عناصر النقل
- (١)
الطريق.
- (٢)
وحدة الحمولة.
- (٣)
القوة المحرِّكة.
- (٤) نهايات الطرق Termini.
(١) الطريق
(١-١) الطريق الطبيعي
ينقسم الطريق إلى قسمين رئيسيين: الطريق الطبيعي والطريق الصناعي، والطريق الطبيعي هو أرخص الطرق؛ لأنه مهيأ بواسطة القوى الطبيعية بدون أية استثمارات من أجل إنشائه. كما أنه لا يحتاج إلى نفقات لصيانته والإبقاء عليه، إلا في أضيق الحدود، وبهذه المواصفات فإن الطريق الطبيعي هو أحد هذه الطرق الثلاثة: الجو – البحر – النهر.
وفي مجال المقارنة بين هذه الطرق الثلاثة نجد أن الطريقين الجوي والبحري كانا أفضل من الطريق النهري في استخدامهما من أجل النقل، وذلك من حيث سهولة المرور فيهما دون احتياج إلى أية تعديلات على الإطلاق. أما الطريق النهري فبالرغم من أنه طريق طبيعي في أساسه، إلا أننا نجده في أحيان كثيرة يحتاج إلى نفقات عالية لتعديله، من حيث إجراء توسيعات في العرض أو تعميق المجرى أو تجنُّب انحناءات كثيرة بشَقِّ مجارٍ مستقيمة، كما أنه يحتاج أيضًا إلى حفر قنوات مختلفة لربط الطريق النهري بطريق نهري آخر، أو مد هذه المواصلة المائية إلى منطقة تحتاج إليها ولا توجد بها وسيلة نقل مائي طبيعية، ويؤدي ذلك إلى جعل الطريق النهري الطبيعي متعدد الاتجاهات في صورة شبكة مواصلات نهرية رخيصة، بدلًا من تحدد النقل في الاتجاه الطبيعي لمسار النهر. وعلى أية حال فإن هناك أنهارًا كثيرة تُستغل للنقل على طبيعتها دون مثل هذه التعديلات المكلفة.
ولكن الطرق الطبيعية عامة برغم حرية استخدامها بأدنى الإنفاقات إلا أنها خاضعة تمامًا لسلطان الظروف الطبيعية.
فالطريق الجوي — برغم انفتاحه الحر — خاضع تمامًا للتقلبات الجوية العنيفة، ومن ثم فإن الطيران السليم يحتاج إلى مساعدة هامة تتمثل في محطات الأرصاد المختلفة التي تعطي الطائرة تنبؤات الجو الفورية، وتدعوها إلى تعديل مسارها إلى أعلى أو أسفل، أو تدعوها إلى عدم المخاطرة والاتجاه إلى ميناء جوي آخر. كما أن نُظُم الضغط الجوي عامة كانت تحدد مسارات معينة للطيران، ولو أن الطائرات الحديثة التي تطير على ارتفاعات عالية قد استطاعت تجنُّب الكثير من نقاط الضعف القديمة.
والطريق النهري، برغم الأمان الذي يحيط به من حيث اقتراب الضفاف النهرية، وإمكان النجاة بسرعة، إلا أنه يتعرض هو الآخر لسلطان الطبيعة، كالفيضانات العالية أو التذبذب الموسمي لمستوى ماء النهر، أو الإطماء نتيجة لكميات الطمي التي تجلبها الفيضانات المدمرة؛ مما يحتاج إلى تعديلات مستمرة في الأرصفة النهرية.
(١-٢) الطريق الصناعي
أما الطريق الصناعي فيشمل كل الطرق التي يصنعها الإنسان على سطح الأرض، سواء كانت طرقًا برية أو حديدية أو قنوات أو الأنفاق والجسور أو الطرق المعلقة، ويضاف إلى ذلك كل وسائل النقل الخاصة الأخرى؛ مثل شبكات التيار الكهربائي، وكابلات المواصلات السلكية وأنابيب المياه والغاز والبترول.
ولا شك أن هذه الطرق الصناعية تحتاج إلى استثمارات كبيرة عند إنشائها، وإن كان عائدها الاقتصادي يغطي هذه التكاليف مرات عديدة. كما أن مثل هذه الطرق تحتاج إلى صيانة دائمة، وتعديلات مستمرة، خاصة فيما يتصل بحجم استيعابها لكثافة النقل الذي يتزايد في الوقت الحاضر بدرجة كبيرة بفضل التشابك العالمي التجاري الراهن.
وبرغم التأكيد على أن هذه الطائفة من الطرق اصطناعية، إلا أن لا يجب أن ننسى أن بعض هذه الطرق — وخاصة الطرق القديمة مثل الطرق الرومانية أو طرق الممالك القديمة، والطرق الجبلية عامة — تخضع في اتجاهها وانحناءاتها لما نعرفه باسم «مدقات الحيوان»؛ أي الطريق الذي سلكه الحيوان باستمرار؛ مما أدى إلى تكوين خط مستمر عارٍ من النبات أو ممهد تمهيدًا معقولًا بفعل أقدام الحيوان التي طرقته ملايين الملايين من المرات. مثل هذه «الطرق» كانت الرائد الأصلي في توغل الإنسان خارج مناطق معرفته إلى المناطق المجهولة، وهي في الوقت نفسه طرق آمنة لأنها لا شك تؤدي إلى مصادر مياه الشرب التي يعيش عليها الحيوان والإنسان.
وفي المناطق الجبلية تقود «مدقات» الحيوانات الجبلية — أنواع من الماعز والتياتل والغزال — إلى الممرات التي تخترق السلاسل الجبلية، وبذلك وفَّرت هذه المدقات على الإنسان التعرف على طبوغرافية الجبال أثناء ترحاله عبرها. ونظرًا لأن هذه المدقات طرق يومية للحيوان — أي ليست طرق الجري والهرب من الحيوان المفترس — فإنها يمكن أن توصف بأنها تتبع الانحدارات اليسيرة في الجبال وتتجنب الانحدارات الشديدة؛ ومن ثم فهي تتلوى كثيرًا لكي تصل إلى الممرات العليا بأقل الجهد، وهذا هو ما فعله الإنسان، وما يفعله إلى الآن برغم تقدم معارفه التكنية الحالية؛ فهو يلتزم قدر المستطاع بالطرق الذلولة ويتجنب الطرق الشاقة، إلا لأغراض أخرى دفاعية أو من أجل التهريب.
