رسالة الآباء
إن الهستيريا مرض يغلب في النساء.
قد سار بنا علم النفس الحديث نحو حقائق جديدة كل الجدة، غريبة غاية الغرابة.
وأول هذه الحقائق التغيير الكلي في معنى هذا المرض «الهستيريا»، فقد كنا لعهد حديث جدًّا نعلم أنه مرض عصبي، منشؤه صراع عاطفي عند الذين يتصفون بضيق الوعي، وعمق العقل الباطن، فإن الأول إذا ضاق بما يحتوي، نقل ما به بسرعة إلى الباطن، فيكدس ما نقل إليه، وأخيرًا تقع الطامة، إذ يحاول المكبوت أن يجد متنفسًا، إما عن طريق استجداء العطف والتمثيل، أو عن طريق الجسد، فتحدث الاضطرابات الجسدية المألوفة في الهستيريا كالاهتزازات، والتشنجات … إلخ.
ولما كانت دراسة سيكولوجية المرأة قد كشفت لنا أن واعية المرأة ضيقة، وأن عقلها الباطن عميق متسع، فقد أصبحنا نفهم لماذا كثر هذا المرض في النساء.
وما يحدث للذات «الإيجو» يتوقف على مقدار الصراع الدائر، وعلى مقدار التخفيف المستطاع.
وعلى كل حال فإن الرجة التي تعتري الإيجو تصدع بناءه، وقد يصل هذا التصدع إلى درجة انقسام الشخصية وازدواجها.
هذا ملخص لمعرفتنا عن طبيعة الهستيريا في السنوات الماضية، أما في العصر الحديث فقد دعا ظهور أعراض الهستيريا في الأطفال بشكل غير مألوف، وانكشاف أعراض «هستيرية» لصيقة بأمراض أخرى كالصرع والكورية الروماتزمية، كل ذلك أدى إلى استعادة البحث على ضوء جديد.
وأخذت الدكتورة «أودلام» الطبيبة بمستشفى «فكتوريا» في تناول هذا الموضوع بطريقة حديثة، فأخذت تسأل المثقفين عن رأيهم ومبلغ فهمهم والممارسين من الأطباء عن مدى علمهم.
فكان الاتفاق عامًّا على أن الهستيريا هي صراخ وثورة وهياج يبديها شخص ما، عندما يضيق ذرعًا بالحياة، أو عندما يعترض طريقه شيء أو شخص يريد الخلاص منه.
وزاد الأطباء على ذلك أن المألوف فريقان؛ فريق لا مرض عنده، وإنما هو يخترع مرضًا لغاية ما، وفريق له نظرة منحرفة شاذة نحو أوضاع الحياة، تؤدي إلى اضطراب عاطفي يؤدي بدوره إلى أعراض جثمانية.
على أن الطبيعة المذكورة كما أكدت وجود هذين الفريقين، أكدت وجود نوعين آخرين.
نوع يتميز بفقدان الوعي مدة تطول أو تقصر.
ونوع مصحوب بفقدان الذاكرة على درجات تتراوح بين النسيان البسيط والنسيان الذي يتناول حتى الذات.
والمألوف أن الذاكرة تعود من بعد فقدانها، ولكن عُرِفَت حالات لا اضطراب للعقل فيها مطلقًا، وإنما ذهبت الذاكرة فجأة ولم تعد أبدًا.
وأما الاضطراب الجسدي الذي أشرنا إليه فمنه ما يكون تخفيفًا لكبت، ومنه ما يكون هربًا من مواجهة مشكلة ما، وقد عُرِفَ عن كثيرين كثرة التبول في غير مرض، فهذه الظاهرة تعتبر كذلك وسيلة للهرب.
والعجيب أن هذا المرض الذي ينشأ من القلق والخوف وتوتر الأعصاب يجب علاجه في هذه الألوان من «التغطية»، فيبدو المريض بالهستيريا أحيانًا مطمئنًّا، هادئًا، لدرجة غريبة من عدم المبالاة، ولكن السؤال هو هذا: كلنا نواجه من المتاعب ما لا حصر له، وكلنا نكبت، وكلنا نعاني صراعًا بين العاطفة والواجب، فمَن هنا الذي يقع فريسة للمرض ومَن يسلم منه؟
لقد اتضح للباحثين اليوم أن التعريف الوافي للهستيريا هو: «الهستيريا اضطراب عاطفي يصيب مرضى ذوي شخصية خاصة»، هذه الشخصية تسير بيننا ونصادفها هنا وهناك، فعلينا أن نتبينها جيدًا.
