السفر بالعربة
ربما ساروا مسافة نصف ميلٍ تقريبًا قبل أن يتوقَّف الحمَّال فجأة. وعندما نظر ديفيد من نافذة العربة ليعرف ما الذي منعه من مواصلة السير رأى بيجوتي تخرج من وراء سياجٍ وتُسرع نحوهما، وتصعد إلى العربة.
أخذته بيجوتي بين ذراعيها وقبَّلتْه وضمَّتْه؛ لكنها كانت تَلهث بشدةٍ بحيث لم تستطع قول كلمةٍ واحدة. ثم أفلتت إحدى ذراعيها، ودسَّتْه في جيبها حتى مرفقها، وأخرجت بعضَ الأكياس الورقية المليئة بالكَعك، وحَشَتْ بها جيوب ديفيد، ومحفظةً وضعتْها في يده. ثم احتضنتْه مرةً أخرى ونزلت من العربة وأسرعت بالانصِراف.
قال الحمَّال للحصان الكسول: «هيَّا.» وراح الحصان يَسير مُتثاقلًا من جديد.
بكى ديفيد حتى لم يَعُد يستطيع البكاء، واقترح عليه باركس، عندما نظر إليه، أن ينشر منديله المبلَّل فوق ظهر الحصان ليجف. أعطاه ديفيد إياه، ونشره الحمَّال على ظهر الحصان؛ وعندما نظر ديفيد في المحفظة التي أعطتها له بيجوتي وجد بها ثلاثة شلنات لامعة. وفي جزءٍ آخر منها وجد قطعتي نقدٍ من فئة نصف الكراون ملفوفتَين في قُصاصة ورقٍ كُتب عليها بخط والدته: «من أجل ديفي، مع حُبِّي.»
تأثر ديفيد تأثرًا شديدًا لدرجة أنه بدأ يبكي من جديد، وطلب من الحمَّال أن يُناوله منديله من على ظهر الحصان. لكنَّ باركس قال إنه يعتقد أنه سيكون أفضل من دونه؛ لذا جفَّف ديفيد عينَيه بكُمَّيه بدلَ المنديل، وتوقف عن البكاء.
بعد ذلك تكلَّم الاثنان قليلًا، وقال باركس إنه ذاهبٌ إلى مدينة يارمث فقط. وقال: «وهناك، سأُوصِّلُك إلى عربة السفر العمومية، وستوصلك عربة السفر إلى … حيثما ستذهب.»
بعد ذلك قدم ديفيد كعكةً من الكعك الذي معه لباركس، فالتهمها باركس مرةً واحدةً، مثلما يفعل الفيل تمامًا. ثم سأل ذلك الحمَّالُ، وهو مُنحنٍ إلى الأمام انحناءته المترهلة المعتادة: «هل صنعتْه الآن؟»
«أتقصد بيجوتي؟»
قال باركس: «نعم! هي.»
«نعم. إنها تصنع جميع معجناتنا وتطهو الطعام كله.»
قال باركس: «هل هي مع ذلك؟» وضم شفتيه ليُصفر، لكنه لم يُصفر، وراح ينظر إلى أُذُنَي الحصان.
ثم سأل بعد فترةٍ ليست بالقليلة: «ما من محبوب، على ما أظن، أليس كذلك؟»
قال ديفيد: «ما من ماذا؟ أتقصد الحلوى يا سيد باركس؟» وكان يظن أنه يريد المزيد من الطعام.
قال باركس: «محبوب، حبيب؛ ما من رجلٍ في حياتها!»
«حياة بيجوتي؟»
«نعم! هي.»
«يا إلهي، لا. لم يكن في حياتها حبيبٌ قط.»
قال باركس: «ألم تكن مع ذلك؟» ومن جديدٍ ضمَّ شفتيه ليصفر، ولم يصفر كذلك، وإنما جلس ينظر إلى أذني الحصان.
