جيه ستيرفورث وترادِلْز
عاش ديفيد هذه الحياة على مدى شهرٍ تقريبًا، حيث بدأ يعتاد على منظر الرجل ذي الرِّجل الخشبية وهو يمشي بتثاقل وجلَبةٍ ومعه مِمسحةٌ ودلوٌ مليءٌ بالماء، بينما تقوم امرأتان أو ثلاثة بأعمال التنظيف بالفُرش وينفضن الغبار عن الأشياء. ثُم في يومٍ من الأيام أخبره السيد ميل أن السيد كريكل سيعود إلى بيته في المساء؛ وفي تلك الليلة قبل موعد نومه جاء الرجل ذو الرِّجل الخشبية وأخذه للمثول أمام السيد كريكل.
أخذ الرجلُ ديفيد إلى الردهة، لكنه كان يرتعد للغاية بحيث من المحتمَل ألَّا يكون قد رأى السيدة والآنسة كريكل اللتَين كانتا تجلسان هناك، أو أيَّ شيءٍ آخر غير السيد كريكل؛ وهو رجل بدينٌ يحمل مجموعةً من سلاسل الساعات والأختام، وكان يجلس على كرسيٍّ ذي ذراعين، وإلى جواره قدَحٌ وزجاجة.
قال السيد كريكل: «إذن! هذا هو الفتى الذي تحتاج أسنانُه أن تُبْرَد! أَدِرْه!»
أداره الرجل ذو الرِّجل الخشبية لكي يُظهر اللافتة، ثم أعاد وجهه مرةً أخرى في مواجهة السيد كريكل، ووقف هو إلى جوار السيد كريكل.
كان وجه السيد كريكل شديدَ الاحمرار، وعيناه صغيرتَين وغائرتَين في رأسه؛ مع أنف صغير، وذقن عريض؛ لكنَّ أشدَّ ما أثار انتباه ديفيد أن السيد كريكل لم يكن له صوت، لأنه يتحدث بالهمس.
قال السيد كريكل: «والآن، ما هو تقريرك عن حالة هذا الولد؟»
قال الرجل ذو الرِّجل الخشبية: «لا شيءَ ضده حتى الآن.»
بدت على السيد كريكل علاماتُ خيبة الرجاء. أما السيدة والآنسة كريكل، واللتان كانتا كلتاهما نحيلتين وهادئتين، فقد بدَت عليهما أماراتُ السرور. فقال السيد كريكل، مُشيرًا بيده إلى ديفيد: «تعالَ إلى هنا أيها السيد.»
«لقد سُررتُ بالتعرف على زوج أمك،» هكذا قال السيد كريكل بصوته الهامس، وهو يمسك ديفيد من أُذنه. وأضاف وهو يقرص أذنه: «وهو رجلٌ فاضلٌ جدًّا، وقويُّ الشخصية. إنه يعرفني، وأنا كذلك أعرفه. هل تعرفني أنت؟ أجب؟»
قال ديفيد وهو يتراجع إلى الوراء من الألم: «لم أعرفك بعدُ يا سيدي.»
«ليس بعدُ؟ أليس كذلك؟ لكنك ستَعرفني قريبًا، أليس كذلك؟»
ردَّد الرجل ذو الرِّجل الخشبية: «ستعرفه قريبًا، أليس كذلك؟» واكتشف ديفيد فيما بعدُ أنه كان في العادة يُوضح، بصوته الجهوري، كلامَ السيد كريكل للأولاد.
ارتعب ديفيدُ للغاية، وقال إنه يرجو ذلك، إذا سمح له السيد كريكل.
همس السيد كريكل، وهو يترك أُذنه أخيرًا، بعدما قرصها قرصةً أخيرةً جعلت عينَيه تترقرقان بالدموع: «سوف أُخبرك ماذا أكون، إنني رجلٌ تَتَريٌّ.»
ردَّد الرجل ذو الرِّجل الخشبية: «رجلٌ تتريٌّ.»
قال السيد كريكل: «عندما أقول إنني سأفعل شيئًا، فإنني أفعله، وعندما أقول إنني سأُنجز شيئًا، فسوف أُنجزه.»
ردَّد الرجل ذو الرِّجل الخشبية، وكأنه صدى الصوت: «… سأُنجز شيئًا، فسوف أُنجزه.»
بعد ذلك أمر السيد كريكل بإخراجه، لكنَّ ديفيد قال فجأةً؛ وهو مُندهشٌ من تلك الشجاعة التي تحلَّى بها: «لو سمحت يا سيدي …»
همس السيد كريكل: «ها؟ ما هذا؟»
«بعد إذنك يا سيدي، أنا في غاية الأسف حقًّا يا سيدي لِما فعلتُه؛ فهل تسمح لي أن أخلع هذه الكتابة، قبل أن يعود الأولاد …»
اندفع السيد كريكل من كرسيه فجأةً، ودون أن ينتظر ديفيد الرجلَ ذا الرِّجل الخشبية، فرَّ خارج الغرفة، ولم يتوقف بتاتًا حتى وصل إلى غرفة نومه؛ وعندما رقد على سريره ظلَّ يرتعد فيه طوال ساعتين.
