رسالة السياسة
إن اعتبار السلوك السياسي على أنه مسألة عقل وتدبير قد أصبح على ضوء علم النفس الحديث اعتبارًا عتيقًا، وبعد قليل سيصير خرافة. فقد ثبت أن السلوك السياسي أبعد وأعمق من أن يكون مجرد عقل أو دهاء. وأقصد بالسلوك السياسي: ذلك السلوك الذي يساس به الناس بواسطة الحكام أو الساسة، ومصدر هذا التغير في الاعتبار هو بروز مسألة «الغريزة» والعودة إلى التحدث بشأنها في علم النفس الاجتماعي، وفي السلوك الاجتماعي على الإطلاق بشكل يدعو إلى التأمل العميق. لا ندعي من ذلك أن علم النفس ذلك العلم الذي لا يزال ناشئًا، يمكن أن يطبق تطبيقًا عامًّا في كل مسألة، أو أنه يمكن تطبيقه جزافًا.
على أننا إذا لم ننتظر منه فائدة مباشرة، فإنه مما لا جدال فيه أن الميدان الأخير هو له في غير جدال، ولقد ذكر «ريفرز» في كتابه الأخير عن السيكولوجية والسياسة أنه كان يضع برنامج المحاضرات والامتحانات في الجامعة مدة ٨ سنوات متتابعة في المدة الأخيرة، وأثار العجب في نفسه أنه في هذه السنوات كلها لم يذكر كلمة الغريزة، وها هو قد عاد إليها بحماس وقوة، ليقيم دعائم السلام عليها، وعلى ما تبين له من دراستها، على أنه ينكر المقارنة بين العقل والغريزة، ويقول: إن هذا عبث، ويعتبر العقل غريزة متطورة، وينكر نسبة السلوك إلى العقل، ويُعَرِّف الغريزة تعريفًا جديدًا ألا وهو: «أن الغريزة اتجاه موروث نحو السلوك»، ويقول: إن من صفات الغريزة عموميتها، وكثيرًا ما ننخدع بشكل من أشكال الغريزة، اتخذ زيًّا جديدًا على الأيام، وأخذ يبدو كأنه لون من ألوان العقل والذكاء، فإذا أخذنا نحقق وجدنا أنه غريزة تشكلت من جديد بحسب ظروف جديدة، وأهم هذه الظروف الكبت أو الاستعلاء، ثم يعود فيقول: إن العقل في نظره عبارة عن «لجام» يمسك بالغريزة، ويكبح جماحها ويقودها وفي يده عنانها، ويؤكد كذلك أن هذا المُوَجِّهَ لا يوجه نفسه، وإنما يوجه «النواحي العاطفية للغريزة»، على أن النقطة التي نريد أن نبدأ بها هي هذه: هل يمكن الاعتماد على علم النفس الاجتماعي فقط ليقود خطانا إلى ما نرجوه من السلامة؟
ومثل آخر هو مثل الساعة ذلك هو حق المرأة السياسي، إننا لغاية اليوم نتعلل في حرمانها من هذه الحقوق بما نعرفه من سيكولوجيتها، فنحن نقول: إن مخها أقل من مخ الرجل، وبذلك يكون ذكاؤها أقل، وإن قوة احتمالها أقل، وإن عاطفتها جامحة، وإن تكوينها يعدها فقط للأمومة، وإن … وإن …
ولكن بقيت مسألة هامة أن السلوك الإنساني والسياسي ما هو غير غريزي وما هو بلا شك جزء من الميراث الاجتماعي، وهذا السلوك مبني على أسباب غير جلية، ولكن أثرها لا يمكن إنكاره، فمن ثم يتضح لنا أن سلوك المرأة السياسي يجب أن يُوضَعَ موضع التجربة على الأقل، بمعنى آخر يجب أن نتبين سلوكها في الانتخابات، والدعاية ووسائلها في البرلمان، وفي الإدارة وفي غير ذلك، من يدري؟ ربما كان في سلوكها السياسي ما يلقي بدوره ضوءًا جديدًا على طبيعة ذلك السلوك، وربما كان فيه ما يصحح لنا أخطاءًا سيكولوجية أوقعنا فيها جهلنا وعجزنا عن المغامرة والتجربة.
