النقل والتنظيم الاقتصادي
يعتمد النقل — لكي ينجح في أداء المهام الملقاة على عاتقه — اعتمادًا أساسيًّا على فهم أصول الاقتصاد والإنتاج والاستهلاك وأنماطها المختلفة، وفي تطورها المستمر، وهو أيضًا يعتمد اعتمادًا كبيرًا على فهم الأسس والقواعد التي تفرضها ظروف الأرض جغرافيًّا وبشريًّا.
(١) الظروف الجغرافية وتأثيرها على النقل
(١-١) الظروف الطبيعية
تتأثر خطوط النقل بصورة قد تكون حاسمة وفعالة بالأشكال العامة لسطح الأرض من تضاريس أو أنهار أو بحيرات ومستنقعات. وكذلك تتأثر بتوزيع كتل اليابس والماء؛ مما يدعو إلى إطالة أو قصر خطوط الملاحة البحرية، ونستطيع أن نتبين هذه الآثار الطبيعية فور المقارنة بين خريطتين للنقل والمظاهر الطبيعية؛ ففي الخريطة رقم ٣-١ نستطيع أن نتبين أثر الجبال والهضاب والغابات في تخفيض كثافة شبكة النقل الحديدي في الولايات المتحدة بالمقارنة بالسهول الشرقية والوسطى ووادي كاليفورنيا، وتوضح الخريطة نفسها عددًا كبيرًا من الحقائق الأخرى المرتبطة بالنشاط البشري وأثره على كثافة النقل الحديدي.
وما ينطبق على النقل الحديدي ينطبق أيضًا على النقل البري، وما ينطبق على الولايات المتحدة ينطبق على غيرها من الدول في أوروبا وفي الهند والصين، وأماكن أخرى من العالم. وقد اخترنا الولايات المتحدة كنموذج لإيضاح المؤثرات الطبيعية والبشرية على شبكة النقل؛ لأن الولايات المتحدة تُمثِّل — في مجموعها — أكثف شبكات النقل في العالم بالنسبة لمساحة واسعة. ومن الطبيعي أن نجد هذا النمط الكثيف في مناطق محدودة من المراكز الصناعية المدينية في بعض دول أوروبا الغربية كمنطقة الراين الأدنى في هولندا وبلجيكا، وحوض الرور، ومنطقة لندن، لكن هذه الشبكات لا تغطي مساحات واسعة كما هو الحال في الولايات المتحدة، وبرغم كثافة النقل الداخلي الأمريكي، وبرغم التقدم التكنولوجي الأمريكي في وسائل النقل، إلا أن العوائق الطبيعية أمام الاستثمار والاستيطان والنقل لا تزال قائمة. وهذا سبب آخر دعانا إلى اختيار الولايات المتحدة بالذات لهذا الغرض.
وهناك أمثلة كثيرة لتوضيح المؤثرات الطبيعية على النقل؛ فالحواجز المرجانية في المناطق الساحلية، أو طبيعة خطوط السواحل التي تعوق نشأة الموانئ والمرافئ الطبيعية، يشكلان مثالين آخرين على تدخُّل الظروف الطبيعية في نشأة الموانئ واتجاه خطوط الملاحة. والخلاصة أن خطوط المواصلات كثيرًا ما تضطر للدوران حول العوائق الساحلية والجبلية، والنتيجة نفسها نلمسها في عدد آخر من الأشكال الطبيعية للأرض: المستنقعات والكثبان، والمناطق التي تتعرض للانهيارات الجليدية خلال الشتاء أو الربيع في العروض الوسطى، والخوانق والأودية العميقة في الأراضي التي تتصف بالوعورة والتضرس، كذلك تقوم البحيرات والأنهار العريضة بمثل هذا الدور المعيق للحركة، وكل هذه الأشكال تجبر خطوط المواصلات على الالتفاف والدوران حولها، وهو ما يؤدي إلى إطالة خطوط المواصلات كثيرًا. ولا شك أن في إمكان التكنولوجيا الحديثة التغلب على بعض هذه العقبات، ولكن ذلك — فضلًا عن كونه أمرًا شديد التكلفة — فإنه لا ينفذ إلا في المناطق التي تستوجب إيجاد وإنشاء الخطوط المباشرة نتيجة لكثافة الحركة الاقتصادية والبشرية، وهذا أمر لا يحدث إلا نادرًا؛ ذلك لأن نطاقات العوائق الطبيعية في مجموعها، لا تشكل أماكن الكثافة السكنية أو النشاط البشري الكثيف بطبيعة تكوينها الوعر أو المستنقعي أو الرملي.
