زيارته لمدينة يارمث
«سيد ديفي.» هكذا قالت بيجوتي ذات ليلةٍ، بعد حوالي شهرَين من نزهته مع السيد ميردستون على متن الجواد — بينما كانَا جالسَين معًا، حيث كانت السيدة كوبرفيلد تقضي الليلة خارج المنزل — «سيد ديفي، ما رأيُكَ في السفر معي لقضاء أسبوعين في منزل أخي بمدينة يارمث؟ ألن يكون هذا مُمتعًا؟»
سألها ديفيد: «هل أخوكِ رجلٌ لطيفٌ يا بيجوتي؟»
صاحت بيجوتي قائلةً، وقد رفعت يدَيها للأعلى: «أوه، كم هو لطيف! ثم إنَّ هناك البحر، والقوارب والسفن؛ والصيادين والشاطئ؛ وآم لتَلعب معه.» وهي تَقصد هام ابنَ أخيها.
تحمَّسَ ديفيد كثيرًا للفكرة، وأجاب بأنه سيكون شيئًا مُمتعًا حقًّا، لكنه تساءل عن رأي أمِّه في الأمر؟
قالت بيجوتي: «يا إلهي، إنَّني في الواقع أُراهن على جنيهٍ ذهبيٍّ أنها ستَسمح لنا بالذهاب. سأطلب منها ذلك، إذا أحببتَ، حالَمَا تأتي إلى المنزل. ما رأيكَ الآن!»
سألها ديفيد: «لكن ماذا ستفعل أثناء سفرنا؟ إنها لا تستطيع العيشَ بمفردها.»
بدَتْ بيجوتي مرتبكةً جدًّا للحظة، وتظاهرتْ بالبحث عن ثقبٍ آخر في الجورب الذي كانت ترفوه.
«أرى يا بيجوتي أنها لا تستطيع العيش بمُفردها، كما تَعلمين.»
قالت بيجوتي وهي ترفع نظرها إليه وكأنها تذكَّرَت فجأةً: «أوه، باركك الله! ألا تعلم أنها ستَمكُث مدةَ أسبوعين مع السيدة جريبر؟ سيكون عند السيدة جريبر الكثير من الضيوف.»
وهكذا، أصبح ديفيد مُستعدًّا تمامًا للذهاب؛ وراح يَنتظِر على أحرَّ من الجمر أن تعود أمُّه إلى المنزل كي يَنطلِق لتنفيذ هذه الفكرة العظيمة.
لم تتفاجأ أمُّه ألبتةَ من دعوة بيجوتي. وفي الواقع، لقد بدا أنها كانت تعلم كلَّ شيءٍ عن الأمر، ووافقتْ على الخطة في الحال.
وقد تقرَّر أن يُسافرَا في عربة أحد الحمَّالين والتي غادرت قرية بلاندستن في الصباح؛ بعد الإفطار؛ لأنه في تلك الأيام لم يكن يُوجد سككٌ حديديةٌ على الإطلاق. حيث حُزمَت حقيبةُ ديفيد، وحُزمت حقيبةُ بيجوتي، وعندما جاء الصباح الزاخر بالأحداث، وقفوا عند البوابة ينتظرون عربةَ الحمَّال؛ وراحت أمُّ ديفيد تُقبِّلُه قبلات الوداع، وتضمُّه إليها بشدةٍ لدرجة أنه أَحسَّ بقَلبها يدقُّ على قلبه. وعندما وصلَت العربة، ركبها هو وبيجوتي، وبينما هي تَبتعِد بهما انطلقَت أمُّه تجري من عند البوابة، وراحت تُنادي على الحمَّال ليتوقَّف كي تُقبِّل ابنها الصغيرَ مرةً أخرى.
في النهاية ابتعدَا تمامًا، وتركاها واقفةً في الطريق؛ وعندما نظرَا وراءهما رأيَا أن السيد ميردستون قد جاء إلى حيث هي واقفةٌ، وبدا أنه كان يَتجادَل معها بشأن تأثُّرها الشديد هذا؛ وراح ديفيد، وهو ينظر من النافذة الخلفية المُظلَّلة في العربة، يتعجَّب من علاقة السيد ميردستون بهم.
كان الحصان، كما اعتقد ديفيد، أكثر الأحصنة كسلًا في الدنيا؛ فهو يسير متثاقلًا ورأسُه إلى الأسفل، كما نكَّس الحمَّالُ رأسَه هو الآخر، مثلما فعل الحصان، وراح يتهدَّل إلى الأمام تهدُّلَ النعسان أثناء القيادة، بينما إحدى ذراعيه ممدودةً على كلتا ركبتَيه، وأخذ يصفر كثيرًا.
