»
اهتمَّ ديفيد غاية الاهتمام. وكان معه شلنان أو ثلاثة في جيبه، حيث إنهم في منتصف الأسبوع، فأخرجها من جيبه مباشرةً، وراح يرجو السيدة ميكوبر أن تأخذها منه قرضًا، والدموع تترقرق في عينَيه.
لكن السيدة ميكوبر جعلته يردها في جيبه مرةً أخرى، وقبَّلتْه، وهزَّتْ رأسها علامةً على الرفض.
وقالت: «لا يا عزيزي السيد كوبرفيلد، لم تقترب هذه الفكرة من رأسي مطلقًا. لكنَّ لك إدراكًا يتجاوز سنَّك، وتستطيع أن تُقدِّم لي خدمةً من نوعٍ آخر إذا أردتَ؛ وهي خدمةٌ سأقبلها منك شاكرةً.»
رجاها ديفيد أن تُخبرَه ما هي.
قالت السيدة ميكوبر: «لقد تخليتُ بنفسي عن أدوات المائدة الفضية، وستة من أوعية الشاي، واثنين من أوعية الملح، وزوجين من أوعية السكر، لقد اقترضتُ المال بضمانها في أوقات متفرقة، فعلتُ ذلك سرًّا، بنفسي. لكنَّ احتياجاتِ التوءمين قيدٌ كبير، وبالنسبة لي، وبسبب ذكرياتي مع أبي وأمي، فإن هذه الصفقات مؤلمةٌ للغاية. ولا يزال هناك قليلٌ من الأغراض التافهة التي نستطيع التخلي عنها. لكنَّ مشاعر السيد ميكوبر لن تسمح له أبدًا ببيعها؛ كما أن كليكيت» — كان هذا اسم الخادمة القادمة من الملجأ — «وبسبب جلافة تفكيرها، سوف تتجاوز حدودها بطريقةٍ مؤلمةٍ إذا عُهِد إليها بشيءٍ بالغ الخصوصية كهذا. سيد كوبرفيلد، إذا أمكنني أن أطلب منك …»
حَزَرَ ديفيد أنها تريد منه أن يبيع لها بعض هذه الأغراض التافهة التي تكلمتْ عنها، ورجاها أن تسمح له بمساعدتها فيما تريد. وفي صباح اليوم التالي، وقبل ذهابه إلى المستودع، أخذ القليل من الكتب إلى أحد أكشاك الكتب في طريق سيتي روود، وباعها في مقابل أيِّ ثمنٍ قد تُساويه.
ثم بدأ بعد ذلك، في صباح كل يومٍ، وقبل ذهابه إلى العمل، يأخذ شيئًا ما ليبيعَه أو ليرهنَه في مكتب الرهن.
وقد كان صاحب كشك الكتب يترنَّح سُكْرًا كل ليلة؛ لذا يرافق ديفيد شخصٌ ما إلى غرفة الرجل، ليجدَه مستلقيًا على سريرٍ قابلٍ للثني، بجرح في جبهته أو كدمةٍ حول عينه، ليساوم على ثمن الكتب؛ بينما تقف زوجتُه إلى جواره، بحذائها بالي الكعبين، تعنِّفه بشدةٍ طوال الوقت.
وكان الرجل أحيانًا لا يتمكن من العثور على ماله، فيطلب من ديفيد أن يمرَّ عليه مرةً أخرى؛ لكن زوجته عادةً ما تحتفظ ببعض المال في جيبها، وكانت تدفع المال لديفيد سرًّا أثناء نزولهما معًا إلى الطابق السفلي.
بدأ ديفيد يُصبح معروفًا في مكتب الرهن أيضًا؛ وقد رآه الرجل الجالس خلف طاولة المحاسبة مراتٍ عديدة، وكثيرًا ما طلب منه أن يُصرِّف له اسمًا أو فعلًا لاتينيًّا ريثما يقوم بعمله. ودائمًا ما كانت السيدة ميكوبر تُنفق جزءًا من المال الذي يُحضره إلى المنزل على شيءٍ لذيذٍ للغاية من أجل العشاء.
وفي النهاية آلَ عسرُ السيد ميكوبر المالي إلى أزمة، وقُبض عليه في وقتٍ مبكرٍ من صباح أحد الأيام، وأُخذ إلى سجن كينجز بينش. وقد قال لديفيد عندما أخذوه إن شمس أمله قد غربت الآن؛ فتذكَّر ديفيد أنه عندما دخل رودريك راندوم أحدَ سجون المَدِينِين، كان هناك رجلٌ لا يُغطيه شيءٌ سوى دثارٍ غليظٍ بالٍ، وعندئذٍ توقع أن يكون قلبُ السيد ميكوبر قد انسحق حزنًا وغمًّا مثلما انسحق قلبُه هو حزنًا وغمًّا.