وفي إثر مدقات الحيوان في السهل والجبل جاءت قوافل الناس: مشيًا على الأقدام أو ركوبًا في عربات الحيوان، وفي أعقابهما جاءت الطرق الحديدية والبرية الحديثة.
لكن ما تسلَّح به الإنسان المعاصر من مبتكرات وفنون قد جعلته في الفترة الأخيرة — منذ حوالي الثلث الثاني من هذا القرن — يبتعد بعض الشيء عن هذه الطرق شبه الطبيعية، ويحاول تقصير المسافات بتجنب الدوران الطويل في المناطق الجبلية، وذلك بشق الطرق المعروفة حاليًّا باسم «سربنتينا»؛ أي التلوي السريع كما يتلوى الثعبان، ولم يكن في استطاعته ذلك لولا التقدم الذي تحقق في قوة محرِّكات السيارات والقاطرات.
وفيما يختص بحفر القنوات الملاحية نجد أن الإنسان قد التزم إلى حد كبير بالظروف الطبيعية وببعض المجاري القديمة المهجورة، أو المجاري النهرية الصغيرة، ولكنه في بعض الحالات يضطر إلى تشييد الأهوسة لرفع مناسيب المياه — مؤقتًا — إلى خطوط ارتفاع أعلى لتمرير الملاحة.
وهذه الطرق الصناعية، برغم أن الإنسان اصطنعها إلا أنها بحكم وجودها في المحيط الطبيعي للكرة الأرضية — مثبتة على الأرض، ومعرَّضة للمناخ — تتأثر هي الأخرى بسلطان الظروف الطبيعية.
فإن الهزات الأرضية والتشققات التي تحدث من آنٍ لآخر — في أماكن محدودة الامتداد — تؤدي إلى أضرار كبيرة تصيب الطرق البرية والحديدية والمعلَّقة، وكافة وسائل النقل الخاصة الأخرى من أسلاك وأنابيب. ومثل هذه المخاطر تتحدد بأماكن العالم الداخلة ضمن نطاق الزلازل والبراكين حول المحيط الباسيفيكي، وفيما بين الألب، عبر الأناضول والقوقاز وإيران والهملايا والتبت إلى إندونيسيا.
وتتعرض الطرق للعوامل المناخية بحيث تؤثر على مسارات النقل المنتظم بصورة واضحة في كثير من مناطق العالم؛ فالعواصف الثلجية التي تهب في المناطق الشمالية والعواصف الراعدة والانهيارات الجليدية في جبال العروض الوسطى والعواصف الرملية في الأقاليم الجافة، والأمطار الموسمية في العروض الدنيا، كلها مسببات لتعثُّر النقل في بعض الفترات، ويضاف إلى ذلك الفيضانات المفاجئة المدمرة، أو السيول الفجائية في المناطق الجافة، التي تخرب شبكة النقل وتمسح الطرق وتزيل الجسور وقضبان الخطوط الحديدية.
- (١)
طرق موسمية تعمل عليها وسائل النقل في موسم الصحو المناخي، وتتوقف عنها حركة النقل خلال الموسم المعادي.
- (٢) طرق كل الأجواء All-Weather Roads التي تُبنى بغرض استخدامها خلال كل المواسم الرديئة والجيدة على السواء. وتختلف طرق كل الأجواء من إقليم جغرافي إلى آخر وتحدد مواصفاتها حسب نوع وكم العداء المناخي الذي يواجه النقل.
ففي المناطق المدارية — حيث العنصر المناخي المُعادي هو المطر الموسمي — تتجه مواصفات الطريق إلى الطرق المرصوفة جيدًا (دكة مكدامية وطبقة أسفلتية سميكة)؛ لتجنُّب تحويل الطريق إلى الطين السميك الذي يعوق الحركة خلال موسم سقوط المطر.
وفي المناطق الجافة يتجنب مهندسو الطرق أن يزول طرق كل الأجواء بواسطة السيول الفجائية، فيلجئون إلى حفر أنفاق فارغة من الأسمنت تحت الطريق لكي يمكن لمياه السيول أن تمر خلالها، وبهذا يمكن اصطياد المياه المتدفقة تحت الطريق دون أن يُمسَّ بضرر، ولكن طرق كل الأجواء في النطاق الجاف تتعرض حتى الآن لعنصر طبيعي معادٍ لم يمكن التغلب عليه حتى الآن؛ ذلك هو الكثبان المتحركة. وتتحرك هذه الكثبان ببطء ولكنها تجثم على الطريق فتقطعه، وكل ما يحدث الآن هو إنشاء طريق آخر في منطقة الكثيب الجاثم سيكون مآله الردم هو الآخر بعد بضع سنوات. ويمكن تثبيت الكثبان المتحركة في المناطق الممطرة، ولكن مشكلة المناطق الجافة هي ندرة المياه، كذلك يمكن توقيف حركتها بواسطة تثبيت سطح الكثيب بالأسفلت، وهي عملية مكلفة ونتائجها غير معروفة، ويمكن إيقاف الكثيب نسبيًّا بواسطة مصدات من الشجر وأسوار البوص والغاب.
وخلاصة القول أن الكثبان ما زالت قوى فوق مستوى القهر الإنساني من الناحية العلمية.
وفي المناطق الباردة تُفتَح طرق كل الأجواء على مدار السنة بواسطة إقامة معسكرات صيانة مستمرة لإخلاء الطريق من الثلوج والجليد المتراكم، وهي عملية مكلفة لكنها في حدود الإمكانية العملية طالما أن للطريق أهمية اقتصادية. أما الطرق ذات الأهمية المحدودة فتُترك تحت غطائها الجليدي إلى أن يذوب الجليد في الربيع.
