رسالة الفلسفة
ساعة مع سقراط
لم يُعن سقراط بتدوين آثاره الفكرية بين دفتي كتاب؛ لأن عصره لم يكن عصر كتب بل عصر مسرحيات؛ ولأن انشغال العباقرة بالقيام برسالتهم قد يصرفهم عن تدوين ما في سجل حياتهم من أعمال، ولأن للعباقرة شخصيات قد تفوق كل ما يُكتب عنها، بل إن القلم ليخجل عندما يجد نفسه عاجزًا عن وصفها قاصرًا عن الإحاطة بذلك الشيء المجهول الذي يكون الشخصية العبقرية، ولكننا لحسن الحظ نجد في كل زمان من المؤمنين بهذه العبقريات من يلذ لهم أن يعيشوا في ظلالها ليسجلوا كل كبيرة وصغيرة فيها، ولقد ذكر المؤرخون شبهًا كبيرًا بين «سقراط» الأثيني و«جونسون» الإنجليزي، فقد وجد «سقراط» في تلميذه «أفلاطون» شارحًا أمينًا ومريدًا ذكيًّا، كما وجد «جونسون» في صديقه «بوزويل» ظلًّا مخلصًا حريصًا كل الحرص على تدوين كل شاردة وواردة في حياة صاحبه وأستاذه، ولولا ذلك اندثرت معالم سير العظماء، وضاعت التفاصيل الدقيقة التي تدل أبلغ الدلالة على عبقرياتهم، والواقع أن هذه التفاصيل اليومية لأساليب العيش قد تكون رائقة فاتنة في أصالتها أو شذوذها.
ولقد يكون من الطريف أن يتناول أكثر من واحد حياة العبقري، فيصورونه من زوايا مختلفة، وهذا بالضبط ما حدث لسقراط؛ فقد تناوله «أفلاطون» تناولًا أدبيًّا وفلسفيًّا، وقد تناوله «أرستوفان» في كوميدية السحب تناولًا يدور حول شخصيته التعليمية، وتناوله «زينوفون» في مذكراته تناول المحامي الذي يدافع عن موكله، أما «أفلاطون» فقد جعل من محاوراته التي تدور حول «سقراط» جدلًا مثاليًّا، يرفع سقراط إلى الذروة من الحكمة والتفكير، حتى اتهم «أفلاطون» بأنه يلبس قناع «سقراط»، وأن هذه الروائع التي تتسلسل في المحاورات إنما هي أفكار «أفلاطون» لا أفكار «سقراط»، أما كوميدية السحب عند «أرستوفان» فقد حضرها «سقراط» بنفسه، وكان قد قارب سن الخمسين، فلم يضايقه أن يتندر به «أرستوفان» وتعمد أن يقف في مقصورته ليلة التمثيل، ليرى الناس حقيقة ذلك الذي تندر به «أرستوفان» على المسرح، ولقد ظل صديقًا لأرستوفان وكانا يشاهدان معًا في ألفة ووئام.
على أن هذه المسرحية كان لها أثر بالغ في أيام «سقراط» الأخيرة، فقد رسب في الأذهان عامة وفي عقول المحكمين خاصة فكرة خاطئة مشوهة عن «سقراط» وتعاليمه أساسها هذه المسرحية التي لم يقصد بها «أرستوفان» غير التندر والفكاهة.
أما «زينوفون» فقد كانت رسالته التي يدافع بها عن سقراط دفاعًا يجرده به من كل عبقرية وأصالة ويضعه في مصاف الرجال العاديين الطيبين الذين يعيشون ويموتون وهم لم يأتوا، ولم يحاولوا أن يجيئوا بجديد. فيتعين إذن على الباحث أن يقرأ كل هذا معًا: محاورات «أفلاطون»، ومذكرات «زينوفون»، ومسرحية السحب لأرستوفان؛ وذلك لأن «أفلاطون» وصاحبه لم يعاشرا سقراط إلا في المرحلة الأخيرة من حياته، بينما كانت معرفة «أرستوفان» به معرفة تتناول شطرًا من حياته لم يره الأولان وإنما سمعا به.
على أننا لا نشك في أن محاورات «أفلاطون» هي أهم مراجعنا عن «سقراط»، واتهام «أفلاطون» بأنه هو كاتبها إذ تخيلها غير قائم على حقيقته، فإن الأجزاء الأولى من المحاورات يتوسطها سقراط، والتي تليها لا نراه — أي سقراط — وإنما نسمع عنه، وفي الأخيرة لا نسمع أفلاطون يتكلم، فأفلاطون إذن لم يكن في حاجة إلى التخفي وراء قناع غيره.
