زوار من أجل ديفيد
بعد ظُهْر أحد الأيام، وبينما السيدُ كريكل يُعمل عصاه بشكلٍ مرعبٍ في كل مَن حوله، أقبل تنجاي، وصاح قائلًا: «زوَّارٌ لكوبرفيلد!»
وقف ديفيد في مكانه، وقد أصيب بدُوارٍ شديدٍ من الذهول، وطُلب منه أن يذهب عبْر السلالم الخلفية لارتداء قميص مكشكش نظيف قبل أن يدخل إلى حجرة الطعام.
وأخذ يتساءل إن كانت الزائرة هي أمَّه، ثم توجه إلى الباب وهو مضطربٌ تمامًا، وتعيَّن عليه أن يوقف بكاءً كان قد اعتراه قبل الدخول.
وقد فوجئ بأن السيد بيجوتي وهام هما اللذان أتيَا لزيارته.
حيث أمسك كلٌّ منهما طرفَ قبعته بيده وانحنى تحيةً لديفيد، وحشر أحدهما الآخرَ في الحائط من الارتباك الذي أصابهما. ضحك ديفيد ابتهاجًا برؤيتهما مرةً أخرى، وتصافحوا جميعًا بمودةٍ شديدة؛ لكنَّ الدموع كانت قريبةً جدًّا من الضحك كذلك، وأخرج ديفيد منديله، رغم أنه ظلَّ يضحك، وراح يُجفف به دموعه؛ لقد تأثر تأثرًا كبيرًا عندما رآهما.
وَكَزَ السيدُ بيجوتي هام بمرفقه برفقٍ كي يقول شيئًا.
فبدأ هام قائلًا: «فلتبتهج يا صديقي السيد ديفي! يا للعجب، كم كبُرتَ!»
قال ديفيد: «أنا كبُرتُ؟»
قال هام: «كبُرتَ يا صديقي السيد ديفي؟ ألم يكبر بالفعل!»
قال السيد بيجوتي: «لقد كبُر بالفعل!»
«هل تعلم كيف حالُ أمي يا سيد بيجوتي؟ وكيف حال عزيزتي بيجوتي؟»
قال السيد بيجوتي: «على خير ما يرام.»
«والصغيرة إيميلي، والسيدة جوميدج؟»
قال السيد بيجوتي: «بخير حال.»
سادت فترةٌ من الصمت. ولكي يُبدِّدَها السيدُ بيجوتي، قدَّم لديفيد جرادتَين بحريَّتَين هائلتين، وسلطعونًا ضخمًا، وحقيبةً كبيرةً مصنوعةً من القماش الثقيل مملوءةً بالروبيان، وكوَّمها فوق ذراعَي هام.
قال السيد بيجوتي: «أتدري، لِعلمنا أنك كنت مُولعًا بالقليل من فواتح الشهية مع طعامك عندما كنتَ معنا، رفعنا الكُلفةَ وأتينا بهذه الأشياء. لقد طهتها الفتاةُ الكبيرة.» ولأن السيد بيجوتي لم يجد شيئًا آخر يقوله حينها، فقد أضاف: «نعم، صدِّقني، لقد أنضجتها السيدةُ جوميدج.»
شكره ديفيد من القلب.
قال السيد بيجوتي: «لقد أتينا، وكانت الرياح والمدُّ يعملان لصالحنا، في واحدٍ من المراكب الشراعية المُبحِرة من مدينتنا يارمث إلى مدينة جريفزيند. حيث أرسلتْ لي أختي اسم هذا المكان في رسالة، وقد أرسلتْها لي كما لو كنتُ قد أتيتُ إلى مدينة جريفزيند في أيِّ وقتٍ من حياتي، وطلبتْ مني أن آتيَ إلى هنا وأسألَ عن السيد ديفي، وأُبلغَه أنها تتمنى له — في إخلاصٍ وتواضعٍ — أن يكون على ما يرام، وأنها تُخبره أن الأسرة على خير ما يرام من دون شك. وعندما أعود سترسل الصغيرةُ إيميلي رسالةً إلى أختي، وستخبرها فيها أني رأيتُك وأنك أيضًا على خير ما يرام، وهكذا نجعلها جولة اطمئنان سعيدة.»
شكره ديفيد مرةً أخرى، وسأله إن كانت الصغيرة إيميلي قد تغيَّرت.
قال السيد بيجوتي: «إنها تكبر وستصبح امرأةً جميلة، هكذا ستكون. اسأله.»
كان يقصد هام، الذي راح يبتسم، من فوق حقيبة الروبيان، ابتسامةً عريضةً تنمُّ عن الابتهاج والموافقة.
قال السيد بيجوتي، ووجهه يتألق كالضوء: «فوجهها جميل!»
قال هام: «وهي متعلِّمة!»