في صباح اليوم التالي عاد السيد شارب إلى المدرسة. كان السيد شارب المدرس الأول، وكان أعلى منزلةً من السيد ميل. حيث يتناول السيد ميل وجباتِه مع الأولاد، أما السيد شارب فهو يتغدَّى ويتعشَّى على مائدة السيد كريكل. وكان رجلًا ضعيفًا واهنَ البنية، وله أنفٌ كبيرٌ، وشعرٌ ناعمٌ متموجٌ كثيف.
أما أول ولد عاد إلى المدرسة فكان تومي ترادلز. الذي قدَّم نفسه لديفيد بقوله إنه سيجد اسمَه مكتوبًا على الركن الأيمن من البوابة، فوق الرتاج العلوي.
قال ديفيد: «ترادلز؟»
قال ترادلز: «هو نفسه.» ثُم طلبَ وصفًا كاملًا لديفيد وعائلته؛ وأخبره أن شعر السيد شارب ليس حقيقيًّا، وإنما يضع شعرًا مستعارًا (مستعملًا)، وهو يخرج كل سبتٍ بعد الظهر ليُجعِّده.
كان من حسن حظ ديفيد أنْ وصل ترادلز إلى المدرسة أولًا. فقد استمتع باللافتة كثيرًا، وأنقذ ديفيد من الإحراج بتقديمه لكل مَن عاد إلى المدرسة من الطلاب بصيغة التقديم هذه:
«انظر! انظر لهذه المزحة.»
أخذ بعض الأولاد يرقصون حوله كالهنود الهمجيِّين، وناداه بعضُهم ﺑ «الكلب تاوزر»، وراح آخرون يربتون عليه ويقولون «استلقِ على الأرض يا سيدي.» لكنَّ الجزء الأعظم من الأولاد كانوا مكتئبين للغاية بسبب عودتهم إلى المدرسة، بحيث إنهم لم يمرحوا على حساب إيذاء ديفيد كما كان من الممكن أن يفعلوا في حالةٍ غير هذه.
لم يكن جيه. ستيرفورث قد جاء بعدُ. لقد قال الأولاد عنه إنه فتًى ذكيٌّ وحسن المظهر جدًّا، ولم يَعدُّوا أن ديفيد قد قُبِل رسميًّا في المدرسة قبل وصول جيه. ستيرفورث.
ثم جاء ستيرفورث أخيرًا؛ وهو أكبر من ديفيد بست سنواتٍ تقريبًا، وأُخذ الولد الجديدُ إليه وكأنما أُخذ للمثول أمام قاضٍ من القضاة.
وتحت سقيفةٍ في ملعب المدرسة تفحَّص ستيرفورث اللافتة، واستعلمَ عن تفاصيل عقوبة ديفيد.
أخبره ديفيد بكلِّ شيءٍ عن السيد ميردستون وعن عضه يدَه.
وعندئذٍ قال جيه. ستيرفورث إن اللافتة «عارٌ كبير.» ممَّا وثَّق صلةَ ديفيد به للغاية بعد ذلك.
انفرد ستيرفورث بديفيد وسأله: «كم معك من النقود يا كوبرفيلد؟»
أخبره ديفيد أن معه سبعة شلنات.
قال ستيرفورث: «يجدر بك أن تعطيني إياها كي أعتني لك بها، أو على الأقل يمكنك أن تفعل هذا إذا أحببتَ. لستَ مضطرًّا لذلك إذا لم ترغب فيه.»
فتح ديفيد محفظة بيجوتي في الحال، وقلبها بطنًا لظهرٍ في يده.
سأله ستيرفورث: «هل ترغب في إنفاق أيِّ شيءٍ الآن؟»
قال ديفيد: «لا، شكرًا لك.»
قال ستيرفورث: «يمكنك هذا إذا أحببتَ، اطلب فقط.»
أعاد ديفيد ردَّه السابق: «لا، شكرًا لك.»
«ربما تودُّ أن تنفق شلنين أو نحو ذلك لشراء زجاجةٍ من عصير التوت بعد قليل، لتشربها هناك في غرفة النوم. سوف تنام في نفس الغرفة التي أنام فيها، لقد اكتشفتُ هذا.»
قال ديفيد إنه يحب ذلك.
قال ستيرفورث: «حسنٌ، سوف يسرُّك أن تنفق شلنًا آخر أو نحو ذلك لشراء كعك اللوز، أليس كذلك؟»
قال ديفيد إنه يعتقد أنه يحب ذلك أيضًا.
قال ستيرفورث: «وشلنٌ آخر لشراء البسكويت، وآخر للفاكهة، أليس كذلك؟ أرى أيها الصغير كوبرفيلد أنك ستبددها كلها!»