نحن لا نعرف بالضبط متى وُلد سقراط، ولكننا نعرف تاريخ المحاكمة الشهيرة، ونعرف من ذلك أن سقراط كان إذ ذاك في السبعين من عمره تقريبًا. فنستطيع أن نستنتج أنه ولد في أثينا سنة ٤٦٩ قبل الميلاد، ويمكن تقسيم حياته إلى مراحل ثلاث: من ميلاده حتى الحرب بين أثينا واسبارطة، وفترة الحرب، ثم أخيرًا بعد هذه الحرب حتى محاكمته ووفاته. ويمكن أن نسمي المرحلة الأولى مرحلة التعلم، والثانية مرحلة الوحي، والثالثة مرحلة الرسالة، ولما كانت حياة العظيم وثيقة الصلة بما جرى في وطنه، فإن المرحلة الأخيرة أهم المراحل في رأينا؛ لأن «سقراط» اشترك أثناءها اشتراكًا فعليًّا في شئون الشعب اليوناني وحكومته وسياسته، وهذه هي المرحلة التي لازمه فيها «أفلاطون»، وعنها وعنه كتب بيقين ووضوح وإيمان، في هاته المرحلة اختلط سقراط بالشعب وانتقد الحكومة حينًا، وانتصر لها حينًا، وخالفها حينًا، وتعرض لسخطها أخيرًا، ثم في الحرب هو جندي من جنودها، وهو في السلم أول المدافعين عن قوانينها، ولو كان فيها ما يمسه هو بسوء. ولقد عاش «سقراط» في عهد «بركليز» العظيم حين كانت أثينا ملتقى الثقافات، وحين كانت ملتقى المعارك العلمية والفلسفية بين الشرق والغرب، وحين كانت الحكومة ديمقراطية تمثل الشعب تمثيلًا صادقًا، وحين دارت الأيام بعد موت «بركليز» وانتهى الصراع بين اسبارطة وأثينا بانهيار أثينا، ثم أخيرًا شهد «سقراط» عودة الديمقراطية لتحاكمه وتحكم عليه بالموت! في كل عهد من هذه العهود كان لسقراط أثر، ومما لا يقبل الجدل أنه كان وثيق الصلة بالدوائر المختلفة ومعروفًا من جميع الطبقات، ولا جدال أنه أصاب شهرة واسعة من سن باكر إذ ليس من المعقول أن يجعله مؤلف مشهور مثل «أرستوفان» محورًا لمسرحية من مسرحياته إذا لم يكن معروفًا لأهل أثينا جميعًا. ولقد دافع عن نفسه بأن ذكر أسماء شيوخ من شيوخ أثينا — عظماء وأثرياء — بينهم وبينه صلة وثيقة ومودة متينة، منهم «كريتياس» عم «أفلاطون»، و«كريتو» الثري المشهور. على أن أهم صلاته بالشباب، التي أثرت في محاكمته فيما بعد هي صلته التاريخية ﺑ «السبياديس». كان هذا الشاب من أجمل وأنبل وأشجع شباب أثينا، ولا شك أن قراء التاريخ يذكرون كيف اتُّهِمَ «السبياديس» بالكفر والتندر بالديانة اليونانية، وكيف قُدِّمَ للمحاكمة فهرب إلى اسبارطة وانضم إلى جيوشها، وكان السبب في هزيمة أثينا، ودارت الأيام فرجع إلى وطنه ولكن وطنه جازاه أقسى الجزاء، فختم أيامه في النفي والتشريد. كانت الإشاعة التي تدور حول اسمَيْ «سقراط» و«السبياديس» توحي بأن العلاقة بينهما أكثر من علاقة أستاذ بتلميذ وأن ما بينهما تطور إلى مسألة جنسية بحتة، فإذا ما سمع بهذه الإشاعة أجاب ساخرًا: «حقيقة، إني أستاذ في فن الحب»! ولكن الذين يعرفون استقامته الصارمة يدركون بعده التام عن الشهوات والصغائر.
وُلد سقراط من عائلة طيبة، ويستدلون على ذلك من اسم أمه وأبيه؛ فقد كانت للأسماء في تلك العهود دلالة على المنبت والأرومة، ولم يكن سقراط فقيرًا ولا صعلوكًا، ولكنه اختار لنفسه التقشف والحرمان؛ لأنه وجدهما سبيله الحقيقي إلى الثراء النفسي، وكان اسم سقراط مقيدًا ضمن جنود الجيش، ويجري عليه كما للجنود دخل ثابت، أما في آخر أيامه فقد أدركه الفقر حقيقة، ويظهر أن ذلك من الفقر العام الذي ضرب أطنابه في أثينا، في المرحلتين، مرحلة الشباب والكهولة، وعلينا أن نتحدث عن:
(١) شكله وزيه. (٢) طباعه. (٣) مدرسته. (٤) ثقافات أثينا وموقفه منها. (٥) ديانته وديانة أثينا. (٦) المعجزات والعلامات الخفية التي نُسبت إليه.
كان «سقراط» كبير الرأس، كبير الأنف، تترجرج مقلتاه ترجرج الزئبق، وكان في مشيته مشية البطة. أما عن طباعه فأول ما يُذكر أنه كان دائب السخرية، لا من الناس فقط بل من نفسه، إذ كان يؤمن بأنه جاهل كباقي الناس، ولكن الفرق بينه وبينهم أنه يبحث عن الحقيقة ولكنهم لا يبحثون، وكان دأبه أن يعلم الناس كيف يعامل الواحد منهم غيره وكيف يعيش في الوسط الذي يحيا به، ولم تكن له مدرسة خاصة، فقد كان يسمي تلاميذه «الرفاق» ولا يتناول أجرًا، وكان على زهده وتقشفه، متين البناء قوي العضلات، يجاري أصحابه أحيانًا في الشراب، ولكن الخمر لم تكن لتؤثر به مطلقًا، ويمكن أن نلخصه في بضع كلمات: لقد كان طاغي العاطفة، طاغي التفكير، متصوفًا، ساخرًا. أما عن التصوف، فقد كانت تعتريه نوبات ذهول وغيبوبة، وكانت تظهر له علامات خفية نكاد نسميها هواتف، وكانت لهذه العلامات صفات الإنذار والتحذير، أما الغيبوبة فكانت تقصر أو تطول، وقد استغرقت إحدى نوباتها أربعًا وعشرين ساعة، على أن هذه العلامات كانت تبدو له على غير انتظار فيقف مُصغيًا إلى صوت بعيد، وقد كان معتادًا أن يطيع نواهي تلك الهواتف، ولم يعصها إلا مرة واحدة كانت السبب في الكوارث التي مرت به في أواخر أيامه؛ فقد حذرته هاته الهواتف من الاندماج في السياسة، والاشتراك في أعمال الحكام فلم يُصغِ إليها، وكانت العاقبة وبالًا.