(٢) وحدة الحمولة
إن تطور وسائل النقل على النحو الذي ذكرناه من قبلُ، قد أدى إلى إحداث تعديلات كثيرة، ليس فقط في الوسيلة والطاقة المحرِّكة والسرعة، ولكن أيضًا في كمية البضائع المنقولة، ونوعية وحدة الحمولة ودرجة عموميتها أو تخصصها في نقل سلع بعينها.
وأول وحدات الحمولة تاريخيًّا هو الإنسان، تلاه الحيوان، ثم العربة على اختلاف أشكال قوة الجر أو الدفع المختلفة حتى يومنا هذا.
(٢-١) الإنسان كوحدة حمولة
يكون الإنسان أول وحدات الحمولة المعروفة. وما زال كذلك في ظروف طبيعية خاصة برغم التطور الهائل الذي حدث في النقل؛ ففي المناطق الجبلية الوعرة وفي الغابات الاستوائية الكثيفة، ما زالت الحمولة تُنقل أساسًا على رأس الإنسان، أو هو يجرها خلفه أو يدفعها أمامه. وقد اخترع الإنسان أشياء كثيرة تساعده على زيادة ما يحمله أو ينقله، وأهمها الأربطة والحبال والأحزمة التي يثبِّتها عند جبهته أو على كتفه لإحكام التحكم ولزيادة حجم أو وزن المنقول، كما اخترع أيضًا أوعية من مواد مختلفة يشترط أن تكون خفيفة مثل سلال البوص والغاب، وسلال من جدائل نباتية في صورة الشبكة، وأوعية مختلفة فخارية أو من أنواع مختلفة من النسيج أو خشبية أو جلدية أو من الورق المقوى (كرتون). وكذلك استخدام ألواح من الخشب تثبَّت على الكتفين تتدلى من طرفيها الحمولة كما هي أو موضوعة داخل أوعية أخرى، أو ألواح من الخشب توضع فوق الرأس لتوسيع مسطح الحمولة، أو أواني معدنية خفيفة (غالبًا من الصفيح).
وكل هذه الأشياء ما زالت تُستخدم حتى الآن في كثير من مناطق العالم المتقدم أو المتخلف على السواء؛ ففي المدن يحمل الناس حقائب جلدية أو شبكية أو من القماش لمختلف أغراض الحمل من السوق إلى المسكن، وفي الأحياء الفقيرة من المدن النامية على وجه الخصوص، لا يزال هناك حمالون بالأجر، وفي محطات السكك الحديدية ومواقف السيارات العامة يوجد أيضًا حمالون (وإن كان بعضهم يستخدم عربات خاصة يدفعها أمامه، وفي الدول المتقدمة أصبحت هناك «موتورات» صغيرة تجر أعدادًا كبيرة من العربات المحملة بالبضائع، وكذلك في المطارات والموانئ). وهناك أشكال أخرى يصبح فيها الإنسان وحدة الحمولة، لا يمكن حصرها كلها.
وأيًّا كان الأمر فإن الإنسان كوحدة حمل له ميزة أساسية واحدة تفضُل أشكال وحدات الحمل الأخرى؛ هذه الميزة هي إمكانية الحمل والصعود في منحدرات شديدة أو على الدرج أو النزول أيضًا إلى مستويات أدنى، وإن كانت أشكال المصاعد والأوناش قد حلَّت هذه المشكلة في معظم الأحيان، إلا أننا لا نجدها متيسرة في كل مكان؛ ومن ثم فإن الإنسان هو أكثر وحدات الحمل مرونة في الحركة الرأسية؛ ومن ثم كان ذلك مبررًا لوجود أعداد كبيرة من الحمالين في نهايات خطوط المواصلات الحديثة: الموانئ والمطارات ومحطات السكك الحديدية.
وكذلك فإن الإنسان من أكثر وحدات الحمل مرونة في الحركة الأفقية؛ فهو بإمكانه أولًا الانتقال إلى داخل المخازن والمباني، وهو ما يصعب على الحيوان وآلات النقل الحديثة تحقيقه، وبإمكانه ثانيًا أن ينتقل في معظم أشكال الأراضي المختلفة من مناطق وعرة إلى مناطق مستنقعية، ووسط الأشجار والأحراش والمروج والسهول والرمال، دون أن يتقيد بوجود طريق مرسوم أو معبَّد، أو حتى مجرد «مدق» حيواني.
وإن كان الحيوان يشارك الإنسان هذه المرونة — أي الحركة دون ما طريق من أي نوع — إلا أن لكل منطقة طبيعية حيوانًا مؤهلًا لها ومتخصصًا فيها، بينما الإنسان من أي سلالة قادر على التنقل والنقل في كل الظروف الطبيعية المختلفة؛ ففي المناطق الرملية لا يسهل إلا على الجمل الحركة والنقل، وفي المناطق الوعرة نجد الحصان أو البغل هو الحيوان المتخصص، وفي السهول يمكن لكافة الحيوانات الحركة بدرجات متفاوتة، لكن في مناطق الغابات لا يسهل على الحيوانات الحركة إطلاقًا.
وفي مقابل هذه المرونة والمميزات للإنسان كوحدة حمل، فإن له مساوئ كثيرة، وأول هذه المساوئ أن طبيعة تكوين الإنسان ووقوفه على قدميه معتدل القامة، تجعل مسطح ما يمكنه أن يحمل عليه — الرأس غالبًا — مسطحًا صغيرًا، وهو برغم ما استحدثه من مبتكرات لزيادة مسطح الرأس، أو انحنائه قليلًا ليتمكن من استخدام ظهره كمسطح للعمل — وهي عملية في حد ذاتها تؤدي إلى بطء حركته وإجهاده سريعًا — إلا أن كل هذه الأشياء مرتبطة بعامل واحد هام هو أن للإنسان قدرة عضلية محدودة لا تمكِّنه أن يزيد وزن ما يحمل مهما كان ذلك على حساب السرعة، وتتفق معظم الملاحظات على أن الإنسان — مهما كان تكوينه العضلي — لا يمكنه أن يحمل وينقل أكثر من ٥٠ كيلوجرامًا كحد أقصى، ولكن المتوسط هو في حدود ٢٠ إلى ٣٠ كيلوجرامًا لكي يتمكن من قطع مسافة معقولة.