وقال: «إذن هي التي تصنع جميع فطائر التفاح، وتطهو الطعام كله، أليس كذلك؟»
قال ديفيد نعم.
قال باركس: «حسنًا، اسمع، لعلَّك سترسل لها رسالة، أليس كذلك؟»
أومأ ديفيد برأسه أنه سيفعل.
قال باركس ببطءٍ، وقد حوَّل عينيه إلى ديفيد: «نعم! حسنًا! إذا كتبتَ لها، فلعلك تتذكر أن تقول لها إن باركس راغب؛ أتسمح؟»
«إن باركس راغب. هل هذه هي كل الرسالة؟»
قال باركس وهو يُفكر: «ﻧﻌ… عم، ﻧﻌ… عم. باركس راغب.»
«لكنك ستعود إلى بلاندستن مرةً أخرى غدًا يا سيد باركس، وتستطيع إيصال رسالتك بطريقةٍ أفضل من هذا بكثير.»
لكن باركس لم يَزِد على أن هزَّ رأسه وردد قائلًا: ««إن باركس راغب.» هذه هي الرسالة.»
عزيزتي بيجوتي. لقد وصلتُ إلى هنا سالِمًا. إن باركس راغب. أبلغي حُبِّي لأمي. المُخلص لكِ ديفيد. ملحوظة: إنه يقول إنه يُريد على وجه التحديد أن تعلمي أن «باركس راغب».
بعد قليلٍ سألت مالكةُ الفندق إن كان هذا هو السيد الصغير من قرية بلاندستن، وعندما اكتشفت أنه هو، دقَّت جرسًا واستدعتْ نادلًا ليأخذ ديفيد إلى غرفة القهوة.
أدخله النادل غرفةً كبيرةً مستطيلةً، وفرَشَ غطاء مائدةٍ، وأحضر بعض الخضروات وشرائح اللحم، ووضع كرسيًّا لديفيد عند المنضدة، وقال برقةٍ: «والآن يا فارع الطول! تفضَّل!»
جلس ديفيد على كرسيِّه، لكنه كان مرتبكًا للغاية من النادل الواقف أمامه والذي راح يُحدِّق فيه، حتى إنه سكب مرق اللحم على نفسه، فاحمرَّ وجهه جدًّا من الخجل. قال النادل: «هناك نصف لتر من عصير الفاكهة من أجلك. هل ستشربُه الآن؟»
شكره ديفيد، وقال: «نعم.» وعلى إثر ذلك صبَّ النادلُ العصير من دورقٍ كان معه في قدح كبيرٍ، ورفعه في ضوء المصباح.
وقال: «يا للعجب! يبدو قدرًا كبيرًا من العصير، أليس كذلك؟» وافقه ديفيد الرأيَ، وسُرَّ للغاية عندما وجده رجلًا لطيفًا هكذا.
قال النادل: «كان هنا رجلٌ بالأمس، رجلٌ قويُّ البنية، يُدعى توبسْوير؛ لعلك تعرفه؟»
قال ديفيد: «لا.»
قال النادل: «كان يَرتدي بنطالًا قصيرًا من بناطيل ركوب الخيل وحذاءً طويلًا، وقبعة عريضة الحافة، وربطة عنق مُنقَّطة.»
كرَّر ديفيد إجابته باستحياء: «لا.»
قال النادل: «لقد دخل إلى هنا، وطلب كأسًا من هذا العصير — وقد نصحتُه بألَّا يفعل — لكنه شربه، وسقط ميِّتًا.»
ارتاع ديفيد للغاية، وقال إنه يظن أنه ينبغي له الحصول على بعض الماء.
