رسالة النقد
نتساءل أولًا: هل لدينا نقد أدبي؟ يكاد يكون الإجماع: لا. وحتى الذين يحررون هذا النقد في الصحف هم أول من يعترفون بأنه لا يدخل في باب النقد ولا ينتمي إليه بصلة.
ماذا نسمي هذا العبث إذن؟
الأول: الذوق الأدبي، والثاني: فهم دقيق للعملية الأدبية، وكيف تجري في أعماق الخاطر مبدأ ونضجًا ونهاية، وقد يكون هذا القاضي قد قرأ آراء القراء والشراح الذين سبقوه، ولكنه لا يتقيد كل التقيد بآرائهم ومعتقداتهم؛ لأنه يعيش في القرن العشرين ولأن النقد في هذا الجيل لا يجب أن يسير على غرار المناهج القديمة، ذلك لأن النقد المصاحب للوعي الإنساني، مساير لتطور العقلية البشرية مُمَاشٍ حتى للمعتقدات الدينية، فمن هذا يبني القاضي الحديث أحكامه على عقلية العصر منتبهًا إلى ما يلائم ذوقه وتفكيره متخلصًا من قيود القِدَم متخطيًا أسرار التقاليد البالية.
هذا القاضي موجود ولكنه قليل ونادر، وهو يؤثر أن يستقر بأفكاره وأحكامه مفضلًا عزلته على الاندماج في هذا الصخب الصحفي الذي أساء إلى النقد ونزل به من حالق، ولقد دعاني للمحاضرة عن موضوع النقد أنني قد عدت إلى الكتب الحديثة في النقد — رجعت إلى «أبر كرومي وريتشاردز ومري وروبرت ليند»، وكانت عودتي بالذات لاقتناعي بأننا في زمن جديد يحتاج لوعي جديد وبالأصح زمن جديد، ذي وعي جديد، يحتاج لطراز من النقد جديد، فما يكفي أن يقال، ولو كان هذا أحسن ما يقال: إن العملية الأدبية هي تجربة شعورية تندمج في اللاشعور، وقد تدخل مفصلة الأجزاء لتلتئم في الداخل، ويضفي عليها ضباب اللاشعور وأحلامه وتدرجاته وإمكانياته ثم تنتهي إلى إفضاء.
فنحن إذن في مزيج من الثورة والسخرية وعدم الرضا، وبين هذه الانفعالات المتضاربة لا نعرف أين نقف بالضبط، ولا ندري لنا طريقًا خلال ضباب المستقبل، ونحن في هذه الحيرة نتساءل هل أفادتنا مجهودات المؤلفين الممتازين أمثال «السحرتي» و«مندور» و«الشايب» و«سيد قطب»؟ لا أعتقد أنها أعطتنا فرصًا للمقارنة وأعطتنا فرصًا للفهم والتحليل، ولكننا لم نزل بعد في ظلماتنا؛ لأن هذه المناهج المضطربة بين الكلاسيكية والرومانتيكية لا تؤدي إلى خطوط ثابتة يمكن السير وراءها، وليت اضطرابها فقط في التردد بين هذين المذهبين؛ الموضوعية والذاتية، بين المنطق والعاطفة، بين اللفظ والمعنى.
إلى آخر ما هنالك من هذه الدروس الملتوية بلا انتهاء ولا غاية.
ولقد يلتفت الباحث نحو الماضي فيجد عهدًا من العهود، عهدً قديمًا في الواقع كان النقد فيه مبنيًا على الفطرة، ولكنه على كل حال كان سليمًا ومعقولًا ومحترمًا، وكانت هذه الفطرة تشبه الإيمان الديني في الاقتناع والقوة، ولذلك جرى النقاد المحدثون على مذهب جديد، هو أن يقارنوا عندما يستعرضون تطور المجتمع، بين تطور الوعي وتطور الاعتقاد الديني، ففي العصر الذي تشير إليه كان الإنسان يستمد وعيه كما يستمد قواه الدينية من مصدر خارجي، وكان هذا المصدر الخارجي من القوة والسلطان والإقناع بحيث يجعل الوعي الأدبي والوعي الديني متماسكين في ظل النظم والقوانين والتقاليد التي شرعها ذلك المصدر الخارجي، لم يكن هناك انقسام في الوحدة النفسية، لم يكن هناك عقل وعاطفة، بل هناك عقل محض تختبئ في ظله العاطفة وتستدفئ الروح، وكان هذا العقل يستمد جبروته من عقل شامل محيط يملي ولا يناقش، في حماية هذا العقل كان النظام موطدًا والاستقرار سائدًا والدروب مشتركة والمسالك موحدة.
أما في الأدب فمعناه خلع سلطان الكلاسيكية ومبايعة الرومانتيكية في الأدب.
ولكننا في الحق يجب أن نقف موقفًا جديدًا إذا أردنا أن نخلق عالمًا جديدًا، يجب أن نقف موقفًا متفائلًا بدل هذا الموقف المتشائم القاتم، وأول خطوة لذلك أن نعترف أن التساؤل هو مدخل النقد.
وعلينا أن نذكر دائمًا ما قاله «ماتيو أرتولد» في هذا الباب، وهو بالحرف: «النقد هو ما يخلق موقفًا ذهنيًّا، تستفيد منه القوى الخالقة.» وعنى ذلك أن الفن يبلور القيم الإنسانية، أما النقد فيجلو هذه القيم المتبلورة للأنظار.
