حياة المدرسة
بدأت المدرسة جدِّيًّا في اليوم التالي.
وتحولت جلَبةُ الأصوات المتواصلة التي في حجرة الدرس إلى صمتٍ كصمت القبور بمجرد أن دخل السيد كريكل، ووقف في المدخل يُجيل النظر بين الأولاد، ويصيح بهمسٍ شرس: «سكوت!»
كان تنجاي واقفًا على مقربةٍ من السيد كريكل، وراح يردد بصوته الجهوري ما قاله السيد كريكل همسًا.
«والآن أيها الأولاد، ها قد بدأ فصلٌ دراسيٌّ جديد. فانتبهوا لما أنتم مقدمون عليه في هذا الفصل الدراسي. واحضُروا الدروس بنشاط، اسمعوا نصيحتي، فأنا نشيطٌ في توقيع العقاب. إنني لن أُحجم عن معاقبتكم. ولن يُفيدَكم أن تفركوا آثار الضرب بأيديكم؛ فلن تستطيعوا أن تُزيلوا آثار عصاي من على أجسامكم. والآن إلى دراستكم جميعًا!»
بعد ذلك خرج تنجاي محدثًا جلبةً برِجله الخشبية، بينما أقبل السيد كريكل إلى حيث يجلس ديفيد، وقال له إنه إذا كان هو مشهورًا بالعض، فإن السيد كريكل مشهورٌ بالعض أيضًا. ثم أظهر العصا لديفيد، وسأله عما إذا كانت تشبه الأسنان؟ هل هي سِنَّة حادَّة، أجِب؟ هل هي سنة مزدوجة، قُل؟ هل هي تعض، تكلَّمْ؟ وكان مع كل سؤالٍ يضرب ديفيد بها ضربةً تجعله يتلوى من الألم.
لكنه لم يكن الولد الوحيد الذي ضُرب بالعصا ذلك اليوم؛ فقبل أن ينتهي اليومُ الدراسيُّ كان نصف المدرسة يتلوى من الألم ويبكي، ويبدو أن السيد كريكل يَستمتِع للغاية بمساهمته في إحداث ذلك.
لقد كان رجلًا جاهلًا متوحشًا، لا مهمةَ له ولا متعة في غير معاقبة الأولاد. أما التدريس فهو متروك للسيد شارب والسيد ميل.
كان المسكين ترادلز تعيسَ الحظ إلى أبعد الحدود، وقد ضُرب بالعصا في كل يومٍ من أيام هذا الفصل الدراسي؛ لكنه وإن كان أكثرَ الأولاد بؤسًا؛ إلا أنه أكثرهم مرحًا، وكان، بعد أن يضع رأسه على المكتب قليلًا، يبتهج بطريقةٍ ما، ويبدأ في الضحك من جديد، ويأخذ في رسم هياكلَ عظميةٍ على طول لوح كتابته الأردوازي وعرضه، قبل أن تجفَّ دموعه.
لقد كان جديرًا جدًّا بالاحترام، إن ترادلز هكذا حقًّا؛ وقد جعل مساندة الأولاد بعضهم بعضًا واجبًا مُقدَّسًا. فذات مرةٍ ضحك ستيرفورث داخل الكنيسة، وظنَّ الشَّمَّاسُ أن ترادلز هو الذي ضحك، وأخرجه خارج الكنيسة؛ لكنَّ ترادلز لمْ يقل مطلقًا مَن الذي انتهك حرمةَ المكان في الحقيقة، رغم أنه عُوقب على هذا الانتهاك في اليوم التالي. لكنه تلقَّى مكافأته. حيث قال ستيرفورث إن ترادلز ليس واشيًا، وقد شعر الأولاد جميعًا أن هذا هو أعلى مراتب الثناء.
واصل ستيرفورث حماية ديفيد، وأثبتَ أنه صديقٌ نافعٌ جدًّا؛ لأنه ما من أحدٍ كان يجرؤ على إزعاجِ شخصٍ شرَّفه ستيرفورث بصداقته. وذات مرةٍ، بينما هما يتكلمان في ملعب المدرسة، تصادف أنْ قال ديفيد شيئًا عن واحدٍ من كتبه الحبيبة، وهو كتاب «مغامرات بيراجرِن بيكل»؛ وفي تلك الليلة أثناء ذهابهما للنوم سأله ستيرفورث إن كان هذا الكتاب معه.