وثَمَّ مسألةٌ أخرى غاية في الأهمية، وهي أن الإدارة السياسية تجري بواسطة اللجان، واللجان حسب ما نعرف قسمان؛ استشاري وتنفيذي، والقسم الأول ناجح غالبًا، والثاني فاشل في معظم الحالات، وقد أخذ علم النفس يبحث في أسباب الفشل السياسي؛ أي يبحث في أسباب فشل الهيئة التنفيذية للمشروعات غالبًا ما تقع في أيدي قوم له خاصية سيكولوجية «الدفاع النفسي» وهي سيكولوجية قائمة على مركب النقص، ومركب النقص يدعو إلى «التهويش» وهذا التهويش هو دفاع عما تحته من العجز الحقيقي والقصور، فابتدعت في أمريكا طريقة تدعى طريقة الشريط الأحمر، وهي طريقة آلية يمشي فيها التفنيد من خطوة إلى خطوة حتى تنتهي الخطوات بلا تردد ولا تلكؤ، ولكن هذه الطريقة فشلت في السلم وإن نجحت في الحرب، فشلت في السلم لأن حالة السلم تقتضي المرونة والكياسة وإدراك الطبيعة الآدمية التي تتطلب الأيدي المرنة الذكية لتسيير دفة أمورها.
من هذا يتضح لنا أننا لا نزال في أول الطريق، على أن الطريق واضح مهما بدا للعين من أحجار وعقبات.
فإذا عدنا إلى ما بدأنا به الكلام من أن كل سلوك في الوجود هو غريزي أصلًا، متجاهلين — بعض الوقت — مبدأ «ولاس» ألا وهو السلوك الغير الغريزي؛ أي الميراث الاجتماعي، فإننا ننظر في التعريف: «الغريزة هي اتجاه موروث نحو سلوك خاص»، فنجده يؤكد شيئين؛ الوراثة والسلوك، ويمكن مقارنة هذا التعريف بتعريف آخر يقرب منه ولا يقل عنه فائدة، ألا وهو أن الغريزة «عادة اجتماعية».
هذا التعريف وسابقه جديدان جدًّا، وقد محيا إلى الأبد التعريف القديم الذي ألفناه وهو أن الغريزة «دافع حيوي» أو فعل «منعكس» … إلخ.
ولقد تحدث «جوستاف لوبون» وغيره عن هذا العقل الاجتماعي مدللين على وجوده بحالات خاصة تحدث في الحرب والفزع والنكبات، فإن الناس يتصرفون تصرفًا جديدًا ويمشون على نسق غير مألوف، ولكن المحققين في علم النفس الحديث يقولون: إن ما يحدث ليس إلا استيقاظ غريزة «القطيع» التي هدأت في الطبيعة البشرية، وأخمدت جذوتها عوامل كثيرة أهمها الكتب والاستعلاء.
ولقد جر هذا البحث مشكلتين من أهم المشاكل يرتكز بحثهما على الغريزة من جديد، وينتهي التحقيق منهما إلى رأي قاطع من حيث استطاعة البشر أن يرجعوا إلى حالة اشتراكية طبيعية أو لا يرجعوا.
إن للاشتراكية معنيين؛ الأول: انمحاء طبيعة المِلك الفردي، واعتبار أن كل ما يملكه الإنسان يمكن أن يكون مِلكًا لغيره.
الثاني: أن يعتبر الإنسان نفسه مساويًا للآخرين، وأنه خادم للمجموع وحجر في البناء العام.
والأول والثاني صفتان من صفات القطيع الآدمي.
