الآنسة تروتوود تقرر
لم تقل الآنسة بيتسي شيئًا عندما نزل ديفيد لتناول الإفطار في صباح اليوم التالي، لكنها ظلَّتْ مركزةً عينَيها عليه لدرجةٍ جعلت الارتباك يستبدُّ به.
وفي غمرةِ ارتباكه وقعت سكينُه فوق شوكتِه، وشوكتُه فوق سكينِه، وراح يقطع قطعًا صغيرةً من اللحم فتتطاير إلى مسافاتٍ مذهلةٍ في الهواء، وشَرِق وهو يشرب شايه، الذي أصرَّ على النزول في الطريق الخطأ بدلًا من الذهاب إلى مكانه الصحيح، وجلس وقد احمرَّ وجهُه خجلًا تحت نظرات الآنسة بيتسي المتفحصة.
قالت الآنسة بيتسي، بعد فترة صمتٍ طويلة: «مرحبًا!»
رفع ديفيد عينَيه وتلقَّى نظرتها الذكية الحادة باحترام.
قالت الآنسة تروتوود: «لقد أرسلتُ إليه رسالة.»
قال ديفيد متلعثمًا: «إلى …؟»
قالت الآنسة بيتسي: «لزوج والدتك، لقد أرسلتُ له رسالةً أُخبرُه فيها أنني سأسبِّبُ له مشكلة إن لم يستجبْ لي، وقد أتشاجر معه أيضًا، وأكَّدْتُ عليه ذلك.»
سألها ديفيد في ذُعر: «هل يعرف مكاني يا عمتي؟»
أجابت وهي تُومئ برأسها: «لقد أخبرتُه.»
قال الصبي متلعثمًا: «هل ﺳ… أُسلَّم له؟»
قالت الآنسة بيتسي: «لا أعرف، سوف نرى.»
صاح ديفيد: «يا إلهي، لا أدري ماذا عساي أفعل إذا توجَّب عليَّ الرجوع إلى السيد ميردستون!»
قالت الآنسة بيتسي، وهي تهزُّ رأسها: «لا أعرف أيَّ شيءٍ عن الأمر، لا يمكنني أن أُخبرَك، صدِّقْني. سوف نرى.»
تحطَّم عزم ديفيد تحت وطأة هذه الكلمات وأصابه اكتئابٌ شديدٌ وانقبض صدرُه.
ولم تنتبه له عمَّتُه، وإنما واصلت أعمالها اليومية، وبعد قليلٍ وضعت علبة أدوات تطريزٍ على طاولتها، عند النافذة المفتوحة، وجلست تُمارس التطريز.
قالت الآنسة بيتسي، بعدما أولجَت الخيط في سَمِّ الإبرة: «أرجو أن تصعدَ إلى الطابق العلوي، وتُبلغَ تحياتي للسيد دِك، وسوف يُسعدني أن أعرف كيف يتقدم في كتابة المذكرة.»
فصعِد ديفيد إلى الطابق العلوي، ووجد السيد دِك يكتب سريعًا جدًّا بريشة كتابةٍ في يده، بينما رأسه يلامس الورقة تقريبًا. كما توجد كميةٌ كبيرةٌ من الحبر في برطمانات بسعة نصف غالون فوق المنضدة، ورزمٌ من المخطوطات، وعددٌ من الأقلام؛ كما رأى ديفيد أيضًا طائرةً ورقيةً كبيرةً في ركن الغرفة.
قال السيد دِك، وهو يضع قلمه: «ها! كيف الأحوال؟ اسمع، وأرجو ألَّا تذكر هذا لأحد، لكنه …» وهنا أومأ إلى ديفيد، وقرَّب شفتَيه من أذنه «إنه عالَمٌ مجنون. مجنونٌ كمستشفى المجانين يا بُني!» واستنشق السيد دِك بعضًا من مسحوق التبغ وراح يضحك من قلبه.