أخبره ديفيد أنه ليس معه، وحكى له كيف ساقتْه الصدفةُ إلى قراءته، وقراءة كل تلك الكتب اللطيفة الأخرى التي عثر عليها في تلك الغرفة الصغيرة المجاوِرة لغرفته بالطابق العُلوي.
سأله ستيرفورث: «وهل تذكرها؟»
قال ديفيد إنه يعتقد ذلك.
«اسمع إذن أيها الصغير كوبرفيلد، سوف تقصُّها عليَّ. فأنا لا أستطيع النوم مبكرًا جدًّا بالليل، وعادةً ما أستيقظ مبكرًا نوعًا ما في الصباح. سوف تحكيها لي واحدة تلو الأخرى. ولنجعل الأمر يبدو مثل ألف ليلة وليلة.»
أرضى هذا كبرياءَ ديفيد للغاية، وبدأ يحكي «مغامرات بيراجرِن بيكل» في تلك الليلة نفسها، بعدما استلقيَا في فراشَيهما. لم يكن ديفيد يحب أن يوقظه أحدٌ من النوم في صباح كل يومٍ ليكمل القصة، لكنَّ ستيرفورث واظب على إيقاظه بنشاطٍ عظيم؛ وقد كان ديفيد يُجله كثيرًا بحيث إنه لم يكن ليخذلَه لأيِّ سبب كان.
وذات يومٍ وصلت أخيرًا رسالةُ بيجوتي التي كانت قد وعدته أن تُرسلها له؛ رسالةٌ مُشجعةٌ للغاية، تمامًا مثل بيجوتي! ووصلت معها فطيرةٌ، وكثيرٌ من البرتقال، وزجاجتان من عصير زهرة الربيع.
جاء ديفيد بهذه الكنوز، مثلما يحدث في حالات الالتزام الأدبي، ووضعها بين يدي ستيرفورث، ورجاه أن يُوزِّعها عليهم.
قال ستيرفورث: «اسمع أيها الصغير كوبرفيلد، سوف نحتفظ بالعصير لترطب به فمك عندما تحكي القصص.»
حاول ديفيد أن يعترض؛ لكنَّ ستيرفورث صمَّم على رأيه. وقال إنه لاحظ أن صوت ديفيد كان «أجشَّ قليلًا» وأكَّد أنه سوف يحتفظ له بكل قطرةٍ من العصير.
وهكذا أغلق ستيرفورث على الزجاجتين في حقيبته هو، وكان كلما أصبح صوتُ ديفيد «أجشَّ» يصبُّ له قليلًا من العصير في قنينة. كما قد يُضيف عليه بعض البرتقال من أجل التغيير، أو يمزجه بالزنجبيل، أو يُذيب فيه قطرةً من النعناع؛ وكان ديفيد يشربه بامتنانٍ كبير، وهو يُدرك جيدًا جدًّا اهتمام ستيرفورث به.
كان ديفيد يُجيد رواية القصص جدًّا، لأنه هو نفسه شديد الإيمان بها. كما أنه أصغر الأولاد في حجرة النوم هذه، وربما لهذا السبب تحديدًا، كانوا يُقدِّرون هذه المهارة فيه. شيئًا فشيئًا عرفت المدرسةُ كلُّها مهارتَه تلك، وهكذا اشتهر ديفيد كثيرًا.
في هذه الأثناء أُزيلت اللافتةُ القديمة من على ظهره؛ ليس مراعاةً أبدًا لشعور ديفيد؛ وإنما لأن السيد كريكل وجدها تعترض طريقه عندما جاء فجأةً من وراء المقعد الطويل الذي يجلس فيه ديفيد، وأراد أن يضربه ضربةً بالعصا أثناء مروره؛ لهذا السبب أُزيلت ذات يومٍ، ولم تعُد إلى ظهره بعد ذلك قط.
وقد أحبَّه السيد ميل كذلك، وبذَلَ أفضل ما لديه كي يُتقنَ تعليمه غاية الإتقان. ولسوء الحظ، أخبر ديفيد — وكان لا يستطيع أن يُخفيَ سرًّا عن ستيرفورث لأي سببٍ — بطله ذات مرةٍ بأمر السيدة العجوز التي أخذه السيد ميل لرؤيتها في مأوى الفقراء في صباح ذاك اليوم الأول. ولم يكن يتخيَّل على الإطلاق كيف ستكون العواقب.
