الفصل الرابع
الواقعة الأولى
(يرتفع الستار عن هيئة سجن مظلم وبه فرناس وأكسيفار ومونيم.)
فرناس
:
نعم نعم، لا بد ولا جرم، من صعود وهبوط، وارتفاع وسقوط، وفرح وحبور، وحزن
وسرور، وصحة وسقم، ووجود وعدم، وكذلك من آدم، إلى انقراض العالم، وعلى الأديب
السديد، أن يكون طودًا حديد، لا تزعزعه النوازل، ليعدَّ في البوازل، وأنا ما
زعزعني الحبس، ولا جور أبي المشئوم بالبخس، فأي مهنَّدٍ لا يغمد، وأي أسدٍ تراه
لا يتردَّد، ومن النبل الحزم والصبر على المصاعب، والتجلُّد عند حلول
المصائب.
ولكن فهمت شيئًا وجهلت أشياء، فالعاشق العاني تضيق به الدنيا؛ لأنه لا يطيق
الصبر عاشق ولو كان بالصبر ينال المحيا، وكيف أصبر على مونيم، التي تركتني
كليمًا سقيم، وقلبي في شجن، وجوارحي في محن، وحزني لا يطاق، من لوعة الفراق،
والوجد والجوى، والصبابة والهوى، اللذان يأكلان الاصطبار، كما تأكل الحطب
النار.
ما على مونيم إذا منحتْني رضاها، وحصلت على جميع قصدها ومناها، فلولاها
ما كابدت هذا العذاب، ولا عانيتُ هذه الأوصاب. وصار العشق يجول في جوارحي ويصير
أكسيفار لديها محبوب، وفرناس شقي ومغضوب، ولأجلها أبي، تعمَّد عَطَبي. فما هذا
الحرج، ومتى أنال الفرج؟ وأقتل أبي، وأكسيفار الغبي، وأصير ملكًا عظيم، ومالكًا
زمام مونيم، الله إلامَ أخاطب ذاتي، وأنا مضيع لأوقاتي؟ وحتَّامَ هذا الذل،
والتمنطق بهذا الفعل؟ وعلى أي شيء أتحمَّل هذه المكابدة، وما كنت أحصل على
فائدة؟ فلا بد ما أدبِّر أمور، أحصل بها على الحبور، أو أصير حديثًا منسيًّا،
فإما الثرى وإما الثريا.
على قَدْر فضلِ المرءِ تأتي خطوبه
ويجمل منه الصبر عما يصيبه
فمن قلَّ فيما يلتقيه اصطباره
لقد قل فيما يلتقيه مصيبه
ثلاثٌ يعزُّ الصبر عند حلولها
ويذهل عنها عقل كل لبيب
خروجك حرًّا من بلاد تحبها
وفرقة إخوان وفقد حبيب
بان اصطباري
وقلَّ احتمالي
والدمع جاري
كفى ما جرى لي
أشعلتِ ناري
رقي لحالي
كم ذا التواني
أطلت انتحابي
والقلب بالي
مونيم لي
أسير الغرام
وارحمي قلبي
قد زاد كربي
وحكم الغرام
أفتى بسلبي
حليف السقام
فكيف احتمالي
والوصل بالي
أكسيفار
:
آه كيف أغراني أبي بنكره، وخادعني بتمويهه ومكره، حتى اطَّلع على سري، وفهم
حقيقة أمري، وأوقعني في الشدائد، والمصائب والمكائد، وقد أظهر لي علامات
الصلاح، وأوضح لي سبل النجاح، وقال لي: إني بلغت سن اللغوب، وأنحلتني الكروب
والخطوب، وقد أزمعت أن أرقيك، على التخت الملوكاني دون أخيك، وأزوجك بمونيم،
وأجعلك ملكًا عظيم. فرقاني حالًا إلى الحبس، وجعل قريني النحس، ما أيمنها من
عبارة، وما أحسنها من زهارة، يا تُرى أين مونيم الآن؟ وما فعل بها والدي
الخوَّان؟ هل عيوني تراها، أو أقضي شهيد هواها؟ آه واعنائي! وشدَّتي وطول
بلائي! من ظلم أبي، ولواعج كربي، وجور طوالع الهوى، التي أذاقَتْني علقم الجوى،
وصيَّرتْني محزونًا، وأسيرًا مسجونًا.
