ديفيد يتخذ قرارًا
وهكذا انقضت الأسابيع والشهور على الوتيرة الكئيبة نفسها، إلى أن أثمرت مساعدةُ ومشورةُ أقرباء السيدة ميكوبر عن إطلاق سراح السيد ميكوبر من السجن؛ وأصبح هناك إمكانيةٌ أخيرًا لحدوث شيءٍ ما على غير توقعٍ للسيد ميكوبر؛ ولكن ليس في لندن — بل بعيدٌ عن لندن، وبينما ديفيد عائدٌ إلى غرفته المستأجرة تلك الليلة، هبط ثقلٌ على قلبه عندما فكَّر في ابتعاد أصدقائه الوحيدِين عنه.
ولم يستطع ديفيد النوم في تلك الليلة؛ فقد اعتاد على أسرة ميكوبر للغاية، وكان ودودًا جدًّا معهم في محنتهم، كما أنه ليس لديه أصدقاء سواهم، إلى جانب أن إمكانية أن يعيش مرةً أخرى وسط أُناسٍ مجهولين كانت تمثِّل تعاسةً بالنسبة له.
وراح يتأمل كلَّ الخزي والإهانة اللذين عاناهما في العام المنصرم، وصاح بينه وبين نفسه قائلًا إن حياته لا تُطاق. ألا يوجد أيُّ أمل في الفرار منها؟ لا أملَ. لا أمل على الإطلاق؛ ما لم يفرَّ هو بنفسه منها!
الفرار! خطرت الفكرةُ بباله وهو مستلقٍ يعاني الأرق في فراشه، ويتساءل ماذا عساه يفعل بعد رحيل أسرة ميكوبر؛ وتدريجيًّا شكَّلت الفكرةُ نفسها في صورة قرارٍ نهائي.
كانت أسرة ميكوبر ذاهبةً إلى مدينة بليمِث في غضون أسبوع، وطوال تلك المدة استأجروا شقةً مع ديفيد في المنزل نفسه، وذهب السيد ميكوبر إلى مكتب المحاسبة ليُخبر السيد كوينين أنه مضطرٌّ لأن يتخلَّى عن عنايته بديفيد في اليوم الذي سيرحل فيه.
فاستدعى السيدُ كوينين سائقَ العربةَ تِب، الذي كان متزوجًا، وعنده غرفةٌ للإيجار، وسأله إن كان يستطيع أن يُسكن ديفيد فيها. فلم يزد تِب على أن سُرَّ للغاية، وتركهم ديفيد يقررون الأمر هكذا، ولم يقل شيئًا. فقد عقد العزم على الهروب فور رحيل أسرة ميكوبر.
وبالطبع لم يتفوه ديفيد مطلقًا بكلمةٍ واحدةٍ عن الموضوع لأي أحد؛ وجعله تكتُّمه يفكر في الأمر أكثر. إلى أين عساه يذهب؟ لقد سأل نفسه هذا السؤال مائة مرة، وهو يتقلب متأرِّقًا في فراشه؛ وظل مائةَ مرة يكرر تلك القصة القديمة التي قصَّتها عليه أمُّه عن يوم مولده (وهي قصةٌ كانت أمُّه تحب أن ترويَها له، وكان هو يحب أن يسمعها) قصة الآنسة بيتسي تروتوود — عمة والده — التي دخلت المنزل في ذلك اليوم من شهر مارس، الذي اشتدت فيه الرياح، ثم وثبت خارجةً منه مرةً أخرى، وذلك عندما سمعت أن المولود كان صبيًّا.
«اخلعي قُبعتكِ يا ابنتي، ودعيني أراكِ …» لقد سمع القصةَ مراتٍ عديدة؛ وكيف عندما أطاعتها أمُّه على الفور، ولكن بيدَين متوترتَين للغاية، انسدل شعرُها الجميل كله على وجهها؛ وكيف صاحت الآنسة بيتسي قائلةً بصوتٍ يمتلئ بالإعجاب: «يا إلهي، يا للروعة! إنكِ صغيرةٌ للغاية!»