والاستثناء الوحيد هو بناء الجسور على الأنهار مهما كان عرضها، بل بناء الجسور المعلقة الطويلة على المضايق البحرية حينما تتوافر الاستثمارات ويكون النقل في حاجة إليها، وبلا شك فإن الولايات المتحدة قد فاقت الدول الأخرى في بناء الجسور الضخمة، كتلك التي توجد في نيويورك وتربط بين منهاتن ولونج أيلند، وفي سان فرانسسكو عبر البوابة الذهبية. وخلال هذا العام تم ربط آسيا وأوروبا بجسر طويل ضخم على البسفور من أجل التغلب على مشكلة عبور السيارات والقطارات فوق هذا المضيق. أما البحيرات فغالبًا ما توجد فيها وسائل نقل مائية منتظمة تقدم خدمات العبور للحركة التي لا تريد أن تدور حولها.
وعلى عكس فكرة عبور المضايق بالجسور (أو الأنفاق كما في اليابان، وكما بين بريطانيا وفرنسا عبر مضيق دوفر، فإن الإنسان تضايقه البرازخ التي تفصل بحار الحركة التجارية الكثيفة؛ ومن ثم فقد شق الإنسان هذه البرازخ الهامة وأقام محلها قنوات ملاحية أضخمها قناة السويس وقناة بنما، ومن بينها قناة كييل والقنوات الملاحية في منطقة البحيرات العظمى الأمريكية.
ورغم التعديلات التي يقيمها الإنسان — مد الطرق البرية فوق المياه، ومد المياه فوق اليابس — إلا أنها لا تُمثِّل في الواقع سوى خدوش بسيطة ألحقها الإنسان بوجه الأرض (وذلك على الرغم من الأهمية القصوى التي يعلقها الإنسان على تلك التعديلات بالنسبة لمسار التجارة والنقل متحررًا من العوائق الطبيعية). وبذلك تبقى الظروف الطبيعية عاملًا شديد التأثير في خطوط المواصلات واتجاه الحركة.
وعلى هذا تلعب عدة أقاليم طبيعية دورًا خطيرًا في تحديد مسارات النقل في خطوط تلتزم بها التزامًا متزمتًا، وإلا أصبح النقل عملية مخاطرة غير اقتصادية، وأكثر هذه الأقاليم الطبيعية تحديدًا وإلزامًا للنقل، هي: (١) النطاق الجاف. (٢) النطاق القطبي. (٣) النطاق الاستوائي. وأخيرًا (٤) نطاق الهضاب والمرتفعات الشديدة الارتفاع مثل التبت أو الأنديز الوسطى في بيرو وبوليفيا.
والنطاق الصحراوي الجاف — برغم مكانه الجغرافي الممتاز بين عالم الدول المتقدمة الشمالية وعالم الخامات الهامة في النطاق المداري — لا يزال يكون عائقًا طبيعيًّا أمام النقل؛ فالأنواع المختلفة من التكوينات السطحية الصحراوية تختلف فيما بينها في التمهيد للنقل اليسير أو إعاقته؛ فالصحاري الصخرية غير الحصوية، غير بحار الرمال الواسعة، غير شرائط الكثبان الرملية الناعمة المتحركة، ولكنها — وبغضِّ النظر عن درجة الاختلاف في تسهيل أو عرقلة النقل — تشترك جميعًا في وجود عقبة خطيرة موحدة: ندرة المياه.
