رسالة العقل
تطور العقل البشري
مشكلة العقل البشري مشكلة قديمة جدًّا، فمن أقدم العصور والفلاسفة يحاولون أن يحددوا
كنه
ذلك «الشيء» الذي يميز الإنسان عن كل ما عداه من المخلوقات، حقيقة أن الإنسان من يوم
أن
وُجد على الأرض أخذ «يُفكر» حتى يمكن أن يقال: إن هذا التفكير هو الطابع الإنساني الأول،
ولكنه كان يفكر فيما حوله ويستعرض ما يدور بنفسه ويترجم ما يبدو له حسبما يقتضيه حفظ
الذات
وحفظ النوع. أما التفكير في طبيعة ذلك «الشيء الذي يفكر» فشيء حديث العهد جدًّا بالنسبة
لعمر الإنسان على الأرض، وقد تم في مراحل تتبع تطور البشرية ومنصبًا في القالب الذي جرت
به
البشرية في عهودها المختلفة، مثال ذلك أن طبيعة العقل الهمجي طبيعة شيطانية محضة، ونحن
لا
نزال نمارسها في أكثر أحوالنا، ومنا من لا يمارس غيرها، ثم تتلوها طبيعة العقل التبريري
وهو
العقل الذي يعمل حسب نوازعه ثم يأخذ في «تبرير» ما صنع. فهو عقل متميز مُحَابٍ لما آمن
به
أو أحبه أو اعتقده، ذلك هو العقل البشري في فجر المدنية، ومازلنا نمارس هذا النوع من
التفكير كثيرًا في عهدنا الحاضر، وقد جر علينا آلاف النكبات والكوارث، ويتلو هذا العقل
في
سلم التطور العقل السيكولوجي، وهو الذي يحلل ويتعمق في الفهم، وأخيرًا العقل الموضوعي
أو
العلمي، وهو الذي ينظر إلى الأشياء من حيث هي بقطع النظر عن أي شيء آخر.
العقل البدائي: كان الإنسان الأول يعيش في الظلمات ولذلك كانت أكثر رؤاه أشباحًا،
فإذا
جلس يفكر في ذاته أحس بشبح في داخله يمشي ويقدر على التنقل، ويبدو إليه في الأحلام، وهذا
أول إحساسه لشيء في كيانه يعي ويتحرك، وقد دعا الأستاذ «تيلور» ذلك الشيء «الروح الشبح»
وهو
وصف موفق.
ويعتبر هذا الدور في تطور العقل دور العقل من حيث إنه جزء من الوجود غير منفصل عنه
animism غير أن الدور الثاني ما لبث أن جاء حين آمن
فلاسفة اليونان الذريون بقوة ذرية للعقل تجعله منفصلًا عن الوجود وإن كان لا يزال لاصقًا
بالمجتمع ومندمجًا فيه، ولعل العقل الإنساني في القرون الوسطى كان من هذا الطراز، أما
الدور
الثالث فهو الدور الذي تلا القرون الوسطى على وجه التحديد، وهو دور العقل المستقل الذي
انفصل عن الوجود وانفصل عن المجتمع، وهو الذي وصفه «ديكارت» وتحدث عنه وأسماه العقل المحصن pure reason.
ولكن هذا العقل المستقل المنفصل لا يلبث أن يشعر بحاجته للمجتمع فيندمج فيه مع المحافظة
على استقلاله، وهذا هو العقل الحديث، وأحسن تعريف له: «أنه ذلك الميزان الذي يمكننا من
السير في ركب الحياة» The adjuster على أن ذلك الميزان
الآدمي ليس آلة، بل وحدة تتكون من ثلاثة عناصر: الشعور والذكاء والإرادة، وهذه العناصر
مندمجة معًا اندماجًا كليًّا كاندماج الموج في الموج؛ أي إننا نشعر ونتعقل ونريد في وقت
واحد، وقد شبه أحد علماء النفس العقل الآدمي بقطار وقوده الشعور، وتعقله السائق، وإرادته
الفرامل، أما الشعور فهو الخصيصة الآدمية الكبرى، ومعناه الحقيقي: «الإحساس بوجود آخرين
لهم
من الأهمية والحقوق ما لنا»، وهو الآخر مركب من عنصرين المعرفة والانفعال، أما المعرفة
فمعرفة علمية إخصائية، ومعرفة سيكولوجية مبنية على الإحاطة والملاحظة والشمول، أما الانفعال
فهو الحماس الذي يصاحب المعرفة ويلهبها يستحثها للعمل.