والمأخذ الثاني على استخدام الإنسان كوحدة حمل يقع في مقدار السرعة والمسافة التي يمكن أن يقطعها، وهو حامل أحماله في اليوم الواحد، وإذا كانت سرعة الإنسان العادية حوالي ٤-٥ كيلومترات في الساعة، إلا أنه لا يمكن للإنسان أن يسير أكثر من ثلاث إلى خمس ساعات متواصلة. ولا شك أن السرعة تنخفض إلى حوالي ثلاثة كيلومترات أو أقل في الساعة في حالة حمل البضائع. كما أن السير المتواصل أيضًا يقل إلى ساعتين على الأكثر تتوجب الراحة بعدها لفترة. وفي المتوسط نقول إنه إذا كان الإنسان — دون أن يحمل شيئًا — قادرًا على أن يقطع ٣٠–٥٠ كيلومترًا في اليوم الواحد، فإن الإنسان مع ما يحمله من أثقال قد لا تزيد سرعته عن ٢٥ إلى ٣٥ كيلومترًا في اليوم الواحد.
وليس وزن البضائع وحده هو العامل الحاسم، بل إن هناك اعتبارات كثيرة أخرى تساعد على تحديد ما يمكن أن يحمله الإنسان من وزن، وما يمكن أن يقطعه من مسافة، فطبيعة الأراضي التي يخترقها الإنسان عامل حاسم في هذا المضمار؛ فالأرض المضرسة الوعرة، أو الأرض ذات الانحدارات الشديدة، أو الأرض الصخرية أو الحصوية أو الرملية أو الطينية أو المستنقعية تؤدي إلى تغايرات كبيرة في سرعة الحركة، وتساعد بشدة على تحديد وزن الحمولة، ومن ثم المسافة التي يمكن قطعها في اليوم الواحد.
والظروف المناخية أيضًا لها مثل هذا الدور في تحديد مواصفات الحمل بواسطة الإنسان؛ فالمناطق ذات الحرارة المرتفعة أو ذات الشمس المبهرة، أو مناطق الحرارة والرطوبة العاليتين، أو مناطق المطر الغزير أو البرودة الشديدة، لها دورها في جعل المنطقة جافة متربة، أو مطيرة طينية، أو باردة جليدية ملساء. كما أن الارتفاعات العالية كهضبة التبت وجبال الأنديز تؤدي إلى انخفاض الضغط الجوي؛ مما يؤدي إلى صعوبة الحركة وقلة الحمولة.
هكذا تترابط عوامل عديدة، بيولوجية (القدرة العضلية للإنسان)، وبيئية (الظروف الطبيعية للأرض والظروف المناخية والنباتية)، تؤدي في مجموعها إلى تغيُّر في وزن الحمولة، ومقدار المسافة التي يمكن أن تُقطع بهذه الوسيلة من وسائل النقل.
ويضاف إلى ذلك أن قوافل الحمالين كانت دائمًا في حاجة إلى تنظيم قوي يخطط تحركها، ويواجه مكاره الطريق الطبيعية، واحتمالات التعرض للسلب والإغارة، وبذلك كانت هناك حاجة إلى عقد اتفاقات متعددة مع القبائل والإمارات التي تعبر القوافل أراضيها، مثلها في ذلك مثل قوافل التجارة اللاحقة التي استخدمت الحيوان.
وتحتاج قوافل الحمالين أيضًا إلى تنظيم الغذاء أو الحصول عليه خلال الطريق الطويل إلى جانب أشياء أخرى كثيرة. وقد بلغ الاهتمام بقوافل الحمالين أعلى مراحله في دولة الإنكا في أمريكا الجنوبية؛ فقد نصَّت شرائع الإنكا بدقة ووضوح على كمية ما يحمله الحمال والمسافة التي يقطعها يوميًّا، حمايةً لهؤلاء الحمالين من الاستغلال. ولا غرو في ذلك؛ فالتجارة في إمبراطورية الإنكا المترامية الأطراف في جبال الأنديز قد قامت على أساس قوافل الحمالين فقط، فبرغم استئناس اللاما إلا أن طرق الإنكا كانت جبلية مليئة بالدرج الذي يُبنى للصعود والهبوط المباشر دون الحاجة إلى الالتفاف مع انحدار التضاريس.
وبرغم الصعاب المتعددة التي تواجهها قوافل الحمالين، فإن هذه القوافل قد أرست قواعد التجارة في الماضي، عبر مساحات شاسعة من الأرض، فعلى سبيل المثال كان الشاي في الصين يُعبأ في صورة قوالب تُحمل في سلال على ظهور الحمالين عبر الصين كلها، وكذلك كانت هناك قوافل طويلة للحمالين من كاليفورنيا إلى جنوب أمريكا الوسطى؛ حيث كانت دولتا المايا أو الأزتك القديمتان. وإلى وقت قريب كانت هذه القوافل أساس الأرباح العالية التي جناها الاستعمار الأوروبي في أفريقيا وأمريكا الجنوبية، ونذكر على سبيل المثال أنه كان في الكمرون — خلال الحكم الألماني القصير — ١٤ ألفًا من الحمالين يشتغلون في نقل المطاط الطبيعي إلى ميناء دوالا.
وقد حل الحيوان والعربات محل الإنسان كوحدة نقل في المناطق السهلية أو المكشوفة، ولكن الإنسان ظل وحدة الحمل الرئيسية لفترة طويلة في المناطق الجبلية والغابيَّة الكثيفة، وبالرغم من انقضاء وقت طويل على استئناس الحيوان فإن النقل بواسطة الإنسان لا يزال عملية شائعة في ريف العالم المتخلف ومدنه.