ومن ثم فإن الطرق التي تخترق النطاق الجاف لا بد لها من الالتجاء إلى كثير من الالتفاف والارتداد والانحناء، لكي تتجنب المسافات الجافة الخطرة، وذلك بالتحرك في اتجاه المناطق القليلة التي توجد فيها مصادر للمياه.
وقد أدى وجود مجموعات الواحات المنتشرة داخل النطاق الجاف إلى أن تصبح هذه الواحات محطات إجبارية لا بد للطريق من أن يرتادها، ومثال ذلك ضرورة مرور الطرق البرية الحديثة في الصحراء الكبرى الأفريقية على واحات غات وغدامس وآير في طريقها من طرابلس إلى تشاد، أو مرور طريق الجزائر أو مراكش على واحات توغرت وتوات والحجار لكي يصل إلى جاو أو تمبكتو على ثنية نهر النيجر، أو مرور طريق الحرير على واحات حوض تاريم لتجنب صحراء «تكلا مكان»، والاتجاه إلى يوقند وكشغر، ثم عبور سلسلة جبال تين شان إلى خوقند في حوض فرغانة ثم سمرقند وبخارى إلى هضاب غرب آسيا، وأخيرًا إلى البحر المتوسط وأوروبا (انظر الخريطة ٣-٢).
ولحسن الحظ توجد بعض الأنهار التي تخترق أجزاءً من النطاق الجاف، مثل نهريْ سيرداريا وأموداريا (سيحون وجيحون في الكتابات العربية القديمة) في تركستان السوفييتية، وهو طريق يؤدي من سهول سيبيريا الغربية والأورال إلى الممرات الجبلية، ومن ثم إلى سهول الهند جنوبًا. وكذلك نهرا الفرات ودجلة اللذان كوَّنا طريقًا هامًّا في الاتصال بين عالم المحيط الهندي والخليج العربي إلى البحر المتوسط وأوروبا.
وكذلك كان طريق النيل هو أطول طريق كامل يعبُر الصحراء الكبرى الأفريقية ويربط بين عالم البحر المتوسط والشرق الأوسط، وبين العالم المداري الأفريقي.
ولهذا فإن طرق النقل الحديثة تتكاثف بشدة في المناطق الجافة حول مسارات الأنهار سابقة الذكر؛ ففي وادي النيل تمتد الطرق الحديدية والبرية بجوار مسار النهر في كل من مصر والسودان. كما أن النيل نفسه يُستخدم بدرجات متفاوتة كطريق نقل أساسي في النوبة والسودان الجنوبي، وكطريق نقل ثانوي في السودان الأوسط.
وتتبع الطرق البرية الحديثة في الصحراء الكبرى طرق القوافل القديمة بصورة كبيرة، مما يدل على نفوذ الطبيعة في تحديد الطريق، برغم تغيُّر وسائل النقل، فطريق السيارات الذي يعبُر الصحراء الكبرى الغربية يمر من توغرت أو غراديا إلى واحات توات؛ حيث يلتقي أيضًا بالطريق البري الحديث القادم من كولمبشار عبر وادي ساؤرا، ومن توات يتفرع الطريق إلى اتجاهين: أولهما يتجه إلى تمانراست في هضبة الحجار، ثم أجادس وزندر وكانو في شمال نيجيريا، والاتجاه الثاني يعبُر صحراء تانزروفت مباشرة إلى جاو على النيجر.
وفي تركستان السوفييتية أيضًا يتحدد مسار السكة الحديدية الرئيسية عبر النطاق الجاف بالتزام وادي سرداريا إلى نهرَي الأورال والفولجا. وفي إيران والجزيرة العربية تلتزم الطرق الحديثة أيضًا بطرق القوافل القديمة بين الواحات المختلفة.
