رسالة الحضارة
قبل أن نتحدث عن رسالة الحضارة يحسن أن نُعيِّن معنى الحضارة، ثم نتحدث عن نشوئها ثم عن الحضارات التي التمعت في التاريخ ثم انطفأت، عن أسباب انهيار تلك الحضارات، وأخيرًا مميزات الحضارة الحالية وعن التصدع الذي في بنائها، وأخيرًا هل هناك أمل في رأب ذلك الصدع؟
أما عن معنى الحضارة فمن الطريف أنه جرى حوار بين الفيلسوف الكبير «جود» وابنته المثقفة عن معنى الحضارة، وهذا الحوار يجوز أن يجري بين أي اثنين من المثقفين؛ ويجوز أن يحدث هذا من الإبهام في معنى الحضارة لأي مثقف كما حدث لابنة الفيلسوف، ولذلك سأوجز هذا الحوار اللطيف قبل أن أسترسل في البحث.
هذا هو الحوار الممتع الذي جرى بين «جود» وابنته، وهو مقدمة بليغة للمناقشة في موضوع الحضارة.
يبدو من هذا جليًّا أن من ذكرهم التاريخ في كتبه وأفرد لهم الفصول الطوال، ﮐ «إسكندر الأكبر» و«هانيبال» و«نابليون» هم الذين يجب أن نخرجهم من كتاب الحضارة؛ لأنهم هم الذين أخروا العالم ومشوا به القهقرى، بينما نجد أن هناك قلة من البشر، نشئوا أفذاذًا وعاشوا أفذاذًا، هم الذين أقاموا بناء الحضارة على أكتافهم، فلو أني خُيِّرْت في كتابة التاريخ من جديد لمررت بهؤلاء الغزاة مرًّا، ولملأت كتابي بالحديث عن «كونفوشيوس» و«محمد» و«عيسى» و«سقراط» و«أفلاطون» و«بيكون» و«كوبر نيكوس» و«جاليليو» و«وات» و«نيوتن»، أولئك الذين بنوا الحضارة على دعامتين؛ الأولى: الخير وحسن الجوار وطيب الصلات. والثانية: تحرير الفكر وكسر الأغلال التي تكبل التفكير.
أعني تحرير النفس من عبودية الأنانية وتحرر الفكر من عبودية الجمود، أين مكاننا اليوم من هذا؟ إننا كأفراد صرنا نطيع القانون، ونحترم الجوار، ونُقْدِمُ على قليل للمساعدة للغير، ولكننا كأمم لا نزال ندين بشريعة الحرب ونخضع لقوانين القوة ونتربص للجار ونقيم الحواجز وندبر الخطط؛ أي إن عقل الفرد أخذ يتحرر ببطء، ولكن عقول الساسة لا تزال تتخبط في ظلمات البدائية الأولى.
على أننا إذا فرضنا أن تاريخ الكائنات ١٠٠ عام، فإن تاريخ الإنسان شهر، والإنسان المتحضر سبع ساعات؛ أي إننا لا نزال في حواشي الفجر!
لقد ذكرت دعامات الحضارة وقلت: إنها الجمال في صور فنية وإنها الأمن والفراغ والعدالة الاجتماعية «سياسية واقتصادية»، والصلات الاجتماعية القائمة على الخير والإيثار.
غير أن هذا كله يمكن أن يوجز في عمودين: صلات الخير، وصلات الفكر المتحرر. الأول أقامه المصلحون الدينيون والفلاسفة. والثاني أقامه العلماء.
والواقع أنه ليس بين هذين الفريقين من حدود؛ فإن الفلاسفة فكروا تفكيرًا نظريًّا حرًّا، والعلماء فكروا تفكيرًا عمليًّا حرًّا.
الأولون وسعوا نطاق النفس، فأطلعوا الناس على ما كان خافيًا من مواطن الجمال، ومن ثم نشأت الفنون، أما العلماء فطبقوا العلم عمليًّا، متحررين من القيود معرِّضِين أنفسهم لكل أنواع الاضطهاد والسجن والتشريد، ولكنهم أفلحوا في خلق العصر الصناعي — أي العصر الآلي — فبلغنا ما قد بلغناه اليوم ووُفِّرَ لنا من الوقت ما به نعلمُ من جديد ونبتكر من جديد.
ولنعد لحظة أخرى إلى التعاليم الدينية، فهي من بدئها لختامها تدعو لنفس المبادئ، كانت تدعو الناس لترك الأثرة والتمسك بالإيثار، كانت تدعوهم للعمل على ما هو أوسع من محيط النفس وأعلى من مستويات رغباتها، ولكن نسيان النفس في سبيل غرض أسمى من النفس، الذي هو الطريق للحضارة والسعادة، هو الشيء المستحيل الذي لم تستطعه الإنسانية في محاولاتها المتعددة.
هذا النسيان، أو بالأصح هذا التخلي بعد الإخفاق في محاولات عديدة هو السبب الأول في خوفنا على الحضارة، فإن المادة وحدها لن تدعم بناءها.
إن «جود» يسمي حضارة المادة، حضارة الحلوى، وهو تعريف قيم، ويعني بذلك أن حضارة المادة حضارة ترف قائمة على ما هو مستساغ كالحلوى، ولكنه مأكول زائل كالظل الجميل. ومن الواجب هنا أن نذكر أن المصريين هم الذين أقاموا الحضارة على دعامتين: الفن والحكومة الصالحة، ولا شك أن الذين أقاموا تلك التماثيل الجميلة الرائعة كانت نفوسهم جميلة جمال تلك التماثيل مشرقة إشراق تلك الفنون، وقد يكون ذلك ناشئًا من أنهم بدءوا عهدًا جديدًا في التاريخ، عهدًا توفر لهم فيه رغد العيش والأمن معًا فأنتجوا ما أنتجوا، وأبدعوا ما أبدعوا، ولا شك أن هذا الإبداع مقرون باختراع الكتابة، فمما هو معروف أن المصريين هم الذين اخترعوا الكتابة، ولما كانت الحضارة لا تتم إلا بالانتقال من ممدن لمتمدين؛ أي من قلة إلى كثرة، فإن انتقال الآثار الذهنية عن هذا الطريق — طريق الكتابة — كان السبب في قيام الحضارة أولًا، واستمرارها أخيرًا.