لم يستطع ديفيد أن ينسى كيف تخيلتْ أمُّه أنها أحسَّت بالآنسة بيتسي تلمس شعرها بيدٍ لا تُوصف بعدم الرقة، ورغم أن هذا ربما يكون فقط من مخيلة والدته، فقد خرج ديفيد بتصورٍ صغيرٍ عن الفكرة؛ إذ رقَّتِ العمةُ البغيضةُ للجمال الطفولي الذي تذكَّره هو جيدًا، وسامحتها تمامًا على كونها «دُمية شمعية.»
لو أن الآنسة بيتسي علمت بأحزانه، أليس من المحتمل أن تسامحه على أنه وُلد صبيًّا؟
إنه لم يعلم حتى أين تعيش الآنسة بيتسي؛ لذا كتب رسالةً طويلةً لبيجوتي، وسألها فيها سؤالًا ثانويًّا، إن كانت تتذكر أين مكان بيتها؛ وسألها أيضًا إن كانت تستطيع أن تُقرضَه نصف جنيه، وأخبرها أنه يريده بدرجةٍ كبيرة.
جاء ردُّ بيجوتي في الحال، وجاء معه نصفُ الجنيه، وكثيرٌ من عبارات الودِّ، كما جاء معه أن الآنسة بيتسي تعيش في مدينة دوفر، لكنها لم تكن تدري أفي دوفر نفسها أم في هايث، أم ساندجيت، أم في فوكستون.
بعد ذلك سأل أحدَ الرجال في المستودع إن كان يستطيع أن يخبرَه أين تقع هذه الأماكن الثلاثة الأخيرة، وعندما أخبره الرجلُ أنها جميعًا قريبةٌ من بعضها البعض قرَّرَ ديفيد أن يُغادر إلى دوفر في نهاية ذلك الأسبوع نفسه.
كان ديفيد يقضي لياليَه مع السيد والسيدة ميكوبر، ومع اقتراب موعد رحيلهم ازدادتْ محبةُ كلٍّ منهم للآخر. في يوم الأحد الأخير استضافوه على العشاء؛ وتناولوا خاصرةً من لحم البقر، وصلصة التفاح، وحلوى البودينج؛ وأعطى ديفيد هدايا الوداع للأطفال — حصانًا منقطًا اشتراه للصغير ويلكينز ميكوبر، ودميةً للصغيرة إيما.
وقد أمضَوا يومًا ممتعًا للغاية؛ لكنهم شعروا بالحزن بسبب الفراق القادم.
قالت السيدة ميكوبر: «لن أسترجعَ، يا سيد كوبرفيلد، تلك الفترة التي عانى فيها السيد ميكوبر من عسرٍ ماليٍّ، دون أن أتذكرك. لقد كان تصرُّفُك من أرقِّ وألطف ما يكون. إنك لم تكن مُستأجِرًا؛ بل كنت صديقًا.»
رد السيد ميكوبر: «إن عزيزي كوبرفيلد يمتلك قلبًا يرِقُّ لآلامِ أمثاله من الناس عندما تغشاهم سُحُب الأزمات، وعقلًا يُدبر، ويدًا … باختصار، إن لديه موهبةً شاملةً في بيع الأشياء المتاحة وغير الضرورية.»
كما رجا السيد ميكوبر أن يتذكر ديفيد هذه النصيحة دائمًا: «الدخل السنوي عشرون جنيهًا، الإنفاق السنوي تسعة عشر جنيهًا وتسعة عشر شلنًا وستة بنسات، النتيجة سعادة. الدخل السنوي عشرون جنيهًا، الإنفاق السنوي عشرون جنيهًا ووستة بنسات، النتيجة تعاسة.»