(٢-٢) الحيوان كوحدة حمل
لا شك في أن استخدام الحيوان في الحمل قد تلا الإنسان كوحدة حمل بآلاف السنين، ولقد ترتب على اكتشاف الإنسان لهذه الميزة عند الحيوان أثر كبير في النقل من حيث الحمولة والسرعة. ولا شك أيضًا في أن استخدام الحيوان للنقل كان أسبق من فكرة استخدامه لجر الزحافات أو العربات.
وللحيوان في النقل مرونة مشابهة لمرونة الإنسان من حيث إنه لا يحتاج إلى طرق معينة للسير؛ ومن ثم يمكن أن ينتقل أفقيًّا في أي مكان تحدده له ظروفه المؤهلة له. في المناطق القطبية لا يمكن لغير الرَّنَّة والكلاب السير والحمل أو جر الزحافات وإن كان استخدامها في الحمل محدودًا جدًّا لظروف تكوينها الجسدي، وفي الهضاب العالية لا يمكن إلا للياك في التبت واللاما في الأنديز السير والحمل دون الجر للوعورة البالغة في هذه الهضاب. والجمل العربي أكثر الحيوانات التي يمكن أن تُستخدم للحمل في المناطق الصحراوية الأفريقية العربية ذات المسطحات المنبسطة والتضاريس السهلة نسبيًّا، بينما يسير بصعوبة في المناطق الصخرية مثل جبال تبستي وهضبة الحجاز وغيرهما من الهضاب في الصحراء الكبرى. أما الجمل البكتيري (ذو السنامين) فقد تأقلم على الصحاري الباردة والمناطق الوعرة الصخرية في وسط آسيا وهضاب إيران وأفغانستان وسنكيانج ومنغوليا، ويمكن للجمل أن يجر عربات، لكن ذلك يُعتبر أمرًا شاذًّا ونادرًا، وخاصة في النطاق الأفريقي العربي الجاف.
أما الحصان والحمار والبغل فحيوانات حمل غير متخصصة بأقاليم محدودة، وإن كان الحمار لا يتوغل كثيرًا في المناطق الباردة والحارة كما يحدث للحصان على وجه الخصوص. وهذه الحيوانات الثلاثة هي أكثر أنواع الحيوان قابلية للحمل والجر معًا، وليس للحمار جهد كبير في النقل خارج الأراضي المنبسطة، بينما البغل أكثر هذه المجموعة قدرة على الحمل في المناطق الوعرة شديدة الانحدار، ويشاركه الحصان نسبيًّا في هذه الصفة، وهو إلى جانب ذلك يتفوق على الحمار والبغل بالسرعة العالية.
وأخيرًا فإن الأبقار والجاموس تُستخدم كحيوانات حمل — ونادرًا كحيوانات جر — في المناطق المدارية الرطبة والمناطق الزراعية المدارية عامة. كما أن الأبقار تُستخدم أيضًا للحمل عند رعاة السفانا الأفريقية، وفي جنوب وجنوب شرق آسيا يُستخدم الفيل المستأنَس في حمل الأشخاص وجر أو دفع الأشياء الثقيلة كجذوع الأشجار المقطوعة. وقد أمكن أيضًا استخدام أعداد قليلة من الفيل الأفريقي — لكن بدرجة أقل — في مثل هذا العمل في غابات الكنغو.
هذه التخصصات الإقليمية لحيوان الحمل والجر تجعل مرونته محدودة نسبيًّا بالقياس إلى مرونة الإنسان، لكنها ساعدت على نقل بضائع أكثر مما كان يستطيعه الإنسان.
ذلك أن مسطح الحمل عند الحيوان — بطبيعة تكوينه الجسدي ووقوفه على أربع — أكبر بكثير من مسطح الحمل عند الإنسان. فضلًا عن ذلك فإن القوائم الأربع للحيوان تمكِّنه من حمل أوزان أكبر من قائمتي الإنسان، كما تعطي الحيوان ثباتًا واستقرارًا أكثر على الأرض.
وفي الوقت ذاته تتحدد سرعة الحيوان بظروف تكوينه الجسدي، كما تتحدد أيضًا بوزن حمولته وطبيعة الأرض التي يسير عليها، وباستثناء الوعورة والانحدارات فإنه ليس لنوع الأرض والمناخ تأثير مماثل لما لهما على الإنسان، وذلك راجع إلى تخصص كل حيوان في إيكولوجية خاصة لا تتعداها استخداماته بواسطة الإنسان، وإلا فقد ميزاته كأداة للنقل؛ هذا إذا استطاع التأقلم خارج إيكولوجيته.
وقد أمكن للإنسان أن يزيد من قدرة الحيوان على الحمل بطريقة مماثلة لبعض مبتكراته في زيادة ما يحمله هو، وأكثر هذه الطرق شيوعًا استخدام عصًا تُثبَّت على ظهر الحيوان بطرق مختلفة ويرتبط بطرفيها أنواع مختلفة من الأوعية المجدولة أو الشباك لتزيد الحمولة المنقولة.
وبرغم التطور الكبير في النقل، إلا أن استخدام الحيوان في الحمل ما زال شائعًا في معظم أجزاء العالم، وخاصة العالم المتخلف، هذا بالإضافة إلى أن غالبية المناطق الزراعية حتى في البلاد المتقدمة لا تزال تستخدم الحيوان. كما أن الحيوان في معظم جهات العالم — باستثناء الرَّنَّة والكلاب والياك واللاما — يُستخدم كحيوان ركوب بدرجات متفاوتة.
ولا شك في أن استخدام الحيوان في جر العربات بأشكالها المختلفة هو الدعامة الأساسية لبقاء الاعتماد عليه في عمليات النقل المحدودة المسافات في كل جهات العالم. ويرجع ذلك إلى أن وزن الحمولة التي يمكن أن يجرها تزيد عدة مرات عما يستطيع أن يحمله، كما يرجع أيضًا إلى مرونة الحيوان والعربات التي يجرها في الانتقال داخل أراضٍ لا تدخلها السيارات، وخاصة الحقول التي تضيق فيها الطرق ولا تسمح مواصفاتها الترابية أو الطينية بدخول سيارات النقل إلا بصعوبة ومخاطرة.