قال السيد بيجوتي: «وخطُّها! يا لروعته، إنه كالكهرمان الأسود. وهو كبيرٌ جدًّا، يمكنك أن تراه من أي مكان.»
كان على وشك أن يقول المزيد عن محبوبته الصغيرة، لكنَّ ستيرفورث نظر داخل الحجرة فجأةً، وقطع أُغنيةً كان يغنيها، وقال: «لم أكن أعلم أنك هنا أيها الصغير كوبرفيلد!» (وذلك لأن هذه لم تكن الغرفة المعتادة للزيارات.) ومضى في طريقه إلى خارج الحجرة.
أراد ديفيد من جهةٍ أن يتباهى بصديقه الأنيق ستيرفورث، ومن جهةٍ أخرى أن يشرح له كيف حدث أن أتاه ضيفان مثل هذين الصيادَين الجلفَين، فنادى قائلًا: «لا تنصرف يا ستيرفورث من فضلك. هذان صيادان من مدينة يارمث — إنهم أناسٌ طيبون وصالحون للغاية — وهما قريبَا مربيتي، وقد جاءَا من مدينة جريفزيند لزيارتي.»
قال ستيرفورث وهو يعود أدراجه: «نعم، نعم، سررتُ برؤيتهما. كيف حالكما؟»
كان يتصرف على طبيعته؛ وبأسلوب مرِح ولطيف، كما أنه لم يكن متبجِّحًا، فضلًا عن نبرته المُبهجة، ووجهه ومظهره الوسيمَين، اللذَين يبدو أنه كان لهما سُلطانٌ طاغٍ، وما كان يستطيع مقاومتَهما الكثيرون. حيث ارتاح له السيد بيجوتي وهام في الحال. وقد أخبرهما ديفيد بكلماتٍ قليلةٍ عن مدى طيبةِ ستيرفورث معه.
قال ستيرفورث ضاحكًا: «إنه يُبالغ!»
قال ديفيد: «وإذا حدث يومًا يا سيد بيجوتي أن زار السيد ستيرفورث مقاطعةَ نورفك أو مقاطعة سافُك وأنا هناك، فثِقْ أنني سوف آتي به إلى مدينة يارمث، إذا سمح لي بهذا، ليرى بيتك. إنك لم ترَ قط بيتًا في مثل جماله يا ستيرفورث. إنه مصنوعٌ من أحد المراكب.»
قال ستيرفورث: «مصنوعٌ من أحد المراكب، حقًّا؟ إنه البيت الأمثل لصياد قويِّ البِنية مثلك!»
قال هام وهو يبتسم ابتسامةً عريضةً: «إنه كذلك يا سيدي، إنه كذلك يا سيدي. أنت مُحقٌّ أيها السيد. يا سيد ديفي، هذا السيد مُحقٌّ. صياد قويُّ البِنية! هه هه! هذه هي حقيقته إلى حدٍّ بعيد!»
وقال السيد بيجوتي، وهو يضحكُ بصوتٍ خافتٍ، ويُقحِم طرفَي منديل عنقه في صدره: «أشكرك يا سيدي، أشكرك! إنني أبذل جهدي في عملي يا سيدي.»
قال ستيرفورث، وكان قد حفظ اسمه بالفعل: «إن أفضل الرجال لا يستطيعون أن يزيدوا على ما تبذله شيئًا يا سيد بيجوتي.»
قال بيجوتي: «أنا واثقٌ أن هذا ما تفعله أنت يا سيدي، وهو ما تُتقن فعله؛ تتقنه تمامًا! أشكرك يا سيدي.»
أنهى السيد بيجوتي اللقاء بدعوة ستيرفورث لزيارته يومًا ما «مع السيد ديفي.» وتمنَّى لهما العافية والسعادة.
ردَّد هام أمنيةَ عمِّه، وافترق الولدان عنهما بأسلوبٍ غاية في الوُدِّ؛ ثم عادَا وحملَا الطعام إلى غرفة النوم دون أن يُلاحظَهما أحدٌ، حيث أقامَا حفلةَ عشاءٍ عظيمةً تلك الليلة.
أفرط المسكين ترادلز جدًّا في تناول السلطعون، وأصابه الغثيان فجأةً أثناء الليل؛ وكان غثيانًا شديدًا، لدرجة أنه احتاج إلى أن يُعالَج بجرعاتٍ من شرابٍ أسود وحبوبٍ زرقاء؛ وفي صباح اليوم التالي ضُرب بالعصا، وفُرض عليه حفظ ستة فصولٍ من نسخة الكتاب المقدس اليونانية لرفضه الاعتراف بما أكله وأصابه بالغثيان هكذا.