تأثر ديفيد كثيرًا، ووعده بتذكر هذه الوصايا؛ وفي صباح اليوم التالي التقى بالأسرة كلها في مكتب حجز عربة السفر، ثم راح ينظر إليهم خارج المكتب، بقلبٍ حزينٍ، وهم يأخذون أماكنهم في الجزء الخلفي من العربة.
قالت السيدة ميكوبر: «سيد كوبرفيلد، ليباركك الله! لن أستطيع أبدًا أن أنسى كلَّ ما تعرفه، ولو استطعتُ فلم أكن لأفعل أبدًا.»
قال السيد ميكوبر: «الوداع يا كوبرفيلد! أتمنى لك كلَّ سعادةٍ ونجاح! وفي حال حدثَ أيُّ شيءٍ على غير توقعٍ (وأنا واثقٌ تمام الثقة من هذا)، فسيسعدني غاية السعادة — إذا أصبح ذلك في استطاعتي — أن أُحسِّن من إمكانياتك.»
وأثناء جلوس السيدة ميكوبر مع الأطفال في الجزء الخلفي من العربة، ورؤيتها ديفيد في الطريق وهو ينظر بحزنٍ إلى الأعلى، بدا فجأةً أنها أفاقت على حقيقةِ أنه لم يكن سوى صبيٍّ صغيرٍ للغاية؛ وذلك لأنها أشارت له كي يعتليَ العربة، وبتعبيرٍ جديدٍ وحنون على وجهها، طوَّقتْ عنقه بذراعها، وقبَّلتْه بالطريقة نفسها التي كان من الممكن أن تقبِّل بها أحد أبنائها.
وتمكَّن ديفيد بصعوبة من النزول مرةً أخرى قبل انطلاق العربة، واستطاع بصعوبة أيضًا أن يرى الأسرة من وراء المناديل التي كانوا يلوحون بها.
لقد اختفت العربة في لحظة؛ وانصرف ديفيد ليبدأ يومه المرهِق في مستودع ميردستون وجرينبي.
ولأنه كان صبيًّا أمينًا للغاية، ولأنه لم يرغب في جعل الذكرى التي سيخلفها وراءه مشوبةً بما يشينه، فقد رأى نفسه مُلزَمًا أدبيًّا بالبقاء حتى مساء السبت؛ ولأنه تقاضى أجرة أسبوعٍ مقدمًا في بداية مجيئه إلى هناك، لم يكن ينوي أن يظهر في مكتب المحاسبة لأخذِ راتبه. لهذا السبب الخاص اقترضَ نصف الجنيه، كي يكون معه بعضُ المال من أجل نفقات سفره.
وهكذا عندما أقبل مساءُ يوم السبت، وكانوا جميعًا ينتظرون في المستودع لقبض رواتبهم، وعندما دخل تِب، سائقُ العربة، أولًا لسحب ماله، صافحَ ديفيد مِك ووكر، وطلب منه أن يُخبر السيد كوينين أنه ذهب لنقل حقيبته إلى منزل السيد تِب؛ ثم ودَّع ميلي بوتيتوز وداعًا أخيرًا، وبعد ذلك هرب.
وأثناء فراره إلى حجرته، أخذ يبحث عن شخصٍ ما كي يساعده في حمل حقيبته إلى مكتب حجز عربة مدينة دوفر، وراح يدقق النظر في شابٍّ طويل الرِّجلين يَركب عربةً يجرُّها حمار وليس عليها حمولة في طريق بلاكفرايرز.
قال الشاب: «حسنٌ، يا عديمَ الفائدة، لقد حفظتَ شكلي جيدًا، وتستطيع تأكيد هويتي أمام القضاة.»
قال ديفيد إنه إنما نظر إليه لأنه يظنه ربما يحب أن يؤديَ عملًا.
قال الشاب الطويل الرِّجلين: «أيُّ عملٍ هذا؟»
قال ديفيد: «تنقل حقيبة.»