(٢-٣) العربات كوحدة نقل
منذ أن اكتشف الإنسان مبدأ العجلة بدأت الثورة الحقيقية في عالم النقل والتجارة، ولا شك أن العربات الخشبية الأولى كانت صغيرة الحجم قلقة على الأرض، ولكن استخدام أربع عجلات للعربة سرعان ما أعطاها ثباتًا أكثر وحمولة أثقل وإن استلزمت أكثر من حيوان لتحريكها.
والعربة الخشبية — بشتَّى أشكالها من البدائية إلى المتعددة الأغراض إلى عربة الليموزين الفاخرة لنقل الأشخاص، وعربات الملوك المذهبة، وعربات المسكن التي عمَّر الأوروبيون بواسطتها العوالم الجديدة كلها، وعربات المسكن التي تؤهِّل لمجموعات الغجر حرية الحركة في أماكن كثيرة من العالم — كلها كانت أكثر وسيلة للنقل تعايشت مع الإنسان في الغالبية الساحقة من تاريخه، وعاصرت كل أمجاده منذ أكثر من ثلاثة آلاف من السنين، وشهدت تطوره الزراعي وانقلابه الصناعي، وإمبراطورياته المتعددة ونمو نمط التجارة العالمي إلى مقدمات صورته الراهنة.
وبما أن أنواع هذه العربات تحركها طاقة الحيوان، فإنها أيضًا اتسمت بمرونة كبيرة في الحركة ولم تتطلب طرقًا خاصة ذات مواصفات معينة لتسير عليها، ولكن وجود مثل هذه الطرق قد ساعد دون شك على سرعة العربة. وقد بلغ متوسط سرعة عربات الركوب ما بين ١٥ و١٨ كيلومترًا في الساعة، وبذلك فإنها أعطت للإنسان سرعات لم يحلم بها في نقل عدة أفراد دفعة واحدة، وسهلت بذلك المواصلات والرحلات والأسفار وعمليات الهجرة الفردية والجماعية. وقد أُنشئت خطوط منتظمة لمثل هذه العربات للسفر قبل اختراع الوسائل الميكانيكية الحديثة، كذلك أعطت العربات مجالًا أوسع لنقل البضائع والسلع من أماكن الإنتاج إلى السوق أو إلى موانئ التصدير.
وساعدت هذه العربات على تطور عدة فنون حرفية كالنجارة والأثاث والحدادة، وباختصار كانت صناعة عربات الحيوان في الواقع السلف الصالح لصناعة السيارات وقطارات السكك الحديدية المعاصرة، وليس أدل على ذلك من أن دترويت التي يوجد فيها أكبر تجمع في العالم لصناعة السيارات الأمريكية، كانت من قبلُ من أهم وأكبر مراكز صناعة عربات الخيول الأمريكية في القرن الماضي. وكذلك فإن شكل السيارات الأولى، كان يشير بوضوح إلى تأثرها الشديد بصناعة العربات؛ فقد كانت عربات فاخرة تحركها طاقة جديدة بدلًا من طاقة الحيوان، ومثل ذلك تمامًا كانت أشكال عربات السكك الحديدية، وإلى جانب ذلك فإن قيام ونشأة محطات لإبدال الجياد وإصلاح العربة أو عجلاتها وحدادة العربة أو تغيير حدوة الحصان، قد ساعدت على أن تصبح هذه المحطات تدريجيًّا مراكز عمرانية، تنمو إلى مدن نشطة في حالة استجابة اقتصاديات المنطقة أو تجارتها أو مواقعها الجغرافية.
ولا شك أن عربات الحيوان — بحكم الجهد المحدود للطاقة المحرِّكة، مهما بلغ عدد الحيوان المربوط إلى العربة — قد خضعت بشدة إلى الظروف الطبيعية للمناطق المختلفة، فالمناطق الوعرة كانت عقبة كئود، وفي المناطق الجبلية تحددت طرق الاختراق بوجود ممرات طبيعية غير شاقة الارتقاء والمناطق الطينية السميكة لم تكن تصلح كثيرًا لمرور العربات بعجلاتها الضيقة العرض وحمولتها الثقيلة. كما أن العجلات لم تكن صالحة للحركة في المناطق الجليدية، وحل محلها عربات أخف، ومسطحات زاحفة بدلًا من العجلات.
وبرغم بقاء العربات حتى الآن في المناطق الريفية، إلا أنها دخلت متحف الحضارة البشرية بعد اختراع السيارات بفترة وجيزة، وقد تعددت الآراء حول مخترع السيارة، ولكن الاتفاق على مجهودات كثيرة قد بُذلت في هذا الاتجاه، وأن أول نجاح كان ذلك الذي تم على أيدي «جوتليب ديملار» الألماني (١٨٨٧). ولكن السيارة لم تدخل ميدان النقل إلا حوالي ١٩٢٠ بعد أن بدأت صناعتها في منطقة دترويت الأمريكية (التي ما زالت أكبر منطقة إنتاج سيارات في العالم حتى الآن). وسبب ارتباط السيارة بدترويت أنها كانت — كما قلنا — أحد المراكز الهامة في صناعة عربات الحيوان لفترة طويلة؛ ومن ثم فإن التقليد الصناعي الطويل في صناعات وسائل النقل القديمة كان كفيلًا بأن يؤدي إلى أن تنمو في هذه المنطقة مصانع إنتاج لوسيلة النقل الجديدة.
ولقد أصبحت السيارة فعلًا وريثة العربة في مرونة النقل البري من حيث تعدد اتجاهات شبكة الطرق البرية وترابطها بصورة أكثر من شبكة الخطوط الحديدية، وذلك لأن أي عمران مديني أو قروي حديث قد أصبح يستلزم وجود الطريق البري، وليس بالضرورة الطريق الحديدي؛ ومن ثم تتعمق شبكة الطرق البرية في أعماق المعمورة في صورة متشابكة، بينما يمر الخط الحديدي على الواجهات الرئيسية للأقاليم.