وفي النطاق القطبي — ومع تغيُّر وسائل النقل — لا تزال الطرق النهرية القديمة هي طرق الاختراق الرئيسية لهذه الأصقاع القارسة البرد والمتطرفة مناخيًّا، ولكن السوفييت قد افتتحوا طريقًا ملاحيًّا جديدًا يمر بالسواحل الشمالية لسيبيريا من مورمانسك إلى فلاديفوستوك (قرابة ستة آلاف ميل بحري)، وبرغم أهمية هذا الطريق الجديد بالنسبة إلى الاستغلال الحديث للثروات المعدنية الكبيرة في النطاق القطبي السوفييتي، وبرغم ما يستخدمه السوفييت من وسائل شديدة الحداثة في فتح هذا الطريق للملاحة (استخدام محطمات الجليد التي تسير بالطاقة الذرية لفتح طريق مائي وسط الجليد البحري المتراكم)، إلا أن كل هذه الأسباب والوسائل المتقدمة تكنولوجيًّا لا تستطيع أن تفتح هذا الطريق إلا في خلال أشهر الصيف الثلاثة فقط! ففي خلال هذه الفترة القصيرة تهيئ الظروف المناخية المتغيرة لفتح طريق الملاحة الشمالي، وبذلك تساعد وسائل النقل الحديثة على القيام برحلاتها الموسمية.
وفي المناطق الاستوائية يقف النمو النباتي الهائل عقبة حقيقية أمام النقل الحديث؛ ومن ثم فإن الأنهار والأودية النهرية ما تزال خير طرق اختراق هذه المناطق؛ ولذلك فإن درجة الاعتماد على النقل النهري عالية بالنسبة لحوض الأمازون أو الكنغو. وعلى النحو نفسه تقف الهضاب والجبال الشديدة الارتفاع عائقًا أمام النقل الحديث؛ إذ إنه لا يمكن ارتقاؤها إلا من نقاط ضعفها المتمثلة في وجود الانحدارات المعتدلة والممرات الجبلية؛ ومن ثم كان الطريق الطبيعي لارتقاء التبت يأتيها من الشرق، بينما تترك الطرق الجنوبية والشمالية للقوافل التقليدية.
وبرغم هذه العقبات فإن وسيلة واحدة من وسائل النقل الحديث تستطيع أن تتغلب عليها، تلك هي وسيلة النقل الجوي، وفعلًا يلعب هذا النوع من النقل الدور الرئيسي في المناطق المذكورة، وخاصة في النطاق القطبي والاستوائي. وللنقل الجوي دوره أيضًا في النطاق الجاف، لكن هذا النطاق مخدوم أيضًا بوسائط نقل تتفق مع احتياجات الإقليم الاقتصادية، وتصل إلى حد الشبكة الكثيفة من وسائل النقل في بعض أماكن هذا العالم الجاف (مثل مصر وساحل الليفانت وتركستان السوفييتية)، كذلك فإن العالم الجاف تخدمه موانئ جيدة على الخليج العربي والبحر الأحمر والبحر المتوسط، وموانئ داخلية على بحر قزوين وبحر آرال.
(١-٢) الظروف البشرية
إذا كان للظروف الطبيعية مثل هذا التأثير الشديد على اتجاهات ومواصفات طرق النقل ووسائله، فإن للظروف البشرية أيضًا دورها الهام في هذا المجال وأكثر العناصر البشرية تأثيرًا هو مدى كثافة السكان في الأقاليم المختلفة، فحيث تظهر كثافة سكانية عالية ترتفع أيضًا كثافة شبكة النقل كاستجابة طبيعية.
ولهذا نجد كثافة عالية لمختلف وسائل النقل البري والحديدي والنهري والبحيري والبحري والجوي في الولايات الشمالية الشرقية من الولايات المتحدة (المثلث الذي تحدده مونتريال الكندية في الشمال وشيكاجو في الغرب وواشنطن في الجنوب). وفي هذا الإقليم أكبر مدن أمريكا الشمالية: كويبك ومنتريال وترنتو في الجانب الكندي، وبوسطن ونيويورك وفيلادلفيا وبلتيمور وواشنطن على الجانب الأطلنطي، وملواكي وشيكاجو ودترويت وكليفلاند وبافلو وبتسبرج وسنسناتي في الداخل. وبينما تزدحم هذه المنطقة بخطوط الحركة، تصبح وسائل النقل محدودة بطرق قليلة في غرب الولايات المتحدة لقلة التزاحم السكاني (راجع الخريطة رقم ٣-١).