فإذا اطمأن الإنسان إلى أن للغريزة صفة العموم وأن هذه الصفة لا تموت اطمأن إلى أن غريزة القطيع باقية في الأعماق تعمل عملها وإن تغيرت المظاهر والأزياء، ولقد ذكر «ريفرز» بمناسبة غريزة الملك أنه تحدث مع أحد أفراد القبائل الأبوزنجية عن أحواله العامة ففهم منه أن ما يصيده ويكسبه هو ملك للجميع، ولما عرف ذلك الإنسان البدائي أن «ريفرز» يقتصد لنفسه ويودع في البنك … إلخ. أخذ يقهقه ساخرًا. ما من جدال في أنه فوق صفة العموم في الغريزة فإن لها صفة أخرى أشد أهمية ألا وهي قدرتها على المرونة والتكييف، ولقد عارض «ريفرز» ما قرره «والاس» عن الميراث الاجتماعي، وصرح في جرأة أن الوراثة تشمل من ناحية الغريزة ما هو مكتسب وما هو غير مكتسب، وهذا مبدأ خطير جدًّا وحديث جدًّا، لقد بالغ فيه علماء الروس وقالوا: إننا نرث من آبائنا حتى المهارة اليدوية، ولكن المهم أن الغريزة تتهذب وتترقى، ونحن نرثها برقيها وتهذيبها، وعاد «ريفرز» يضرب مثلًا على ما جرى لغريزة القطيع، فأخذ أولًا يدلل على وجودها بشكل قاطع كأساس في طبيعة العقل البشري السليم، فإن العقل إذا اختل كان أول مظاهر اختلاله الخروج على نظام القطيع والثورة على التقاليد المعروفة.
ثم عاد يقارن بين القطيع الآدمي من قديم، والقطيع الآدمي الحديث ليرسي علم الحكم على قواعد لا تنهار.
فهو يقسم القطيع إلى قيادي ولا قيادي والأخير شائع جدًّا في الحيوانات؛ فهناك من القطعان ما يسير في جماعات لا رئيس لها، ولكنها تعيش وتنمو وتتكاثر وتدافع عن نفسها وتهاجم على سياق جيد رائع.
فقد يحدث أن يبدو في القطيع المتشابه فرد متميز، فيتبعه الباقون، وينتقل التعاطف والتقليد والبصيرة إلى ذلك الفرد، ولكن التعاطف يصير إعجابًا، والتقليد يصير طاعة، والبصيرة تصير إدراكًا واعيًا، ولكنها مهما تنوعت مظاهرها فإنها إيحاء. ولما كان الإيحاء مصدره العقل الباطن فقد استنتج الباحثون أن هذه الخاصية الأصيلة في القطيع، والتي تجعله يؤدي أعماله تأدية آلية سليمة في صمت وهدوء، يمكن استغلالها بين الشعوب، وفي ذلك تنحية للنزاع الذي لا ينتهي بين الحاكم والمحكوم، وقد أخذ المحققون كذلك يبحثون في تأثير «الكلمات» في الشعوب فانتهوا إلى أن الشخصية هي التي توحي لا الكلمة.
•••
إذا كان علم النفس قد وصل إلى هذا الحد من البحث، مرجعًا البحث في السلوك إلى الغريزة والغريزة وحدها، بل الغريزة الأصيلة، فما المانع من تتبع الدوافع التي تؤثر فيها وتغير مظهرها، ألا يجوز أن المجتمع يمرض كما يمرض الفرد سواء بسواء، ما دمنا قد قررنا مبدئيًّا محو الفرق بينهما، إن الفرد يمرض جسميًّا ويمرض نفسيًّا، والمرض النفسي أهم ما فيه الكبت، فهل الشعوب تكبت؟ أجل، تكبت. والساسة في هذا والأطباء سواء بسواء، أكثرهم يعالجون مظاهر الكبت ولا يلتمسون علله الدفينة، وأكثرهم يصفون ملطفات بدل التقصي للأسباب الحقيقية، وهناك مرضى يهربون من الحقيقة وأطباء يسيئون التشخيص لأنهم لا يريدون مواجهة الحقيقة.
ها أنتم سادتي ترون فائدة هذا البحث الجليل فأرجوكم أن تتبعوا الجديد في علم النفس الاجتماعي، والسلام.