وأبلغه ديفيد رسالةَ الآنسة بيتسي.
فقال السيد دِك: «حسنًا، تحياتي لها، وأعتقد … أعتقد أني قد بدأت. أظن أني بدأت.» وضع السيد دِك يدَه في شعره الأشيب، وسأل: «هل دخلت المدرسة؟»
أجاب ديفيد: «نعم يا سيدي، مدةً قصيرة.»
قال السيد دِك وهو ينظر بجدٍّ إليه: «هل تذكر اليوم الذي قُطع فيه رأسُ الملك تشارلز الأول؟»
قال ديفيد إنه يظن أن ذلك كان في سنة ١٦٤٩.
قال السيد دِك: «هكذا تقول الكتب، لكنني لا أدري كيف يمكن أن يحدث هذا؛ لأنه إذا كان هذا قد وقع منذ زمنٍ بعيدٍ جدًّا هكذا، فكيف استطاع الناس الذين حوله أن يرتكبوا هذا الخطأ ويضعوا بعض الاضطراب الذي كان في رأسه بعدما قُطع في رأسي أنا؟»
لم يستطع ديفيد أن يُجيبَه، واندهش جدًّا من السؤال. كان ديفيد سينصرف، لكن السيد دِك لفت انتباهه إلى الطائرة الورقية، وقال: «أنا صنعتُها، سوف نذهب ونطيرها، أنا وأنت.»
قالت الآنسة بيتسي، عندما نزل إلى الطابق السفلي: «حسنًا أيها الصبي، ما أخبار السيد دِك هذا الصباح؟»
قال ديفيد إنه يُرسل تحيَّاتِه، وقد بدأ بدايةً جيدةً جدًّا في الحقيقة.
قالت: «ما رأيك فيه؟»
بعد قليلٍ من التلعثم، قال ديفيد إنه يظن أن عقل السيد دِك غيرُ متزنٍ قليلًا.
ردَّت الآنسة بيتسي: «مطلقًا! إذا كان هناك شيءٌ في الدنيا لا يمكن أن يتصف به السيد دِك، فهو هذا.» وأضافت: «لقد كانوا ينعتونه بالمجنون.»
وبعد قليلٍ أخبرتْه أنه أحدُ أقربائها البعيدين، وأن أقرباءَه وثيقي الصلة به، عندما تخيَّلوا أنه مجنون، وضعوه في مصحة نفسية خاصة، لكنه لم يحظَ بمعاملةٍ جيدة فيها؛ وبعد كثيرٍ من المنازعات حول الأمر، استطاعت أن تُخرجَه من هناك، وعاش السيد دِك معها منذ ذلك الحين.
قالت الآنسة بيتسي: «إذا كان يحبُّ أن يطير طائرةً ورقيةً في بعض الأحيان، فما الضير في هذا؟ لقد اعتاد فرانكلين أن يطير طائرةً ورقية. وقد كان أحدَ أعضاء طائفة الفرندز المسيحية، أو شيئًا ما من هذا القبيل، إذا لم أكن مخطئةً. وعندما يطير أحدُ أعضاء هذه الطائفة طائرةً ورقيةً فإن هذا يبعث على السخرية أكثر بكثيرٍ مما لو فعلها أيُّ شخصٍ آخر.»
بعث دفاعُها النبيل عن المسكين السيد دِك الأملَ في صدر ديفيد الصغير؛ وبدأ قلبُه يحب الآنسة بيتسي نفسها؛ فقد أحسَّ أنه برغم كونها سيدةً كبيرة غريبةَ الأطوار نوعًا ما؛ فإنها تستحقُّ الثقة والاحترام.
كان ديفيد ينتظر في قلقٍ ردَّ السيد ميردستون على الآنسة بيتسي، ويبذل وسعَه في إرضاء عمتِه والسيد دِك؛ وأراد أن يخرج مع هذا الأخير ليطير الطائرة الورقية الكبيرة، لولا أنه لم يكن لديه أيُّ ملابس غير ملابس السيد دِك، والتي حبسته في المنزل.