وبينما قضى ديفيد يومًا كئيبًا في المستودع؛ ابتهج السيد ميكوبر داخل السجن، ولعب مباراةً بولينج مثيرةً في عصر ذلك اليوم.
وفي يوم الأحد التالي، ذهب ديفيد لتناول الغداء معه (حيث كان مسموحًا لأصدقاء المدينين بزيارتهم). وقد قابله السيد ميكوبر عند البوابة، وصحبه إلى غرفته الصغيرة، وناشده في جديةٍ أن يعتبر من مصيره؛ وقال له: «لو أن دخْلَ رجلٍ ما عشرون جنيهًا في السنة، وأنفق منها تسعة عشر جنيهًا وتسعة عشر شلنًا وستة بنسات، فسيكون سعيدًا، لكنه إذا أنفق واحدًا وعشرين جنيهًا، فسيقع في التعاسة.»
ثم طلب من ديفيد أن يُقرِضه شلنًا، اشترى به إبريقًا من مشروب البُرْتر الثقيل، وأعطى ديفيد أمرًا كتابيًّا يسلمه للسيدة ميكوبر كي تُسدِّد له المبلغ، ثم جفَّف دموعه، وأعاد منديله إلى مكانه.
وجلس ديفيد والسيد ميكوبر يتحدثان أمام مدفأة صغيرةٍ داخل شبكة صغيرة صدِئة، إلى أن عاد مدينٌ آخر، كان مسجونًا مع السيد ميكوبر في حجرته، من الفرن ومعه خاصرةٌ من لحم الضأن تناولها الثلاثة على الغداء؛ وفي بداية فترة بعد الظهر، عاد ديفيد إلى البيت ليخبر السيدة ميكوبر عن أخبار زوجها.
أُغمي على السيدة ميكوبر في غمرة قلقها عندما رأت ديفيد قادمًا؛ وما إن أفاقت من إغمائها حتى صنعت ملءَ إبريقٍ صغيرٍ من العصير ليلطِّف عنهما أثناء مناقشتهما أحوال السيد ميكوبر.
ثم بِيع الأثاثُ كلُّه تدريجيًّا؛ إلى أن قررت السيدة ميكوبر في النهاية أن تنتقل، هي وأولادها، إلى السجن، حيث كان السيد ميكوبر قد حصل على حجرةٍ لنفسه الآن؛ وأخذ ديفيد مفتاح البيت إلى صاحب البيت الذي سعد غاية السعادة بالحصول عليه.
لقد اعتاد ديفيد على أسرة ميكوبر بدرجةٍ كبيرةٍ حتى إنه لم يحبَّ أن يبتعد عنهم؛ لذا استُؤجرت له غرفةٌ صغيرةٌ خارج أسوار السجن، وكان يتناول إفطاره معهم كلَّ صباح، ويدخل إلى السجن كلَّ ليلةٍ، ويسير في الفناء مع السيد ميكوبر.
وقد عاشت أسرة ميكوبر داخلَ السجن في راحةٍ أكبر من التي كانت تعيشها خارجه؛ حيث جاء بعضُ أقاربهم من أجل مساعدتهم في هذا الوقت، وقد ساعدوهم كثيرًا؛ بحيث ارتاح ديفيد الآن هو الآخر من قدرٍ كبيرٍ من ثقل هموم الأسرة.
لم يسأل السيد ميردستون قط كيف كان ديفيد يقضي وقته، ولم يُخبر الصبيُّ قط أيَّ أحدٍ في المستودع. حيث ظلَّ يعيش نفس الحياة في سريَّة وتعاسة، بينما ثيابه تزداد فقرًا في المظهر كلَّ يوم.
ولم يُرسل السيد ميردستون له أيَّ رسالة. أما الآنسة ميردستون فأرسلت له مرةً أو مرتين، عن طريق السيد كوينين، طردًا به ملابس قديمة، وكانت تضع معها قصاصةَ ورقٍ مكتوب فيها بخط يدها ما معناه: «ترجو ج. م. أن يكون د. ك. مهتمًّا ببذل جهده في العمل، والعناية التامة بمسئولياته.» لا شيءَ سوى هذا! ولا كلمةً واحدةً عن أي شيءٍ آخر! ربما لو أصبح الولد مفقودًا لما اهتمَّا مطلقًا.