إن الأمور إذا اشتدَّتْ مسالكها
فالصبر يفتح منها كل ما ارتدجا
لا تيأسنَّ وإن طالتْ مطالبة
إذا استعنت بصبرٍ أن ترى فَرَجا
لولا الهوى ما نابني
ضَيْمٌ ولا ذقتُ العذاب
كلَّا ولا أبصرتُ سجْـ
ـنًا قد علَاني باكتئاب
هل يا تُرى مونيم تد
ري ما بقلبي من عذاب
أم هل أنال منها بعـ
ـد البعد والحبس اقتراب
والوعتي! جسمي غدا
من حرقة البين مذاب
أنا في القيود مصفَّد
وفؤادي عاد في التهاب
وسواي بالإطلاق ير
فل والنعيم المستطاب
سبحان من قسم الحظو
ظ فلا مَلَام ولا عتاب
طال انتحابي
وزادت شجوني
والقلب صابي
ألا فارحموني
نار الجوى بي
أبادتْ شجوني
لكم ثوابي
فلا تظلموني
قيدي ثقيل
وحبي جحيم
وجسمي نحيل
ودمعي سجيم
حزني طويل
وقلبي كليم
إني دخيل
فلا تقتلوني
مونيم
:
آه قربي من الملك متريدات، أوقعني في هذه البليات، فلو أخذت حبيبي أكسيفار،
ونزحت به من هذه الديار، لحصلت بقربه على المنى، وخلصت من أصل الكروب والعنا،
وما كنت رأيت الحبس، المعدَّ لأهل النحس، يا ترى ما فعل أكسيفار! هل أباح مثلي
على الأسرار، أم بقي مصرًّا على الكتمان؟ وأنا قد بحتُ وأُلقيتُ في الهوان، هل
يوجد خدَّاع كمتريدات، الذي ألزمني الإقرار بألطف العبارات، قطع الله لساني،
فإنه هو الجاني، فلولاه ما وقعتُ في السجن، ولا كابدتُ أنواع العذاب والحزن،
أنا قد بُحْتُ وصار ما صار، ولا أخشى إلا على حبيبي أكسيفار، أن يبوح فيسجن، أو
يهان فيحزن، هل يا تُرى علم بحبسي، وأني سأعجل في رمسي؟ أم درى، بما صار وجرى،
من يخبره بحالي؟ آه عظمت بلبالي، أنسيت مونيم يا أكسيفار، واشَقائي كلمتني
الأكدار، وذبت من الهوى، ونوائب الجوى.
إذا أدناك سلطان فزِدْهُ
من التعظيم واحذره وراقب
فما السلطان إلَّا البحر عظمًا
وقرب البحر محذور العواقب
متى اتصالي
يا أهل ودي
رقَّ لحالي
قد زاد وجدي
يا ذا الجلال
قد خنت ودي
فاطفي اشتعالي
أطلت صبري
من لي مجير
من متريدات
ذاك العسير
حانت وفاتي
قلبي كسير
فوا حسرتي
غصني النضير
ذوى من بعد بعدي
ما حيلتي ما حيلتي
عيني جفَتْ طيب المنام
وكوى الغرام مهجتي
أواه من جور الغرام
وأبان عن أحبتي
فعلاني ذلٌّ واصطدام
واصبوتي واكربتي
ذاب الفؤاد من الغرام
وقد زادت ظلمتي
فمتى أرى البدر التمام
يا بُغْيَتي يا مُنْيَتي
صلني برى جسمي السقام
غادرتَني في حرقتي
والقلب أكسيفارُ هام
إن لم تعامل بالتي
فعليك يا سؤالي السلام
فرناس
:
الحب أضنى حالي
وقد كوى قلبي بنارِ
مونيم جسمي بالي
وفي الهوى طال انكساري
من مقلتيها قلبي طعين
في حاجبيها سحر مبين
بدا وفي خديها قد
طاب لي خلع العذارِ
أكسيفار
:
متى أرى الوصالا
فهو الدواء لداء وجدي
مونيم
:
جسمي غدا خيالًا
من النوى يا طول بعدي
فرناس
:
مونيم أهلًا.