كانت بيجوتي تحمل على ركبتها سلةً بها وجبة خفيفة، فراحت هي وديفيد يأكلان الأشياءَ الطيبةَ من أجل تمضية الوقت؛ لكنَّ الحمال توقَّف في أماكن كثيرةٍ ليُوصِّل الطرود التي معه، لدرجة أن ديفيد قد أُصيب بسأمٍ شديد، لكنه شعر بسعادةٍ كبيرةٍ عندما رأى مدينة يارمث أخيرًا.
كان هناك بحارةٌ يسيرون في الشارع، وعرباتٌ تُجلجل فيه ذهابًا وإيابًا، كما فاحت فيه روائحُ السمك وجدائل الحبال القديمة والقطران و…
صاحت بيجوتي بحماسةٍ قائلةً: «ها هو ذا آم ابن أخي! لقد كبر لدرجة أني عرفتُه بصعوبة!» وذلك عندما خطَا شابٌّ قويٌّ ضخمُ البِنيةِ يبلغ طوله ستة أقدام وله وجهٌ صبيانيُّ الملامح وشعرٌ متجعِّدٌ أشقرُ اللون، خارج باب الحانة التي كان ينتظرهما فيها.
حيث أمسك ديفيد ووضعه على ظهره ليحمله إلى المنزل، بينما حمل حقيبةَ ديفيد تحت ذراعه. وتبعتهما بيجوتي بالحقيبة الأخرى، وانعطفوا إلى أزقةٍ مكسوةٍ بالرمال وقطع الروث المجفف؛ ثم مروا على ساحات صُنَّاع القوارب، ومصانع الحبال، ودكاكين الحدادين، حتى خرجوا إلى أرض قاحلةٍ منبسطةٍ يُمكنهم رؤية البحر على جانبها الآخر.
فقال هام: «منزلنا هذا الذي هناك يا سيد ديفي.»
تساءل ديفيد قائلًا: «إنه ليس هذا، أليس كذلك؟ هذا شيءٌ شبيهٌ بسفينةٍ.» لأنه لم يرَ أيَّ منزلٍ على الإطلاق — لا شيءَ سوى مركب بضائع أسود اللون، لم يكن بعيدًا جدًّا، وهو جاف وثابت على اليابسة، ويَخرُج منه أنبوبٌ معدنيٌّ يقوم مقام مدخنةٍ، ينبعثُ منه الدخان بانسيابية شديدة.
قال هام: «إنه هو يا سيد ديفي.»
أخذ ديفيد يشهق ابتهاجًا بالفكرة الرومانسية التي جعلتْهم يعيشون في مكانٍ كهذا. حيث يوجد هناك بابٌ مُبهِجٌ صُنعتْ فتحتُه في جانب المركب، وهو مَسقوف، ويحتوي على نوافذَ صغيرة؛ لكنَّ الجميل المُدهِش فيه أنه كان مركبًا حقيقيًّا وقد نزَل من دون شكٍّ إلى الماء مئات المرات قبل ذلك، ولم يكن مُصمَّمًا مُطلقًا للعيش فيه على اليابسة.
كان المركَّب نظيفًا بصورةٍ مُبهجةٍ من الداخل، وفي غاية الترتيب. حيث توجد منضدةٌ، وساعةٌ هولنديةٌ، وخزانةٌ ذاتُ أدراجٍ وُضعت فوقها صينيةُ شاي، وهي مسنودة بإحدى نسخ الكتاب المُقدس كي لا تسقط، مع بعض الفناجين وصحون الفناجين وإبريق شاي حول الكتاب. كما تُوجد صناديقُ للجلوس عليها بدلًا من الكراسي، ويتدلَّى من دعائم السقف بعضُ الخطاطيف التي راح ديفيد يتساءل فيمَ كانت تُستخدم.
وقد رحبت بهم امرأةٌ مهذَّبةٌ للغاية ترتدي مريلةً بيضاء، وبنتٌ صغيرةٌ جميلةٌ ترتدي عِقدًا من خرزٍ أزرق اللون، ولم تسمح لديفيد بأن يُقبِّلها، وإنما جرتْ بعيدًا واختبأت.