وخطوة أخرى في سبيل تفهم موقفنا الحاضر هو أن لا نجزع من تنوع واختلاط المقاييس، ويجب أن لا نفزع من سيل الفوضى الذي يغمرنا، فإن الحقيقة الكبرى أن لكل سيل اتجاهَه ولكل انتقال هدفه، وإن هذا التنويع في الاتجاهات والمذاهب، يحمل — على رغمه — خطوطًا رئيسية، فإذا فهم الناقد هذه الاتجاهات فعليه أن يكون محصنًا ضد التأثرات العابرة، أعني أن يكون محيطًا بميول نفسه وميول جيله، وملمًّا بالميول والاتجاهات الإنسانية الماضية ومستعدًّا للمقارنة واستخلاص القيم الثابتة، وأزيد ذلك شرحًا أن على الناقد أن تكون وظيفته «كاتب حسابات الفن»؛ عليه أن يدون الحسابات، ويرصد الدخل والخرج ويعين الرصيد، ويمحو من العملة القديمة ليبدلها بعملة جديدة، فهو من ثَمَّ يكون حافظ التراث، حافظ التراث القومي والتراث الإنساني، فإن لم يكن هناك تراث فعليه خلق تراث، هذه وظيفة هامة جدًّا للناقد، وهو في أثناء عمله هذا يجب أن يدرك أننا لم نعد في عصر يؤمن بقيم مطلقة لا تناقش، فإن القيم المطلقة مستحيلة، وإنما الذي نبغيه هو الاختلاف في ظل وحدة قابلة للنمو والتحسين.
ولما كانت الفلسفة والفن على اتفاق في أنهما يحددان ويخلقان القيم الإنسانية فإن الناقد يجب أن تكون له ذهنية الفيلسوف والفنان معًا، ولو أن «مري» و«إليوت» يعطيان الأهمية للعقل الفلسفي، ولكن كما شرحت سابقًا قد بينت علاقة النقد بالفن، وفي الواقع يهمني أن أجد الناقد فنانًا ذا نشاط ذهني قوي، على الناقد إذن أن يكون له عقل فيلسوف وإحساس فنان، وهنا نقف على عتبة الموضوع الكبير، عقل أم عاطفة؟ موضوعية أو ذاتية؟ معنى أم لفظ؟ كلاسيكية أم رومانتيكية؟ إنه مهما تعددت المذاهب وانقسمت لا تنقسم أكثر من مذهبين؛ الكلاسيكية والرومانتيكية، فتصور تحرر الروح والتمرد على الأوضاع والانطلاق الشعوري التام، ففي الأولى الاستقرار في ظل النظام، والثانية في ظل فوضى لذيذة، وإذا استعرضنا العمل الفني على الأجيال خُيِّل لنا أن هناك جهدًا موصولًا للخلاص من الكلاسيكية، ولكن هذا غير حقيقي؛ فإن كل جيل يخيل له أن الجيل الذي سبق مُثْقَلٌ بالقيود، فعليه الخلاص من قيوده، وهو في الواقع لا يمكنه أن يحطم تلك القيود؛ لأنها قيود أصبحت جزءًا من الهيكل الأدبي والاجتماعي يود الذي يسكنه — وهو لا يدري — أن يخلق متنفسًا من الهواء الطلق في أبهاء قصر عابس الحجرات متجهم المعالم، ولكنه قصر يقف رمزًا للمجد ولا يزال أثره باقيًا وسيظل.
فما هي القيمة التي يتوخاها الناقد الحديث — ناقد المستقبل — في العمل الأدبي؟ يجب أن يحاول الناقد وضع العمل الأدبي في مكانه من القيم الإنسانية الثابتة، بعبارة أخرى: يتعدى الخصوص للعموم، وهو لن يصل إلى هذه النتيجة إلا إذا اعتبر النقد وعيًا للحياة الإنسانية.
قال «تشيكوف» لأحد أصدقائه الذين يكتبون من برج عاجي: «تعال، اختلط، استغرق في الزحام، تنفس أدبًا، لكي تعرف أن تنقد أدبًا!»
فقيمة العمل الأدبي أو الفني هو القيمة التي نسجلها في درج الحياة الإنسانية، فإذا فهمنا ذلك ذهبنا إلى صورة العمل الأدبي، العمل الأدبي غرفة ذات بابين: باب يطل على الحياة، وباب يوصل إلى الحياة.
من الأول نستمد تجربتنا الشعورية، ومن الثاني نوصلها للناس.
أما الغرفة الداخلية ففيها الفكرة والعاطفة واللفظ والمعنى والصورة والظلال، والموسيقى والانسجام والإيقاع؛ أي إنها «المطبخ» التي تُطهى فيه التجربة لتخرج ناضجة.
وأهم ما في التجربة قيمتها الإنسانية، وأهم ما في المطبخ الانسجام والتوازن والسبك، وأهم ما في الباب الخارجي سهولة التوصيل ويسر التفاهم، وكيفية الإقناع والتأثير، وبث الإحساس بالقيم التي أوحت بها إلينا التجربة، وكشف مواضع الجمال والأهمية في الحياة والوجود، وقد يكون للشعر طبخ غير النثر، وللنثر طبخ غير الغناء أو الموسيقى، ولكنها في اختلاف النسب والمقادير بينما تبقى الأصول على حالها من حيث التوازن والانسجام.
فالعمل الفني يجب أن يحدد في عين الناقد بمقدار الشعور الإنساني المنبت فيه، والتوازن الجاري بين المتناقضات من عقل وعاطفة وفكرة ومعنى.
وأخيرًا، هل أفاد هذا العمل اتصالًا؟ فما قيمته وما أثره في الأدب الحاضر والمجتمع الحاضر؟ وما قيمته وأثره بالنسبة للتراث الأدبي العام، هذا هو نقد المستقبل أو مستقبل النقد والسلام.