الأسابيع الأولى في مدرسة سِيلم هاوس
أخيرًا دخل شابٌّ نحيلٌ شاحبٌ، غائرُ الخدين، يرتدي بدلةً لونها أسود صدئ، وأكمامها وأرجل بنطلونها قصيرة نوعًا ما، إلى المكتب وهمس في أذن الموظف، فأمال الموظفُ ديفيد من على الميزان ودفع به إلى الوافد الجديد. فأمسك الشاب يدَ ديفيد، وخرج الاثنان معًا.
قال الشاب: «أنت الولد الجديد، أنا أحد مُدرِّسي مدرسة سِيلم هاوس.»
أحنى ديفيد رأسه مُحيِّيًا إياه وأحسَّ برهبةٍ شديدةٍ تعتريه؛ واستحيَا للغايةِ أن يذكر شيئًا شديد الابتذال مثل حقيبته، لواحدٍ من عُلماء ومدرِّسي مدرسة سِيلم هاوس، لدرجة أنهما سارَا بعض المسافة قبل أن يَمتلك الشجاعة لكي يُلمح إليها. وهكذا رجعَا إلى المكتب، وقال المدرس للموظف إن الحمَّال سيأتي لأخذها في الظهيرة.
سأله ديفيد، بعدما سارَا في طريقهما مرةً أخرى: «لو سمحتَ يا سيدي، هل المدرسة بعيدة؟»
قال: «إنها في الجنوب بجوار مقاطعة بلاكهيث.»
سأله ديفيد: «هل هذه المسافة بعيدةٌ يا سيدي؟»
قال: «إنها بعيدة بالفعل، سوف نستقل عربة السفر العمومية. فهي تبعد ستة أميال تقريبًا.»
شعر ديفيد بإرهاقٍ ووهنٍ شديدَين، فهو لم يأكل شيئًا منذ أن ساعده النادلُ على إنهاء طعامه من شرائح اللحم وحلوى البودينج بالأمس، لدرجة أن تشجَّع على أن يقول للمدرس ذلك.
حينئذٍ قال المدرس إنه يريد أن يزور سيدةً عجوزًا لا يبعد بيتُها كثيرًا عنهما، وإنه إذا اشترى ديفيد شيئًا ما وهما في الطريق فإن بإمكانه أن يتناوله في بيتها.
وهكذا اشتريَا رغيفًا صغيرًا لذيذًا من الخبز البُنِّيِّ من محل أحد الخبازين؛ ثم اشتريَا بيضةً وشريحةً من اللحم المُملَّح المُقدَّد من البقال، وحملهم ديفيد حتى وصلَا إلى بيت السيدةِ الفقيرة، والذي أدرك ديفيد في الحال أنه جزء من أحد ملاجئ الفقراء.
رفع المدرسُ رتاج بابٍ من عدة أبوابٍ صغيرةٍ سوداء متشابهة كلها، ودخلَا المنزل الصغير الذي تسكنه امرأةٌ عجوزٌ فقيرةٌ كانت تُوقد نارًا كي تضع فوقها قِدرًا صغيرةً لتغليَ.
وما إن رأت المرأةُ المدرِّس حتى صاحت بشيءٍ يُشبه «ولدي تشارلي!» لكنها عندما رأت ديفيد يدخل هو الآخر، نهضت وانحنت محيِّيةً إياه في ارتباك.
قال مدرِّس مدرسة سِيلم هاوس: «أيُمكنكِ أن تطهيَ لهذا السيد الصغير إفطارَه، من فضلِك؟»
قالت السيدةُ العجوز: «أيمكنني؟ نعم، يمكنني، بالتأكيد.» وأنضجته ببراعةٍ حقًّا.
بينما ديفيد يستمتع بوجبته قالت السيدةُ العجوز: «هل أحضرتَ مزمار الفلوت معك؟»
أجابها المدرس: «نعم.»
قالت السيدةُ العجوز، بنبرة مُلاطفة: «فلتعزف به، هيَّا.»
وهكذا أخرج المدرس مزماره المكون من ثلاث قطعٍ، وربط بعضها ببعض، وبدأ العزف في الحال.