وبعد ذلك فتحت بيجوتي بابًا صغيرًا لترشد ديفيد إلى غرفة نومه. وهي تقع في مؤخرة المركب؛ وقد وجدها ألطف غرفة نومٍ صغيرةٍ رأتْها عينُه على الإطلاق، وبها نافذةٌ صغيرةٌ في المكان الذي كانت توضع فيه الدفة؛ ومرآةٌ صغيرةٌ، تُناسِب طولَ قامة ديفيد تمامًا، وهي مُثبتةٌ على الحائط، ومُحاطةٌ بإطارٍ من أصداف المحار؛ وبها كذلك سريرٌ صغيرٌ يستطيع المرء بالكاد أن يَدخله من ضيق المساحة المتاحة لذلك؛ كما كان في الغرفة باقةُ زهرٍ من العُشب البحري في كوبٍ أزرق اللون على المنضدة.
ثم تناولوا أسماك الدَّاب الصغيرةَ المفلطحة المسلوقة على الغداء، مع زبدٍ مصهورٍ، وبطاطس، وشريحةِ لحمٍ من أجل ديفيد؛ وما إن انتهَوا من تناوُل الغَداء حتى دخل عليهم رجلٌ كثيرُ الشعر ذو وجهٍ لطيفٍ للغاية، وقدَّموه لديفيد باسم السيد بيجوتي؛ رُبَّانُ البيت، وأخو السيدة بيجوتي.
قال السيد بيجوتي: «سُررتُ برؤيتكَ يا سيدي، سوف تجد أنَّنا خشنو الطبع يا سيدي، لكننا مُتأهِّبون للمساعَدة.»
شكره ديفيد، وقال إنه متأكِّدٌ أنه سيكون سعيدًا في مثل هذا المكان المُبهِج.
سأله السيد بيجوتي: «كيف حالُ والدتك يا سيدي؟ هل تركتَها سعيدةً بدرجةٍ كبيرة؟»
قال ديفيد: «نعم.» وأضاف أنها تُرسِل له تحياتها.
قال السيد بيجوتي: «أنا في غاية الامتنان لها بالتأكيد.» ثم قال وهو يُومئ إلى أُخته، وهام، والصغيرة إميلي: «حسنٌ يا سيدي، إذا كنتَ ستستطيع الإقامة هنا مدةَ أسبوعين كاملَين معنا، فسنَشرُف بصحبتِك.» ثم خرج السيد بيجوتي ليغتسل بملءِ قدرٍ من الماء الساخن.
وبعد احتساء الشاي أُغلق الباب، وأُعدَّ كلُّ شيءٍ ليُصبحَ مريحًا ودافئًا؛ لأن ليالي تلك الفترة كانت باردةً وضبابية.
ثم تغلَّبت الصغيرةُ إميلي على خجلها، وجلسَت مع ديفيد على الخزانة الأقرب إلى الأرض، والتي لم تكن تتَّسع إلا لشخصين، وكان ركن المدخنة يستوعبها تمامًا. بينما أخذت السيدةُ المُهذبة ذاتُ المريلة البيضاء تحيكُ شيئًا ما على الجانب الآخر من نار المدفأة؛ وبدت بيجوتي، وهي تعمل بالتطريز، على حريتها تمامًا وكأنها في بيتها. أما هام فراح يُعلِّم ديفيد بعضَ الحيل في لعبة الورق، وجلس السيد بيجوتي في استرخاءٍ يُدخن غليونه.
بعد قليلٍ قال ديفيد: «سيد بيجوتي.»
قال السيد بيجوتي: «نعم يا سيدي.»
«هل سمَّيتَ ابنكَ هام لأنك تعيش في نوع من أنواع الفُلْك؟»
«لا يا سيدي، أنا لمْ أُسمِّه مُطلقًا.»
«فمن سمَّاه بهذا الاسم إذن؟»
«يا إلهي، أبوه يا سيدي هو الذي سماه به.»
قال ديفيد: «كنتُ أحسب أنك أنت أبوه.»
قال السيد بيجوتي: «لقد كان أبوه أخي جوي.»
سأل ديفيد، بعد فترةِ صمتٍ مُعبرة عن الاحترام: «هل تُوفي، يا سيد بيجوتي؟»
قال السيد بيجوتي: «لقد غَرِق.»
تفاجأ ديفيد للغاية عندما اكتشف أن السيد بيجوتي لم يكن والدَ هام، لدرجة أنه بدأ يتساءل بعد ذلك عن طبيعة صِلته بالصغيرة إيميلي؛ فبادرَ ديفيد، وهو يُلقي إليها نظرةً عَجلى، قائلًا: «والصغيرةُ إيميلي، إنها ابنتُكَ أليس كذلك يا سيد بيجوتي؟»
«لا يا سيدي. بل كان أبوها توم، زوج أختي.»