أما الذكاء الآدمي فمكون من العناصر الآتية:
الاختيار، والمقارنة وإدراك الفروق، واستخلاص النتائج، والتحليل ثم التركيب، أي
الخلق.
أما الإرادة فمقترنة بالعمل وكيفية العمل، هي السلوك
الإنساني Behavior، ونحن في هذا الباب لا نزال نجري على الطريقة الحيوانية من حيث
التجربة، والاهتداء بالخطأ والصواب، والأصح أن نسميها طريقة التحسس والتنقيب.
ولكن الفرق بين الإنسان والحيوان أن الإنسان يتعلم ويُعلم، أما الحيوان فيحتفظ بتجربته
لنفسه، حتى لقد قال أحد علماء الحيوان: إن القرد لا يقلد غيره كما هو شائع ومعروف، بل
يقلد
جنسه، وحتى الإنسان يتكبر على تقليد غيره، ولولا وجود أفراد قلائل يسميهم «دارون»
«أنواع جديدة» variation في كل قطيع، تفكر للقطيع
وتقوده وتتطلع إليه، ما أمكن تقدم الجنس البشري عن طريق هذا التقليد الجبري، ولقد أوجز
«روبنس» خصائص العقل البشري في ميزتين؛ ربط الأمور ببعضها عن طريق الأصالة أو عن طريق
التقليد، وربط الأمور يكون بالتمييز بين ما هو عام وما هو خاص، ثم الالتقاء ثم التبويب،
ثم
وضع الاسم على الشيء المبوب المختار المنتقى، ثم ينتهي بعد ذلك إلى خلاصة ما، وهذا ما
نسميه
ربط الأمور أما في العقل الحيواني فالأمور عامة مختلطة، والنتائج لا تستخلص عن الطريق
السالف وإنما عن طريق التجربة العملية المحضة.
ولكن نتساءل أخيرًا ما سر هذه «الكينونة» التي تختار وتنتقي وتربط؟ هل هو وحدة مستقلة؟
هل
هو ظاهرة فسيولوجية؟
يقول «برجسون» ورأيه من أهم الآراء: إن العالم دوامة متغيرة في كل لحظة، وإن هذه الدوامة
التي تنشد من وراء التغيير كمالًا وعظمة، لا يمكن أن تكون مجرد آلة أتوماتيكية، بل لا
بد
فيه من يد كيد الحائك حين يقطع الثوب قطعًا، ليستطيع الحصول على شيء كامل منه أخيرًا،
وبينما هو يقطع الثوب يسمي كل قطعة باسمها، وبعد ما ينتهي من حياكة ثوب يعلقه في مكان
ما،
وقد كُتب عليه اسم صاحبه، ولا شك أن العقل الإنساني إنما ساعد على ذلك باختراع
الكلام.
ولكن هل سلم العقل الإنساني بعد كل ذلك من طبائعه الأولى؟ كلا؛ فإن الإنسان الأول
كان
يؤمن بقوى خفية يستسلم لها ولا يناقشها، فنشأت فيه العقلية ذات المعتقدات التي لا تناقش
Uncritical belief، ونشأت على أثر ذلك «البنود» التي
يضعها القوي للضعيف ليطيعها إطاعة عمياء، القوي استسلم للقوى الخفية وخضع لها، والقوي
يشرع
للضعيف ليؤمن كما آمن ويستسلم كما استسلم، وهذه البنود هي «التقاليد»، وأقرب مثل لها
النجاسة والطهارة وما هو مناسب للأخلاق وغير مناسب. هذه العقلية البدائية لهاتين الصورتين
ظهرت في تاريخ العقل مرتين؛ المرة الأولى في الإنسان الفطري، والثانية في العصور الوسطى،
ونحن في عصرنا الحاضر لم نتخلص منها مطلقًا، ونحن نعاني منها ومما انحدر إلينا منها على
الأجيال، عناءًا شنيعًا وعبودية أشنع، ومن العجيب أن أكثر التقاليد التي نمارسها اليوم
بغير
جدال ولا مناقشة انحدرت إلينا من الإنسان الأول، وكان عهدنا بها أمس القريب.
