رسالة الفن الحديث
الفن السريالي أو الفن فوق الواقعي أو الفن التجريدي، وثبة من وثبات التطور الفكري لا يمكن فهمها بغير الرجوع إلى سلسلة طويلة من العلاقات التي نشأت وتطورت بين العواطف الإنسانية والفكر، وفي استعراض هذه السلسلة وتلك العلاقات تعترضنا عدة أسئلة؛ السؤال الأول: كيف كان الإنسان الأول يفكر ثم كيف كان يصور وينحت؟ والسؤال الثاني: ما الذي دعا لتبديل هذه الطريقة؟ وهل الأسلم أن نعود إليها؟ وقد دعا كثيرون من الكتاب والفنانين المحدثين للرجوع إلى الغريزة فيما نكتب ونرسم، والسؤال التالي: أيهما أسلم، اتباع الغريزة أم اتباع العقل، أم اتباع طريق بينهما؟
نبدأ بالسؤال الأول، وهو: كيف كان الإنسان الأول يفكر؟ وكيف كان يرسم؟ ثم نصعد في سلم التطور حتى نرى الخطى التي مشت بنا لأعلى هذا الدرج.
ومما تقرر في هذا الباب أن الإنسان لم يمكن ظهور خاصية التجريد فيه إلا في أثناء التطور البشري لا في أوله.
ويتضح هذا على أتمه في فلسفة «هيجل»، وكانت التي استعملت هذا التجريد استعمالًا قلبت به وجه التاريخ، وسأبين كيف كان ذلك الآن، فلننظر كيف مشى الفن في هذا السبيل، مشى عاطفيًّا، ثم صار في حاجة إلى الرمز، لكي يدل كل رمز على مجموعة خاصة من المحتويات الجعبة المسماة العاطفة، وبينما في الأدب تُستَعمل الكلمة، ففي التصوير والنحت تُستَعمل الخطوط والعلامات، ثم بالتدريج تسقط أهمية هذه الرموز في دلالتها على ما وراءها؛ أي تنتهي المسألة بطلاقها من الحقيقة، وبعد طلاقها من الحقيقة تفقد أهميتها وتأخذ في الذبول، ولكن تأخذ في الذبول فقط كرمز، ولكن تصير لها أهمية حديثة وهي أنها تصير نشاطًا عقليًّا خاصًّا، ويكبر هذا النشاط حتى يحاول أن ينفصل عن الفن، بحيث يأتي فيلسوف مثل «هيجل» ليقول لنا: إن العقل والفن منفصلان ولا يجب أن يتصلا، وزاد على ذلك أن الفن من خصائص المراهقة، وهذا قول لا يُقصَد به الجور على الفن وإنما الدفاع عن المنطق. وقد يكون «هيجل» على بعض الحق من حيث إن الفن لا يمكن أن يكون مسألة رموز ولا مدلولات، وإنما هو في الواقع علاقة بين الحواس والمرئيات.
ويقول «ليفي برول» مرة أخرى أن الإحساس الفني في الإنسان الأول كان صادقًا من حيث إنه مزج بين المرئيات والمدركات، ولكن ليس معنى هذا أن نعود إلى الإنسان الأول، فإن هذا المزج حقيقة نحن في حاجة إليه ولكن على طريقة أخرى، فإنه يجب أن يجري على طريقة البدء بالمدركات وإلباسها ثوب الحقيقة؛ أي يقبل التقسيم العلمي الفلسفي من ناحية وجود وأهمية هذه المدركات أو المدلولات أو الفكر، ثم الرجوع إلى الحقيقة التي هي سلم لها وإلباسها ثوبها.
وبعبارة أخرى: بدل المدلول المجرد عليه أن يخلق المدلول الحي، أو الظاهرة الحية، وهذا هو العمل الفني.
