الفصل الثالث
المشهد الأول
تجاه القصر
(يدخل كاسيو وفصيلة موسيقارين)
كاسيو
:
يا أساتذتي اضربوا هان، وسأكافئكم على ما تجيدون. اضربوا لحنًا
مختصرًا لتهنئة القائد بيومه السعيد.
(تعزف الموسيقى)
(يدخل المضحك)
المضحك
:
مهلًا يا أساتذتي. أذهبت معازفكم إلى نابُلي فعادت منها بهذه
الأغنية الأنفية؟
موسيقي أول
:
ما قصدك يا سيدي؟ ما القصد؟
المضحك
:
هل هذه الآلات آلات هواية؟
موسيقي أول
:
طبعًا يا سيدي.
المضحك
:
هذه نقود أرسلها القائد ويرغب إليكم وُدّيًا أن تكفّوا هذه
الغوغاء.
موسيقي أول
:
سنمتنع يا سيدي.
المضحك
:
إن كنتم تعرفون أنغامًا لا تُسمع فاضربوها. أما الموسيقى التي
تُسمَع فالقائد غير مولع بها.
موسيقي أول
:
ليست عندنا الموسيقى التي تشتهيها.
المضحك
:
إذن ضعوا زماميركم في أكياسكم وانطلقوا لأنني ذاهب. تلاشَوا في
الهواء. توارَوْا.
(يخرج الموسيقيون)
كاسيو
:
أرجو أن تُحتبس مهاتراتك عني. هذه قطعة ذهب ولي إليك رغبة: متى
استيقظت السيدة التي تخدم امرأة القائد فقل لها إن رجلًا يدعى كاسيو يودّ أن
تمنحه مقابلتها هنيهة … أتفعل؟
المضحك
:
لم يمضِ إلا دقيقة منذ هبطت عن سريرها، وسألقي إليها كلمة لتهبط
إلى هذا المكان إن أرادت.
كاسيو
:
إفعل ذلك يا صاحبي العزيز.
(يخرج المضحك)
(يدخل ياجو)
كاسيو
:
ياجو، جئتَ في ميقات الحاجة إليك.
ياجو
:
يلوح لي أنك لم تنمْ.
كاسيو
:
طلع النهار قبل أن نفترق وقد اجترأت أن أرسل في طلب امرأتك رجاء
أن تلتمس لي موعدًا من الفاضلة ديدمونه.
ياجو
:
سأبعثها إليك حالًا، وأحاول إبقاء المغربي بحيث تملكان الوقت
الكافي للتكلم فيما لك من الشأن.
كاسيو
:
شكرًا لك جزيلًا (يخرج ياجو)
لم أعرف قط فيورنتيًا أمضى في الخير وأشدّ وفاءً.
(تدخل إميليا)
إميليا
:
صبحك الله بخير أيها الملازم الكريم. أنا حزينة لما أحزنك، ولكن
الأمر سيُصْلَح كما أرجو، والقائد وامرأته يتباحثان في هذه المسألة. هي تدافع
عنك بقوة، وهو يجيب أن الرجل الذي جرحته عالي السمعة في قبرس وله قربى موشوجة
الأعراق بين كبراء الجزيرة فكان لا مندوحة له من عزلك أو يخطئ الرأي، وإنه ما
زال يحبك ولا يحتاج من الوَصَاة بك إلا ما يوحيه وُدّه، فهو سيغتنم أول فرصة
تسنح لردّك إلى مكانك.
كاسيو
:
مع هذا أرجو منك إذا كان في الإمكان أن تهيّئي لي اجتماعًا
بديدمونه أكلمها فيه على حدة.
إميليا
:
تفضل واتبعني أجعلك في موضع تخاطبها فيه براحة وصراحة.
كاسيو
:
هذه منّة عظيمة.
المشهد الثاني
مسكن في القصر
(يدخل عطيل وياجو ووجهاء)
عطيل
:
إدفع هذه الرسائل إلى الملاح ياجو وليُحْمَلْ إلى مجلس الأعيان
سلامي. بعد هذا أنا ذاهب للتنزه ومشاهدة أعمال التحصين، فمتى عُدْتَ فالقَني
هناك.
ياجو
:
سأفعل يا سيدي الكريم.
عطيل
:
والآن أيها السادة أنمضي لنرى المعاقل؟
الوجهاء
:
سمعًا وطاعة.
(يخرجون)
المشهد الثالث
في القصر
(تدخل ديدمونه وكاسيو وإميليا)
ديدمونه
:
ثِقْ يا عزيزي كاسيو أنني سأبذل جَهْدي لخدمتك.
إميليا
:
افعلي مشكورة يا سيدتي فإن زوجي شديد التألم لهذا المصاب كأنه
مصابه.
ديدمونه
:
نعم الفتى الوفي! لا ترْتَبْ يا كاسيو أنني سأعيد الصداقة بينك
وبين قريني كما كانت قبلًا.
كاسيو
:
يا سيدتي الكريمة مهما ينتهِ إليه أمر ميشيل كاسيو فإنه إلى آخر
الدهر خادمك الأمين.
ديدمونه
:
أعتقد هذا وأحمدك عليه. أنت تحب مولاي وتعرفه من عهد طويل، فلا
تحسب أنه يدعك مقصيًّا عنه إلا مهلة ما تقتضيه السياسة.
كاسيو
:
أجل يا سيدتي ولكن هذه السياسة قد يطول أجلها، وقد يتخللها من
المعاذير التافهة الأسباب والارتباكات التي يجيء بها تحوّل الأحوال مدة انصرافي
عن منصبي وحلول غيري محلي، ما يُنسي قائدي خُلوص حبي له وسوابق خِدَمي.
ديدمونه
:
لا تداخلك هذه الخشية. أضمن لك منصبك بشهادة إميليا وأيقنْ أنني
متى وَعدتُ وعدًا وُدّيًا وَفّيتُ به إلى آخر حرف منه. سأظل مُلِحّة على مولاي
مكررة لديه التماسي حتى أرده عن جماحه، بل سأجعل فراشه شبه مدرسة، ومائدته شبه
خلوة للاعتراف، وأدخل في كل مشاغله طلب كاسيو، ذلك لأن محاميك يؤثر الموت على
ترك قضيتك.
إميليا
:
سيدتي هذا سيدي قادمًا.
كاسيو
:
سيدتي إذنك بالانصراف.
ديدمونه
:
امكث واسمع ما أقوله له.
كاسيو
:
الآن لا، يا سيدتي، لأنني في أشد الانزعاج وغير كفء لخدمة
مصلحتي.