وقد مرض السيد كريكل ذات يومٍ، ولم يستطع المجيء إلى حجرة الدرس. وابتهج الأولاد بالخبر غاية الابتهاج، لدرجة أنه كان من الصعب جدًّا الحفاظُ على نظامهم في ذلك الصباح. فجاء تنجاي يسير متثاقلًا برِجله الخشبية حتى دخل الفصل، ودوَّن أسماء أهمِّ من انتهكوا النظام؛ لكنهم كانوا متأكدين غاية التأكد أنهم سيُعاقَبون غدًا لذا رغبوا في أن يستمتعوا بوقتهم اليوم.
وبعد الظهر أصبح الأولاد أسوءَ من ذي قبل؛ وقد تصادف أنها كانت فترة بعد الظهر من يوم السبت، وعادةً ما كانت تُعطى إجازةَ نصفِ يوم؛ لكنْ لأن السيد كريكل لم يستطع احتمال ضجيج الأولاد وهم يندفعون بسرعةٍ في ملعب المدرسة، ولأن الجو كان مطيرًا جدًّا ذلك اليوم بحيث يصعب المشيُ خارج المدرسة، أُمر بإدخالهم إلى حجرة الدرس لأداء قليلٍ من الواجبات المدرسية الخفيفة، تحت رعاية السيد ميل. حيث خرج السيد شارب ليُجعِّد شعره المُستعار.
وكان الأولاد مشاكسين جدًّا بحيث إن المسكين السيد ميل، وهو رجل لطيف هادئ، لقِيَ أشدَّ العناء في المحافظة على النظام. حيث كان الضجيج مُخيفًا.
أسند السيد ميل رأسه الذي يؤلمه بيده وحاول مواصلة عمله المرهق على أكمل وجهٍ يستطيعه.
بينما أخذ الأولاد يثبون داخل مقاعدهم وخارجها، ويلعبون لعبة «الهرة التي تريد ركنًا»؛ وكان بعض الأولاد يضحك، وبعضهم يُغنِّي، وبعضهم يتكلم، وبعضهم يصرخ؛ وهناك من يجرُّون أقدامهم على الأرض، ومن يدورون حوله، وهم يبتسمون، ويرسمون على وجوههم تعابير السخرية، ويقلدونه ساخرين من وراء ظهره وأمامَ عينيه؛ ويسخرون من فقره، أو حذائه، أو مِعطفه، أو والدته؛ كانوا يسخرون من كل شيءٍ يخصُّه بينما الأجدر بهم احترامُه.
فجأةً نهض السيد ميل من مكانه، وضرب المكتب بكتابه، وصاح قائلًا: «سكوت! ما معنى هذا؟ من المستحيل احتمالُ هذا. إنه شيءٌ يدفع إلى الجنون. كيف تفعلون بي هذا أيها الأولاد؟»
لقد كان كتاب ديفيد ذاك الذي ضرب به المكتب؛ حيث يقف ديفيد إلى جواره.
توقف الأولاد جميعًا، وقد اعترت الدهشةُ بعضهم فجأةً، وتمكن الخوفُ جزئيًّا من بعضهم، وربما تملَّك الندمُ بعضَهم.
وكان مكان ستيرفورث في الجزء الأخير من الصف، عند الجانب المقابل للحجرة المستطيلة. وقد استند متهدلًا بظهره على الحائط، واضعًا يديه في جيبيه، وراح ينظر إلى السيد ميل وفمه مغلقٌ على هيئةٍ مستديرةٍ وكأنه كان يُصفِّر، وهنا نظر إليه السيد ميل.
وقال: «اصمت يا ستيرفورث!»
قال ستيرفورث، ووجهه متوهجٌ من الانفعال: «اصمت أنت، إلى مَن تتكلم؟»
قال السيد ميل: «اجلس.»
قال ستيرفورث: «اجلس أنت، ولا تتدخَّل فيما لا يعنيك.»
أخذ بعض الأولاد يضحك ضحكًا مكبوتًا مستهزئًا؛ وراح بعضهم يُصفِّق؛ لكنَّ السيد ميل اتَّقد غضبًا لدرجة أن الصمت عمَّ الحجرة في الحال.