وأخيرًا جاء ردُّ السيد ميردستون، حيث أخبرتْها الآنسة ميردستون، أن السيد ميردستون قادمٌ للحديث معها بنفسه في اليوم التالي، وقد أرعبه هذا!
فجلس ديفيد في اليوم التالي، تُغطِّيه ملابسُ السيد دِك الدافئة، ويعتريه الغضبُ والقلقُ والانفعال، منتظرًا رؤيةَ الوجه القاسي الموحِش لزوج أمه المفزع.
كما جلست الآنسة بيتسي لتحيك ثوبًا بجوار النافذة، وبدت مهيبةً أكثر من أي وقت مضى، وفجأةً سمعها ديفيد تصرخ بالتحذير: «جانيت! حمير!»
أصاب ديفيد الرعبُ والدهشةُ عندما رأى الآنسة ميردستون فوق سرجٍ جانبيٍّ على ظهر حمارٍ تتعمد السير به فوق قطعة الأرض الخضراء المقدسة، وتتوقف أمام المنزل، وتنظر حولها.
صاحت الآنسةُ بيتسي، وهي تهزُّ قبضتها من النافذة: «انصرفي من هنا! لا شيءَ يخصُّكِ هنا. كيف تجرئين على التعدِّي على أملاك غيرك؟ انصرفي! أوه، أنتِ يا صفيقةَ الوجه!»
صاح ديفيد قائلًا: إن هذه هي الآنسة ميردستون، وإن الرجل الذي يسير خلفها هو السيد ميردستون.
صاحت الآنسة بيتسي وهي تهزُّ رأسها: «لا يهمُّني مَن هما! لن يتعدَّى أحدٌ على أملاكي؛ لن أسمح بهذا. انصرفَا! جانيت، أديريه للجهة الأخرى. أبعديه من هنا!»
أمسكت جانيت اللجام وحاولت أن تُديرَ الحمار، وحاول السيد ميردستون أن يسوقَه بعيدًا؛ لكن الآنسة ميردستون ضربت جانيت بمظلةٍ خفيفةٍ كانت معها، وراح عددٌ من الأولاد، الذين جاءوا لرؤية الاشتباك، يصيحون بحماس؛ وفجأةً لمحت الآنسةُ بيتسي الصبيَّ الحمَّار، الذي كان بينها وبينه عداءٌ قديم، فأسرعتْ بالخروج إلى مشهد الأحداث، وانقضت عليه، وسحبته، وسترتُه تغطِّي رأسه، إلى داخل الحديقة، ونادت جانيت كي تُحضرَ رجال الشرطة حتى يُمسكوه في الحال؛ لكن الحمَّار أفلت من قبضة الآنسة بيتسي سريعًا، ومضى بعيدًا وهو يهتف، وأخذ حماره معه؛ لأن الآنسة ميردستون كانت قد ترجَّلت عن ظهر الحمار أثناء إمساك الآنسة بيتسي بالولد، ووقفت تنتظر الآن مع أخيها عند أسفل درجات سُلَّم الباب، ريثما تفرغ الآنسة بيتسي لاستقبالهما.
مرَّت الآنسة تروتوود من أمامهما، وكانت منزعجةً قليلًا بسبب المعركة، ودخلت المنزل في وقارٍ كبير، ولمْ تكترث لوجودهما، إلى أن أعلنت جانيت حضورهما.
قال ديفيد وهو يرتجف: «هل أنصرف يا عمتي؟»
قالت الآنسة بيتسي: «لا يا سيدي، بالطبع لا.» ودفعتْه إلى أحد أركان الغرفة، وحبستْه بكرسي؛ ودخل السيد والآنسة ميردستون إلى الغرفة.
قالت الآنسة بيتسي: «يا إلهي! لم أُدرك في بداية الأمر مَن الذي تشرفتُ بالاعتراض على وجوده، لكنني لا أسمح لأيِّ أحدٍ بالسير بدابته فوق هذه الأرض.»