ديدمونه
:
إفعل ما تستصوب.
(يدخل عطيل وياجو)
ياجو
:
أفّ ما أحب هذا.
عطيل
:
ماذا تقول؟
ياجو
:
لا شيء يا سيدي. أو. لا شيء.
عطيل
:
ألم يكن كاسيو هذا الذي فارق امرأتي الساعة؟
ياجو
:
كاسيو يا سيدي؟ يقينًا لا، ما أظن … لو كان هو ما فرّ فرار
المجرم حين رآك مقبلًا.
عطيل
:
أظنه إياه.
ديدمونه
:
كنت يا سيدي أخاطب ذا حاجة. رجلًا حزينًا في الغاية لانصرافك
عنه.
عطيل
:
من تعنين؟
ديدمونه
:
ملازمك كاسيو، أي سيدي لئن كانت لي حُظوة في عينيك وقدرة على
استعطافك إن رجائي أن تتفضل عليه وتصفح عنه لأنه رجل صادق الحب لك. وإنما أخطأ
عن جهل لا عن عمد، وإلا خابت فراستي في وجوه الأوفياء. أبتهل أن تعيده إلى
منصبه.
عطيل
:
أهو الذي كان منصرفًا من هنا؟
ديدمونه
:
نعم هو. وكان كئيبًا كآبة تركت في نفسي أثرًا من حزنه وشطرًا من
ألمه. يا حبيبي ناشدتك غرامنا إلا ما أرجعتَه.
عطيل
:
الآن لا، يا ديدمونتي الرقيقة، ولكن في وقت آخر.
ديدمونه
:
أيكون هذا الوقت الآخر قريبًا؟
عطيل
:
أقرب ما يكون إكرامًا لك يا عزيزتي.
ديدمونه
:
أعلى العشاء الليلة؟
عطيل
:
الليلة؟ لا.
ديدمونه
:
أغدًا الظهر؟
عطيل
:
لن أتغدى في البيت غدًا لأنني سألحق بالضباط إلى القلعة.
ديدمونه
:
إذن غدًا مساء أو الثلاثاء ظهرًا أو الأربعاء صباحًا … أتوسل
إليك أن تعيّن الميقات ولا يزِدْ على ثلاثة أيام. إنه وذمتي لنادم على خطيئته
وهي في رأي الأكثرين ليست من الخطايا التي تستلزم أدنى ملام إلا إذا صدقت قاعدة
القائلين بأنه يجب في الحرب تأديب الأمثَلين ليعتبر سواهم بهم. متى يعود؟ قل لي
يا عطيل، إنني لأسائل ضميري عن شيء تطلبه مني ولا أجيبك إليه أو أتردد في
الإجابة. عجبًا! أميشيل كاسيو الذي كان أمين سرنا في غرامنا وكان يدافع لدي عنك
حين أذكرك بغير ما يعجبه، ينبغي لي أن أشفع له بكل هذا الإلحاف لتصفح عنه … ما
كان أسرعني لإجابتك إلى أقصى الرغائب لو بَدَتْ لي منك إشارة.
عطيل
:
كفى وحياتك … ليعد حين يشاء … لا أمنع لكِ سؤلًا.
ديدمونه
:
على أن عَوْده لا يُعدّ إحسانًا مذكورًا. سألتك إياه كما أسألك
أن تلبس قفازيْك أو تتغدى بطعام أو تستدفئ من برد أو تفعل أي فعل يفيد صحتك،
لكن علمت الآن أنني إذا جدّتْ لي عندك أمنية كانت تلك الأمنية عظيمة الشأن صعبة
التحقيق.
عطيل
:
لن أردّ لكِ أمنية فكوني متفضلة وامنحيني هنيهة أخلو فيها
بنفسي.
ديدمونه
:
أكنت رادّة لك أمرًا. لا. إلى الملتقى يا مولاي.
عطيل
:
سأوافيك من غير إبطاء.
ديدمونه
:
تعالي يا إميليا. إفعل ما يوحيه إليك الضمير. مهما تشأ فإنني
خاضعة.
عطيل
:
يا لها من شاطرة آخذة بالألباب. أحبك ولو سامني حبك عذاب
الآخرة. فإذا انصرفت عن هواك يومًا. فهنالك تعاودني الفوضى والظلمات.
ياجو
:
أي مولاي الشريف.
عطيل
:
ماذا تقول يا ياجو؟
ياجو
:
أكان ميشيل كاسيو يعرف غرامكما؟
عطيل
:
عرفه من مبدئه إلى نهايته. لمَ هذا السؤال؟
ياجو
:
إرضاءً لفكري لا لشيء آخر ذي بال.
عطيل
:
وما فكرك؟
ياجو
:
كنت لا أتخيل أنه يعرف ما دار بينكما.
عطيل
:
بلى وكان يتوسط بيننا أحيانًا.
ياجو
:
أحقًا؟
عطيل
:
أحقًا؟ نعم حقًا. ما ترى تحت هذا؟ أليس وفيًا؟
ياجو
:
وفيّ يا مولاي.
عطيل
:
وفيّ. بل وفيّ.
ياجو
:
وفيّ يا سيدي إلى غاية ما أعلمه.
عطيل
:
صرّح عما في ضميرك.
ياجو
:
عما في ضميري يا مولاي، بالله إنه ليجيبني كرجع الصدى كأن في
طويته شيئًا أبشع من أن يكشف عنه النقاب.
عطيل
:
تضمر أمرًا ولا تُبديه. ولقد سمعتك تقول: «أفّ ما أحب هذا»
عندما كان كاسيو يفارق امرأتي. ثم لما أخبرتك أنه كان مطّلعًا على أسرار غرامنا
سبق لسانك فكرك وقلت: «أحقًا»، ثم انقبضت أهداب عينيك وتضامنتْ كحوافي الكيس
كأنك أردتَ أن تخْبُؤ في دماغك سرًا رهيبًا. إن كنتَ لي مُحِبًّا فكاشفني بما
تضمر.
ياجو
:
مولاي تعلم أنني لك مُحِبّ.
عطيل
:
أعتقد وُدّك وبقدر ما أعرف من أنك مفعم ولاء ونزاهة وأنك تَزِن
كلماتك قبل النطق بها فتوقفاتك في الحديث أشد موقعًا مني لأن أمثال هذه
المحاذرات إنما تكون مراوغات مألوفة عند اللئيم الخبيث الكذوب كما أنها تكون
عند الرجل الصالح مكاشفات مبرقعة تخرج من صدر لم يملك تأثيره.
ياجو
:
أجرؤ على الإقسام بأن ميشيل كاسيو وفيّ كما أعتقد.