وقد أدت زيادة أعداد السيارات وتفاعلها مع شبكة الطريق المتزايدة إلى دور هام متعاظم لسيارات الركوب والشحن في عمليات نقل الأشخاص والبضائع. كما أن احتياجات النقل الحديثة قد أدت إلى نمو وتعدد أشكال سيارات الشحن وأحجامها من ٣ أطنان إلى أكثر من ٧٠ طنًّا. وفي الوقت نفسه أدخل عامل السرعة التي نعيشها الكثير من الاستحداثات على محرِّكات هذه السيارات، وأصبح متوسط سرعة الشاحنات حوالي ٦٠ كيلومترًا في الساعة.
ومعنى ذلك أن حمولة النقل الحديثة وطاقتها المحرِّكة قد تضاعفت عدة مرات بالقياس إلى عربات الحيوان؛ مما ساعد أيضًا على إحداث تغيرات عميقة في نمط وإيقاع التجارة الحديثة.
أما فيما يختص بنقل الأفراد فإن السيارة قد أدت إلى تطور جذري بالقياس إلى سرعة عربة الحيوان ليس في حاجة إلى مزيد من البيان. وقد ساعد ذلك على سهولة انتقال الناس لكافة الأغراض الاقتصادية وغير الاقتصادية، داخل المدن وخارجها، بكثافة لا مثيل لها. وكانت إحدى نتائج مرونة الحركة وسرعة الانتقال بواسطة السيارات، تقليل الفروق الاجتماعية والثقافية والفنية بين المدينة والريف.
وإذا كانت السيارة بنوعيها: نقل البضائع والأفراد، أقل مرونة من عربات الحيوان القديمة من حيث احتياجها إلى طرق ذات مواصفات خاصة، فإن السكك الحديدية أقل مرونة من السيارة بكثير، وذلك بحكم ارتباطها بطريقها الحديدي الخاص.
لكن السكك الحديدية تتميز عن السيارة عامة — وسيارات الشحن خاصة — بحمولة هائلة في البضائع والأشخاص، وبسرعة مماثلة، إن لم تكن أسرع في أحيان كثيرة من السيارات، نتيجة تطور محرِّكات القطارات. ونتيجة لأن القطار يستخدم طريقًا لا يستخدمه غيره.
والسكك الحديدية أقدم بكثير من السيارة، ففكرة استخدام البخار لتكوين قوة دافعة بدلًا من القوى البيولوجية الحية بدأت بجيمس وات عام ١٧٦٩، لكن تحويل هذه القوة إلى حركة دفع للعربات بدأ في الربع الأول من القرن التاسع عشر، وأدخل ستيفنسون التحسينات التي أدت إلى إنشاء السكك الحديدية عام ١٨٢٩.
(٢-٤) وحدات الحمل غير الأرضي
أما فيما يختص بوحدات النقل غير الأرضي، فإنه لا شك أن أكبر حمولات النقل في الماضي والحاضر كان دائمًا مرتبطًا بالنقل المائي؛ فالقارب القديم أكبر حمولة من حمولة الإنسان والحيوان، والسفينة الحالية، النهرية أو البحرية. (التي تصل حمولتها إلى عدة عشرات الآلاف من الأطنان وبعضها — ناقلات البترول — بلغ أكثر من ٣٠٠ ألف طن) أكبر حمولة من الشاحنات والقطارات، وذلك لسبب بسيط هو أن كثيرًا من مشكلات تحميل الوزن على العجلات وجسم العربة (معبرًا عنها بضغط الوزن على السنتيمتر المربع)، أيًّا كانت لا وجود له بالنسبة للنقل المائي؛ لأن الماء يحمل بدرجات متوازنة جسم القارب أو السفينة.
لكن النقل المائي يختلف عن النقل على اليابس في أن مرونته مفقودة تمامًا لارتباطه المباشر بمسطح الماء، سواء كان نهرًا أو بحيرة أو بحرًا. وقد أحدث الإنسان بعض التعديلات في هذا الضابط الطبيعي بحفر قنوات ملاحية تصل شرايين النقل المائي الداخلي، أو قنوات تصل بين بعض البحار ذات الأهمية الحيوية في مسارات التجارة البحرية العالمية (قنوات السويس وبنما وكيل).
ويتصف النقل المائي أيضًا بأنه أبطأ وسائل النقل الحالي، بينما كان في الماضي (سفن الشراع) أسرع من عربات الحيوان، خاصة إذا صادفت السفينة الرياح المواتية.
ولكن ضخامة السفن — كوحدة حمل — تغطي على كل مساوئها باستثناء نقل البضائع التي تفسد بسرعة. ولكن التجهيزات الحديثة للسفن قد تغلبت على ذلك أيضًا.
وأخيرًا فإن الطائرات قد أصبحت بعد أن اخترعها الأخوان رايت في عام ١٩٠٣ من وحدات الحمل الحديثة للأشخاص والبضائع، وتتميز الطائرة بأنها أسرع وسيلة نقل في العالم، لكنها أكثرها تكلفة لصغر حجم الطائرة بالقياس إلى القطار والسفينة.
وبرغم حرية الملاحة الجوية دون عوائق تذكر، إلا أن الطائرة هي أقل وسائل النقل مرونة؛ لأن مسارها يتحدد بين نقطتي الإقلاع والهبوط فقط، وهي لذلك لا تخدم المناطق المتوسطة بين هاتين النقطتين، كما تفعل السفن ووسائل النقل الأرضي الأخرى.
ولكن الاستحداثات الجديدة في حجم الطائرات وسرعتها، واحتياج العالم إلى مزيد من السرعة في النقل يجعل للطائرة أهمية متزايدة في نقل الأفراد، وإن كان عدد من تنقلهم الطائرة الضخمة الحديثة ما زال أقل كثيرًا عمن تحملهم السفن والقطارات من ركاب.
(٣) قوة الدفع
- (أ)
قوة الدفع البيولوجية الحية.
- (ب)
قوة الدفع الطبيعية.
- (جـ)
قوة الدفع الميكانيكية.