قال النادل وهو ينظر إلى قدح الشراب وإحدى عينيه مغلقة: «يا للعجب، أتدري، إن صاحبة الفندق لا تُحب أن يَطلب الزبائن الأشياء ثم يتركونها. إن هذا يُضايقها. لكنني سأشربه إذا أحببتَ. أنا متعودٌ عليه، والتعود هو الأهم في هذه الأمور. لا أظن أنه سيُؤذيني إذا ألقيتُ رأسي إلى الوراء وابتلعتُه بسرعة. أتسمح لي؟»
قال له ديفيد إنه إذا كان متأكدًا من أنه لن يؤذيَه، فسيكون ممتنًّا له للغاية. وعندما ألقى النادلُ رأسه إلى الوراء، وابتلع العصير بسرعةٍ، راح ديفيد يراقبه بشيءٍ من الذعر خشيةَ أن يسقط ميتًا هو الآخر. لكن العصير لم يؤذِه.
في الواقع، وعلى عكس ما توقعه ديفيد تمامًا، لقد بدا النادلُ أكثر نشاطًا بعدما شربه.
قال النادل وهو يضع شوكةَ طعامٍ في الطبق: «ماذا لدينا هنا؟ أليست هذه شرائح لحم؟»
قال ديفيد: «بلى، شرائح لحم.»
هتف النادل قائلًا: «يا إلهي! لم أكن أعرف أنها شرائح لحم. يا للهول، إن شريحة اللحم تحديدًا هي ما يُزيل الآثار السيئة لهذا العصير! أليس هذا من حُسن الحظ؟»
وهكذا أمسك شريحة لحمٍ من ضلعها بيدٍ، وقطعة بطاطسٍ في اليد الأخرى، وراح يأكل بشهيةٍ مفتوحةٍ جدًّا.
بعدما انتهت شرائحُ اللحم، أحضر النادلُ حلوى البودينج، وعندما وضعها أمام ديفيد، بدا شاردَ الذهن للحظات.
ثم قال فجأةً: «ما رأيُك في الفطيرة؟»
قال ديفيد: «إنها حلوى البودينج.»
هتف النادل: «بودينج! يا للعجب، يا إلهي، إنها كذلك بالفعل.» ثم نظر إليها عن قربٍ أكثر وقال: «ماذا! لا تقل لي إنها حلوى البودينج المخفوقة!»
«بلى، إنها هي بالفعل.»
قال النادل وهو يتناول ملعقةً من ملاعق المائدة: «يا للعجب، بودينج مخفوق، إنها النوع المفضل عندي من حلوى البودينج! أليس هذا من حسن الحظ! هيَّا أيها الصغير، لنرَ مَن منَّا سيأكل أكثر من الآخر.»
بالتأكيد أكل النادل النصيبَ الأكبر. وقد توسل إلى ديفيد أكثر من مرةٍ كي ينخرط في السباق ويفوز، لكن بسبب كِبر ملعقة المائدة التي كانت معه مقارنةً بملعقة الشاي التي كانت مع ديفيد، وبسبب انفتاح شهيته الكبير مقارنةً بشهيةِ ديفيد، فقد جاء الصبي الصغير في ذيل السباق.
بعد قليلٍ دوَّى نفيرُ عربة السفر في الساحة؛ وبينما يساعدُ شخصٌ ما ديفيد على صعود العربة من جهتها الخلفية، سمع صاحبة الفندق تقول للحارس: «اعتنِ بهذا الطفل يا جورج وإلَّا سينفجر!» وفي تلك اللحظة خرجت بعضُ خادمات الفندق لينظرن إليه، ويضحكْن.
كنَّ يحسبنه هو الذي أكل كلَّ شرائح اللحم وكل البطاطس التي كانت في الطبق، وحلوى البودينج كلها.
وعندما استحثَّ سائق عربة السفر جيادَه على المسير بلسعات سوطه وصاروا في الطريق إلى وِجهتهم، راح هو والحارس يتندران على ثِقل العربة خلفهما، بسبب جلوس ديفيد فيها، ويقترحان أنه كان ينبغي أن يسافر بعربة كبيرةٍ خاصة.