عطيل
:
وكذلك أعتقده.
ياجو
:
كان يجب أن يكون الناس كما تنبئ عنهم ظواهرهم. بل ليت الذي
خلقهم لم يجعل للمنافقين أشباهًا.
عطيل
:
يقين أن الرجال يجب أن يكونوا كما تنبئ عنهم ظواهرهم.
ياجو
:
ولهذا أظن أن كاسيو صادق الولاء.
عطيل
:
لا. عندك ههنا أكثر مما تبوح به. فرجائي أن تظهر لي خواطرك كما
تجيلها في خفائك وأن تُلبس القبيحة منها أقبح الألفاظ.
ياجو
:
عفوك يا سيدي الكريم أنا مكلف كل عمل قويم تقتضيه الطاعة ولكنني
غير مكلف ما أعفي منه الأرقاء. أإظهارًا لضمائري وقد يكون منها ما هو دنيء
ومنها ما هو زور؟ أي قصد لا تدخله بعض المكاره في بعض الآونة؟ وهل في الناس
من طَهُرَ قلبه حتى لا تداخله الريب المستهجنة وتعقد فيه أحيانًا محاكمها
القانونية بجانب الأفكار النقية؟
عطيل
:
ياجو إذا ظننت أن صديقك مُهان ولم تطلعه على ما في طويّتك فأنت
من المتآمرين عليه.
ياجو
:
قد يكون ظني إثمًا وأُقرُّ بين يديك أن من طبيعتي الرديئة إساءة
الظن واختلاق خطايا قد لا تكون … فأتضرع إليك أن تصون حكمتك عن الأخذ بمزاعم
رجل كثير الخطل في تصوّره وأن لا تبني صرحًا من الأوهام المزعجة على أساس غير
متين من ملاحظاته الناقصة فلا فائدة لك من جهة اطمئنانك وصفائك ولا لي من حيث
شرفي الرّجُلي ونزاهتي وعقلي أن تطلع على خفايا فكري.
عطيل
:
ما مرادك من هذا؟
ياجو
:
حسن السمعة للرجل والمرأة يا سيدي العزيز أثمن جوهرة من حلى
النفس. من يسرق كيس نقودي يسرق شيئًا زريًّا كان لي وأصبح له وكان قبلنا لألوف
آخرين، أما الذي يسرق حسن سمعتي فمختلس شيئًا لا يغنيه ويجعلني فقيرًا جَهْدَ
الفقر.
عطيل
:
وايم السماء لأعرفنّ أفكارك.
ياجو
:
لن تعرفها ولو كان قلبي في يدك فهل تصل إليها وذلك القلب في
حراستي؟
عطيل
:
آهًا.
ياجو
:
أي مولاي احذر الغيرة. تلك الخليقة الشوهاء ذات العيون الخضراء
التي تسخر مما تتغدى به من لحوم الناس. الرجل الذي يُثلم عرضه فيعرف مصابه
ويكره جالبه عليه سعيد، سعيد بجانب ذلك الذي يقضي الدقائق الجهنمية شَغِفًا،
إلا أنه مستريب. عاشقًا أشدّ العشق، ولكن تساوره الشكوك.
عطيل
:
يا للشقاء!
ياجو
:
الفقر مع القناعة غنىً بلا جاه عريض. أما النعم التي لا تحصى
فتكون فقرًا عقيمًا عُقْم الشتاء البارد للذي يخشى أبدًا أن يصبح معسرًا. اللهم
يا ذا المراحم أعفِ من الغيرة نفوس أمثالي.
عطيل
:
لمَ لمَ كل هذا؟ أتظن أنني سأعيش هذه العيشة مغيرًا ظنوني كلما
تغير هلال. كلا. متى نَفَذ الريب ثبتت النفس على حالة معه تبدل مني بتيس فظيع
يوم أدَع نفسي بين أيدي الشبه التي تحدثها كل دسيسة. أنا لا تُستَفَزُّ غيرتي
بأن يُقال لي إن امرأتي جميلة وإنها لطيفة المحاضرة وإنها تحب المعاشرة وإنها
طليقة النفس في أحاديثها وتغني وتلعب وتحسن الرقص. كل هذه الأفعال تكون فاضلة
متى كانت المرأة فاضلة. ثم إنني من جهة أخرى لا أخشى أدنى خشية منها ولا
يخالجني أيسر ظنّ سيء بها من جهة أنين فاقد المحاسن لأنها إنما اختارتني ولها
عينان مبصرتان نظرتني بهما. لا لا. وما أنا بمرتاب حتى أرى فإذا ارتبتُ فحتمٌ
أن أتثبت مما يداخلني من الظنون وإذا وضح لي البرهان بعد ذلك فيومئذ فراقًا
خالدًا إما للحب وإما للغيرة.
ياجو
:
يسرُّني عزمك هذا بأنه يمكنني الان من توكيد حبي لك وتجلّتي.
وعليه يقتضي الواجب أن أقدّم إليك نصيحة — وبعدها يجيء وقت البرهان — راقبْ
جيدًا ما يكون من امرأتك ومن كاسيو. إستعمل عينيك من غير إساءة ظن، إذ لا أحب
أن تنخدع فطرتك الشريفة الحُرّة بسماحتها. أنا عليم بطبائع بلادي، والنساء في
البندقية يظهرن من أحوالهن على مشهد من الملأ ما لا يجرؤنَ أن يظهرنه لبعولتهن،
فالذمة عندهن لا أن يمتنعنَ عما يشتهين ولكن أن يخفينه.
عطيل
:
أجدّ ما تقول؟
ياجو
:
غشّتْ أباها بتزوُجها منك ولم تكن أشد هيامًا بك منها حين كانت
ترتجف مَهابةً من نظراتك.
عطيل
:
هو حقيقة ما بدا لي منها.
ياجو
:
فعليك والحالة هذه أن تستتبع القياس العقلي: إن التي استطاعت
وهي في أنضر الصبا أن تخفي ما بها عن أبيها إخفاءً تركت معه عينيه أشد إقفالًا
من لباب السنديانة … التي غافلته حتى اتهم بها السحر. صفحًا يا سيدي. إني
لملوم وإياك أستغفر عن فَرْط هذا الخلوص في ولائي لك.
عطيل
:
لن أنسى لك هذه المنّة مدى الدهر.
ياجو
:
ألمح أن كلماتي قد شغلت من بالك.