«أي حقيبة؟»
أخبره ديفيد عنها، وأخبره أنها في الشارع المقبل، وأنه سيعطيه ستة بنسات لينقلَها له إلى مكتب حجز عربة مدينة دوفر.
قال الشاب الطويل الرِّجلين: «اتفقنا على ستة بنسات.» وركب عربته مباشرةً وانطلق، محدثًا خشخشةً، بسرعةٍ كبيرةٍ بذل ديفيد معها وُسعه كي يُواكبَ سرعة الحمار.
صعِد الاثنان إلى حجرته الصغيرة وأنزلَا الحقيبة معًا، وطلب منه ديفيد أن يتوقف لحظةً عندما وصل إلى الحائط المسدود لسجن كينجز بينش، حيث أراد أن يضع بطاقةَ عنوانٍ على الحقيبة؛ لأنه لم يُرد أن يَضَعها وهو في المنزل، مخافةَ أن يرى أيٌّ من أفراد أسرة صاحب المنزل العنوانَ، ويخمنوا ما الذي كان ينوي فعله.
انطلق الشابُّ مرةً أخرى، وعانى ديفيد كثيرًا كي يلحقَ به في المكان المحدد.
من شدة ما كان فيه ديفيد من الإثارة والحماس أسقطَ نصف الجنيه من جيبه وهو يُخرج البطاقة؛ لكنه وضعه في فمه ليُؤمنه، وما إن ربط البطاقة بيدَين مرتعشتَين على حقيبته حتى أحسَّ بضربةٍ عنيفةٍ تحت ذقنه يُسدِّدها له الشابُّ ذو الرِّجلين الطويلتين، ورأى نصف الجنيه يطير من فمه إلى يد الشاب.
صاح الشابُّ، وهو يُمسك ديفيد من ياقة سُترته، وعلى وجهه تكشيرةٌ مرعبة: «ماذا! هذه قضية يجب رفعها للشرطة، أليس كذلك؟ سوف تهرب، أليس كذلك؟ هيَّا إلى الشرطة، أنت أيها المؤذِي الصغير، هيَّا إلى الشرطة!»
قال ديفيد، وهو يشعر بذعرٍ شديد: «أعدْ إليَّ مالي، أرجوك، ودعني وشأني.»
أعاد الشابُّ كلامه قائلًا: «هيَّا إلى الشرطة! يجب أن تُثبت للشرطة أنه مالك.»
صاح ديفيد وهو ينفجر في البكاء: «أعطني حقيبتي ومالي، من فضلك.»
ردَّ عليه الشابُّ بالكلام نفسه: «هيَّا إلى الشرطة!» ويدُه قابضةٌ على ياقة ديفيد، لكنه غيَّر رأيه، فقفز إلى العربة، وجلس فوق الحقيبة، وصرخ قائلًا إنه سيذهب إلى الشرطة مباشرةً، وانطلق بالعربة أسرع من ذي قبل.
جرى ديفيد وراءه بأسرع ما يمكنه، لكنَّ نفَسَه لم يُساعدْه على النداء. لقد كاد يُدهس عشرين مرة على الأقل في مسافة نصف ميل. وظلَّ مرةً يفقده، ومرةً يراه، ومرةً يفقده من جديد، ومرةً يسقط في الطين، ومرةً يصطدم بذراعَي شخصٍ ما، ومرةً يصطدم برأسه في أحد الأعمدة.
أخيرًا، وبسبب ما أصابه من ارتباكٍ من الرعب والحَرِّ، لم يعُد يستطيع أن يجريَ؛ وظلَّ يلهث ويبكي، لكنه لم يتوقف مطلقًا عن الجري، وأثناء ذلك انعطفَ إلى منطقة جرينيتش، والتي علم أنها كانت في طريق مدينة دوفر، وفي رأسه فكرةٌ جامحةٌ تدعوه لمواصلة الجري حتى يجد عمَّتَه.