قال السيد ميل: «إذا كنتَ تظن يا ستيرفورث أني لا أعلم عن السُّلطة التي تسيطر بها على أي عقلٍ هنا؛ أو أني لمْ أرك، منذ قليلٍ، وأنتَ تُحرِّض الأولاد الأصغر منك على إهانتي بجميع أنواع الإهانة؛ فإنك مخطئ.»
قال ستيرفورث، في غرورٍ بمركزه الاجتماعي، وازدراءٍ للسيد ميل: «أنا لا أشغل نفسي بك مطلقًا، وأنا لستُ مخطئًا في هذا، في الحقيقة.»
واصل السيد ميل كلامه، وشفتُه ترتعش بشدة: «وعندما تستغل ما تتمتع به من محاباةٍ في معاملتك لتُهين سيدًا …»
صاح ستيرفورث: «أُهين ماذا؟ أين هو هذا السيد؟»
وهنا صاح شخصٌ ما: «عارٌ عليك يا جيه. ستيرفورث! هذا سيئٌ جدًّا!» وقد كان ترادلز.
قال السيد ميل وشفتاه تزدادان ارتعاشًا: «… لتُهين شخصًا ليس له حظٌّ في الحياة، يا سيدي، ولمْ يُسئ لك قط أدنى إساءةٍ، فإنك بهذا ترتكب فعلًا دنيئًا حقيرًا. تستطيع أن تجلس أو أن تقف كما تحب يا سيد كوبرفيلد، هيَّا.»
قال ستيرفورث وهو يتقدم نحوه داخل الحجرة: «أيها الصغير كوبرفيلد، توقَّف قليلًا. اسمع يا سيد ميل، فهذا كلامٌ نهائي. عندما تجترئ على نعتي بالدنيء أو الحقير، أو أي شيءٍ من هذا القبيل، فإنك بهذا تكون شحَّاذًا وقحًا. إنك شحَّاذ على الدوام، كما تعلم؛ لكنك عندما تفعل هذا، فأنت شحاذٌ وقِح.»
فجأةً بدا كلُّ مَن في المدرسة وكأنهم قد تحوَّلوا إلى تماثيل؛ حيث وجدوا السيد كريكل في وسطهم، وتنجاي إلى جواره، والسيدة والآنسة كريكل تنظران من الباب، وكأنما كانتَا خائفتَين. وضع السيد ميل مرفقَيه على مكتبه، ووجهه بين يديه، وجلس صامتًا تمامًا لبعض الوقت.
قال السيد كريكل وهو يهزُّه من ذراعه: «سيد ميل، أرجو ألا تكون قد نسيت نفسك.»
أجاب المدرس، وهو يرفع يدَيه عن وجهه، ويَفركهما ببعضٍ من شدةِ ما يشعر به من الاضطراب: «كلَّا يا سيدي، كلَّا. كلَّا يا سيدي، كلَّا. أنا لم أنسَ نفسي. ليتكَ تذكرتَني قبل هذا بقليلٍ يا سيد كريكل. كان هذا … كان هذا سيُصبح أكثر لُطفًا يا سيدي، وأكثر عدلًا يا سيدي. كان هذا سيصون لي شيئًا ما يا سيدي.»
أخذ السيد كريكل يُحِدُّ النظر إليه، ووضع يده على كتف تنجاي، ورفع رجليه على المقعد الطويل القريب منه، وجلس فوق المكتب؛ ثم التفت إلى ستيرفورث وقال: «والآن أيها السيد، حيث إنه لا يريد أن يتعطَّف ويُخبرني، ما الأمر؟»
تهرَّب ستيرفورث من السؤال قليلًا، ثم قال أخيرًا: «ما الذي قصده بالحديث عمَّن يُحابَون في المعاملة إذن؟»
أعاد السيد كريكل الكلام، وقد انتفخت عروقُ جبهتهِ سريعًا: «مَن يُحابَون في المعاملة؟ من تكلم عمَّن يُحابَون في المعاملة؟»
قال ستيرفورث: «هو فعل هذا.»