عطيل
:
البتّة …
ياجو
:
بل أجد أنها نالت منك وأحزنتك بغير ما قصدته منها وإنما أنطقني
بها الولاء، لكن أراك واجمًا فيتعين عليّ أن ألتمس منك أمرًا وهو أن لا تعطي
تلك الكلمات معنى أبعد ونتيجة أوسع مما يُعطاه مجرد الريب.
عطيل
:
سأفعل.
ياجو
:
إذا تماديت في التأويل يا سيدي أصابت أقوالي من المرمى ما لا
أحبه. إن كاسيو لصديقي. أي مولاي أراك مضطربًا.
عطيل
:
بعض الشيء. أعتقد أن ديدمونه عفيفة على كل حال.
ياجو
:
أطال الله بقاءها وهي كما تعتقد وأطال بقاءك على هذا الظن الحسن
بها.
عطيل
:
غير أن الطبيعة قد تضل السبيل.
ياجو
:
وهذا هو محور المسألة وبناءً عليه أزداد جرأة معك فأقول إن في
امرأة تأبى من يعرض عليها من الخطاب المتعددين الذين هم من بلادها ولونها
ومقامها مع أن الطبع يدفعها إلى إيثار أمثالهم لدليلًا على نفس فاسدة وميول غير
متناسبة وأفكار مخالفة للفطرة. لكن سامحني فما أذكره هذا لأخصها به غير أنني
أخشى أن تراجعها نفسها مراجعة يتلخص فيها رأيها من أسباب الهيام فتقابل بينها
وبين أبناء موطنها فتندم.
عطيل
:
انصرف بسلام وإذا رأيت شيئًا بعد فزدني علمًا ولترقب امرأتك ما
يكون. إليك عني الآن.
ياجو
:
مولاي أستأذن.
(يتظاهر بالانصراف)
عطيل
:
ما الذي حملني على الزواج؟ هذا الإنسان الوفي يرى ويعلم بلا
مراء أكثر مما يُبدي.
ياجو
(متراجعًا)
:
مولاي أودّ لو أن ذاتك المبجلة لا تتعمق في تنقيب هذه المسألة
بل تدع ذلك للوقت، إذ أن الوقت يُظهر المخبآت بأدق مهارة. ومع ذلك إذا بدا لك
أن تُبقي الرجل مَقصيًا إلى حين، تسنّى أن تستبطن سرائره وتعرف وسائله. ثم انظر
ما إذا كانت امرأتك تُلحّ لإرجاعه بشدة وحماسة. ففي هذه الأحوال ما فيها من
الأدلة. ومهما يكن مما أسلفته فاجعل أساس الرأي أنني أفرطت في الحرص عليك
إفراطًا هو من معايبي، هذا مع التضرّع إلى ذاتك المبجلة بأن تعتدّها
بريئة.
عطيل
:
ثق أنني سأمتلك نفسي.
ياجو
:
أستأذن مرة ثانية.
(ينصرف)
عطيل
:
هذا الفتى وفيّ في النهاية ويستكشف بكفر نيّر جميع الطوايا
البشرية. لو كانت تلك المرأة بازيًا١ عالقة به ألياف قلبي لأطلقته وتركته تحت العواصف يبحث عن صيد
يتصيده. لعلها مالت إلى غيري لأنني أسود وليس في كلامي من الرقة والتزويق ما في
كلام أولئك المتحذلقين المختلفين إلى القصور أو لأنني في أول مهبط السنين على
كون هذا التقدم في السن لا يظهره شيء مني. لقد انفصلت عني وخدعتني ولم تبقَ لي
تعزية إلا أن أبغضها — أواه من خيبة الزواج — أنتوهم أننا مالكون لهذه الخلائق
الضعيفة حيث لا سلطان لنا إلا على شهواتها؟ لأوثر أن أكون صرصارًا يعيش من
أبخرة السجن على ترك جزء من الشيء الذي أحبه لمتاع الآخرين. ولكن من ههنا تنبعث
اللعنة التي يعيش فيها الكبراء فهم أسوأ حظًا من السوقة، كأن الإصابة بالعِرض
قد حُتمت عليهم تحتيم الموت. ويلاه من ذلك الخطب الناطح بقرنيه الذي يُقَدِّر
علينا منذ الميلاد. هذه ديدمونه آتية. لئن كانت غادرة لقد آمنت أن السماء تسخر
من نفسها. لا. لا أعتقد فيها الغدر.
(تعود ديدمونه وإميليا)
ديدمونه
:
بحياتك ماذا يجري أيها العزيز؟ إن ضيوفك من أعيان الجزيرة
لمنتظروك والغداء مهيّأ.
عطيل
:
عليّ الملام.
ديدمونه
:
ما بالك تتكلم بهذا الصوت الضعيف. أتشعر بألم؟
عطيل
:
عندي ألم في الجبين هنا.
ديدمونه
:
هذا من فرط السهر ولكن سيزول حالًا. دعني أعصب رأسك بشدة وبعد
ساعة تكون معافى.
عطيل
:
إن منديلك لأصغر من أن يعصبني (ينزع
المنديل عن رأسه فيسقط إلى الأرض ولا تتنبه له ديدمونه) خَلْ عنكِ
هذا تقدمي وأنا متبع.
إميليا
:
بي حزن من ألمك (يخرج عطيل
وديدمونه) إني فرحة بوجدان هذا المنديل هو أول تذكار أهداه
المغربي إليها وزوجي الغريب الأطوار قد لاطفني كثيرًا وسألني أن أسرقه له. غير
أنها تحب هذه الهدية حبًا جمًا. لأن عطيلًا أوصاها مُلِحًّا بالاحتفاظ بها
أبدًا، ولهذا هي تحملها بلا انقطاع وتقبّلها وتخاطبها. سأتصنع منديلًا على هذا
المثال فأعطيه ياجو ليعمل به ما يشاء مما يعلمه الله ولست أعلمه وغاية مرامي
إنما هي إجابة سؤله.
(يعود ياجو)
ياجو
:
لماذا وقوفك هنا منفردة.
إميليا
:
لا تعنّفني. عندي لك شيء ما.
ياجو
:
شيء لي. إنه لشيء نافع.
إميليا
:
أواه.
ياجو
:
شائع أن تكون للرجل امرأة حمقاء.
إميليا
:
أهذا كل ما عندك؟ ماذا تعطيني بدلًا من هذا المنديل؟
ياجو
:
أيّ منديل؟
إميليا
:
أي منديل! ذلك الذي كان أول هدية من المغربي لديدمونه والذي
طالما سألتني أن أختلسه.
ياجو
:
أسرقته؟
إميليا
:
لا وإنما سقط منها سهوًا بحضوري فالتقطته وها هو ذا.
انظر.