أما الديانة الثانية: فالديانة العلمية الفلسفية، وليس خافيًا أن أول من بحث في طبيعة الكون ووجود الخالق وفي علاقة المخلوق بالكون وخالقه هم فلاسفة اليونان من قبل سقراط، وقد انقسموا مدرستين: شرقية على سواحل آسيا الصغرى، وغربية في جنوب إيطاليا، وقد كانت أثينا ميدان الصراع بينهما.
قرر الفلاسفة مبدئيًّا وبلا جدال أن للكون خالقًا، فخرجت هذه النقطة من دائرة النقاش، ولكن بقي أن يبحث الفلاسفة في كنه هذا الخالق، ثم عن علاقة المخلوق به، ثم عن علاقة الكون بالاثنين؛ أما المدرسة الشرقية فكانت مدرسة موحدين، غير أنهم قالوا: إن النفس نفس أو هواء مشتق من هواء عام يعود بالموت إلى أصله، وزادوا على ذلك أن الكون أسطوانة مسطحة محمولة على الهواء. وكان في الغرب مدرستان: مدرسة «فيثاغورث» التي بنت بحثها على الرياضة، وابتدعت أهمية الأرقام، واكتشفت كروية الأرض، وأنكرت أن تطفو على هواء؛ لأنها معلقة في الفضاء، وأما المدرسة الثانية فمدرسة أخرى تقول: إن الخالق من نار وهواء وماء، وهذه مدرسة «أمبودكليس».
كل هذه المذاهب لم تقنع سقراط، وإن كانت قفزت بالعلم من الناحية الإسترولوجية إلى الناحية البيولوجية ثم إلى الناحية الرياضية، غير أن اثنين فقط هما: «بارمينيدس» و«زيتون» هاجما هذه الترهات حول صفة الخالق، إن هذا التقلب والتغير ليسا من صفات الخالق وإن الخالق يجب أن يكون «مُفردًا ثابتًا مطلقًا لا يتغير».
ساعة مع أفلاطون
قبل أن نتحدث عن «أفلاطون» نود أن نعود بالقارئ مرة أخرى إلى «سقراط» حتى يمكن لنا أن نلقي ضوءًا جديدًا على «أفلاطون».
- المرحلة الأولى: من مولده حتى قامت الحرب بين أثينا واسبارطة وجُند فيها «سقراط».
- والمرحلة الثانية: فترة الحرب التي أنهكت أثينا وعصفت بقوتها وجرتها إلى الاضمحلال.
- ثم المرحلة الأخيرة: وهي مرحلة الرسالة، أو المرحلة التي اشترك فيها اشتراكًا فعليًّا في أمور مواطنيه، وهي ولا شك أهم هذه المراحل شأنًا.
المرحلة الأولى: يهمنا في هذه المرحلة أن نتكلم عن شكله وزيه، طباعه، وأخلاقه، العلامات الخفية، مدرسته، ثقافات أثينا وموقفه منها، ديانته وديانة أثينا.
أما شكله، فقد كان كبير الرأس، كبير الأنف، تترجرج مقلتاه ترجرج الزئبق، كما كان متين البناء قوي العضلات.
أما طباعه في هذا العهد، فتلخص في أنه كان يشعر بجهل الناس، وبما في نفوسهم من نقص، ولذلك كان دأبه السخرية من جهلهم، كما كان يسخر من نفسه، ولم يكن في هذا كاذبًا، بل كان يؤمن بأنه هو أيضًا يبحث عن الحقيقة، فهو إذن لا يفضلهم في شيء غير في أنه يبحث وهم لا يبحثون، وهذه تبين لنا أنه كان رجلًا.
كان يُعلم الناس كيف يعامل الفرد غيره، وكيف يعيش في الوسط الذي يحتويه، ولذلك نتساءل: هل كانت له مدرسة؟
ولقد اتُّهم في محاكمته بأنه كان مفسدًا للشباب، ولكنه دافع عن نفسه بأن ذكر شيوخًا من شيوخ أثينا بين عظماء وأثرياء، كانت بينه وبينهم صلة وثيقة، على أن أهم صلاته بالشباب، والتي أثرت في محاكمته وأدت إلى الحكم عليه؛ هي صلته بالسبياديس وكان من أجمل شباب أثينا وألمعهم وأشجعهم، وكانت الإشاعة التي تدور حول علاقته بسقراط أكثر من أن تكون علاقة بين أستاذ وتلميذ؛ بل تخطتها إلى مسألة جنسية بحتة. وكان «سقراط» إذا ما سُئل عن ذلك أجاب ساخرًا على طريقته: إنني حقيقة أستاذ في فن الحب، ولكن الذين عرفوا استقامته الصارمة كانوا يوقنون ببعده التام عن الشهوات والصغائر.
ويمكننا إذن أن نلخص شخصيته إذ ذاك، بأنه كان رجلًا طاغي العاطفة، طاغي التفكير، ساخرًا، متقشفًا، متصوفًا.