ومثل هذه الحالة نجدها في الاتحاد السوفييتي؛ حيث تؤدي الكتلة السكانية الكبيرة في القسم الأوروبي إلى وجود شبكة نقل كثيفة، بينما كانت المنطقة الآسيوية ذات خطوط مواصلات محدودة. ولكن التطور الاقتصادي الذي طرأ على نطاق الإستبس فيما بين الصحاري وغابات سيبيريا الغربية قد أدى إلى نمو زراعي وصناعي وتعديني ومدني كبير. وقد انعكس ذلك بدوره على خطوط الحركة، فتطورت شبكة النقل في هذا الإقليم السوفييتي إلى كثافة ملحوظة، لكنها لا زالت أقل من احتياجات المنطقة.
وحتى في داخل الدول الصغيرة المساحة نجد أيضًا الكتلة السكانية الكبيرة، بالإضافة إلى نشاطها الاقتصادي الكبير، تشكل عامل جذب لكثافة المواصلات، فلنلاحظ الفارق بين كثافة النقل في سهل الفلاندرز وقلة هذه الكثافة نسبيًّا في هضبة الأردين، وبين شبكة النقل في الرور والراين بالمقارنة بتلك في بافاريا.
هذا التجاوب بين الكثافة السكانية العالية وشبكة المواصلات لا يتم انطباقه دون أن يكون لهذه الكتلة السكانية الكبيرة نشاط اقتصادي يعتمد في جوهره على التبادل التجاري؛ ومن ثم يقوم النقل بوظيفته الأساسية: النقل التجاري، وليس نقل الأشخاص فقط، ولا أدل على ذلك من مقارنة كثافة النقل في مناطق الصناعة الحديثة في غرب أوروبا، بخطوط النقل في مناطق الإنتاج الزراعي البسيط في الهند أو الصين.
فالواقع أن الصناعة — باحتياجها الحيوي إلى مئات الخامات التي تتجمع لكي تُدخل المصانع، واحتياجها الحيوي إلى تصريف السلع المصنَّعة وتوزيعها على أسواق الاستهلاك — توجب ارتفاعًا كبيرًا في خدمات النقل، بينما مناطق إنتاج الخامات المعدنية أو الزراعية في حاجة إلى شريان نقل ترسل بواسطته هذه الخامات إلى مناطق الصناعة.
ولا يقتصر تأثير العوامل البشرية في النقل على الكثافة السكانية ونوع النشاط الاقتصادي السائد، بل إن الحدود السياسية أيضًا تقوم بدور هام في توجيه النقل من مكان لآخر، أو تقطع الاتصال بين شبكات النقل إلا في أماكن محدودة (راجع خريطة رقم ٣-٣).
ومن أمثلة تأثير العوامل السياسية نشأة الموانئ الجديدة في الدول التي استقلت حديثًا كدليل على استقلال الدولة، ورغبة منها في توجيه تجارتها عبر موانئ تمارس سيادتها عليها؛ مثال ذلك بور سودان في السودان، أو تيما في غانا.
كذلك يدل على ذلك نشأة موانئ الترانزيت للدول التي لا تتمتع بواجهات ساحلية مثل بيروت بالنسبة للأردن، ودار السلام في تنزانيا بالنسبة لزامبيا أو شرق زائيري، وبنجويلا في أنجولا بالنسبة لزائيري، وبيرا في موزمبيق بالنسبة لروديسيا، أو تريستا الإيطالية بالنسبة للنمسا أو مرسيليا وجنوا وروتردام بالنسبة لسويسرا.
وكثيرًا ما يؤدي تغيُّر الأوضاع السياسية إلى توجيه تجارة دولة من ميناء لآخر. والحالة المثالية على ذلك ميناء هامبورج الذي كان يخدم القسم الشرقي من ألمانيا — جمهورية ألمانيا الديموقراطية الحالية — وتشيكوسلوفاكيا، وبعد انضمام هاتين الدولتين إلى كتلة الدول الشرقية وجهت المواصلات التجارية لهما إلى ألمانيا الشرقية على البلطيق بدلًا من هامبورج.