أكسيفار
:
والوعتي.
مونيم
:
بدري وسهلًا.
فرناس
:
واحرقتي! أرجو وصالًا.
مونيم
:
من ذا الذي يرجو مزاري؟
أكسيفار
:
قتيلكِ المسجون.
فرناس
:
أسيركِ المحزون.
مونيم
:
من هذا يا سيدي أكسيفار؟
فرناس
:
مهجورك فرناس عديم الاصطبار.
مونيم
:
وأين أنت أيها الأمير؟
فرناس
:
في السجن وعذاب السعير.
مونيم
:
وأنت أيضًا محبوس؟
فرناس
:
نعم ومغموم ومنحوس.
أكسيفار
:
وأنا مصفد بالقيود.
مونيم
:
أغثنا يا إلهي المعبود، ومن حبسك يا حبيبي أكسيفار؟
أكسيفار
:
حبسني والدي الجبار.
فرناس
:
وأنا حبسني أبي.
أكسيفار
:
آه طالت كربي.
مونيم
:
كلنا حبسَنا متريدات.
الجميع
:
أغثنا يا بديع السموات.
أسرفت بالجور والضر والظلم متريدات،
والدهر بالقهر والكدر ولنا الفوات.
أسرفت بالجور والضر والظلم متريدات،
والدهر بالقهر والكدر ولنا الفوات.
فرناس
:
أنقذنا يا جبار.
الجميع
:
قد طالت الأكدار.
فرناس
:
متى من العُسر لليُسر ننجو؟
الجميع
:
كفى حسرات.
فرناس
:
امنحنا ذا الغفر بالنصر.
الجميع
:
في سائر الحالات.
أرباط
:
بالله اعفُ واسمح يا مهاب، وأنعم وأكرم واصفح تابوا تابوا.
فرناس
:
نعم نعم.
أكسيفار
:
يا ذا النعم.
أرباط
:
فاقبلهما.
فرناس
:
يا من سما.
أكسيفار
:
دمعي همي.
الجميع
:
ما جرى كفانا طال العنا والعذاب.
ملك
:
أخرجوهما بالعجل.
أرباط
:
الأمل أيها الأجل، أن تصفح عنهما.
ملك
:
معلوم لأنتش بهما، وكيف لا أصفح عن أعدائي، وأُطيل بحياتهم شقائي.
أرباط
:
سيدي.
ملك
:
صه، أنا لا أصفح عن عدو محض، ولو انطبقت السموات على الأرض، ويلك يا فرناس،
كيف رأيت حالك؟
فرناس
:
رأيت حالي مذنبًا يتوقَّع نوالك.
ملك
:
يتوقَّع نوالي؟
فرناس
:
نعم وهو الدوا لي.
ملك
:
أبشر يا فرناس، بحصول الإيناس … وأنت يا عاشق مونيم؟
أكسيفار
:
أنا جرمي عظيم، وما لي سوى رضاك، ينقذني من الهلاك.
ملك
:
ستنالان مني العفو والرضا، والذي مضى مضى.
ركِّعوا فرناس في الأول.
إذا كنت بين الحلم والجهل جالسًا
وخيِّرْتَ أنى شئت فالحلم أفضل
ولكن إذا أنصفت من ليس منصفًا
ولم يرضَ منك الجهلَ فالحلم أنبل
إذا جاءني من يطلب الجهل عائدًا
فإني سأعطيه الذي جاء يسأل
ولم أُعطه إيَّاه إلا لأنه
وإن كان مكروهًا من الذلِّ أجمل
فرناس
:
اعفُ عني أيها الأفضل، وإلا فأصغِ لكلامي، واسقني بعدها حِمامي.
ملك
:
تكلم أيها الخئون.