وماذا نعني بالتصوف؟
نعني بالتصوف، أنه كانت تعتريه نوبات ذهول وغيبوبة، وكانت تظهر له علامات خفية نكاد نسميها «هواتف»، ولم تكن هذه الهواتف إيجابية ولا موجهة لناحية ما، وإنما كانت علامات مانعة تنهاه عن المضي في سبيل بدأ السير فيه، أما الغيبوبة، فكانت تقصر أو تطول، وقد استغرق فيها مرة أربعًا وعشرين ساعة، ولكن العلامات الخفية كانت تعرض له على غير انتظار، فيقف، كأنه يصغي أو يستمع إلى صوت غامض ولكنه واضح له. وكان يلبي نواهيها، والمرة الوحيدة التي خالف فيها أمرها حدثت في أواخر أيامه، وقد كان مندفعًا إلى الاندماج في السياسة، والاشتراك في أعمال الحكام، وكانت عاقبته وبالًا كما سنرى.
والكلام عن التصوف؛ يدعونا إلى أن نتكلم عن ديانته؟
من الواضح أن عقلًا كبيرًا مثل عقل سقراط لا يمكن أن يستسلم لأي عقيدة — دينية أو غير دينية — بغير مناقشة. ولهذا فقد كان عليه بالطبع أن يناقش الديانات التي كانت شائعة في أثينا في ذلك الوقت ليتخير الأصلح منها.
ولقد كانت الديانات السائدة في أثينا في أيامه ثلاثًا: الديانة الأورفية، والديانة العلمية الفلسفية، ثم الديانة القائمة على الأساطير، وهذه كانت أكثرها انتشارًا، غير أنه يمكننا القول، أن هذه الديانات بمذاهبها المختلفة لم تقنع سقراط فهجرها برمًا بها، وشق طريقًا جديدًا هو «أن يعلم الناس كيف يمارسون حياتهم وكيف يعاملون غيرهم»، ووجد أن هذه أفضل ديانة «مؤقتًا».
وقبل أن ننتقل إلى المرحلتين الثانية والثالثة من حياته، يجدر بنا أن نقول: إن وقت هذه المرحلة الأولى قد يتفق مع الوقت الذي حدثت فيه معجزة دلف قبل حرب البلوبونيز بين أثينا واسبارطة، فقد اجتمع أهل اليونان في معبد دلف لتحية الأرباب وسؤالهم عما يهمهم، والاستعانة بهم في قضاء حوائجهم، وأخذت الكاهنات يُجبن على هاته الأسئلة، وحدث أن وجه «سيروفون» سؤالًا إلى الإله «أبولو» عمن هو أحكم الحكماء؟ فأجاب على لسان إحدى الكاهنات: «سقراط».
أما «سقراط»، فقد اعترته أزمة نفسية عنيفة؛ إذ استغرب أمر هذه المعجزة، ومضى يبحث عن دليل صدقها، فأخذ يبحث عن الحكمة بين جميع الطبقات حتى تأكد لديه صدق هذه النبوءة.
ثم حدثت له أزمة أشد إذ أخذ يسأل نفسه أسئلة ليجيب عنها:
– لماذا نطقت الكاهنة بهذا الحديث؟
– عليه رسالة يجب أن يؤديها.
– أي رسالة بالضبط؟
– أن يتعهد الإنسان روحه ويسهر عليها وينظفها.
إذن فهو مكلف برسالة، فاندفع يؤديها بأمانة حتى وفاته.
والمرحلة الثانية: هي — كما سبق القول — المرحلة التي قامت فيها الحرب بين أثينا واسبارطة، ولقد كان سقراط جنديًّا في هذه الحرب، وتاريخه العسكري رائع مشرف، ولما عاد أخذ يسأل كل شخص: ما حال الفلسفة في أثينا؟ وما حال شباب هذا البلد؟
•••
أما المرحلة الثالثة: فهي التي اشترك فيها اشتراكًا فعليًّا في أمور مواطنيه، وهي المرحلة التي أخذ ينفذ فيها رسالته بقوة، وقد كلفه ذلك غاليًا، إذ أدى به إلى المحاكمة فالموت، وكل نفس أبية لا تطرق أيَّ باب للخلاص ما دام يتنافى مع مبادئ الرسالة التي يعتنقها.
عندما هرمت الديمقراطية، حكمت أثينا لجنة مكونة من ٣٠ رجلًا كان من بينهم صديقه الحميم «كريثياس» فاستبدت وطغت، وأخذت تصادر الأموال وتخالف القوانين، وتحاكم القواد، فثار سقراط على ذلك، وأبى أن يشترك في هذه الأعمال مع أنه كان عضوًا في اللجنة التي تولت محاكمة القواد، وأبى كذلك أن يستمر في أعمال المصادرة والقتل بغير جريرة مع تكليفه بذلك؛ كل هذا زيادة على انتقاده علنًا لهذه التصرفات حتى زجره صديقه كريثياس وثار في وجهه غاضبًا.
ولقد كان انتقاده للديمقراطية أن هؤلاء فيهم الفضلاء، وهؤلاء منهم السادة الأكفاء، ولكن ما فائدة ذلك إن لم ينقل هؤلاء فضلهم وأهليتهم للشعب، لقد كان «بركليز» عظيمًا ولكن أين مثار عظمته؟ وكان «أرستبد» عادلًا، ولكن أين عدوى عدله؟!
- (١)
إفساد ديانة اليونانيين.
- (٢)
إفساد أخلاق الشباب.
- (٣)
أنه مسئول عن هرب «السبياديس» إلى صفوف الاسبارطيين مما أدى إلى هزيمة أثينا.