ولو خُيرت في التسمية لاخترت لها كلمتي «ما وراء الواقع»، سواء بسواء، ككلمتي وراء الطبيعة أو الميتافيزيقا سواء بسواء، ومصداقًا لهذا أذكر أن مبدأ السريالية الحقيقة كان عند المصور «بوش» في القرون الوسطى، وقد كان فنًّا سيرياليًّا دينيًّا ميتافيزيقيًّا، ولوحاته مشهورة، وقد كانت وحيًا لكثيرين من المعاصرين، وبخاصة «دالي» الذي حدثتكم عنه، ولكن فن «دالي» — على تأثره بفن «بوش» — انتقل من الحقل الديني إلى الحقل اللاواعي، بل أكثر من ذلك اعتمد على رموز العقل الباطن وأحلامه، وقد اطلعت على إحدى لوحاته الشهيرة، وكان يسرني أن أحضر صورة لها لتستقر في أذهانكم لوحة لدالي، بل للسيريالية الأصيلة، ولكني أكتفي بأن أخبركم بمحتويات الصورة، «دالي» يرسم حذاء سيدة وبالقرب منها كوب من اللبن، ويرسم خنزيرًا بالقرب منه حشرة لها أقدام آدمية، متدلٍّ منها ساق بشرية مقطوعة.
فليس من العجيب إذن أن نجد أكثر مصوري هذا المذهب يجمعون لفن التصوير فن الأدب، وبالأصح فن الشعر، ولا أعرف ممثلًا لهذا اللون من الأدب السيريالي — ربما على غير وعي منه — مثل «جيمس جويس» الأديب الأيرلندي المشهور، وبخاصة في قصته «يولوسيس» فهو في هذا يطلق عنان العقل الباطن إطلاقًا حرًّا تامًّا معتقدًّا أن الحرية الخالقة يجب أن تكفلها حرية مطلقة في التعبير، ويمكننا التعبير عن هذا بأن الحرية الفنية سبيلها تحطيم الحواجز القائمة بين الصور الطبيعية والسيكولوجية، أو على حد قول «هربرت ريد»: عالم يختلط فيه الوعي بغير الوعي، والعالم الداخلي بالعالم الخارجي، وتختلط الحقيقة بالخيال، والفكر بالعمل؛ أي يكون هذا العالم صورة شاملة للحياة بأجمعها. وبينما نحن نعتقد أن النزعة السيريالية نزعة خيالية محضة، يعترض أقطاب السيريالية على ذلك قائلين: إنها نزعة مادية محضة. وهذا عجيب! وحجتهم في ذلك أنها بجمعها للمتناقضات أو بعبارة أخرى: الروحانية تمشي جنبًا لجنب مع المادية التاريخية.
عندما نتحدث عن هذه المذاهب لا يمكننا أن نترك الحديث عن أقطاب في التصور أدت وثباتهم إلى ما بعدها ومنهم «سيزان».
وقصة «سيزان» في التصوير رائقة وطريفة، ومذهبه في التصوير يعتبر القنطرة التي سار عليها القديم نحو الحديث، بل اعتبرها شخصيًّا الفاصل بين ما هو فن وما هو مهارة فنية.
«سيزان» مصور شهير من مصوري القرن التاسع عشر، وكان معاصرًا للكاتب الشهير «زولا» وكانا صديقين حميمين، بل الصحيح أن «سيزان» لم يكن له صديق غير «زولا».
والواقع والغريب في حياة سيزان أنه أقسم أن ينتهج نهجًا خاصًّا في الفن لا يغيره، وأقسم كذلك أن ينقطع لهذا النهج، فاعتزل الناس، وترك صحبتهم، وأبعد المرأة عن محيطه، وأخذ يمارس في التصوير طريقة خاصة كان يؤمن بأنها هي الطريقة الوحيدة للفن الصحيح، تلك هي البحث عن الحق لا عن الكمال. يقول «سيزان» لأمه في إحدى خطاباته: «البحث عن الحق والحكمة هو الفن، أما البحث عن الكمال فهو المهارة الفنية»، ولقد كان يعتقد أن فن «زولا» على فرط واقعيته، أدب مهارة أكثر من أي شيء آخر، وكذلك أحدث في الأدب «جيلًا ميتًا» على حد تعبيره، وإن يكن در على «زولا» المال والشهرة.