أحسَّ ديفيد أن اللحن الذي عزفه كان كئيبًا وسوداويًّا إلى أبعد الحدود، وفي الحقيقة، لقد أحسَّ أنه مُغرقٌ في السوداوية، لدرجة أنه جعله يذرف الدموع في البداية، ثم بعد ذلك ألقى على عينيه أغشية النوم. وبينما ديفيد يَنعسُ خُيِّل إليه أن السيدة العجوز راحت تقترب ببطءٍ من المدرس حتى أصبحت قريبةً بما يكفي لتطويق عنقِه بذراعيها في حنان.
لكنه استيقظ بعد قليل، وحلَّ المدرس مزماره وأعاد القطع إلى مكانها؛ وقال لديفيد إنه قد حان وقتُ الذهاب إلى عربة السفر.
لم تكن العربة بعيدةً، وركب الاثنان فوق السطح؛ لكنَّ النعاسَ كان متمكنًا جدًّا من ديفيد حتى إنهم عندما توقفوا في الطريق لاصطحاب شخصٍ آخر، وضعوه داخل العربة التي كانت خاليةً من الركاب، ونام نومًا عميقًا.
توقفت العربة بعد قليل، وأخرجه المُدرس منها، ثم سارَا لمسافة قصيرة حتى وصلَا إلى مكانٍ كئيبِ المنظر يحيط به سورٌ قرميديٌّ عالٍ من جميع الجهات، وكان مكتوبًا على رقعةٍ خشبيةٍ وُضعت فوق بابٍ في الحائط «مدرسة سِيلم هاوس»؛ وعندما دقَّا الجرس راح وجهٌ مُكفهرٌّ يُحدِّق فيهما عبر نافذة شبكية في الباب، ثم فتح لهما الباب رجلٌ قصير القامة ذو رقبةٍ غليظةٍ قصيرةٍ، ورِجلٍ خشبيةٍ، وشعرٍ قصيرٍ.
قال المدرس: «الصبي الجديد.»
حدَّق الرجل ذو الرِّجل الخشبيةِ في ديفيد، وأغلق البوابةَ خلفهما، وصاح قائلًا: «مرحبًا!» بينما اتجهَا نحو مبنى المدرسة.
ثم نظر الاثنان خلفهما، إذ قال الرجلُ، الذي كان واقفًا عند باب كوخِ بوابٍ صغيرٍ وفي يده حذاءٌ طويل: «تفضَّل! لقد جاء الإسكافيُّ، بعد أن غادرتَ، يا سيد ميل، ويقول لك إنه لا يستطيع إصلاحه بعد الآن. كما يقول إنه لم يَعُد يُوجد فيه حتى ولو جزءًا صغيرًا من الحذاء الأصلي، وهو يعجب من تمسُّكك به.» ثم ألقى الحذاء إلى السيد ميل، فالتقطه وراح ينظر فيه بخيبة أملٍ شديدة. وعندئذٍ لاحظ ديفيد للمرة الأولى أن الحذاء الذي كان يرتديه أسوأ بكثيرٍ من أن يَرتديَه أحد.
لم يكن هناك أيُّ صوتٍ في المكان. كان هادئًا جدًّا لدرجة أن ديفيد تساءل إن كان الأولاد جميعهم قد خرجوا.
عندئذٍ أوضح له السيد ميل أنهم كانوا في وقت الإجازة، وجميع الأولاد في بيوتهم، كما أن السيد كريكل، مالك المدرسة، ذهب إلى شاطئ البحر مع السيدة والآنسة كريكل؛ وأن ديفيد أُرسل إلى المدرسة في وقت الإجازة عقوبةً له بسبب عضِّه ليد السيد ميردستون.
كانت حجرة الدرس أكثر مكانٍ موحشٍ رآه ديفيد في حياته؛ فهي حجرةٌ مستطيلة بها ثلاثةُ صفوفٍ طويلةٍ من المكاتب، وستةُ مقاعدَ طويلةٍ مُلطَّخةٍ تمامًا بالحبر.
تركه السيد ميل هناك ريثما يحمل حذاءه إلى الطابق العلوي، وبينما ديفيد يستكشف الحجرةَ، لمح فجأةً لافتةً من الورق المُقوَّى موضوعةً على المكتب، وكان مكتوبًا عليها بخطٍّ جميل:
«احترسوا منه. إنه يَعض.»
عندئذٍ صعِد فوق المكتب في الحال وراح يبحث بعينين قلقتين عن الكلب، لكنه لم يجده؛ وفي تلك اللحظة دخل السيد ميل، وسأله عمَّا يفعله فوق المكتب.