- (٤) أن كل ما جاء في مسرحية «أرستوفان» حقيقي وينطبق عليه، وأنها لم تكن مجرد سخرية، ومعنى هذا أنه كان صاحب مدرسة يتقاضى منها أجرًا، وأنه اخترع دينًا جديدًا مبنيًّا على الهواء والأشباح ghosts وعلى تقاليع أخرى منها أنه اخترع آلة يتماوج بها فكره خوفًا من التصاقه بالأرض.
لم يحاول سقراط في دفاعه أن يبرئ نفسه، وقد كان في مقدوره أن يشيد بتاريخه العسكري، ولكنه حاجَّهم فيما يتعلق بالدين وأحرجهم حتى لم يستطيعوا الكلام، ثم أقنعهم بأنه ليس له مدرسة ولم يتناول أجرًا ما، وبعد ذلك أفاض في وصف المعجزة وآثارها وانتهى إلى شرح رسالته، وأخيرًا قال: «إن الفلسفة بحث عن الحقيقة، ولكن هذا البحث أثناء الحياة يرى من خلال ثقوب، أما بعد الموت فهو يستكمله بلا ستار وحجاب»، وبعد ذلك أخذ يمتدح الموت كباب من أبواب الخلاص والمعرفة الحقيقية.
وكان المحكمون خمسمائة وحكموا عليه بالإعدام بأغلبية قليلة.
ولدواع مقدسة، تأجل التنفيذ شهرًا، فأخذ يقضيه في تعليم أصدقائه وتلاميذه حتى اليوم الأخير؛ وحتى في صباح ذلك اليوم أخذ يحدثهم عن عظمة الموت، فلما حان ميعاد التنفيذ قدم له السجان الكأس وهو يبكي، فقال للسجان: لماذا تبكي؟ إنك تأخذ جسدي فقط.
وأخذ محبوه يبكون، فزجرهم، وتناول الكأس سرورًا راضيًا، ثم وسد نفسه، ومات بهدوء تام.
•••
إن ساعة مع «أفلاطون» العظيم، أقل من أن تطلعنا على جزء من ألف من تفكير ذلك الذهن الجبار، والواقع أني لا أشبه في هذا الزمن القصير أكثر من سائح أو دليل أو مقدم مسارد أتى أمام أفلاطون، أراني قِبَلَ موسوعة فخمة، وعظمة هذه الموسوعة قائمة في أنها أساس كل تفكير حديث، فنحن نجد بها ما ننشده من الحديث عن الفن والأدب، وما نتطلبه من البحث في نظم الحكم، وما نتخيله عن العالم الكامل، وما نريد أن نعرفه من أصول علم النفس، وما نود أن نُلم به من مناهج التعليم، وفي الحق إن الإنسان ليحار في كُنْهِ ذلك الفكر الجبار الذي استوعب كل ذلك وفصَّلَه ذلك التفصيل الخارق المعجز، والمدهش أنه لم يكتب بأسلوب فلسفي غامض أو قلق، بل كتب بأسلوب شعري واضح جميل، حتى إن الإنسان ما يكاد يبدأ القراءة حتى يجد نفسه مسوقًا إلى النهاية على الرغم منه، كأنه يقرأ رواية رائعة، ويكفي متعة أن نعود إلى المحاورات من وقت لآخر، وأن نخوض في «الجمهورية» كما نخوض عباب يمٍّ زاخر، يكفي هذان على الأقل ولا نتحدث عن الباقي من مؤلفاته.
على أن الذي يريد أن يقرأ «أفلاطون» عليه أن يُلم بعصره، وأن يلم بحالة بلاده في ذلك العصر من حيث الحكم والاقتصاد والحرب والسياسة، وعليه كذلك أن يلمَّ بسيرته هو من حيث إقامته وظعنه، ومن حيث أن بدأ تلميذًا إلى أن انتهى معلمًا وفيلسوفًا تام النضج.
نبدأ الآن بوصف صغير لليونان، في عهد «أفلاطون»، فقد ولد «أفلاطون» في أثينا سنة ٤٢٧ق.م، واليونان في الخريطة تشبه يد هيكل عظميٍّ تمتد في البحر الأبيض المتوسط وتشير إلى كيت، كأنما تشير إلى المنبع الذي سرت منه الحضارة إليها وإلى غيرها، إلى شرق اليونان نجد آسيا الصغرى، وهي في تاريخنا الحاضر هادئة وادعة، ولكنها في عصر «أفلاطون» كانت تموج بالفلسفة، وتزخر بمختلف ضروب النشاط الفكري والتجاري؛ وإلى الغرب نجد إيطاليا وصقلية قد كانتا تابعتين لليونان وفيهما مدارس لامعة للفكر والثقافة والعلم، وإذا اتجهنا إلى الشمال فثَمَّ مقدونيا وتساليا وأبيروس وقد كانت هذه الأبواب التي دخل منها الهمج الذين عمروا اليونان، ومن مزاجهم العنيف القوي انحدرت إلى التاريخ عقول جبارة مثل نهومير وبركليز وغيرهما.
