مثل الأيام الماضية تمامًا
وصل ديفيد إلى باب المنزل، وأدار المقبضَ دون أن ينتظر ليطرق الباب، ومضى إلى الداخل بخُطًى هادئةٍ متهيبة. وعندما دخل سمع صوتًا خافتًا يغنِّي في الردهة؛ وقد كان صوتَ والدته؛ وبدت الأغنية التي تُغنيها شبيهةً بأغنيةٍ قديمةٍ كانت تغنيها له وهو رضيع.
نظر ديفيد داخل الغرفة؛ لكنَّ والدته لم ترَه؛ حيث كانت تجلس إلى جوار المدفأةِ وبين ذراعيها طفلٌ رضيع، بينما تضع يدَه البالغةَ الصغر على خدِّها، وعيناها تنظران إلى وجهه. ولم يكن هناك أيُّ أحدٍ آخر في الغرفة.
تَكلَّم ديفيد، فانتفضتْ في مكانها، وما إن رأته حتى قالت: حبيبي ديفي، ولدي! ثم مضت إلى منتصف الغرفة لاستقباله، وجثت على ركبتَيها وقبَّلتْه، ووضعتْ رأسَه على صدرها، قريبًا من المخلوق الصغير الذي كان مستقرًّا هناك، ورفعتْ يد الرضيع إلى شفتَي ديفيد.
وقالت تُلاطف ديفيد: «إنه أخوك، يا ديفي، يا ولدي الجميل! يا طفلي المسكين!» ثم راحتْ تُقبِّله مرةً بعد مرة، وتطوق عنقه بذراعيها، وهنا دخلتْ بيجوتي تجري، ووثبتْ فجأةً على الأرض بجوارهما، واحتفت بهما وعقلُها يكاد يطير من الفرح طيلةَ ربع ساعة.
لقد شعروا وكأن الأيام الماضية الغالية قد عادت من جديد؛ حيث وصل ديفيد مبكرًا عمَّا كانوا يتوقعون، وكان السيد والآنسة ميردستون خارج البيت في زيارة، ولن يعودَا قبل حلول الظلام.
أوه! لقد كان وقتًا سعيدًا؛ حيث جلسَا لتناول الغداء معًا بجوار نار المدفأة بينما تقوم بيجوتي على خدمتهما؛ لكنَّ والدة ديفيد لم تتركها تفعل ذلك، وجعلتْها تجلس وتتناول غداءَها معهما. كان ديفيد يأكل في طبقه القديم، المرسومِ عليه سفينةٌ حربيةٌ مبحرةٌ بكامل أشرعتها، والذي كانت بيجوتي قد خبَّأته بعيدًا، وقالت إنها ما كانت لتكسرَه، ولو في مقابل مائة جنيه. وكذلك كوبه القديم المكتوب عليه «ديفيد»، وسكينه وشوكته الصغيرتان اللتان لا تقطعان.
وبينما هم يتناولون غداءهم مسرورين، بدأ ديفيد يُحدِّث بيجوتي عن السيد باركس، وقبل أن تُنهيَ طعامها، بدأت تضحك، وتغطي وجهها بمريلتها.
قالت والدة ديفيد: «بيجوتي! ما الأمر؟»
لم تزد بيجوتي على أن ضحكت أكثر من ذي قبل، وثبتت مريلتها بقوةٍ على وجهها عندما حاولت أمُّه أن تُزيلَها.
قالت والدة ديفيد، وهي تضحك هي الأخرى: «ماذا تفعلين أيتها الحمقاء؟»
صاحت بيجوتي: «يا إلهي! تبًّا لذلك الرجل! إنه يريد أن يتزوجني.»
قالت والدة ديفيد: «سيكون زوجًا مناسبًا جدًّا لكِ، أليس كذلك؟»
قالت بيجوتي: «يا إلهي! لا أدري. لا تسأليني. لن أتزوجَه ولو كان مخلوقًا من ذهب. ولن أتزوج أيَّ أحد.»