فجأةً هاجم السيد كريكل مساعدَه بغضبٍ، وسأله قائلًا: «وماذا قصدتَ بهذا، من فضلك، يا سيدي؟»
أجابه السيد ميل بصوتٍ خفيض: «كنت أقصد، يا سيد كريكل، كما قلتُ من قبل؛ إنه ليس من حقِّ أيِّ تلميذٍ أن يستغلَّ ما يتمتع به من محاباةٍ في معاملته ليحطَّ من قدري.»
«ليحطَّ من قدرك أنت؟ يا للعجب! لكن اسمح لي أن أسألك يا سيد … أيًّا كان اسمُك، إن كنتَ، وأنتَ تتكلم عن المحاباة في المعاملة، تَحترمُني كما ينبغي؟ إن كنتَ بهذا تحترمني أنا أيها السيد، أنا، مدير المدرسة، وصاحب عملك؟»
قال السيد ميل: «لم يكن هذا تصرفًا حكيمًا مني يا سيدي، أعترف بهذا، ما كنتُ لأفعل هذا، لو كنتُ هادئَ الأعصاب.»
وهنا قاطعه ستيرفورث فجأةً.
وقال: «بعد ذلك قال إنني دنيء، وبعدها قال إنني حقير، وعندئذٍ نعتُّه بالشحَّاذ. لو كنتُ أنا أيضًا هادئَ الأعصاب، ربما ما كنتُ لأنعته بالشحاذ. لكنني فعلت، وأنا مستعدٌّ لتحمُّل عواقب ذلك.»
قال السيد كريكل: «أنا متفاجئٌ يا ستيرفورث — رغم أن صراحتك تُعلي من شأنك. نعم، تُعلي من شأنك بالتأكيد — أنا متفاجئٌ، يا ستيرفورث، من دون شكٍّ، أنك تنعتُ أيَّ شخصٍ يعمل ويتقاضى راتبًا من مدرسة سِيلم هاوس بمثل هذه الصفة أيها السيد.»
ضحك ستيرفورث ضحكةً مقتضبة.
قال السيد كريكل: «ليس هذا جوابًا على تعليقي أيها السيد.»
قال ستيرفورث: «فلينكر الأمر إذن.»
صاح السيد كريكل: «ينكر أنه شحَّاذٌ يا ستيرفورث؟ يا للعجب، وأين يمارس الشحاذة إذن؟»
«إذا لم يكن هو نفسه شحاذًا، فإن بعض أقربائه وثيقي الصلة به كذلك. والأمران سِيَّان.»
نظر ستيرفورث نظرةً خاطفةً إلى ديفيد، وكانت يدُ السيد ميل تُربتُ بلطفٍ على كتف ديفيد. فنظر ديفيد لأعلى بوجهٍ تكسوه حمرةُ الخجل وقلبٍ يعتصره عذابُ الضمير؛ لكنَّ عينَي السيد ميل كانتَا مثبتتَين على ستيرفورث.
قال ستيرفورث: «بما أنك تنتظر مني، يا سيد كريكل، أن أُبرِّر كلامي، وأن أوضِّح قصدي؛ فلا بد لي من القول بأن أمَّه تعيش على الصدقة في أحد ملاجئ الفقراء.»
ظلَّ السيد ميل ينظر إليه، ويربتُ بلطفٍ على كتف ديفيد، وقال لنفسه هامسًا: «نعم، هذا ما ظننتُه.»
التفت السيد كريكل إلى مُساعده بوجهٍ شديدِ التجهم، وقال: «والآن لقد سمعتَ ما قاله هذا السيد يا سيد ميل. فلتتفضَّل، إذا سمحتَ، بتوضيح الحقيقة له أمام المدرسة كلها.»
أجاب السيد ميل وسط صمتٍ مُطبقٍ ساد المكان: «إنه مُصيب، دون أن أُصحح شيئًا، إن ما قاله صحيح.»
قال السيد كريكل: «فلتتكرَّم وتُعلن على الملأ إن كنتُ أعلم الأمر قبل هذه اللحظة.»
قال السيد ميل: «إن ما أعرفه هو أنك لم تعتقد قط أن وضعي المالي كان على ما يرام، أنت تعرف حقيقة وضعي، وكيف كان هنا في المدرسة طوال الوقت.»