وكذلك أحدث التغير السياسي لجمهورية كوبا تغيرًا في نمط تجارتها الدولية، وبالتالي تغيرت أهمية خطوط المواصلات التي كانت تربطها بالولايات المتحدة إلى خطوط أخرى أكثر عالمية بدلًا من تلك الخطوط الاحتكارية الأمريكية.
وعلى هذا النحو، يمكن أن نستمر في توضيح أثر الظروف البشرية على توجيه النقل ومواصفات الوسائل التي تُستخدم في عمليات النقل، وخلاصة القول أن مجموع العوامل الجغرافية الطبيعية والبشرية تشارك مشاركة فعالة في رفع أو خفض كثافة خطوط النقل، هذا إلى جانب الشروط المختلفة التي تتحكم في اقتصاديات النقل، والتي سنوضحها فيما بعدُ.
(٢) التأثير المتبادل للنقل والنشاط الاقتصادي
(٢-١) أمثلة محددة
قلنا إن هناك علاقة حيوية بين هذين الموضوعين للدرجة التي تجعلنا ننظر إليهما على أنهما شقان لموضوع واحد. ومن الطبيعي أن ننظر اليوم إلى التفاعل المتبادل بين الإنتاج والتسويق والنقل على أنه شيء بديهي وضروري، ويرتبط هذا باعتيادنا الأمر الواقع، وهو اتجاه كل الإنتاج إلى السوق.
أما في الماضي فإن النظرة إلى هذا الارتباط لم تكن بديهية؛ لأن القليل من الإنتاج هو الذي كان يجد لنفسه الطريق إلى سوق محدودة، ومع ذلك كان النقل يشكل عنصرًا حيويًّا في أحيان كثيرة، لكن هناك فارقًا بين أهمية النقل في الماضي والحاضر؛ ذلك أن الارتباط لم يكن بغرض نقل السلع إلى السوق بقدر ما كان الغرض منه توفير مسببات النجاح في عملية الإنتاج في حد ذاتها؛ أي إن النقل كان موجهًا لخدمة الإنتاج في الأساس، وقد تسببت أشكال الطرق وطبيعتها — في الماضي — في نجاح أو تدهور الإنتاج في إقليم من الأقاليم؛ كما حدث في أيرلندا (راجع التقدمات) التي تسبب نقص الطرق والموانئ فيها في ركود اقتصادي خلال القرن السابع عشر، استمرت آثاره حتى هذا القرن.
وفيما يلي نسوق بعض أمثلة على مدى تدخُّل النقل كعنصر حاسم في نجاح أو فشل الإنتاج.
فقد اتفق الاقتصاديون الذين درسوا التغيرات التي طرأت على الزراعة الأوروبية، خلال القرون الثلاثة الماضية، على أن العقبة الأساسية في بطء التقدم الزراعي كان يعود إلى عدم كفاءة الطرق، فمثلًا كانت رداءة الطرق في إقليم هازبروك (في الفلاندرز الفرنسية) — خلال القرن ١٨ وأوائل القرن ١٩ — تمنع نقل السماد إلى الحقول إلا في فترة متأخرة، بمعنى أن السماد يصل متأخرًا عن الموسم الذي يجب فيه تغذية النبات، وسبب ذلك التأخير هو انتظار جفاف الطرق؛ لأن الأمطار تجعل الطرق طينًا يستحيل معه النقل.