«إذن فلمَ لا تخبرينه بهذا، أيتها السخيفة؟»
أجابت بيجوتي، وهي تنظر خارج مريلتها: «أُخبره بهذا؟ إنه لم يُخبرني قطُّ بكلمةٍ واحدةٍ عن الأمر. إنه أعقل من أن يفعلها. لو أنه تجرَّأ جدًّا وقال لي كلمةً واحدةً لصفعتُ وجهه!»
كان وجهُها محمرًّا للغاية، وظلَّت بين الحين والآخر تضحك من قلبها.
نظر ديفيد إلى أمِّه فرأى أنها أصبحتْ جادةً ومُستغرقةً في التفكير جدًّا، رغم ابتسامتها في وجه بيجوتي عندما نظرت إليها. لقد ظلَّ وجهها جميلًا، لكنه بدا مهمومًا واهيًا، وراحت تنظر إلى بيجوتي نظراتٍ قلقةً مرتبكة؛ ثم مدَّت يدها، ووضعتْها بحنانٍ فوق يدِ خادمتها الرائعة، وقالت: «عزيزتي بيجوتي، ألن تتزوجي؟»
«أنا يا سيدتي؟ باركك الله، نعم لن أفعل!»
قالت الأم في حنان: «ليس الآن.»
صاحت بيجوتي: «أبدًا.»
قالت أمُّه وهي ممسكةٌ بيدها: «لا تتركيني يا بيجوتي. ابقَي معي. ربما لا يطول هذا كثيرًا. ماذا عساي أن أفعل من دونك؟»
صاحت بيجوتي: «أنا أتركك يا غالية؟ لن أفعل هذا لأي سببٍ كان. يا إلهي، ما الذي وضع هذه الفكرة في رأسك الصغير السخيف؟»
لم تُجب الأم إلا بأن شكرتْها، وأكملت بيجوتي كلامَها قائلةً:
«أنا أتركك! أنا أعرف نفسي. لا، لا يا عزيزتي! بيجوتي تبتعد عنكِ؟ لستُ أنا من يفعل هذا يا عزيزتي. ليس هذا لأنه لا يوجد بعضُ الأشخاص مِمن سيسعدون غاية السعادة لو فعلتْ، لكنهم لن يسعدوا، بل سوف يغضبون. سوف أبقى معكِ إلى أن أَصير عجوزًا عصبية فظَّة. وعندما أبلُغ من الهَرم حدًّا لا أكون فيه ذات فائدةٍ لأيِّ أحدٍ، فسأذهب إلى حبيبي ديفي، وأطلب منه أن يُئويني عنده.»
قال ديفيد: «وسيُسعدني حينها أن أراكِ، وسأستقبلكِ كما تُستقبَل الملِكات.»
قالت بيجوتي وهي تُقبِّله: «بُوركت! يا حبيب قلبي، أَعلم أنك ستفعل.» ثم أخرجت الرضيع من مهدهِ وأرضعتْه؛ وأزالت الأطباق من فوق المائدة، وجاءت بعد ذلك وفوق رأسها قبعةٌ أخرى، ومعها عُلبةُ أدوات الحياكة، وجلسوا جميعًا حول المدفأة وراحوا يتحدثون في ابتهاج.
أخبرهما ديفيد كم كان السيد كريكل مديرًا قاسيًا، وقد شعرتَا بالحزن للغاية. وأخبرهما بكل شيءٍ عن ستيرفورث، وقالت بيجوتي إنها تتمنى لو أن تقطع الأميال سيرًا على أقدامها كي تراه. وعندما استيقظ الرضيع أمسكه ديفيد بين ذراعيه وأرضعه في حنان؛ وعندما نام الرضيع مرةً أخرى، تزحزح ديفيد ببطءٍ إلى جوار أمِّه وطوَّق خصرها بذراعه، ووضع خده على كتفها، وأحسَّ من جديدٍ بشعرها الجميل يتدلَّى فوقه مثل جناح ملَكٍ من الملائكة تمامًا.