ياجو
:
نعمَ البنيّة أنتِ! أعطني إياه.
إميليا
:
ما تنوي فعله به وقد ألححت علي ذلك الإلحاح باختلاسه؟
ياجو
(مختطفًا منها المنديل)
:
أيعنيك هذا؟
إميليا
:
إذا لم يكن منه مقصد ذو بال فأعِده إلي فإن تلك السيدة المسكينة
سيصيبها مَسّ إذا فقدته فلم تجده.
ياجو
:
إحذري أن يُظنّ بكِ وأنا في حاجة إليه. اذهبي ودعيني (تخرج إميليا) سأطرح هذا المنديل في مسكن كاسيو
بحيث يجده. أمثال هذا الشيء التافه أفعلُ في الغيور من تحقيقات الكتب المقدسة
وربما جر هذا المنديل أمرًا. المغربي آخذ بالتغير من تأثير سمّي، على أن
العقاقير الخطرة هي بطبيعتها سِمَام أول طعمها غير كريه، ولكن متى ابتدأ فعلها
في الدم أحرقت إحراق مناجم الكبريت … ها هو ذا قادم، لا الخشخاش ولا غيره من
المرقدات القوية يعيد إليك بعد الآن المنام الهادئ الذي كنت تنامه أمس.
(يعود أمس)
عطيل
:
أها أها، أجدها تواريني.
ياجو
:
حسبك يا سيدي لا تفكر في هذا بعد.
عطيل
:
هراء. إليك عني. لقد مددتني على خُشُب التعذيب. أقسمت إنه خير
للإنسان أن يُخدع كثيرًا من أن يعلم بخديعته قليلًا.
ياجو
:
ما بك يا مولاي؟
عطيل
:
أيّ إحساس كان يخامرني في تلك الساعات الغرامية التي خالستُ بها
النعيم. لم أكن لأظنّ هذه الظنّة ولا لأخطرها على بالي وكنت لا أتألم. في
الليلة المنصرمة نمتُ مستقرًا وبي فرح وسكينة وفكر، ولم أستكشف على شفتيها
قُبَل كاسيو. لا ينبغي إبلاغ الذي سُرق له شيء أنه سُرِق فإذا لم يفتقده فكأنه
لم يختلس منه شيء البتة.
ياجو
:
يحزنني ما أسمعه.
عطيل
:
لكان يسرني أن يتمتع الجنود كلهم ومعهم أعوانهم الصبيان بجسمها
الرقيق على أن لا أعلم. أما الآن ففراقًا أبديًا لراحة النفس. فراقًا للسرور.
فراقًا للكتائب التي تزدهي خُوَذها بالريش الناصع. وللحروب الكبيرة التي تجعل
الطمع فضيلة. أواه. فراقًا للخيل الصاهلة وللبوق العزّاف وللطبل الذي يشبُّ
حرارة النفس وللمزمار الذي يَصفِر في الأذن وللرايات الملكية ولسائر الأشياء
التي تنجم عنها الكبرياء والعظمة والمفاخر الحربية.
وأنتِ أيتها الآلات المهلكة التي تحاكي بالإعارات الخارجة من أفواهها الهدّارة صيحات النشور. وداعًا وداعًا، إن حياة عطيل قد انتهت.
وأنتِ أيتها الآلات المهلكة التي تحاكي بالإعارات الخارجة من أفواهها الهدّارة صيحات النشور. وداعًا وداعًا، إن حياة عطيل قد انتهت.
ياجو
:
أهذا ممكن يا مولاي؟
عطيل
:
أيها النمام الواشي جئتني بما يثبت أن حبيبتي مومس. لا تبطئ.
أرني بعيني وإلا (يقبض على عنقه) حلفت بقيمة
النفس الخالدة ليكونن خيرًا لك أن تكون مخلوقًا كلبًا من أن تلقى هبّة
رجزي.٢
ياجو
:
أوَصلت الأمور إلى هذا الحد؟
عطيل
:
أرني بعيني أو أيّدْ لي برهانك بحيث لا يفوتك ذكر جزئية أو حالة
مما يعلق به الريب وإلا فتبًّا لحياتك.
ياجو
:
أي مولاي الشريف.
عطيل
:
إن كنت قد فعلت لتسيء ظني بها وتعذبني فلا تصَلِّ بعد الآن
بتاتًا. اخرج عن انسانيتك بالمرة. راكِمْ فظائع فوق فظائع. إرتكبْ جرائم تبكي
منها السماء وتقضي لها الأرض عجبًا لأنك لا تستزيد في يوم الله شيئًا على ما
ستناله من العقاب الذي يفوق كل هذا.
ياجو
:
يا لرحمة الله. يا للسماء سامحيني. هل أنت رجل؟ هل لك نفس أو
إحساس؟ أعانك الله. أقِلْني من خدمتي. وَيْحي من حقير أبله جعل وفاءه ذنبًا له.
ويل لهذه الدنيا الخؤون. اعلمي اعلمي يا دنيا ما أخيَبَ الأمانة، وما أغدر
الاستقامة. حمدًا لك على هذه العظة وأبى الله بعدها أن أحب حبيبًا ما دام
الولاء جلابًّا لمثل هذه المهانات.
عطيل
:
لا، أقم، كان يجب أن تكون وفيًا.
ياجو
:
كان يجب أن أكون حكيمًا لأن الأمانة حمقاء ومضيَعة
للمثوبات.
عطيل
:
والعالمين إني لأعتقد طهارة امرأتي ثم لأعتقد أنها غير طاهرة.
بل أظن أنك صادق ثم أظن أنك غير صادق، لا بد لي من برهان، إن اسمي كان أنصع من
وجه ديانا فأصبح الآن أقتم أسود كوجهي. لئن كان في الدنيا حبال. خناجر. سموم.
نار. أنهار تُغرق فلست بمحتمل هذا. ما أظمأني إلى ترضية لنفسي.
ياجو
:
أجد يا سيدي أن الغرام يَغُولك٣ وأندم على ما ألحقته بك من الأذى. أفتريد البرهان؟
عطيل
:
أأريد؟ نعم أريد.
ياجو
:
ذلك إليك. ولكن كيف تريد أن أجيئك بهذه الترضية يا سيدي؟ أتبتغي
مني شاهدًا يقف جامدًا مفتوح الفم يتفرّس فيها وهي مع الرجل؟
عطيل
:
موت وهلاك. أواه.