قالت الآنسة ميردستون: «إن قاعدتكِ مربكةٌ بعضَ الشيءِ للغرباء.»
قالت الآنسة بيتسي: «حقًّا؟»
قاطعها السيد ميردستون قائلًا: «الآنسة تروتوود؟»
قالت الآنسة بيتسي، وهي ترمقه بنظرةٍ حادة: «معذرةً، أنت السيد ميردستون الذي تزوَّج أرملة ابن أخي، ديفيد كوبرفيلد.»
قال السيد ميردستون: «نعم أنا.»
ردت الآنسة بيتسي: «سامحني، يا سيدي، عندما أقول إنني أعتقد أنه كان من الأفضل كثيرًا والأنسبِ لو أنك تركت الطفلة المسكينة وشأنها.»
قالت الآنسة ميردستون: «أنا متفقةٌ بقدرٍ كبيرٍ مع ما قالتْه الآنسة تروتوود، فأنا أرى أن فقيدتَنا كلارا لم تكن — من كل ناحيةٍ — أكثر من مجرد طفلة.»
ردَّت الآنسة بيتسي: «إن من العزاء لكِ ولي، يا سيدتي — نحن اللتين تقدَّم بنا العمر، ولا يُتوقع أن نشقى بسبب مفاتنِنا الشخصية — أن أحدًا لا يستطيع قولَ هذا الكلام نفسه عنَّا!»
قالت الآنسة ميردستون، دون أن يخلوَ كلامها من موافقةٍ سريعةٍ جدًّا: «من دون شك.» وهنا دقَّت الآنسة تروتوود الجرس، وطلبت من جانيت أن تُبلغَ تحيَّاتِها للسيد دِك وأن ترجوَه أن ينزل إليهم.
جلست الآنسة بيتسي بثباتٍ كبيرٍ، وظلت تنظر بعبوسٍ في الجدار إلى أن دخل السيد دِك، وهو يقضم سبَّابتَه، وقد بدا مرتبكًا بعضَ الشيء.
قدَّمتْه الآنسة بيتسي قائلةً: «السيد دِك، صديقٌ قديمٌ مقرب، أثق في رأيه.»
أخرج السيد دِك أصبعه من فمه، ووقف بين الجمع بوجهٍ رزينٍ جدًّا.
قال السيد ميردستون: «آنسة تروتوود، عندما تلقَّيتُ رسالتكِ، وجدتُ أن من الإنصاف لنفسي أن أردَّ عليها شخصيًّا، بدلًا من الرد برسالة. إن هذا الولد التعيس، الذي هرب من أصدقائه ووظيفته، كان السببَ المباشر في كثيرٍ من المشاكل العائلية، خلال حياة زوجتي الحبيبة الراحلة، وبعدها. إنه يتصف بروحٍ مشاكسةٍ ومتمردة، كما أن طبعَه عنيفٌ، ولديه نزعةٌ للعناد. وقد أحسستُ أن من الصواب أن تستمعي لهذا البلاغ الخطير من أفواهنا.»
أضافت الآنسة ميردستون: «وأرجو أن تلاحظي، أنه من بين جميع الأولاد في الدنيا، فأنا أعتقد أن هذا هو الأسوأ.»
قالت الآنسة بيتسي باختصار: «يا لَلشدة!» ثم سألت السيد ميردستون: «حسنًا، أيها السيد؟»
أوضحَ لها السيد ميردستون، ووجهُه يزداد عبوسًا أكثر فأكثر، أنه وضع الولد «تحت رعاية صديقٍ، في عملٍ محترم.»
قاطعته الآنسة بيتسي بحدَّة وقالت: «بمناسبة العمل المحترم، لو كان ابنكَ أنتَ؛ كنتَ ستضعه في هذا العمل، بنفس الكيفية، حسبما أظن.»