كانت اليونان في عهد «أفلاطون» مكونة من مدن مستقلة تسمى الواحدة منها المدينة الدولة، وساعد على استقلال كل منها ما يحيط بها من المرتفعات ويفصل بينها من الخلجان ويحيط بها من التضاريس، فمذ كانت المواصلات بين المدينة والأخرى من الصعوبة بمكان، استقلت كل منها بنفسها. ومن أشهر هذه المدن اسبارطة، التي كانت تنافس أثينا كما كانت ألمانيا تنافس إنجلترا في العصر الحاضر، ولقد كانت اسبارطة قوية في البر كما كانت أثينا قوية في البحر، فكانتا تتحدان ضد العدو المهاجم، حتى إذا انصرف العدو، عادتا للتنافس الحار، ولقد كشف «برتراند رسل» في كتابه عن الفلسفة الغربية سر المصدر الذي منه استقى «أفلاطون» معلوماته عن المجتمع والحكم، فقد سرد «برتراند رسل» في كتابه المذكور تفاصيل النظم والقوانين في اسبارطة، فإذا هي هي تعليم «أفلاطون» مع تغيير قليل، غير أن أهل اسبارطة كانوا يهدفون إلى بناء أجسام قوية جميلة رشيقة، حتى إنه كان يتحتم على البطل إذا مات في الحرب أن يموت «برشاقة» أي يموت كما ينام، بلا أنين ولا دمامة ولا اضطراب، أي يمهد قبره كما يمهد فراشه! ولكن «أفلاطون» عاب على المربين أن ينصرفوا هذا الانصراف الكلي لتنشئة الأجسام، وأشار بأن يتجهوا إلى نواح أخرى سنفصلها فيما بعد.
على أنه في التنافس المذكور، كانت أثينا هي الغانمة، فإن ميناءها بيريه وأسطولها الذي كان في الحرب محاربًا وفي السلم تاجرًا، جلبا إلى أثينا التجار من مختلف الملل والنحل، وكان جوب البحار سببًا في أن يدرس اليونانيون الفلك، كما كانت المبادلات التجارية سببًا في أن يدرسوا الأرقام الرياضية، وكان الرخاء سببًا في توفير الوقت الذي هو العنصر الأول في البحث والاختراع والتفكير الحر، فأخذ الإنسان يفكر في طرق طبيعية يفسر بها الحوادث الكونية، وانصرف عن تفسيرها بواسطة الخرافة والسحر، فمن ثم بدأت الفلسفة، على أن الفلسفة بدأت طبيعية؛ أي بدأت تتفهم «طبيعة الأشياء» وقد انتهى ذلك العهد بالفيلسوف «ديمقريطس» الذي كان يعتقد أن الكون «ذرات وفراغ»، وكان من مؤيديه «أبيقور» ثم «لوكريتس» في قصيدته الخالدة. غير أن مجيء السوفسطائيين بدل اتجاه ذلك التيار؛ فإن هؤلاء نقلوا التفكير من محيط الأشياء إلى محيط الإنسان، ومهما يوجه إليهم من النقد من حيث اعتمادهم على البيان المدوي واللفظ المزخرف المجلجل، فقد ظهر من بينهم رجال ذوو عمق وفهم وأصالة مثل «بروتاجوراس» و«هيبياس»، على أن السفسطائيين هم الذين ابتدعوا طريقة الحوار والجدل والتساؤل، وقد كانوا شجعانًا، يقفون مدافعين عن آرائهم مهما كان وراء هذا الدفاع من المسئولية والخطر. وكانت آراؤهم السياسية تنقسم إلى فريقين، فمنهم من كان — مثل «روسو» فيما بعد — يدعو إلى الرجوع إلى الطبيعة على زعم أن الناس يتساوون دائمًا أمام الطبيعة، والفريق الثاني — مثل «نيتشه» فيما بعد — يدعو إلى القوة، ويقول: إن القوانين إنما أرادها الضعيف لتحد من مطامع القوي، مع أن القوة هي كل شيء.
فلما ظهر «سقراط» سار على طريقة السوفسطائيين، غير أنه أول من دعا نفسه بالفيلسوف، أي عاشق الحكمة، بخلاف كلمة سوفسطائي التي معناها «غارق في الحكمة»، وكان يقول عن نفسه: «إني على يقين من شيء واحد هو أني لا أعرف شيئا …» ويشبه في العصر الحديث فيلسوفًا كبيرًا — «برناردشو» على الأرجح — في قوله: «في الأربعين اكتشفت اكتشافًا هامًّا: اكتشفت علمي بجهلي.»
إن «سقراط» كان يدَّعي الجهل عمدًا لكي يصل إلى الحقيقة، وقد كان صارمًا عنيفًا في الوسيلة التي تصل به إليها، يتضح ذلك من محاورات «أفلاطون»، فقد كان يعتصر محاوره في الجذل اعتصارًا حتى يجعله يثور ويجبن، على أنه لا يلبث أن يهدأ حين يقوده «سقراط» بيده إلى الطريق الذي يكشف له الحقيقة.
وقد كان «سقراط» كذلك عنيفًا في آرائه السياسية، فقد كان لا يؤمن بالديمقراطية، إذ كان يعتقد أن الذكاء هو الذي يجب أن يحكم، وله رأي في الديمقراطية عجيب، هو أن الجماهير أبواق نحاسية تظل تدوي حتى يأتي من يسكتها بيده، ولا ندري أكان «سقراط» يتنبأ بما ستصنعه الديمقراطية يومًا من الأيام، هل كان يدري أنه على يديها سيتناول كأس السم ذات يوم؟
على أن ديمقراطية أثينا كانت تامة بقدر ما كانت شاذة خرقاء، فقد كان عدد سكان أثينا ٣٠٠٠٠٠ منهم ٢٠٠٠٠ عبيد والباقي أحرار، يؤخذ صوتهم جميعًا فيما يهم الدولة من الشئون.