وتنقسم قوة الدفع البيولوجية إلى قسمين فرعيين، هما: القوة العضلية للإنسان والقوة العضلية للحيوان، ولسنا في حاجة إلى مزيد من الإيضاح في مزايا ومثالب كلٍّ منهما. لكن الملاحظ أن هذه القوة محدودة بطاقتها الحية فلا يمكن أن تزيد عنها. وقد استطاع الإنسان أن يضاعف هذه القوة عدة مرات بأن يضاعف مصدر القوة، فحين يقوم بجر شيء ثقيل يمكنه أن يربطه إلى حبل ويقوم بجذب الحبل أكثر من شخص أو أكثر من حيوان. وفي حالة القوارب الكبيرة يقوم عدة أشخاص باستخدام المجاديف العديدة لزيادة قوة القارب وسرعته. وفي حالة عربات الحيوان يمكن أن يقوم بالجر حيوانان إلى ١٢ حيوانًا من أجل زيادة السرعة والحمولة، وأيًّا كان الأمر فإن لمثل هذه الوسيلة حدًّا أقصى تصبح بعده الطاقة المضافة طاقة مفقودة.
أما قوة الدفع الطبيعية فنعني بها استخدام اندفاع الماء في الأنهار لتسيير السفن والقوارب، واستخدام الرياح لتسيير الشراع في النهر والبحر، وكلاهما غير محدود الطاقة لكنهما بعيدان عن التحكم البشري في المدى والقوة إلا بقدر. وقد كوَّنت هذه القوى الطبيعية أهم استخدامات الطاقة في وسائل النقل الكبيرة الحجم خلال الحقبة الكبرى من تاريخ البشرية.
وأخيرًا فإن قوى الدفع الميكانيكية التي بدأت باستخدام البخار وانتهت بغرفة الاحتراق الداخلي (الموتور)، هي قوى غير محدودة الطاقة إلا بمواصفات الآلة المستخدَمة وقوة احتمال الجسم المتحرك للضغوط والتوازن. وقد أصبحت أهم قوى الدفع في عالم النقل الحديث — من القطار إلى السيارة إلى السفينة والطائرة — سواء كان الوقود هو الخشب أو الفحم أو البترول بمشتقاته المختلفة أو الكهرباء، ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة الوقود الذري الذي لا تعرف تمامًا نتائج تعميمه المستقبلية على وسائل النقل، ولا تكلفته الفعلية على النطاق التجاري، ولا مدى الأمان الذي يتوافر للركاب والبضائع في مركبات تسير بهذه الطاقة الجديدة. ولكن الاتفاق العام هو أن الوقود الذري يعطي مدًى أطول في الحركة، كما أنه صغير الحجم بحيث لا يحتاج إلى المحرِّكات الضخمة ولا يشغل حيِّزًا كبيرًا من حجم المركبة؛ مما يعطي وفرًا مكانيًّا يساعد على زيادة حمولة البضائع والأشخاص، أو يساعد على المزيد من السرعة، وذلك أن المركبة ستكون أخف وزنًا.
(٤) نهايات الطرق
لكل طريق بري أو بحري أو جوي بداية ونهاية. ولكن البداية والنهاية متبادلة بالنسبة لوسيلة النقل بحيث يصح أن نسميها فقط النهاية لخط ملاحة أو سكة حديد أو طائرة، والبدايات فقط هي التي تحدد بالنسبة للركاب أو البضائع.
ونهايات الطريق قد أصبحت على أكبر جانب من الأهمية في عناصر النقل في الوقت الراهن؛ لأنه إليها تنتهي البضائع أو الركاب. وهذه النهايات تتراكب فوق بعضها وإن بدت منفصلة لأول وهلة.
فعلى سبيل المثال نجد أن الميناء البحري يعد نهاية لخط ملاحي، لكن هذا الميناء بعينة يكون أيضًا نهاية لخط حديدي أو طريق بري أو هما معًا. وقد يزيد الأمر تركيبًا أن نجد ميناءً جويًّا في المنطقة هو الآخر نهاية خط ملاحي جوي، وهذا هو حال الغالبية الساحقة من الحالات: الإسكندرية أو بيروت أو مرسيليا أو إسطنبول، ناهيك عن لندن ونيويورك وطوكيو … إلخ.
فنهاية الطريق إذن هي بداية لطريق من نوع آخر والعكس صحيح، وهذا التزاحم المكاني لنهايات الخطوط هو صفة من مستلزمات النقل الحديث. وقد كان كذلك بدرجات أقل في الماضي، والخطورة الناجمة عن تزاحم نهايات الطرق في نقاط محدودة نسبيًّا من مدن العالم وموانئه، وعدم توزيع هذا التزاحم على نقاط أكثر، يؤدي إلى اختناق هذه النهايات بالحركة ويسبب بذلك مشاكل تنتهي ببطء التوزيع للسلع والأشخاص على اختلاف نهاية مقاصدهم، كما تسبب في إنشاء مخازن كثيرة تُعرِّض البضائع للتلف أو الفقد، وهما خسارة مادية وضياع لسمعة ومستقبل هذه النهاية من الطرق.
ولهذا فإن تخطيط النقل والمواصلات يجب أن يراعي في حزم توزيع نهايات الطرق بحيث لا تتزاحم وتتكدس وتؤدي في النهاية إلى شلل يعجز الطريق عن عمله فيتحول تدريجيًّا إلى نهاية أخرى. كما أن توزيع النهايات فيه، في نفس الوقت، توزيع عادل لنشاط وسائل النقل والتجارة والعمالة القائمة عليهما على مدن أكثر؛ مما يقلل الفوارق الاقتصادية بين مدينة واحدة ومدن أخرى عديدة في ذات المنطقة أو داخل الدولة الواحدة؛ وبالتالي يجنبها الهجرة المتزايدة إليها على حساب المدن الأخرى. ولسنا بحاجة إلى مزيد من التفسير للأضرار الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والخدمات الناجمة عن تيارات الهجرة المتزايدة إلى مدن قليلة في عالمنا الراهن.