سأل ديفيد، بعد فترةِ صمتٍ أخرى معبرةٍ عن الاحترام: «هل تُوفي يا سيد بيجوتي؟»
قال السيد بيجوتي: «غرِق.»
«أما لديك أيُّ أطفالٍ يا سيد بيجوتي؟»
«بلى يا سيدي. إنني أعزب.»
صاح ديفيد باندهاش: «أعزب!» وأشار إلى السيدة المُهذبة ذات المريلة البيضاء وقال: «يا للعجب، ومَن هذه؟»
قال السيد بيجوتي: «هذه السيدة جُوميدج.»
بادر ديفيد إلى السؤال: «جُوميدج؟» لكنَّ بيجوتي — مربيته بيجوتي — عبستْ في وجهه ليكُفَّ عن الكلام؛ وهكذا ظلَّ ديفيد ساكتًا حتى حان وقتُ النوم.
بعد ذلك، عندما انفردتْ به في حجرته الصغيرة، أخبرتْه أن هام وإيميلي يتيمان، وأن عمَّهما تبنَّاهما عندما فقدَا أبوَيهما؛ وأن السيدة جوميدج أرملةُ شريكِه في أحد القوارب، وقد تُوفي شريكُه هذا فقيرًا جدًّا، فآواها السيد بيجوتي في بيته هي الأخرى عندما أصابها العَوَز؛ وأن الشيء الوحيد الذي يُغضب السيد بيجوتي هو أن يُذكِّره أحدٌ بعمله النبيل معها.
أُعجب ديفيد للغاية بطيبة السيد بيجوتي، وظلَّ يُفكر فيها قبل أن يأخذه النوم.
ذهبت بيجوتي والسيدة جوميدج والصغيرةُ إيميلي للنوم في حجرةٍ صغيرةٍ أخرى في الطرف المقابل من المركب، وعلَّق السيدُ بيجوتي وهام لنفسَيهما أرجوحتين شبكيتَين في الخطاطيف التي كان ديفيد قد رآها مُعلقةً في السقف عند أول دخوله إلى البيت.
استيقظ ديفيد مبكرًا في صباح اليوم التالي، وخرج مع الصغيرة إيميلي يجمعان الصخور على الشاطئ.
قال لها ديفيد: «لا بُد أنكِ بحَّارةٌ ماهرةٌ.»
أجابت إيميلي، وهي تهزُّ رأسها: «لا، أنا أخاف من البحر.»
صاح ديفيد بقوةٍ، وهو ينظر بجسارةٍ إلى الأمواج العظيمة: «تخافين! أنا لا أخاف منه.»
قالت الصغيرة إيميلي: «آهٍ! لكنه قاسٍ. لقد رأيتُ منه قسوةً شديدةً على بعض رجالنا. لقد رأيتُه وهو يُمزِّق مركبًا في حجمِ بيتنا قِطَعًا.»
«أرجو ألَّا يكون هو المركب الذي …»
قالت إيميلي: «الذي غرق فيه أبي؟ لا. ليس هذا. أنا لم أرَ ذلك المركب قط.»
سألها ديفيد: «ولا رأيتِ أباك؟»
هزَّت الصغيرةُ إيميلي رأسَها. وقالت: «ليس بما يكفي لأتذكَّره.»
أخبرها ديفيد أنه هو الآخر لم يرَ أباه مطلقًا، وأنه يعيش هو وأمُّه بمفردهما وينويان أن يكونَا كذلك دائمًا؛ لأنهما سعيدان للغاية. كما أخبرها أن قبر أبيه موجودٌ في فِناء الكنيسة قريبًا من منزلهم، حيث تُظلِّله إحدى الأشجار.
قالت إيميلي إنه ما من أحدٍ يعرف شيئًا عن مكان قبر أبيها، باستثناء أنه في موضعٍ ما في البحر.
وأضافت، وهي تبحث عن الأصداف والحصى: «وفوق ذلك، فقد كان والدُك سيدًا نبيلًا، وأمُّك سيدة نبيلة؛ أما أبي فكان صيادًا وأمي بنت أحد الصيادين، وعمي دان صيادٌ كذلك.»
سألها ديفيد: «دان هو الاسم الأول للسيد بيجوتي، أليس كذلك؟»
أجابت إيميلي وهي تومئ برأسها ناحيةَ البيت المركب: «عمي دان؛ الذي هناك.»
قال ديفيد: «نعم. أقصده هو. لا بد أنه طيبٌ للغاية، أعتقد هذا.»