قال ديفيد: «معذرةً يا سيدي، لو سمحتَ، إنني أبحث عن الكلب.»
قال السيد ميل: «كلب؟ أيُّ كلب؟»
«أليس هذا كلبًا يا سيدي؟»
«عن أيِّ شيءٍ تتحدث؟»
«ذاك الذي ينبغي الاحتراسُ منه يا سيدي؛ ذاك الذي يعض.»
قال السيد ميل بوقارٍ يشوبه الحزن: «لا، يا كوبرفيلد، ليس هذا كلبًا. إنه ولد. إن التعليمات التي لديَّ، يا كوبرفيلد، أن أعلِّق هذه اللافتة على ظهرك. أنا حزينٌ أن أبدأ علاقتي معك بمثل هذه البداية، لكنني مُضطرٌّ لفعلها.»
بعد ذلك مباشرةً أنزل ديفيد من على المكتب، وربط اللافتة في كتفيه مثل حقيبة الظهر. هنا موضع صورة، مكتوب تحتها:
مسكينٌ ديفيد! إن ما عاناه من تلك اللافتة لا يستطيع مخلوقٌ أن يتخيَّلَه. لقد كان يعلم أن الخدم قرءوها، وأن الجزار قرأها؛ لأن كل مَن جاءوا إلى المدرسة ذاتَ صباحٍ كان هو قد أُمر أن يمشيَ فيه في ملعب المدرسة — وهو عبارة عن فِناءٍ مكشوفٍ مكسوٍّ بالحصى في الجزء الخلفي من المدرسة — قد قرءوا أنه ينبغي الاحتراس منه لأنه يعض. وكان الرجل ذو الرِّجل الخشبية كلما رآه يستند على الحائط ليُخفيَ اللافتة، يَصيح عاليًا بصوتٍ قاسٍ:
«أنتَ أيها السيد! أنت يا كوبرفيلد! أظهِر هذا الشعار وإلَّا أبلغتُ عنك!»
وكان ديفيد يستذكر واجباتٍ دراسية طويلةً كل يومٍ مع السيد ميل؛ لكن، نظرًا لعدم وجود السيد والآنسة ميردستون معه كي يُوتِّرا أعصابه، أصبح يستذكر واجباتِه دون أن يشعر بأي خزي.
كان هو والسيد ميل يتغدَّيان معًا في طرفِ غرفة طعامٍ مُستطيلةٍ خاليةٍ من التجهيزات. وبعدها يستذكر المزيد من الواجبات المدرسية حتى موعد تناول شاي الخامسة عصرًا، ثم يسير بعد ذلك في ملعب المدرسة، والرجل ذو الرِّجل الخشبية يراقبه.
لم يُكثر السيد ميل من الكلام مع ديفيد مطلقًا، لكنه كذلك لم يقْسُ عليه مطلقًا. وعندما كان ديفيد يذهب إلى النوم في الغرف الشاغرة المليئة بالأسِرَّة الخالية، لم يكن يستطيع أن يمنع نفسه من البُكاء أحيانًا شوقًا إلى سماع كلمة مواساةٍ من بيجوتي.
وكان في ملعب المدرسة بابٌ قديمٌ تعوَّد الأولادُ أن يحفروا أسماءَهم عليه. وهو مُغطًّى بالكامل بأسمائهم. وعندما قرأ ديفيد الأسماء لم يملك إلا أن يتساءل كيف سيقرأ كلُّ ولدٍ اللافتةَ المعلقة على ظهره: «احترسوا منه، إنه يعض.»
فهناك ولدٌ — يُدعى جيه. ستيرفورث — وقد حفر اسمَه عميقًا جدًّا، فتخيَّل ديفيد أن يقرأ اللافتةَ بصوتٍ جهوري نوعًا ما، ثم بعد ذلك يجذبه من شعره. وهناك آخر، يُدعى تومي ترادِلْز، وقد خشي ديفيد أن يجعل منه أُضحوكةً، ويتظاهر بأنه يرتعد خوفًا منه.
كان عددُ الأولاد خمسة وأربعين ولدًا في المُجمل، كما أخبره السيد ميل، ورغم أن نفسه كانت تتوق في أحوال كثيرة لرفقتهم، فقد خشي مما سيحدث عندما يقرءون: «احترسوا منه، إنه يعض.»