لقد بدا الأمر وكأنه لم يغادر المنزل قط؛ وأنه لم يكن هناك مَن يُدعَيان السيد والآنسة ميردستون في الدنيا.
لقد كان وقتًا سعيدًا حقًّا.
قالت بيجوتي فجأةً: «تُرى أين عمةُ ديفي الأرستقراطية وكيف حالُها؟»
قالت والدة ديفي، وهي توقظ نفسها من حُلم يقظةٍ: «ما هذا الهراء الذي تقولينه يا بيجوتي؟»
قالت بيجوتي: «حسنًا، لكنني أتوق حقًّا إلى أن أعلم يا سيدتي.»
قالت والدة ديفي: «ما الذي جعلك تُفكرين في امرأةٍ كهذه؟ إن الآنسة بيتسي منعزلة في بيتها الصيفي الصغير على شاطئ البحر، لا شك في هذا، وسوف تظلُّ هناك. على أي حال، ليس من المتوقع أبدًا أن تزعجنا مرةً أخرى.»
قالت بيجوتي مُتأمِّلةً: «لا! لا. ليس هذا متوقعًا أبدًا؛ تُرى، لو ماتتْ، هل ستترك لديفيد أيَّ شيءٍ؟»
«يا إلهي، يا بيجوتي! يا لكِ من امرأةٍ سخيفة! وأنتِ تعلمين أنها انزعجتْ من مجرد ولادة الصبي العزيز المسكين!»
إذ لعلكم تذكرون كيف خرجت الآنسة بيتسي من المنزل عندما سمعتْ أن المولود صبيٌّ، ولم تعُد بعدها مطلقًا.
بعد قليلٍ تناولوا الشاي، وأُشعلت نارُ المدفأة وأُطفئت الشموع؛ وأخبرهم ديفيد المزيدَ عن مدرسة سِيلم هاوس، وأخبرهم أكثر عن ستيرفورث؛ وكانت الساعة قد اقتربت من العاشرة قبل أن يسمعوا صوتَ إحدى العربات.
عندئذٍ انتفضوا جميعًا واقفين، وقالت والدة ديفيد في عجلةٍ إن الوقت قد تأخر جدًّا وربما يحسُن بديفيد أن يذهب إلى فراشه. وهكذا قبَّلها ديفيد وصعِد إلى الطابق العلوي على ضوء شمعته مباشرةً، قبل دخول السيد والآنسة ميردستون؛ وبينما يصعد درجات السلم تخيَّل السيدَ والآنسة ميردستون يجلبان معهما إلى المنزلِ عاصفةً من الهواء البارد بددتِ الشعور العائلي القديم.
لم يكن ديفيد مرتاحًا للنزول لتناول الإفطار في صباح اليوم التالي؛ وذلك لأن عينَيه لم تقعَا البتةَ على السيد ميردستون منذ أن عضَّه في ذلك اليوم الذي لا يُنسى.
لكن لم يكن هناك بُدٌّ من النزول، وقد وجد السيدَ ميردستون واقفًا وظهره إلى نار المدفأة، بينما كانت الآنسة ميردستون تُعدُّ الشاي.
راح السيد ميردستون ينظر إلى ديفيد وكأنه لا يعرفه؛ لكن نظرته كانت ثابتةً وغير ودية.
شعر ديفيد بالارتباك؛ لكنه توجه إليه وقال: «معذرةً يا سيدي. إنني في غاية الأسف على ما فعلتُه، وأرجو أن تسامحني.»
رد السيد ميردستون: «أنا سعيدٌ لأنك شعرت بالأسف يا ديفيد.» وناوله اليد التي كان قد عضَّها. رأى ديفيد أثرَ العضة عليها.