ولا بد أن نذكر هنا فضل العقل اليونانيِّ على الحضارة، فإنه هو الذي حارب الخرافة وتحلل من قيود الماضي، وألقى نظرة شاملة على الإنسان والوجود، وبحث في كيفية الخلق وطبيعة الخالق، ثم حقق في ماهية الروح، والعقل اليوناني أول من أثار الحوار واستعمل الجدل، وأول من نقل الفلسفة من بروجها العاجية إلى الطرق والأسواق والأماكن العامة. ثم إن العقل اليوناني أول من ناقش أنظمة الحكم المتعددة، واستقر على أن الديمقراطية أحسنها مهما يكن بها من عيوب.
لماذا انهارت هاتان الحضارتان؟
ليست هناك حضارة تستطيع البقاء إذا احتفظت بالحضارة بين ربوعها هي فقط، كيف تعتصم الواحة، وأين تختبئ من رمال الصحراء حولها إذا ثارت عاصفة؟ هذا بالضبط ما حدث للحضارات القديمة التي طُمست، فإن الهمج أغاروا على اليونان، والهكسوس أغاروا على مصر، معنى ذلك أن الذين يتمتعون بنعمة الحضارة لا يجب أن تحبسهم أنانيتهم ضمن جدران ضيقة، بل عليهم أن يكونوا بدورهم مُمَدِّنِين للعالم.
والآن، لماذا يساورنا الخوف على حضارتنا الحالية؟
إن حضارتنا الحالية يجب أن تستند دعائمها المتنوعة على العدالة الاجتماعية، وهي نوعان: عدالة سياسية يضمنها القانون، وعدالة اقتصادية معناها حُسن توزيع الأقوات.
لقد أصبح الناس اليوم متساوين أمام القانون، وصار لهم في كثير من البلاد صوت مسموع في نظام الحكم الذي يخضعون له وفي اختيار حكامهم، ولكن توزيع الأقوات لا يزال ينطوي على كثير من الظلم، فالجزء الأكبر من الثروة التي تحصل عليها الأمة في كل عام يذهب إلى جيوب أقلية ضئيلة من الأفراد، في حين أن الكثرة الغالبة لا تحصل إلا على القليل الذي لا يغني، فهؤلاء يكدحون ليل نهار في سبيل الرزق، حتى إن هذا الكدح لا يدع لهم وقتًا للتعلم ولا يدع لهم مجالًا للمحافظة على صحتهم، ولا يتيح لهم فرصة للإنتاج الفني. فإذا انصرف البؤساء منهم إلى إنتاج فني فهو إنتاج مبتور ناقص حادث تحت إلحاح الحاجة وضرورات الفقر، ومؤثرات الخوف والفزع، ولا شك أن الحضارة منهارة طالما فيها تلك الصدوع الظاهرة في أعمدتها.
والغالب أن الضيق الداخلي الحادث في أمة من الأمم من سوء التوزيع الاقتصادي يؤدي إلى التنفيس الخارجي بواسطة الحرب، ويزيد هذا الميل خطورة أن العالم لم يعد وحدة متماسكة، فإن الحواجز خفية وظاهرة قائمة قيامًا حقيقيًّا بين الأمم.
أما عن عقلية الحرب فمن الطرائف أن الملك «أمان الله خان» عندما زار إنجلترا، أطلعوه على جميع الاستعدادات الحربية ولم يزر متحفًا واحدًا ولا استمع لشاعر واحد.
هذا الجيل جيل حرب واستعداد للحرب، ولم تُغَيِّرْ الكوارث المتوالية عقول الساسة؛ لأن من وراء عقولهم آلات التدمير، تلك الآلات التي اخترعها الإنسان ليصير بها سيد الطبيعة فصارت هي سيدته، فنحن نقضي العمر في السهر عليها وتنميتها وتحسينها وتنميقها وتنظيفها، وجعلها مستعدة؛ أي إننا نصرف عمرنا في استرضائها، وفي صنع آلات جديدة.
وللأسف إن ما توفره لنا الآلات لا يزيل البؤس والضنك؛ لأن توزيع الخيرات التي تنتجها توزيع غير عادل، فيكثر عدد المتعطلين والفقراء.
إني متشائم كلما أرى عقول الساسة ترسف في القديم البالي، متشائم كلما أرى البؤس والتعطل والفقر، متشائم كلما أرى كيف نسينا تعاليم المصلحين والرسل والحكماء، متشائم كلما أرى أفكارنا صبيانية متحيزة، كلما أرى أن أكثرنا ثقلت عليه وطأة الحياة ومطالب العيش حتى فقد الأمان، وفقد معه الراحة، وفقد التفكير في غير الرزق والمعاش، إني متشائم كلما لمحت هذه الثقوب، ولكني أعود فأقول: إن رؤية العيوب والاعتراف بها ضمان لمداواتها.
إن المحاولات التي يقوم بها هنا وهناك نَفَرٌ — وإن كانوا قلة — تنشر الضوء من خلال الثقوب وتبشر بفجر جديد على كل حال.