تدخلت الآنسة ميردستون وقالت: «لو كان ابنَ أخي، لكانت شخصيتُه مختلفةً تمامًا.»
بعد هذا سألت الآنسةُ بيتسي السيدَ ميردستون بحسمٍ عن المنزل والحديقة في قرية بلاندستن، وسألته كيف لم تنتقل ملكيتُهما إلى الصبي.
قال السيد ميردستون: «لقد كانت زوجتي الراحلة تحبُّ زوجها الثاني يا سيدتي، وكانت تثق فيه ثقةً كاملة.»
ردت الآنسة تروتوود، وهي تهزُّ رأسها أمامه: «زوجتُك الراحلة يا سيدي كانت طفلةً ساذجةً، وحزينةً، وتعيسةً لأبعد الحدود، هكذا كانت زوجتك. والآن ماذا تريد أن تقول أيضًا؟»
«ليس غير هذا يا آنسة تروتوود. أنا هنا لأستعيدَ ديفيد؛ لأستعيدَه دون شرط، كي أتصرف معه بالطريقة التي أراها مناسبةً، ولأتعاملَ معه بالطريقة التي أظنُّها صحيحة.»
قالت الآنسة بيتسي: «وما رأيُ الولد؟ هل أنت مستعدٌّ للذهاب معه يا ديفيد؟»
صاح ديفيد: «لا» وتوسَّل إليها ألَّا تتركَه يذهب، وصرخ قائلًا إن السيد والآنسة ميردستون لم يُحبَّاه قط؛ وإنهما جعلَا والدتَه، التي طالما أحبَّتْه كثيرًا، غيرَ راضية عنه؛ وإنه يعلم هذا جيدًا، وبيجوتي تعرف هذا جيدًا. وتوسَّل إلى عمَّتِه ورجاها أن تُساعدَه وأن تحميَه من أجل والده.
قالت الآنسة بيتسي: «سيد دك، ماذا أفعل مع هذا الصبي؟»
أجابها السيد دك: «اجعلي الخياط يأخذ مقاسَه ويفصِّل له مجموعةً من الملابس في الحال.»
قالت الآنسة بيتسي بنبرة المبتهج بالنصر: «ناولني يدكَ يا سيد دك، فإن تفكيرك السليم لا يُقدَّر بثمن.»
بعدما صافحت يدَه بحرارةٍ، جذبت ديفيد إليها، وقالت للسيد ميردستون:
«يمكنك أن ترحل عندما تحبُّ؛ سآخذ فرصتي مع الصبي. ولو اتضح أن فيه كلَّ هذه الصفات التي تقول إنها فيه، فسيمكنني ساعتها على الأقل أن أفعل معه مثلما فعلت أنت. لكنني لا أصدق كلمةً مما قلتَه.»
قال السيد ميردستون وهو ينهض من مكانه: «آنسة تروتوود، لو كنتِ رجلًا …»
قالت الآنسة بيتسي: «يا لَلحقارة! هذا هراءٌ وسخافة! لا تتكلَّمْ معي! أتظنُّ أنني لا أعرف كم كان يومًا تعيسًا على تلك الفتاة الصغيرة الرقيقة عندما ظهرتَ أنت في حياتها؛ حين كنتَ تتكلف الابتسامَ وتُسبل عينَيك لها لتبدوَ رقيقًا كمن لا يستطيع أن يصيحَ في وجه إوَزَّة! يا إلهي، نعم، فليرحمنا الله! من هذا الذي كان رقيقًا وناعمًا بقدر ما كان السيد ميردستون في البداية! إن البريئة المسكينة لم ترَ قط رجلًا مثله. لقد كان مخلوقًا من اللطف. لقد أحبَّها لدرجة العبادة، كما أحبَّ ولدَها، وبشغف! حيث سيُصبح أبًا ثانيًا له، وكانوا جميعًا سيعيشون في حديقة زهور، أليس كذلك؟ أمر مقزز! انصرفَا من هنا، هيَّا!»