احمرَّ وجه ديفيد جدًّا من الخجل، وقال للآنسة ميردستون: «كيف حالُكِ يا سيدتي؟»
تنهَّدت الآنسة ميردستون، وقالت وهي تناوله ملعقة علبةِ الشاي ليصافحها بدلًا من أن تناوله أصابعها: «آه، يا إلهي! كم ستستغرق الإجازة؟»
«شهرًا يا سيدتي.»
«بدايةً من متى؟»
«من اليوم يا سيدتي.»
قالت الآنسة ميردستون: «يا إلهي! إذن فهناك يومٌ غير محسوب.»
غضبت الآنسة ميردستون للغاية عندما رأت ديفيد فيما بعد يحمل الرضيع بين ذراعيه؛ كانت متأكدةً أنه سيدعُه يسقط؛ وقالت لأمه إنه يجب ألَّا يحمل الرضيع بعد ذلك أبدًا. وقد غضبت أكثر عندما قالت والدةُ ديفيد إن عينَي الرضيع تُشبهان عينَي ديفيد تمامًا؛ وخرجت تمشي من الغرفة بعجرفةٍ وصفقت الباب.
لم تكن أيام الإجازة أيامًا سعيدةً جدًّا بالطبع. وكيف تكون سعيدةً في وجود السيد والآنسة ميردستون؟ إذ شعر ديفيد أن أمَّه كانت تخشى أن تتكلم معه، أو أن تعاملَه بلطفٍ في وجودهما، مخافةَ أن يُزعجهما هذا بطريقةٍ ما؛ لذا تعوَّد أن ينسلَّ إلى المطبخ ليجلس مع بيجوتي، هناك حيث لم يشعر قطُّ أن هناك عقبةً في طريقها.
لكنَّ السيد ميردستون اعترض على هذا.
وقال: «يُحزنني أنْ أُلاحظ أنَّ لك صداقةً مع رفقة وضيعةٍ من العامة. لا يجب أن تُرافق الخدم. إن المطبخ لن يُفيدَك.»
يا إلهي! يا للساعاتِ الكئيبةِ التي قضاها في الردهة، يومًا بعد يومٍ، وهو يخشى أن يُحرك رِجلًا أو ذراعًا خشيةَ أن تتذمَّر الآنسةُ ميردستون من تململه.
وهكذا اعتاد أن يسير بمفرده في أزقَّةٍ موحلةٍ في طقس الشتاء الرديء ليتحاشى لقاءَهما! وكم كان يُفرحه أن يسمع الآنسة ميردستون وهي تُنادي مع أول دقات التاسعة في المساء، وتأمره بالانصراف إلى فراشه!
لم يشعر ديفيد بالحزن عندما انتهت الإجازة؛ إذ كان يتطلع لرؤية ستيرفورث مرةً أخرى. لذا لم يشعر بالحزن عندما ظهر باركس أمام البوابة ووضع حقيبته في العربة.
قبَّل ديفيد والدتَه وأخاه الرضيع، وعندئذٍ شعر بشيءٍ من الحزن. فضمَّته والدتُه إليها؛ لكنَّ الآنسة ميردستون كانت موجودةً، لذا اضطُرت لتركه يذهب.
لكنَّه عندما أصبح داخل العربة وراحتْ تبتعد به، سمع والدته تناديه. فأطلَّ ديفيد من نافذة العربة، ووجدها واقفةً بمفردها أمام بوابة الحديقة، وقد رفعت له الرضيع بين ذراعيها كي يراه.
كان الجو باردًا خاليًا من الرياح؛ فلم تهتزَّ شعرةٌ واحدةٌ في رأسها، ولا ثنيةٌ من ثنيات فستانها، عندما وقفتْ وعيناها مثبتتان عليه، والرضيع مرفوعٌ بين ذراعيها.
لم يرها ديفيد بعد ذلك مطلقًا.