على أن الديمقراطية أسلمت زمامها فيما بعد إلى أوليجارشية — أي جماعة من الأثرياء — يحكمون أثينا، ولكن الحرب بين أثينا واسبارطة أدت إلى نفي هؤلاء، وعلى رأسهم «كريتياس» عم «أفلاطون»، ولكنهم صدر عنهم عفو فما لبثوا أن عادوا من المنفى وأعلنوا الثورة على الديمقراطية، غير أنهم هُزموا وقُتل «كريتياس» وقُبض على «سقراط» بتهمة أنه أفسد أخلاق الجيل، ونشر الكفر والزندقة، بينما السبب الحقيقي المستتر وراء كل هذا، هو مبدؤه السياسي، وتندره بالديمقراطية، وخلاصته كل ما سبق، وأهميته من حيث موضوعنا أن «كريتياس» عم «أفلاطون»، و«سقراط» أستاذه.
كان «أفلاطون» في الثامنة والعشرين حين مات أستاذه، ولعل موت أستاذه بالسم، بعد المحاكمة الشهيرة ملأه حقدًا على الجماهير حتى أساء الظن بهم، وفكر في طريقة جديدة لتهذيبهم، وأخذت الفكرة تتطور حتى صارت مشغلة حياته. ومما يُذكر أن أفلاطون صنع ما يستطاع لكي ينقذ «سقراط» فلم يستطع، وعرض نفسه للشبهات والتهم والأقاويل، فنصحه أصدقاؤه بالهرب، فأخذ يستعد للرحيل والتجوال فرحل إلى مصر سنة ٣٩٩ قبل الميلاد، ففوجئ بما رآه وشاهده بمصر مما لم يكن يتوقعه، إذ قال له الكهنة المصريون: إن اليونان مدينة طفلة لا عراقة لها في التقاليد والثقافة، ولقد راعته مصر بسبقها في العلم وإتقان الزراعة، وبقي هذا في ذهنه حتى رسم صورة للمدينة الفاضلة، ولقد رحل عن مصر كأنما صُدِم في غروره، فقصد صقلية فألفى هناك أتباع «فيثاغورث» الذين كأنما وُجدوا أمامه ليتموا صورة المدينة الفاضلة في ذهنه، فقد ألفى نفرًا من الحكماء الزاهدين الفلاسفة، قد انقطعوا للتفكير والفلسفة والحكم، ثم لبث اثني عشر عامًا بعد ذلك يضرب في الآفاق من بلد إلى بلد حتى لقد ذكر بعض المؤلفين أنه وصل إلى حدود الهند، ثم عاد إلى أثينا ٣٨٧ق.م وعمره إذ ذاك أربعون سنة، وقد أنضجه السفر وهذبه التجوال وثقفه، فاختلط عنده العلم بالفلسفة بالحكمة بالشعر في امتزاج عجيب، ولقد اتخذ لنفسه أسلوبًا في التعليم والكتابة اجتمع فيه الجمال بالصدق، والدقة بالبيان الناصع، والواقع أن الصعوبة في فهم أفلاطون ترجع أحيانًا إلى ذلك الأسلوب الشعري الذي تخلله السخرية أحيانًا، فإن الإنسان حينما يقرؤه يحار أهو يجدُّ أو يمزح! وأحيانًا يجد الإنسان نفسه سابحًا في جو غامض لذيذ يحمله على جناحين مسحورين يلهيانه عن التساؤل عن معنى كل ذلك.
والعجيب أن «أفلاطون» يجمع في أسلوبه المتناقضات التي عابها على الآخرين؛ فهو لا يحب الشعراء، ومع ذلك له أسلوب الشاعر، وهو لا يحب الكهنة والوعاظ، ومع ذلك فهو يعظ، ويدعو إلى الدين في أكثر من موضع، وينعي على السفسطائيين بيانهم وثرثرتهم وهو لم يخلُ من الثرثرة والاسترسال في البيان المجلجل في أكثر من موضع واحد.
على أنه مهما يكن من ذلك فإن «أفلاطون الفلسفة والفلسفة أفلاطون» كما قال «أمرسون».
- (١)
نظرية المثل.
- (٢)
النظرية الأخلاقية.
- (٣)
النظرية السيكولوجية.
- (٤)
النظرية التربوية.
النتيجة أن البياض صفة يعرفها العقل حين يراها؛ أي إنها صفة أولية مشتركة إذا رآها العقل البشري عرفها كأنما يتذكرها؛ أي إن هناك «شكلًا» أو مثلًا أزليًّا أبيض هو الذي يعطي للأشياء صفة البياض إذا حل بها. إذن فلكل صفة ناقصة لدينا صفة كاملة هي صفتها الحقيقية التامة، فإننا لا نتخيل شيئًا ساخنًا مثلًا إلا وُجد ما هو أسخن منه. وحتى المثلث الذي نعرفه لا يكون إلا صورة ناقصة لمثلث كامل، فإن المثلث الذي نعرفه ليس مثلثًا حقيقيًّا؛ لأن خطوطه في الواقع لها طول وعرض ثم إن هذه الخطوط ليست مستقيمة تمامًا. وبناءًا على ذلك هذه الصور أو المثل باقية خالدة، وما لدينا نحن غير ظلال لعالم آخر هو الباقي الدائم السرمدي الذي لا يُمحى.