لقد سُميَت هذه الشخصية «بالشخصية الهستيريونية»، وهذه الشخصية توجد عند الذين من طبعهم التمثيل والمبالغة «والتهويل» في شئون الحياة، وقد يكون هذا التمثيل «خارجيًّا» ويبدو كظاهرة «استعراضية» كما هو الحال عند السياسيين، وأرباب الأعمال الذين تقتضيهم أعمالهم التمثيل والظهور بمظاهر خاصة، وقد يكون هذا التمثيل «باطنيًّا»، ويكثر عند الفنانين الذين لهم عالمهم الخاص في أعماق سرائرهم، «يمثلون» فيه كما يشاءون ويؤلفون فيه رواياتهم الخاصة.
ولما كانت المرأة في طبيعتها «خارجة» تلبس أزهى الثياب للزينة — والزينة نوع من الاستعراض الجميل — وتتحلى بأجمل الحلي ولو زَائِفَةً «لتمثل» دورها الرائع في الحياة، فنصيبها من التعرض لذلك المرض غير ضئيل.
ولا شك أن القارئ يسأل: ولكن متى تصاب هذه الشخصية بالمرض؟ وهل حتمًا تصاب؟
لقد اختلف الرأي في كيفية وجود هذه الشخصية، ولكن السائد هو أن الإنسان يولد بها، وقد يكتسبها أحيانًا من الوسط، وهي في درجاتها البسيطة كثيرًا ما جاءت للوجود بالشخصيات الخالدة الممتازة بالحيوية والمرح، والذين جعلوا الوجود في شتى نواحي الفن والأدب والاجتماع.
وقد يعيش أكثر هؤلاء بهذه الشخصية الهستيريونية مستترة وبلا أعراض مرضية حتى يصطدموا بما يجرحها.
وأسوق ختام هذا الحديث للأمهات والآباء أن أعراض الهستيريا قد تبدو في أي سن فيما بين الطفولة والمراهقة.
ولقد بينت سابقًا أن أصحاب الشخصية الهستيريونية تبدو عليهم ملامحها مبكرة، وإذا لم تتبين في أعمال الطفل فإنها تتبين في كيفية لعبه، أما بعد نضج الإدراك فإن هذه الشخصية قد تصطدم بما يطبعها بطابع مرضي، إما في البيت أو في المدرسة، ففي البيت يكون أول عامل وجود نزاع عائلي دائم أو أب سِكِّير أو أم صَخَّابة، وفي المدرسة تصطدم بالمعلم القاسي الجاف أو بالرفاق العابثين.
فإذا كان الطفل خارجيَّ النزعة فأول ما يصيبه هو أن يفقد الثقة، ويطوي نفسه على خوف وشك، فيغطي ذلك بالصياح والضجيج لينال أغراضه، أما إذا كان باطني النزعة فإنه يلجأ إلى العزلة والانفراد، وقليلًا ما يصاب الأطفال والمراهقون بأعراض جسدية من الشلل وفقدان الإبصار والبكم.
وعلاج هاته الحالات يتوقف على فهم الأمور جيدًا، فيجب من أول الأمر أن يفهم الوالدان أنه إذا تمكن الصبي من بلوغ أغراضه بطريقته هذه، فذلك أمر في منتهى الخطورة؛ فعليهما أن لا يمكناه أبدًا.
وعليهما في الوقت ذاته أن يفهما أن نفس الصبي مطوية على خوف، وعليهما أن يعيناه ويشجعاه على احتمال المواقف الجديدة، وفي ذات الوقت عليهما أن يهتما بدورة حياته اليومية في المدرسة من معلمه ومن رفاقه، وعليهما كذلك أن يَعلما أن البيت الهادئ الرزين هو أول واقٍ من الأمراض النفسية.