قالت الآنسة ميردستون: «لم أسمع قط مثل هذه المرأة في حياتي.»
واصلت الآنسة بيتسي كلامها، وهي تهزُّ أصبعَها أمامه، ولا تُعِير أيَّ انتباهٍ للآنسة ميردستون: «يا سيد ميردستون، لقد كنتَ مستبدًّا مع الطفلة الساذجة، وقد كسرتَ قلبَها … نعم، نعم! حتى بدون تكشيرة بسيطة، وأنا أعلم أنك فعلت حتى بدونها.»
وقف السيد ميردستون عند الباب وعلى وجهه ابتسامةٌ، رغم أن حاجبَيه الأسودين كانَا منعقدَين للغاية، وقد هرب الدم من وجهه، وتسارعتْ أنفاسه وكأنه كان يجري.
قالت الآنسة تروتوود: «طاب يومك يا سيدي. ومع السلامة!» وأضافت وهي تلتفت فجأةً للآنسة ميردستون: «طاب يومكِ أنتِ أيضًا يا سيدتي، دعيني أراكِ تمتطين حمارًا فوق أرضي مرةً أخرى، وتأكدي أني سوف أطيح بقلنسوتكِ، وأدوس فوقها!»
كان هذا الكلام يخرج منها بانفعالٍ شديد لدرجة أن الآنسة ميردستون، ودون أن تنطق بكلمةٍ، وضعت ذراعها في ذراع أخيها، وخرجت في غطرسةٍ من المنزل الصيفي.
بعد ذلك بدأ وجهُ الآنسة بيتسي الصارم يهدأ تدريجيًّا، وأصبحت لطيفةً جدًّا لدرجة أن ديفيد تشجَّع وطوَّق عنقها بذراعَيه وقبَّلها وراح يشكرها مرةً بعد مرةٍ على حمايتها له. ثم صافح السيد دك، الذي صافحه بدوره عدةَ مرات، وهو يضحك من قلبه.
قالت الآنسة تروتوود: «سوف تعدُّ نفسك وصيًّا، بالمناصفة معي، على هذا الصبي، يا سيد دك.»
قال السيد دك: «سوف يُسعدني أن أكون وصيًّا على ابن ديفيد.»
ردَّت الآنسة بيتسي: «جيدٌ جدًّا، لقد تقرَّر هذا. أتعرف، لقد كنت أفكر يا سيد دك أن أناديَه باسم تروتوود.»
قال السيد دك: «بالتأكيد، بالتأكيد. فلتناديه تروتوود، بالتأكيد، ابن ديفيد تروتوود.»
ردَّت الآنسة بيتسي: «تقصد تروتوود كوبرفيلد.»
قال السيد دك: «نعم، من دون شك. نعم. تروتوود كوبرفيلد.»
وقد طرأت على رأس الآنسة بيتسي فكرةٌ أن تكتب بخط يدها، وبحبرٍ لا يُمحى، اسم «تروتوود كوبرفيلد» على كل الملابس الجاهزة التي اشترتْها من أجل ديفيد في عصر ذلك اليوم.
•••
وهكذا بدأ حياتَه الجديدة، باسمٍ جديدٍ، وبكلِّ شيءٍ حوله جديد، في منزلٍ سعيد جديدٍ، وهنا، في رأيي، يجب أن نتركَه.
أما كيف كبِر في رعاية صديقته المخلصة الآنسة بيتسي، وكيف أرسلته إلى مدرسةٍ جيدة، وكيف ذهب لزيارة بيجوتي وباركس، وكيف قابل ستيرفورث وترادلز من جديد، وكيف كبُر ليُصبح رجلًا مرموقًا؛ فهذا ما ستكتشفونه بأنفسكم عندما تكبرون، وتستطيعون أن تفهموا بطريقةٍ أفضل قصة «ديفيد كوبرفيلد» الجميلة، وهو يحكيها بنفسه.