قال السيد كريكل، وعروقه تنتفخ ثانيةً أكثر من أي وقتٍ مضى: «إن ما أعرفه، في الحقيقة، أنك كنتَ في وضعٍ خاطئ إجمالًا، وأنك كنتَ تحسب أن هذه مدرسةٌ خيرية. يا سيد ميل، سوف نفترق، إذا سمحت. ومن الأفضل التعجيل بذلك.»
قال السيد ميل وهو ينهض من مكانه: «لا وقت أنسب لهذا من الآن.»
قال السيد كريكل: «القرارُ قرارك أيها السيد!»
قال السيد ميل، وهو يُلقي نظرةً سريعةً على مَن في الحجرة، ويربتُ على كتف ديفيد من جديد: «الوداع يا سيد كريكل، الوداع جميعًا. أما أنت يا جيمس ستيرفورث، فأفضل ما أتمناه لك أن تَخجَل يومًا مما فعلتَه اليوم. والآن فأنا أُفضِّل أن أراك أيَّ شيءٍ سوى أن تكون صديقًا، لي أنا، أو لأيِّ أحدٍ يُهمُّني أمرُه.»
مرةً أخرى وضع يده على كتف ديفيد؛ ثم أخذ مزماره وبعض الكتب من على مكتبه، وترك المفتاح فيه لمن سيَخلُفه، وخرج من المدرسة وهو يحمل ممتلكاته تحت ذراعه.
بعد ذلك ألقى السيد كريكل، الذي كان ميَّالًا إلى تملُّق ستيرفورث بسبب مكانته وثروته، خطابًا شكر فيه ستيرفورث على رفعه لوجاهة مدرسة سِيلم هاوس، وطلب من الأولاد أن يُحيُّوه بالهjاف ثلاث مرات.
بعد هذا ضرب السيدُ كريكل تومي ترادلز بالعصا؛ لأنه بدلًا من الهُتاف لستيرفورث راح يبكي عند رحيل السيد ميل؛ ثم عاد السيد كريكل للنوم على أريكته، أو من حيثما أتى.
تُرك الأولاد بمفردهم، وراح كلٌّ منهم ينظر إلى الآخر في ذهول. وكان ديفيد سيبكي، لولا أنه خشيَ أن بكاءه ربما يُغضب ستيرفورث. حيث غضب ستيرفورث من ترادلز للغاية، وقال إنه سعيدٌ لأنه قد عُوقب.
قال ترادلز إنه لا يكترث لهذا، وإن السيد ميل قد ظُلم. فرد ستيرفورث، وقد شعر بشيءٍ من الخجل، لكنَّ غروره كان أكبر بكثيرٍ من أن يدعه يعترف بخطئه: «ومن الذي ظلمه أيتها الفتاة؟»
«يا للعجب، أنت ظلمتَه.»
قال ستيرفورث: «وما الذي فعلتُه؟»
فردَّ عليه ترادلز مُبكِّتًا: «ما الذي فعلتَه؟! لقد جرحتَ مشاعره، وأفقدتَه وظيفته.»
قال ستيرفورث: «سوف تَتعافى مشاعرُه قريبًا من جُرحها، أنا واثقٌ من هذا، إن مشاعره ليست كمَشاعركِ، يا آنسة ترادلز. أما عن وظيفته — والتي كانت وظيفةً غالية، أليس كذلك؟ — أتظنين أني لن أرسل رسالةً إلى بيتي، وأحرص على أن يَحصل على بعض المال، يا آنسة بُولي؟»
رأى الأولاد في هذا نُبلًا كبيرًا من ستيرفورث، الذي كانت والدته أرملةً غنيةً جدًّا، وهي مستعدةٌ، كما شاع عنها، لفعل أيِّ شيءٍ تقريبًا من أجل ابنها، إذا ما طلبه منها.
لكنْ في تلك الليلة أخذ ديفيد يُفكِّر في المزمار القديم، ويتساءل إن كان السيد ميل يعزف في مكانٍ ما وهو حزين، وأحسَّ ببؤسٍ شديدٍ في الحقيقة.
وبعد ذلك جاء إلى المدرسة مُعلِّمٌ جديد من إحدى المدارس الثانوية؛ وأكدَّ ستيرفورث أنه شخصٌ طيب؛ لكنَّه لم يبذل قط في تعليم ديفيد ذلك الجهدَ العظيم الذي كان يبذله السيد ميل.