وفي مناطق أخرى من أوروبا كانت هناك شكوى من أن البضائع والأخشاب لم يكن يتم نقلها إلا بعد جفاف الطرق، وفي هذه الفترة بالذات يكون العمال منشغلين بأعمال الزراعة في الحقول؛ ومن ثم كان النقل يعاني أزمة في تدبير الأيدي العاملة التي يمكن تشغيلها. وعلى هذا فإن تصادف وقوع الوقت الملائم للنقل مع الوقت الملائم للزراعة — موسم البذار أو الحصاد أو قطف العنب أو حرث الأرض — كان يؤدي إلى توقُّف إحدى العمليتين: إما النقل وإما الزراعة؛ لأن مصدر الأيدي العاملة واحد؛ ومن ثم لم يكن هناك انتظام في عملية النقل الصناعي — نقل الأخشاب من الغابات إلى أفران المصانع، أو نقل الفحم من الموانئ النهرية إلى المصانع — إنما كانت هذه العملية تعتبر نشاطًا ثانويًّا بالمقارنة بالنشاط الزراعي الذي كان الحرفة الرئيسية خلال القرون الماضية.
وقد ترتب على عدم انتظام النقل الصناعي أن المصانع كانت مضطرة إلى تخزين كميات كبيرة من الأخشاب أو الفحم أو الخامات لمدة ستة أشهر مقدمًا لكي ينتظم الإنتاج الصناعي. وكان هذا يحتاج إلى توسيع مساحة المصانع كثيرًا لبناء المخازن، وبذلك كانت هناك إنفاقات كبيرة من رأس المال لا تعوضها أرباح الإنتاج؛ ومن ثم كانت أسعار المنتجات الصناعية عالية وأجور العمال منخفضة؛ مما سبب الكثير من الأمراض الاجتماعية والاقتصادية في بداية عهد الصناعة.
وتدل الدراسات العديدة على أن تكلفة النقل كانت تعادل ٨٠٪ من سعر الفحم في حالة وجود المصانع على مسافة تقل عن مائتي كيلومتر من مصدر الفحم، وأن التكلفة ترتفع أكثر مع تزايد المسافة بين المصنع ومنجم الفحم.
ولسنا نريد أن نصور النقل على أنه كان وحده العامل المسئول عن تعثر الصناعة وآلام المجتمع في بداية العصر الصناعي في أوروبا، بل كانت هناك عوامل أخرى مرتبطة بمواقع المصانع والشروط الطبيعية في الإنتاج، وسياسات الدول وكارتلات الصناعيين، من بين عوامل أخرى كانت تلعب أدوارًا هامة في حياة المجتمعات في تلك الفترة، لكن الذي نريد تأكيده أن تحسُّن وسائل النقل وتخصص فئة من المجتمع في عمالة النقل، كانتا من بين أسباب انتظام العمل الصناعي والزراعي ورخص منتجاتهما، واتساع السوق الاستهلاكية.
وفي الواقع نجد أن تحسُّن الطرق قد أدى إلى إيجاد أسواق للسلع المختلفة، وخاصة التوسع الواضح في سوق السلع الزراعية؛ بمعنى أن الطرق الجيدة قد ساعدت — بجانب عوامل أخرى — على إنشاء نظام تجاري منتظم متقارب الأسعار، حتى لو كانت الأسواق بعيدة عن مناطق الإنتاج، وتتضح هذه الحقيقة بصورة جلية حينما ندرس سلوك سوقين داخليتين كبيرتين تتباين فيهما شبكة النقل الحديدي والبري: هذان هما سوق الحبوب في الولايات المتحدة والهند؛ ففي الولايات المتحدة شبكة متقاربة المحاور من الخطوط الحديدية والبرية والنهرية تربط نطاق إنتاج الحبوب في السهول الوسطى بسوق الاستهلاك الضخم في المناطق الصناعية الشرقية ومنطقة الكثافة المدينية على ساحل الأطلنطي. وقد أدى ذلك إلى أسعار متقاربة للحبوب، ولم تكن فوارق الأسعار القليلة إلا تعبيرًا عن البعد المكاني وتكلفة النقل؛ ذلك أن السوق منتظمة والحركة أيضًا منتظمة في نقل السلع من أماكن الإنتاج إلى مراكز الاستهلاك، ويجب أن نضيف إلى هذا أن منطقة إنتاج الحبوب الأمريكية قليلة السكان؛ مما يسمح بتوجيه غالبية الإنتاج إلى السوق.