قالت إيميلي: «طيب؟! لو كان لي أن أُصبح من النبيلات يومًا لمنحتُه سترةً زرقاءَ سماويةً ذاتَ أزرار ماسية، وبنطلونًا من قماش النَّنكين، وصديريًّا مخمليًّا أحمر اللون، وقبعةً مرفوعة الحواف، وساعةَ جيبٍ ذهبيةً كبيرة، وغليونًا فِضيًّا، وصندوقًا من المال.»
ظلَّ الاثنان يتمشيان مسافةً طويلةً، ويلتقطان أشياءَ غريبةً من على الشاطئ، ثم عادَا لتناول الإفطار في البيت المركب ووجهاهما يتوهَّجان صحةً وسعادة.
لقد أصبحَا صديقَين حميمَين للغاية، وصارَا يتمشَّيان في سهل يارمث ذاك بالساعات يبحثان فيه عن أشياءَ لافتةٍ للنظر، ثم يعودان إلى البيت المركب في أوقات الطعام وهما جائعان مثل طائرَين صغيرين من طيور السمنة، هكذا كان يقول السيد بيجوتي.
لقد كان وقتًا بهيجًا جدًّا.
أما الإنسانة الوحيدة التي لم تكن على درجةٍ كبيرةٍ من التناغم، الذي كان بإمكانها تحقيقُه، مع هذا البيت الصغير الهانئ هي السيدة جوميدج.
كانت السيدة جوميدج تُعاني اكتئابًا، وتشير إلى نفسها «كإنسانة بائسة وحيدة»؛ وعندما يزيد اكتئابُها جدًّا، كانت تُلمِّح كثيرًا بطريقةٍ رآها ديفيد أكثر من المستساغ، إلى أنه كان الأجدر بها أن تذهب إلى الملجأ، وأن تموت، وتنال الخلاص.
وهو ما كان السيد بيجوتي يردُّ عليه بلُطفٍ قائلًا: «لا تبتئسي أيتها الفتاة.»
فتردُّ السيدة جوميدج قائلةً: «إنني لستُ كما أتمنى أن أكون، أنا بعيدةٌ جدًّا عن ذلك. أنا أعلم حقيقتي. إن مشاكلي قد جعلتْ مني امرأةً مناقِضة. ليتَني أتعود على احتمال صعابها، لكنني لا أستطيع. إنني أبثُّ الضِّيق في البيت. أنا إنسانةٌ بائسةٌ وحيدة، ويجدر بي ألَّا أجعل من نفسي امرأةً مناقِضة هنا. إذا كان لا مفرَّ من أن تُناقضني الظروف، وأن أُصبح مناقضة أنا الأخرى، فلتدعني أعيش مناقضة في ملجأ أبرشيتي يا دانيال؛ إنه ليجدر بي أن أدخل الملجأ، وأن أموت هناك، وأنال الخلاص.»
ثم تذهب السيدة جوميدج بعد ذلك إلى فراشها، وعندما كان ديفيد ينظر إلى السيد بيجوتي، وهو يتوقَّع أن يراه مُغتاظًا أو مُنزعجًا، يجده لا يزيد على أن يُنكِّس رأسه وعلى وجهه نظرةُ تعاطُفٍ عميقٍ، ويهمس قائلًا: «لقد كانت تُفكِّر في رجُلها.»
وهو يقصد الفقيدَ السيدَ جوميدج. وعندما أدخل نفسه في أرجوحته الشبكية ليلًا، بعد واحدةٍ من نوبات المُشاكَسة التي تعتري السيدة جوميدج، سمعه ديفيد وهو يُردد بينه وبين نفسه: «المسكينة! لقد كانت تُفكِّر في رجُلها.»
يا للعجب! ما أسرع انقضاء هذين الأسبوعين! حيث كان هام في وقتِ فراغه يمشي مع ديفيد والصغيرة إيميلي، ويريهما القوارب والسفن، وقد أخذهما مرةً أو مرتين في جولةٍ على قاربٍ ذي مجاديف. وبأسرع مما يتمنَّون حان في نهاية الأمر وقتُ العودة إلى البيت.
رافقت الصغيرةُ إيميلي ديفيد إلى الحانة حيث كانت عربة الحمَّال تنتظر، ووعدها ديفيد، وهو في الطريق، أن يكتب إليها.
لقد حزن الاثنان جدًّا لافتراقهما؛ وذلك لأنهما صارَا صديقَين مقرَّبَين للغاية؛ لكن كان عليهما أن يُودِّعَا بعضهما؛ وعندما بدأت عربة الحمال رحلتها إلى قرية بلاندستن، تذكَّر ديفيد، وهو يهتزُّ سرورًا، أنه سيرى أُمَّه ثانيةً.