ياجو
:
يصعب علينا فيما أظن أن نحتال عليهما بحيث يؤخذان على هذا
الشكل، بل من المستحيل أن يراهما على فراش واحد غير الشيطان. وعلى هذا … فما
تكون الترضية حيث لا يحتمل، يظهرا لأحد بهذا المظهر ولو كانا أفسق من تيْسَين
وأحمَى من قردين وأشد قِحَة في البهيمية من ذئبين وأقلّ احتراسًا وحِذارًا من
غبيّين مخمورين. أما إذا كان الاستنتاج من وقائع واضحة الدلالة موصلة إلى أبواب
الحقيقة كافيًا لما تشاء من الترضية فالترضية بين يديك.
عطيل
:
أعطِني برهانًا حِسيًّا أنها زانية.
ياجو
:
قُبّحت من خدمة. ولكن بما أنني جريْتُ هذا الشوط البعيد في
المكاشفة مندفعًا بدافع الجنون الذي ابتلتني به الصداقة والنزاهة فإنني لأزيدك
بيانًا: كنت بائتًا منذ ليالٍ مع كاسيو وبي ألم في الأسنان أرّقني لشدّته فلما
انقضى الهزيع الأول تبيّنت أن كاسيو يرى حلمًا. ومن الناس أفراد خلقت نفوسهم
على غير الكتمان فيذكرون شؤونهم في منامهم … ومنهم صاحبي. سمعته يقول وهو
مستغرق في رؤياه: «حبيبتي الجميلة ديدمونه لنكن حذرين ولنخف غرامنا». وحينئذ
يا سيدي أمسك بيدي يشدّها ويصيح: «يا لكِ من حسناء شهية» ثم طفق يلثمني بقوة
كأنه كان يود أن يقتلع القُبَل النابتة على شفتيها من أصولها، ثم ألقى بساقه
على فخذي وتنهد واعتنقني ثم صاح: «لعن الله الحظ الذي وهبك للمغربي».
عطيل
:
فظيع فظيع.
ياجو
:
لم يكن إلا حلمًا.
عطيل
:
بلى ولكنه جاء دليلًا على شيء تم سابقًا، وإنه لدليل قاطع على
كونه منامًا.
ياجو
:
وبه تتعزز البراهين السالفة التي تظهر واهية.
عطيل
:
سأمزقها تمزيقًا.
ياجو
:
بلا ريب، ولكن كن متئدًا إذ أننا لم نرَ بعد أمرًا تم وقد تكون
عفيفة. بقي أن تقول لي شيئًا ذا بال. ألم ترَ قط في يد امرأتك منديلًا عليه رسم
الشليك؟
عطيل
:
أعطيتها منديلًا بهذا الرسم وهو أول ما أهديته إليها.
ياجو
:
أول ما أهديته بهذا الرسم إليها أو آخره لا أعلم. غير أنني رأيت
منديلًا من هذا الشكل — وأعتقد أنه لها — بيد كاسيو وكان يمسح به لحيته في هذا
الصباح.
عطيل
:
إن كان هو منديلي …
ياجو
:
إن كان هو الذي تعنيه أو آخر ما تملكه ففيه ما ينطق بذنبها
تعزيزًا لما تقدم من البراهين.
عطيل
:
ويلاه. علام لا يكون لذلك الشحاذ أربعون ألفًا من الأعمار. إن
عمرًا واحدًا دون الكفاية لانتقامي. الآن تبيّنت أنها في الحق زانية. انظر يا
ياجو، هذه نفخة اصَعِّد بها إلى السماء ذلك الغرام الناري، لقد ذهب. يا أيها
الانتقام المدَلهِمّ ارتفع من أعماق جهنم، ويا أيها الحب تنازلْ لاستبداد الغضب
عن تاجك وعرش قلبي، ويا أيها الصدر ارْزَحْ تحت حِمْلك فإنما حملك من ألسنة
الأفاعي.
ياجو
:
لا بد لك من التمالك.
عطيل
:
دمًا دمًا دمًا.
ياجو
:
تحمّلْ، تجلّدْ، وربما تغير شعورك.
عطيل
:
لن يتغير. أعرفت كيف تجري التيارات القارسة الجامحة من مبعثها
في بحر البُنط٤ إلى مستقرها في بحر الظلمات لا يردها الجزر بل تنطلق إلى غايتها في
منهاج قويم، كذلك عزائمي النضّاحة بالدماء قد اندفعت إلى الأمام بقوة ولن ترجع
إلى الوراء، لن تعود إلى حِمَى ذلك الغرام الوديع، بل تستمر في سيرها حتى تغور
جميعها في انتقام عظيم على قدر الاهانة. الآن وَجَبَ عليّ بحق تلك السماء
المرمرية التي أراها هناك أن أثبِت وعيدي بحيث أجعل تحقيقه خروجًا من يمين
مقدسة.
(يجثو)
ياجو
:
لا تنهض (يجثو أيضًا) اشهدي
أيتها الأنوار التي تتأجج في علٍ سرمدًا وأنتِ أيتها العناصر المحيطة بنا من كل
جانب، اشهدي أن ياجو يستخدم لإنصاف عطيل مما لحق به من العار عقله وقلبه ويده،
ليأمر عطيل ومهما يكن ما يكلفني إياه دمويًا موبقًا فإنني لفاعله بعقيدة أنه
فِعْلُ وفاء ورحمة.
عطيل
:
أتلقى هذا العهد الودي منك لا بكلمات شكر فارغة بل بقبول حسن من
قلبي. وإني لمختبر قسمك حالًا. أخبرني إلى ثلاثة أيام إن كان كاسيو
قُتِل.
ياجو
:
لقد هلك صاحبي وهو أمر مقضيّ بناءً على إشارتك، ولكن لِتَعِشْ
هي.
عطيل
:
لتفترسها النار، تلك البغي الخبيثة. لتفترسها النار. تعالَ معي
إلى مكان تنفرد فيه لأبحث عن ميتة سريعة لتلك الجنّية الجميلة. كن ملازمي منذ
الساعة.
المشهد الرابع
تجاه القصر
(تدخل ديدمونه وإميليا والمضحك)
ديدمونه
:
أتعلم يا هُزأة أين مسكن كاسيو؟
المضحك
:
لا أجسر أن أقول له مسكنًا.
ديدمونه
:
لم أيها الصاحب؟
المضحك
:
لأنه عسكري ومن قال لعسكري إن له مسكنًا تعرّض لخنجره.
ديدمونه
:
غريب! وأين يقيم؟
المضحك
:
لو أخبرتك أين يقيم لأخبرتك أين أكذب.
ديدمونه
:
أيمكن تصيّد معنىً من هذه الكلمات؟
المضحك
:
لا أعلم أين يقطن فإذا اخترعت له مسكنًا عددت ذلك افتراءً
خارجًا من حلقي.