ولكن الفترات التي جاءت بين ظهور هذه العقلية البدائية من حين لآخر لم تساعد على
محوها؟
حقيقة لقد قام في عصر اليونان ما يسمى بالعقلية «التاريخية»، وآية هذه العقلية أنها
أخذت
تناقش هذه المعتقدات، أخذت تتحرر من القيود القديمة، ولقد كان ذلك في أعلى صورة عند
«سقراط»، ولا شك أن «أفلاطون» و«أرسطو» قاما بدورهما في التحرير، ولكن الجميع لم يتحرَّروا
من الاعتقاد بالقوى الخفية والأشباح الجاثمة وراء الطبيعة، والسبب في ذلك أن العقل كان
عند
هؤلاء متفلسفًا محدثًا مجادلًا، وقد كان عليه أن ينزل إلى عالم التجربة حتى يتكئ إلى
الحقيقة، وحتى تستطيع التجربة أن تبدد أشباح الخرافات، ولكن الصناعات اليدوية كانت كلها
بأيدي العبيد، ولم يكن من المتيسر أن تنزل الأرستقراطية الذهبية إلى أسواق العبيد.
من هذا يتضح لماذا وقفت الحركة التحريرية للعقل جامدة، ولماذا عاد العقل البدائي إلى
الظهور.
إن عقلية القرون الوسطى قسمان: قسم ينتهي بسنت أوجستين وقسم يبدأ بعده.
أما القسم الأول فكان فيه شيء من النور إذ كان عهدًا تمتزج فيه الديانة بالفلسفة،
ولكن
الفلسفة كانت تعتمد على السلطة في إكراه الناس على قبولها.
أما القسم الثاني فقد انصرف الناس فيه عن التفكير في الأرض وأخذ الشيطان نفسه يتطور،
فسمى
نفسه «الخطيئة» وأخذت محاكم التفتيش تُعقَد وتحاكم من ينحرف أي انحراف عن التعاليم المنشورة
بواسطة مجلس القساوسة، ولكن شيئًا هامًّا نشأ في وسط هذا الظلام الذي أغلقت فيه دور العلم،
وأحرق فيه العلماء أو سجنوا، ذلك أن هذه التعاليم غذت الغرور الإنساني فاعتقد الإنسان
أنه
محور الكون، فالسماء تتدخل في شئونه وتراقبه وتحاسبه كل لحظة من لحظاته، ثم إن الشيطان
ليس
له من هدف إلا إغواء هذا الإنسان.
إذن، فالإنسان شيء هام جدًّا، نفض الإنسان عنه فجأة عبارة القرون، وأخذ ينادي بعظمة
العقل
الإنساني، وأخذ كذلك ينادي بالسيطرة على الطبقة، ولقد صدرت هذه النداءات من جهات متعددة
على
ألسنة عباقرة ظهروا فجأة كلٌّ في مكان.
ولا شك أن أعظم هؤلاء — من حيث تحرر العقل وتطوره — هو «باكون»؛ فقد كان أول من دعا
إلى
الطريقة العلمية التجريبية وفصلها وبينها في كتبه فكانت أساسًا للعقلية الحديثة، ومنها
ما
أدى إلى التطور الأخير الذي لا يزيد على قرنين من الزمان، وخلاصة آراء «باكون» أنها الدعوة
إلى استعمال خصائص العقل الإنساني من حيث التبويب والمقاربة والتحليل واستخلاص النتائج
بطريقة تؤدي إلى عقلية خلَّاقة، وقد دعا إلى التحرير من عبودية الماضي، قائلًا: إن نهر
الزمن لا يحمل فوق سطحه إلا ما خف ولم يكن غاليًا، أما الغالي الثمن فقد رسب في
القاع.