ابتسم ستيرفورث، ولم يملك ديفيد إلا أن يبتسم هو الآخر.
قال ستيرفورث: «حسنٌ، يجب أن نَقتصِد غاية الاقتصاد في إنفاق هذه النقود؛ هذا كلُّ ما في الأمر. وسوف أبذل أقصى ما بوسعي من أجلك. إنني أستطيع الخروج متى شئتُ، وسأُهرب الطعام إلى هنا.» ثم وضع النقود في جيبه وقال لديفيد بلطفٍ إنه سيحرص على أن يكون كلُّ شيءٍ على ما يرام.
كان ستيرفورث عند كلمته: فعندما صعِدَا إلى الطابق العلوي لينامَا أخرج جميع ما اشتراه بالشلنات السبعة، وبسطه على فراش ديفيد تحت نور القمر، وقال:
«هاك ما طلبتَ، أيها الصغير كوبرفيلد، وقد حصلتَ على مأدبةٍ ملكية!»
لم يتصوَّر ديفيد أن يحتفيَ هو بضيوف الوليمة في وجود هذا الفتى الذكيِّ الوسيم، لذا توسَّل إلى ستيرفورث أن يترأسَّها بنفسه. أيَّد الأولاد الآخرون الذين في الغرفة رغبةَ ديفيد، فوافق ستيرفورث بلباقةٍ عليها، وجلس على الوسادة، وراح يُناولهم الكعك والفاكهة بنزاهةٍ تامة حقًّا، ويُوزِّع عصير التوت في كأسٍ صغيرةٍ من دون ساق، كانت كأسه هو؛ بينما جلس ديفيد على يساره، والتفَّ الآخرون حولهما.
كانوا جميعًا يتهامسون بالكلام؛ وكان ستيرفورث، إذا أراد أن يبحث عن أيِّ شيءٍ، يُقحم عود ثقابٍ في قداحةِ فسفورٍ ويُشعل وهجًا أزرق لا يلبث أن ينطفئ سريعًا.
همس الأولاد للولد الجديد بكل شيءٍ عن المدرسة؛ فعرَّفوه أن السيد كريكل هو أشدُّ المديرين صرامةً وقسوة؛ وأنه لم يكفَّ يومًا في حياته عن الضرب بعصاه يمنةً ويسرة. وأخبروه أنه لجأ إلى العمل في مجال التعليم بعدما أفلس في تجارة نبات حشيشة الدينار (نبات يدخل في صناعة البيرة)، وأنه قد سرق أموال السيدة كريكل. وأخبروه كذلك أن الرجل ذا الرِّجل الخشبية، والذي يُدعى تنجاي، كان يعمل في تجارة نبات حشيشة الدينار هو الآخر، وأن رجله قد قطعت أثناء عمله مع السيد كريكل. كما أخبروه أن السيد كريكل عنده ابنٌ، وأن هذا الابن لم يكن على وفاقٍ مع تنجاي، وأنه طُرد بسبب اعتراضه على طريقة أبيه القاسية في التعامل داخل المدرسة؛ وأن الحزن مسيطرٌ على السيدة والآنسة كريكل منذ ذلك الحين.
وقد سمع كذلك أن الأجر الذي يحصل عليه كلٌّ من السيد شارب والسيد ميل زهيدٌ جدًّا؛ وأن السيد ميل لم يكن من نوع الرجال السيئين، لكنه لم يكن يملك نصف شلنٍ ليُسعدَ نفسه به؛ وأن العجوزَ السيدة ميل، والدتَه، قد بلغ منها الفقرُ ما بلغه من النبي أيوب. فتذكر ديفيد فجأةً السيدة المُسنة التي صاحت قائلةً: «ولدي تشارلي!» عندما ذهب لطهي فطوره، لكنه لم يُخبر الآخرين بهذا.
كما سمع ديفيد أيضًا أن الأولاد كلهم يعتقدون أن الآنسة كريكل تحبُّ ستيرفورث، وهو ما لم يستغربه على الإطلاق؛ وأن ستيرفورث طالبٌ ذو امتيازاتٍ، وهو ابن سيدةٍ غنيةٍ جدًّا، وأنه الولد الوحيد في المدرسة الذي لم يجرؤ السيد كريكل قط على أن يمدَّ يدَه عليه. بعد ذلك تفرَّق الأولاد وذهبوا للنوم.
فكَّر ديفيد كثيرًا في ستيرفورث بعدما ذهب إلى فراشه، ورفع نفسه مستندًا على كوعه لينظر إليه وهو مضطجعٌ تحت نور القمر ووجهه الوسيم للأعلى، ورأسه مُعتمدٌ على ذراعه.
كان ستيرفورث قد قال قبل أن ينام: «طابت ليلتُك أيها الصغير كوبرفيلد. سوف أعتني بك.»
وفي غمرة إعجاب ديفيد بستيرفورث وعرفانه بجميله راح ينظر إليه بإجلالٍ وكأنه بطلٌ وملك.