فرناس
:
اعلم يا عظيم الشئون، أن الغضب على من تملك لؤم، وعلى من لا تملك شؤم، وليس
من أخلاق الكرام، سرعة الغضب والانتقام، والحر يمنعه الاقتدار، من العقوبة
والاستغفار، والمرء لا يكن من المحسنين، ما لم يكن من العافين عن المسيئين،
وأنا فعلت ما فعلت، وقد ندمتُ ورجعت، وها أنا بين يديك، فافعل بي ما يطيب
عليك.
لذَّة العفو إن نظرت بعين اﻟ
ـعدل أحلى من لذة الإنتقام
هذه تُكسب المحامد والمجـ
ـد وهذي تجيء بالآثام
ملك
:
لسان الفتى أكبر شفعائه، وأنفذ سلامة على أعدائه، به يتصل الود، وينحسم الحقد
… قد عفوت عنك يا فرناس.
فرناس
:
حُفِظْتَ يا ذكي الأنفاس، فمثلي من يهفو، ومثلك من يعفو.
ملك
:
فكُّوا قيده أيها الجند.
فرناس
:
سلمت يا فرقد المجد.
ملك
:
سِرْ وسافر إلى مقاطعتك الآن، فقد حصلت على الربح بعد الخسران، وإياك أن تحضر
بغير طلب؛ لتأمن من غوائل العطب.
فرناس
:
أمرك يا والدي الفخيم.
ملك
:
سر بكلاءة الملك العظيم … وأنت يا أكسيفار؟
أكسيفار
:
أنا يا ذا الاقتدار أعشق مونيم، وفؤادي بها كليم، وقربها حياتي، وبعدها
مماتي، وقصارى كلامي، أيها الوالد السامي، وعدتني أن تنقذني من نار وجدي والكدر
العظيم، بقرب ذات الجمال مونيم، فأنِلْني غاية القصد، فقد أنجز الحر ما
وعد.
ملك
:
أنا قد وعدتك صحيح؛ لأقف على فعلك القبيح، لا لأعطيَك مونيم يا
خوَّان.
أكسيفار
:
هذا من غرائب الزمان، وهل يوجد الخلف في الملوك؟
ملك
:
اسكت يا أفوك … ركعوا هذا الأثيم.
أرباط
:
ارحمه يا مولاي الفخيم، ولا تؤاخذه فإنه أسير جهله، ورُدَّه في السجن ليرجع
إلى عقله.
ملك
:
السجن يرده إلى الهداية؟
أرباط
:
نعم ويخلِّصه من الغواية، وأنا أُوالي تأنيبه، وأتولى تهذيبه … أرجعوه بأمر
الملك إلى السجن.
أكسيفار
:
آه قتلني الحزن.
ملك
:
مت في السجن يا عديم الأدب، إلى كم
أعاني التعب والنصب؟ الأهل والأبناء يُرجون لدفع الداء، فإذا كانوا هم الأعداء
عظم البلاء، واشتد العمل وأصل الداء، أخرجوا مونيم.
أركاس
:
أدركنا أيها الفخيم.
ملك
:
ما الخبر يا أركاس؟
أركاس
:
إن الأمير فرناس، قد سوَّل للجند العصيان، وأخذهم وسار لملتقى
الرومان.
ملك
:
أقبلت جيوش الرومان؟
أركاس
:
نعم، وملئوا جميع القيعان.
ملك
:
والجند خانوا كفرناس؟
كم أشتكي زمني ولو أنصفتُه
لعذرتُه وشكوتُ أهل زماني
أركاس
:
نعم يا معدن الإيناس.
ملك
:
اتبعني أيها الوزير، وأنتم أيها الجند.
يندم المرء على ما فاته
لو قتلناه اكتفينا شره
سيرى فرناس يومًا هائلًا
وحُسامًا يلقى منه قبره
أرباط
:
قد بلغت الأرب، وفزتَ بالهرب، فخذيه وفري من هذه البلدان، قبل أن يراكما
إنسان.
مونيم
:
قد بلغت الأمل، وسأتقن العمل … اتبعني أيها الحبيب، فقد فرجها القريب
المجيب.
الجميع
:
يا ربنا استجب منا دعانا
سهِّل لنا مسعانا
أمان أمان أمان
واسبل لنا يا ربنا
سترًا سليمًا دائمًا مدى الأزمان