وهكذا انقضى الفصل الدراسي الأول من حياة ديفيد في المدرسة، ولاحت الإجازاتُ في الأفق وأخذت تقترب أكثر فأكثر. فبدأ ديفيد يخاف من ألَّا يسمح له السيد ميردستون بالعودة إليهم؛ لكنَّ خوفه تحوَّل إلى سعادةٍ في نهاية المطاف، وفي يومٍ مبهجٍ وجد نفسه داخل عربة بريد يارمث، وفي طريقه إلى المنزل.
توقفت العربة في مدينة يارمث؛ لكن ليس أمام الفندق الذي تعرفونه حيث ساعده النادلُ على إنهاء شرائح اللحم وحلوى البودينج. بل فندق آخر يُسمى «ذا دولفن»، وأُدخل ديفيد حجرةً صغيرةً لطيفةً ليقضيَ فيها الليلة؛ وكان المفترضُ أن يُقلَّه الحمَّال باركس في الصباح.
استقبله باركس وكأنما لم يمرَّ على فراقهما سوى خمس دقائق، وما إن صار ديفيد والحقيبة في العربة حتى سار الحصان الكسول بسرعته المعتادة.
قال ديفيد: «تبدو في حالٍ جيدةٍ جدًّا يا سيد باركس، لقد أبلغتُ رسالتك. لقد أرسلتُ خطابًا لبيجوتي.»
قال السيد باركس: «نعم!» وقد بدا فظًّا، وردَّ على ديفيد بأسلوبٍ جافٍّ.
سأل ديفيد بعد قليلٍ من التردد: «أما كان مناسبًا يا سيد باركس؟»
قال باركس: «يا إلهي، بلى.»
«الخطاب؟»
قال باركس: «كان الخطابُ مناسبًا جدًّا، ربما، لكنه انتهى عند هذا.»
«انتهى، يا سيد باركس؟»
أوضَح باركس قصدَه وهو ينظر إلى ديفيد شزْرًا: «لم يُسفر عن شيء، لا ردَّ.»
سأل ديفيد وهو يفتح عينيه: «كنتَ تتوقع ردًّا، أليس كذلك يا سيد باركس؟»
قال باركس: «عندما يقول رجلٌ إنه راغبٌ، فإن هذا يُعد كما لو أنه ينتظر ردًّا.»
«حسنٌ يا سيد باركس، وماذا بعد؟»
قال باركس، وهو ينظر إلى أُذُنَي الحصان: «حسنًا، هذا الرجل ينتظر ردًّا منذ ذلك الحين.»
«هل قلتَ لها هذا يا سيد باركس؟»
قال الحمَّال مزمجرًا، وقد غرِق في التفكير: «ﻟ… لا. لم يدعُني أحدٌ ألبتة كي أذهب وأقول لها هذا. كما أني لم أُكلِّمْها ولو قليلًا قبل ذلك قط. لا، لن أقول لها هذا.»
قال ديفيد بتردد: «هل تحب أن أُخبرها أنا يا سيد باركس؟»
قال باركس: «فلتقُل لها، إذا أحببتَ، إن باركس كان ينتظر ردًّا. فلتقُل؛ ما هو الاسم؟»
«اسمها؟»
قال باركس وهو يومئ برأسه: «نعم!»
«بيجوتي.»
«هذا اسمُها الأول؟ أم اسمُ عائلتها؟»
«أوه! ليس هذا اسمها الأول. اسمها الأول كلارا.»
قال باركس: «حقًّا؟» ثم راح يفكر مليًّا في هذه الحال، واستأنف كلامه أخيرًا: «فلتقُل: «بيجوتي، إن باركس ينتظر ردًّا.» وربما تقول لك: «رد على ماذا؟» فقل: «على ما قُلتُه لك.» فإذا قالت: «وما هو هذا الذي قُلتَه؟» فقل: «إن باركس راغب».»
في هذه اللحظة وكز سائقُ العربة ديفيد بمرفقه برفقٍ في جنبه، ثم جلس مترهلًا فوق حصانه كعادته، ولم يُشر بعدها أيَّ إشارةٍ أخرى إلى الموضوع. لكنه بعد نصف ساعةٍ أخرج قطعة طباشيرٍ من جيبه، وكتب داخل غطاء عربته «كلارا بيجوتي.»
وفي هذه اللحظة أصبح البيت القديم على مرأًى من راكبي العربة، حيث كانت أشجار الدردار الطويلة تُلوِّح بأغصانها العارية في الهواء البارد، بينما تجرف الرياحُ بعضَ القشِّ من أعشاش الغربان العتيقة.
أنزل الحمَّالُ حقيبة ديفيد أمام بوابة الحديقة، وتركه؛ وسار ديفيد فوق المسار القديم، بينما يرفع عينيه ويُلقي نظراتٍ خاطفةً على النوافذ، ويخشى مع كل خطوةٍ يخطوها أن يرى السيد أو الآنسة ميردستون وهما يُطلَّان من واحدةٍ منها.