ديدمونه
:
أتستطيع السؤال عنه ومعرفته؟
المضحك
:
سأذهب بشيرًا ونذيرًا في شأنه بمعنى أنني سألقي أسئلة على الناس
ثم أجيبك بم يقولون.
ديدمونه
:
إبحث عنه، مُرْهُ أن يحضر، قل له إنني شفعت فيه لدى مولاي وأرجو
أن تقضي حاجته.
المضحك
:
فعلُ هذا مما قد يسعه عقل الإنسان ولهذا سأحاول.
(يخرج)
ديدمونه
:
أين تظنين أنني فقدت هذا المنديل يا إميليا؟
إميليا
:
لا أدري يا سيدتي.
ديدمونه
:
كان أهوّن علي أن أفقد كيس نقودي ملآن قطعًا ذهبية من فقده،
لأنه لم يكن سيدي الشريف عادل الضمير خليًّا من دناءات الغيرة لكان ذلك مما
يثير عنده الظنون السيئة.
إميليا
:
أليس غيورًا؟
ديدمونه
:
من؟ هو؟ أظن الشمس التي ولد تحتها أجفّت عنده أمثال هذه
الوبالات.
إميليا
:
انظري. ها هو ذا مقبل.
ديدمونه
:
سأعيد الكرّة علي الآن ولست تاركته حتى يصفح عن كاسيو.
(يدخل عطيل)
ديدمونه
:
كيف حالك يا سيدي؟
عطيل
:
على المرام يا سيدتي الكريمة. ما أصعب المراءاة. وكيف أنتِ يا
ديدمونه؟
ديدمونه
:
كما تحب يا سيدي.
عطيل
:
هاتي يدك. هذه اليد نضيرة يا سيدتي.
ديدمونه
:
لم تشعر بعد بالسنين ولا بالحزن.
عطيل
:
تدل على قلب غني وسمح. يدك دافئة. دافئة ونضيرة. ما أحوجها إلى
الحجب في دير الصيام والصلاة وضروب كثيرة من أعمال التوبة والتقى ذلك لأن هناك
شيطانًا فتيًا سريع العَرَق قريب الثوران. إنها ليدٌ طيبة وحرة.
ديدمونه
:
يحق لك تقريظها لأنها هي التي أعطتك قلبي.
عطيل
:
أكرم بها من يد. قبلًا كانت القلوب تعطي الأيدي أما الاصطلاح
الحادث الآن فأن تعطي الأيدي القلوب.
ديدمونه
:
لا كلام عندي في هذا المعنى فلأسألك عما أنت فاعل بوعدك.
عطيل
:
أي وعد يا دجاجتي؟
ديدمونه
:
أرسلت أستدعي كاسيو للقائك.
عطيل
:
بي زكام عنيف ثقيل يزعجني. أعيريني منديلك.
ديدمونه
:
ها هو ذا يا سيدي.
عطيل
:
أريد الذي أهديته إليك.
ديدمونه
:
ليس معي.
عطيل
:
لا …
ديدمونه
:
لا يا سيدي.
عطيل
:
هذه غلطة. إن ذلك المنديل وهبته امرأة مصرية لأمي وكانت تلك
المصرية ساحرة تكاد تعرف ضمائر الناس. قالت لأمي وهي تدفعه إليها: إنه يجعلها
محبوبة، ويخضع لها غرام أبي ما دامت محتفظة به. فإذا فقدته أو أهدته فعين أبي
تنصرف عنها انصراف بغضاء، ونفسه تتحول إلى البحث عن سواها. ولما حضرت أمي
الوفاة أعطتنيه وأوصتني إن تزوجت أن أمنحه لحليلتي وهكذا فعلت. فأرعب إليك في
استبقائه وصيانته وأن تحبيه محدقة العين الثمينة لأنه إذا فقد كان فقده خسارة
لا تستعاض.
ديدمونه
:
أيعقل هذا؟
عطيل
:
بل هو الحقيقة لأن في نسيجه سحرًا وما نسجته إلا عرافة شهدت
دوران المس مئتي مرة. أما الديدان التي أخرجت حريره فقد كانت مرقية أيضًا. وأما
الحرير فقد صبغ بعصير الموميات مستقطرًا من قلوب العذارى ومصونًا بعناية
العلماء.
ديدمونه
:
أهذا صحيح؟
عطيل
:
غاية في الصحة وعليه أوصيك بالحرص كل الحرص على ذلك
المنديل.
ديدمونه
:
إن كان ما ذكرت فليتني لم أره قط.
عطيل
:
لماذا؟
ديدمونه
:
ما بالك تتكلم هكذا بعجلة ووجيف.
عطيل
:
أفقد؟ أأضعته؟
ديدمونه
:
رعانا الله.
عطيل
:
ما ردك؟!
ديدمونه
:
لم أُضلِله ولكن لو حدث ذلك …
عطيل
:
كيف تقولين؟!
ديدمونه
:
أقول لم يضع.
عطيل
:
جيئيني به الآن فأراه.
ديدمونه
:
سأفعل يا سيدي ولكن بعد الآن. إنما هي حيلة ابتدعتها لعدم إجابة
التماسي. أكرر توسلي إليك يا سيدي أن تغفر لكاسيو.
عطيل
:
اذهبي وأحضري لي المنديل — تاه فكري.
ديدمونه
:
دع عنك هذا إنك لن تجد رجلًا أكفأ منه.
عطيل
:
المنديل …
ديدمونه
:
رجل وقف سعده من أول عمره على صداقته لك وشاطرك الأخطار
…
عطيل
:
المنديل …
ديدمونه
:
حقيقة إنك لتلام.
عطيل
:
إلى الوراء.
(يخرج)
إميليا
:
أليس هذا الرجل غيورًا؟
ديدمونه
:
لم أرَ فيه قبل الآن شيئًا من مثل هذا. لا بد أن يكون في ذلك
المنديل سر عجيب وإنني لشقية بأنني فقدته.
إميليا
:
جرت العادة أن يكون الرجال بعد سنة أو سنتين من الزواج كما هو
الآن. إن هم جميعًا إلا مِعَد وإن نحن جميعًا إلا غذاء يأكلوننا بنهم فإذا
امتلأوا تقايؤونا. أنظري هذا كاسيو وزوجي …
(يدخل كاسيو وياجو)
ياجو
:
لا وسيلة غيرها وهي وحدها التي يجب أن تنقذك. ما أسعد طالعك ها
هي ذي. إذهب إليها وألحف.