الآن، هل يمكن تطبيق هذه النظرية على الفن؟
ما هو الذي يجعلنا نحب الشعر ونطرب للموسيقى؟
لا شك أن الطرب والإعجاب أساسهما صورة أزلية مشتركة اسمها «الجمال»، وهنا نقف لنتساءل هل وظيفة هذه الصفة الثابتة المشتركة أن تخلع على نفسها الأشياء فحسب، بل هناك وظيفة هي أن يعرف الناس أن العالم ظلال وأشباح، وأن هناك حقيقة كبرى كاملة، وأن الناس يجب أن يؤمنوا بها ويتطلعوا إليها ويعملوا على الوصول إليها. نصل إلى نقطة هامة في طبيعة الفنان، فالفنان هو الذي يرى الجمال في صورته الأزلية الحقيقية، وعليه بعد ذلك أن يجلوه للناس أو بعبارة أخرى: يجسم الصورة، فالجمال إذن غرض الفنان من حيث إنه موضع رؤيته، وغرض العمل الفني لأنه يرمي إلى تجسيد الجمال، وغرض النظارة لأنهم يتطلعون عن سبيله إلى القيم العليا الخالدة، والفنان بالطبع يستعمل المادة الخام ليجسم بها الصورة، أما من جهة التمثيل فإن النظارة هم الأشباح والممثل هو الذي تتجلى الحقيقة الفنية على لسانه.
هذه المثل الثابتة — هذه النماذج — يتوسطها الخبر كملك نوراني متوج، وبناء على ذلك يكون الخير عند «أفلاطون» موضوعيًّا؛ أي تابع لخير خارجي. ولكن السؤال المحير هو هذا: كيف تقول: إننا نعرف صورة الخير لأنها أزلية في نفوسنا، ومع ذلك تقول: إن الخير خارجي؟ وبعبارة أخرى: كيف تجثم الحقيقة الكبرى في أعماقنا ثم تبدو في ظلال ناقصة، وكيف لا تؤدي الرحمة الثابتة المتأصلة في نفوسنا إلا إلى عالم مشوه معطوب حافل بالقسوة والشرور؟
لم يُجب أفلاطون على هذا السؤال، ولن يجيب أحد.
ننتقل الآن إلى سيكولوجية أفلاطون.
يقول «أفلاطون»: إن السلوك الإنساني ينبع من ثلاثة ينابيع: الرغبة والعاطفة والمعرفة، والرغبة والشهوة والدافع والغريزة شيء واحد، والعاطفة والطموح والشجاعة شيء واحد، والمعرفة والفكر والذكاء والتعقل شيء واحد، والرغبة مركزها بين الفخذين، وهي قِدْرٌ يغلي من الطاقة البشرية، وأكثرها جنسي، أما الانفعال فمركزه القلب، وأما المعرفة فمركزها الدماغ، وهذه الينابيع مشتركة في الرجال جميعًا ولكنها تختلف قوة، ولكي يتم أي عمل منظم يجب أن تتحد المنابع الثلاثة بانسجام، وما يقال عن الأشخاص يقال عن الدول، فالدولة الكاملة هي التي تتسق بها القوى الثلاثة على شرط أن يكون العقل قائدها.
وإن الاختلال يحدث حين تختلط الأمور ويوضع الشيء في غير مكانه، فيحل الاقتصادي مكان الجندي، والجندي محل الفيلسوف، والإنسان يتسم بالعدل حين تنسجم في نفسه القوى الثلاثة على أن تخضع للعقل، والعدل الفردي هو ذلك الانسجام الناشئ من جمال الروح، والعدل الاجتماعي هو الأثر الظاهر من انسجام قوى الدولة وحلول كل قوة مكانها الطبيعي.
وهنا نعجب لأن «أفلاطون» تكلم عن «غول الشهوة» الذي تكلم عنه «فرويد» غير أنه يضيف أن هذا الغول يطغى بالإفراط في المأكل والمشرب والملذات، وقد يؤدي ذلك إلى جريمة جنسية كعشق الوالدين مثلًا «مركب أوديب!» ويقول «أفلاطون»: إن هذا الغول فينا جميعًا غير أن بعضنا يعطيه القياد، وبعضنا يحول قوته الطاغية إلى قوة منظمة خَيِّرَة. ويعتقد أفلاطون أن الموسيقى تُنِيمُ هذا الطاغية، وقد ضرب مثلًا بقسيس كان يعالج المصابات بالهستريا بواسطة الموسيقى.
ثم ينقلنا نقلة غريبة حين يُطَبِّقُ هذه الآراء على التعليم فيقول: إنه يجب على الجميع أن يتعلموا بلا استثناء، ويكون تعليمهم رياضيًّا لتكوين أجسامهم، ومصحوبًا بالموسيقى، ويشترط أن لا يُكْرَهوا على العلم إكراهًا، بل يتناولونه مخففًا بالموسيقى، وهو يعتقد جازمًا بأن هذا المزيج من الرياضة والحرية في الشباب يؤدي إلى الوقاية من الأمراض في المستقبل ويغني عن الطب والأطباء.
ثم يشير إلى أهمية الدين في التعليم، قائلًا إنه عند سن العشرين يقترح «فرزًا» عامًّا بحيث يُوَجَّهُ كُلٌّ لما يصلح له، وقد يعترض المعترضون ويثورون، فإذا آمنوا عن طريق التدين أن هذه إرادة الله، وأنه هكذا شاء أن يوزع المواهب، رضوا بقسمتهم، ومضوا كُلٌّ في سبيله، ليعمل لصالح أمته في الطريق الذي رُسم له.
هذه ساعة مع «أفلاطون»، وأعتقد أني ظلمته وظلمت فلسفته لأني لم أقل شيئًا.