ولكن هذا التحرير العلمي العملي كان يمشي جنبًا إلى جنب مع التطور الاقتصادي، فكان
من
اللازم أن يحدث شيء جديد، ذلك هو أن يصير العقل العلمي اجتماعيًّا اقتصاديًّا، فلنا أن
نسمي
العقل الذي نتوقعه في المستقبل العقل
الاجتماعي social mind، وهو يرمي إلى شيئين، الأول: الملاءمة بين العقلية والفردية
والحالة الاجتماعية، والثاني: إقرار النظام
الاقتصادي Economic Structure، وفي كتاب «روبنسن» الذي أشرنا إليه، يقول: إنه لإصلاح العالم
يجب أن نصرف النظر عن كل ما جربناه سابقًا فأفلس، لقد جربنا التأثير بواسطة التخويف والعقاب
فأفلسنا، وجربنا التعليم فلم نخلق منه غير أرستقراطية ذهنية، وجربنا الوعظ فلم يُجدنا
شيئًا، فبقي علينا أن نجرب إصلاح الذكاء الإنساني. إننا لا نزال نفكر بعقل الإنسان الهمجي،
إننا لم نتخلص بعد من الخرافات والمعتقدات التي تحتل من نفوسنا مكانًا مقدسًا، ولأننا
لا
نزال استبطانيين نعيش في أخيلتنا بدل أن نستعمل حواسنا، ونحن من أجل ذلك ندافع بكل تحيز
عن
كل ما يتعلق بمعتقداتنا الثابتة، ونحن نتحيز إلى كل ما نحب ومن نحب، هذا القانون قانون
التمييز العام انحدر إلينا من أسلافنا ولم نتخلص منه إلى اليوم، وهو السبب في الانقسامات
والحروب، فإن الإنسان يتحيز لقومه ويتعصب لعشيرته ولدينه، ومن ثم يكون حكمه على الأشياء
خاطئًا؛ لأن الحكم مصبوغ بالعاطفة المتحيزة، ولا شك أننا نتحيز للقديم ونُجِل الماضي،
ونحن
جميعًا مؤمنون بالفطرة محافظون بالفطرة.
ونحن لا نزال نفكر بعقلية القرون الوسطى من حيث الخطيئة والعقاب والثواب ومن حيث
الاستسلام المطلق لما تمليه هذه العقلية، ومن حيث إننا لا نجد مخرجًا ولا خلاصًا دون
هذه
الطرق.
على أن العقل الذي ندعو إليه هو العقل العملي التجريبي العلمي الاقتصادي؛ أي العقل
الذي
يعلم أن مهمته هي الاتجاه نحو عالم جديد وأن عليه أن يواجه مشاكل العالم علمًا واقتصادًا،
وأنه إذا لم يفلح في هذا الاتجاه فإنه لا شك يصل إلى النهاية التي رسمها الأستاذ «منيكن»
في
كتابه «العقل البشري»؛ فقد رسم لنا صورة عملية جميلة، بين فيها أن الإنسان عليه أن يواجه
موقفًا دائم التغيير situation، فإن أفلح في الموازنة فقد
أفلح في الحياة وسعد، وإذا لم يفلح فإما يحطم الموقف أو يمزقه أو يحطم نفسه أو يمزقها،
وإذا
لم يستطع التحطيم أو التمزيق فإنه يهرب، وإذا لم يستطع هذا ولا ذاك فإنه ينكر الفشل ويوجه
جهوده إلى عمل فني يستر به فشله، ويداري به عجزه عن مواجهة الحياة العملية، من الطراز
الأخير أكثر الفنانين والكتاب والشعراء.