ديدمونه
:
واهًا يا صديقي كاسيو ما عندك من النبأ عن شأنك؟
كاسيو
:
أنا لا أزال على التماسي الأول يا سيدتي، أبتهل إليك أن تشفعي
بما فطرت عليه من الرحمة لأعيش وأعود إلى صداقة الرجل الذي أجله كل الإجلال. ثم
بودي أن أعرف مصيري معه في أقرب وقت، فإذا كانت هفوتي من الهفوات التي لا
تغتفرها لي خدمتي السابقة وندامتي الحاضرة وإخلاصي الذي أنويه للمستقبل فليكن
آخر إحسان منك أن تشعريني بذلك فأقبل بما قُسم لي على كُره مني وأختطّ لنفسي
خطة أخرى تاركًا مآلي بين أيدي الأقدار …
ديدمونه
:
أواه أيها الرجل النبيل كل النبل إن توسلاتي لم تجد إلى الآن
وقد تنكر عليّ مولاي منذ هنيهة حتى كان غير ما أعهده. ولو تغير وجهه كما تغير
خُلقُهُ لما عرفته — ليت الأرواح العلوية مسعداتي بقدر ما شفعت لك عنده فلقد
أصررت وكررت حتى انتهيت إلى شَفَا كدره. فلا بد لك من التجلد وسأفعل لأجلك أكثر
مما أجسر على فعله لأجل نفسي فليكفك هذا.
ياجو
:
أمولاي غضبان؟
ديدمونه
:
قد خرج الآن من هنا وهو بلا ريب في اضطراب غريب.
ياجو
:
لم أعهده يغضب. رأيته والمدفع يطير بكتائبه مبعثرة في الهواء
يهجم هجمة الشيطان وينقذ أخاه بيده … ثم هو الآن يغضب. لا بدّ من أمر ذي بال.
سأذهب للقائه. إنه إذا حَنِق فلسبب خطير.
ديدمونه
:
إفعل بتوسل مني (يخرج ياجو)
لا بد أن يكون هناك معضلة من معضلات الحكومة أو أمر وفدَ من البندقية أو مؤامرة
علمَ بتدبيرها في قبرس قد غشّتْ عليه صفاء فكره. وفي أمثال هذه الأحوال تضطر
النفوس الكبيرة الغايات أن تشتغل بالهَنات الصغائر. مثلنا بذلك كمثل الذي تؤلمه
إصبعه فيجد شعور الألم في سائر جوارحه السليمة. على أن الرجال ليسوا بآلهة وما
علينا أن نكلفهم على الدوام مجاملتنا كما يفعلون أيام العرس. عنّفيني بشدة يا
إميليا لأنني كنت شارعة في التظلم من قسوته لدى محكمة ضميري، أما الآن فأرى
أنني رَشَوْتُ الشاهد وأنني ألقيت التهمة بغير صواب.
إميليا
:
لنضرعْ إلى الله أن يكون ما به أمرًا من أمور الحكومة كما فكرتِ
لا جِنّة من جِنّات الغيرة.
ديدمونه
:
ويحي لم أفعل قط ما يستفز غيرته.
إميليا
:
غير أن النفوس الغيورة لا تهتم بالبراءة ولا تجيئها في الغالب
نوباتها عن سبب بل تغار لأنها تغار وما الغيرة إلا بهيمة شاذة تلقح من نفسها
وتتولد من نفسها.
ديدمونه
:
وقى الله قلب عطيل من تلك البهيمة.
إميليا
:
آمين يا سيدتي.
ديدمونه
:
سأذهب لأستقدمه. كاسيو تنزّهْ قليلًا بقرب هذا المكان فإذا
وجدته في ساعة رضى دافعت عنك وبذلك مجهودي في كسب دعواك.
كاسيو
:
أشكر مرحمتك بكل خضوع.
(تخرج ديدمونه وإميليا)
(تدخل بينكا)
بينكا
:
حياك الله ورعاك يا كاسيو.
كاسيو
:
ما تصنعين خارج البيت؟ كيف حالك يا عزيزتي الجميلة جدًا؟ تالله
لقد كنت على عزم التوجه إليك …
بينكا
:
أنا كنت ذاهبة إلى منزلك. أيمضي أسبوع ولا تزور؟ سبعة أيام وسبع
ليال، مائة وثمان وستون ساعة. على حين أن ساعات هجر العشيق أشد تبريحًا من
ساعات التوقيت بمائة وستين مرة. يالله ما أقبحها سأمًا وضجرًا.
كاسيو
:
سامحيني يا بينكا، نُكبت بما أقصاني عنك في هذه الأيام كلها …
ولكنني سأعيض ما فات بما هو آت. أي عزيزتي الكريمة بينكا، انسخي لي مثالًا من
هذا المنديل.
بينكا
:
من أين جاءك هذا يا كاسيو؟ لا بد أنه هدية من صديقة جديدة … لقد
فهمت سبب ذلك الجفاء. سنرى سنرى.
كاسيو
:
تخلطين يا امرأة. ألقِ بظنونك البشعة في وجه الشيطان الذي
أوحاها إليك. أتغِيرين من تخمينك أن لي رفيقة جديدة. كذبكِ وهمكِ وعهد
الوفاء.
بينكا
:
إذن من أين جاء هذا؟
كاسيو
:
لا أعلم، وجدته في غرفتي وأحببت صنعه كثيرًا، لذلك سألتك صنع
غيره على مثاله قبل أن يطلبه أربابه، أرجو منك وأتوسل إليك أن تنقلي لي هذا
المثال. والآن دعيني.
بينكا
:
لماذا أدعك؟
كاسيو
:
أترقب القائد هنا وليس من مصلحتي ولا أمنيتي أن يراني مع
امرأة.
بينكا
:
ولمَ هذا التحاشي؟
كاسيو
:
ليس من عدم الحب.
بينكا
:
بل من كونك لا تحب «إياي». تكرّمْ عليّ واصحبني قليلًا وأجبني:
أتزورني الليلة أم لا؟
كاسيو
:
لا أستطيع مرافقتك إلا بعض الخطى إذ لا محيص لي من انتظار
القائد هنا. لكن سأراك قريبًا.
بينكا
:
لا بأس، إني أدع التشديد الآن مراعاةً للحالة.
(يخرجان)
١
الباز: طائر يصاد به.
٢
الرجز: داء يصيب الإبل في أعجازها فإذا ثارت ارتعدت أفخاذها ثم
انبسطت.
٣
يغول: يهلك، يأخذه من حيث لا يدري.
٤
خص هذا البحر بالذكر لأن تياراته تندفع ولا تعود.