بعد ذلك أمسك الركابُ الذين على سطح العربة قصةَ شهية ديفيد الكبيرة المزعومة، وراحوا يسألونه إن كان سيدفع في المدرسة مصروفات أخوين أو ثلاثة، وكانوا مبتهجين للغاية من القصة في الواقع.
اعترى ديفيد المسكينَ شعورٌ كبيرٌ بالخجل، لدرجة أنه عندما توقفت العربة أمام فندق آخر ليتناول الركابُ العشاء، تظاهر بأنه ليس جائعًا على الإطلاق، ولم يتناول أيَّ شيءٍ على العشاء، رغم أنه كان يودُّ بشدةٍ أن يتناول بعض الطعام. لكنَّ هذا لم يُنقذه من المزيد من النكات، حيث قال رجلٌ عجوزٌ إنه مثل الثعبان العاصر الذي يتناول في وجبة واحدةٍ ما يكفيه وقتًا طويلًا.
في تلك الأيام، كما أوضحتُ من قبل، لم يكن هناك سككٌ حديديةٌ على الإطلاق، وكان مَن يسافرون من مكانٍ إلى آخر يستقلون العربات دائمًا.
وهم قد غادروا يارمث في الساعة الثالثة بعد الظهر، ولن يصلوا إلى لندن قبل الثامنة من صباح اليوم التالي. لكن الجو كان صيفيًّا معتدلًا، والمساء صافٍ للغاية. وقد أَحب ديفيد التنقل بالعربة عبر القرى واحدةً تلو الأخرى، وحاول أن يتخيل كيف تبدو البيوتُ من الداخل. وكان بعضُ الصِّبية يجْرون خلفهم أحيانًا ويتعلقون في المَركبة قليلًا، بينما ديفيد يتساءل إن كان آباؤهم على قيد الحياة، وإن كانوا سُعداء في بيوتهم. لقد فكَّر مدةً طويلةً كذلك في والدته وفي بيجوتي، لكنه أحسَّ وكأنه قد انقضتْ دهورٌ على مغادرته قرية بلاندستن.
طلع الصبحُ أخيرًا، وبعد قليلٍ لاحت لأعينهم مدينةُ لندن العظيمة النشيطة الصاخبة، وفي الوقت المناسب وصلت العربة إلى وِجهتها أمام أحد الفنادق، في مكانٍ ما بمقاطعة وايتشابل.
فسأل الحارس عند مكتب الحجز: «هل يوجد أيُّ أحدٍ هنا ينتظر وصولَ طفلٍ محجوزٍ له في عربة السفر العمومية باسم ميردستون، من قرية بلاندستن، بمقاطعة سافك، كي أسلمه له؟»
لم يُجبه أحد.
قال ديفيد: «لو سمحتَ يا سيدي، جرِّب اسمَ كوبرفيلد.»
أعاد الحارسُ سؤاله، مُضيفًا: «لكنه ينتمي لعائلة كوبرفيلد.»
لا، لم يكن هناك أحد.
واقترح رجلٌ سخيف يرتدي حذاءً طويلًا أن يضعوا طوقًا نُحاسيًّا في رقبة ديفيد، وأن يربطوه في الإسطبل.
بعد ذلك أُحضر سلمٌ خشبيٌّ، ونزل جميع الرُّكاب، وأُزيلت حقائب السفر، وحُررت الخيولُ من العربة. وحتى الآن لم يأتِ أحدٌ للمطالبة بالطفل المُغبرِّ القادم من قرية بلاندستن، بمقاطعة سافُك.
فدخل ديفيد مكتب حجز التذاكر، وأجلسه الموظفُ على الميزان الذي توزن عليه جميع حقائب السفر؛ وجلس الفتى الصغيرُ ينظر إلى الطرود، ويتساءل عمَّا قد يحدث له إذا لم يأتِ أحدٌ لاصطحابه.