•••
ما هو المذهب الذي دعا إليه «سيزان» غير توخي الصدق والحكمة؟
هذا المذهب هو الاندماج في الطبيعة، لا عن طريق العقل وحده بل عن طريق الحواس.
فمذهبه إذن مذهب حسي اندماجي كامل، يثور على العقل؛ أي يثور على الكلاسيكية، ويدعو إلى ضرب من التأمل الباطني العميق المقرون بالحس.
هذا هو «سيزان»، فلننظر الآن نظرة إلى «بيكاسو» زعيم السيرياليين، في مقال لهربرت ريد عنوانه «انتصار بيكاسو» عرض جميل لحياة ذلك الرجل، وعرض كذلك للمذهب السيريالي، وكيف طبقه على فنه وحياته.
بيكاسو
يتفق «بيكاسو» مع «سيزان» في نقطتين؛ الأولى: أنه يعترف أنه يرسم حسب هواه، ويقول مرة أخرى: إني أرسم مدفوعًا بالحب والعاطفة.
والنقطة الثانية: أنه أنكر استعمال العقل في الفن، وزاد على ذلك بأن أنكر كل قيد، ومارس الشعر والنحت والتصوير، وكان يقول: إنه من الحتم وجود الفكرة «سجينة» في عمل أي فنان إذا كان فنانًا حقيقيًّا، فلا معنى للتحدث عنها. وفي سبيل هذه الحرية، أخذ يبحث عن «المجهول والقلب العادي، والذي لم يُخلَق بعد»، وعن الخفايا الدفينة في أغوار النفس، هذا هو «بيكاسو» فلنستمع إلى المدافعين عنه «لابريتون» و«جاكسوين» في المانيفستو الشهير.
يقول «لابريتون» إن السير «ريالته» بعث أسلوبًا جديدًا ولا مذهبًا جديدًا وإنما هي «فلسفة حياة»، إن في أعماق الإنسانية والمجتمع وترًا غنائيًّا، وسنظل نطلبه إلى الأبد، وهذا الوتر هو الباطن؛ الباطن الذي أتيح لقليلين أن يصغوا إليه ويضربوا عليه، فَطِنَ إليه أمثال «جيته» و«مليك» و«ورد سورت» ولكن الذي كشفه حقًّا هم الفرويدويون، وقد شاء السيرياليون أن يجعلوا له أهمية فائقة، فكما أن هناك ناحية «طبيعية» في الخارج فهناك ناحية أخرى في الداخل، في الأحلام، في الرؤى، في التنويم.
إن «السيريالية» سيكولوجية أوتومابية تعبر بالرسم أو اللفظ مجرى التفكير الحقيقي.
ولا علاقة لها بقيود الوعي، ولا قوانين الجمال والخلق.
إنها لا تفرض وجود عالم الأحلام بل تقول: إنه حقيقة كبرى.
ويختتم «لابريتون» المانيفستو بقوله، قال ريمبو شاعرنا السيريالي: «تغير وجه الحياة»، وقال غيره نغير وجه الدنيا، وهما النقطتان التي ترتكز عليها فلسفتنا.
•••
ولكن ما رأينا الخاص؟ رأينا أن هذه النزعة الفلسفية هي رومانسية متطرفة، وأنها تقاوم الكلاسية من حيث إن هذه عقلية مثالية.
على أن أحكم وأشهر السيرياليين لم يفتهم مطلقًا أن يجعلوا فنهم مبنيًّا على شيء من العقل والحكمة، وبذلك تم لهم ما نشده وينشده الفن، وأعتقد أن المستقبل هو لهذا المزيج ولمن يستطيع أن يقوم به.