أما في الهند فإن كثافة السكان عالية، وخاصة في مناطق إنتاج الحبوب. كما أن شبكة النقل البري والنهري أقل كثافة من مثيلتها في الولايات المتحدة؛ ولهذا فإن الحبوب تستهلك في مناطق الإنتاج أو تدخل السوق بكميات محدودة؛ ولذلك نجد تفاوتًا كبيرًا في أسعار الحبوب داخل مناطق الهند المختلفة كتعبير عن عدم وجود سوق أو تجارة منتظمة، وكان نمط الهند مشابهًا لما كان عليه الحال في أوروبا في الماضي: استهلاك محلي واختلاف كبير في أسعار السلع نتيجة لنقص الطرق واختلاف كثافة السكان.
وكذلك أدت مراكز الصناعة البريطانية إلى نمو الموانئ البريطانية في تعاملها مع وسائل النقل البحري إلى الحد الأقصى، وبالدرجة نفسها أثرت الصناعة على موانئ البحيرات العظمى الأمريكية وموانئ الشاطئ الشرقي، وعلى الأخص نيويورك وبوسطن ومنتريال.
ولكن إذا كان هذا هو الحكم السائد في الدول الصناعية أو المناطق الصناعية القديمة، فإن طرق النقل المختلفة في الدول الجديدة أو أقاليم الصناعة الجديدة تخضع للتأثير المضاد؛ أي إن نشأة الاستغلال الاقتصادي الحديث — الزراعي أو الصناعي، أو الصناعي والخدمات — تتم بفضل وصول خطوط المواصلات إلى المنطقة.
(٢-٢) تأثير الخطوط الحديدية على النمو الاقتصادي والعمراني
الأمثلة كثيرة ومتعددة على تأثير النقل على إنشاء مناطق اقتصادية عمرانية جديدة؛ فخط حديد سيبيريا الذي أُنشئ لأهداف سياسية واستراتيجية قد تسبب في تكوين قلب اقتصادي حديث للاتحاد السوفييتي يمتد وراء الأورال إلى جبال التاي وإلى قرب بحيرة بايكال في طرفه الشرقي.
وكذلك أدت الخطوط الحديدية العابرة لأمريكا إلى إقامة محاور عظيمة من النشاط الاقتصادي الحديث والنمو العمراني على طول هذه الخطوط في السهول الوسطى وفي السواحل الغربية التي تنتهي إليها هذه الخطوط، وبنفس الدرجة نشأ العمران والنشاط الحديث في الأرجنتين وأستراليا وجنوب أفريقيا.
ويبدو أن للخط الحديدي أثرًا أكثر فعالية من الطريق البري أو النهري أو الجوي في دفع حركة العمران والاقتصاد الحديث؛ فهو الوسيلة الأولى في كمية الحمولة من البضائع والأشخاص بالنسبة لغيره من وسائل النقل الأرضية الأخرى. كما أنه أسرع وأكثر انتظامًا من وسائل النقل الأخرى، وإلى جانب ذلك فإنه من الناحية النفسية دليل من الأدلة الدامغة على ثبات حركة الاتصال؛ لأن طريقه الحديدي مثبَّت إلى الأرض؛ ومن ثم يصبح وجوده القاعدة الأساسية التي ينبني عليها الاستقرار العمراني والاقتصادي الجديد، وبغضِّ النظر عن كل هذه الأسباب أو غيرها، فإن الوقائع تؤيد وتؤكد قوة تأثير الخط الحديدي وفعاليته بالقياس إلى غيره من أساليب النقل الأخرى في الأراضي التي تُعمر جديدًا.
(٢-٣) تأثير النقل البحري على نشأة الصناعة في الموانئ
ولا يقتصر أثر النقل على السكك الحديدية، بل إن النقل البحري أيضًا كان ولا يزال له دوره الخطير على نشأة الموانئ ونموها المديني والتجاري والصناعي؛ فالموانئ عادة ليس لها مورد هام من موارد التعدين أو الطاقة أو الإنتاج الزراعي، بحكم وقوعها في المنطقة الساحلية ذات التربة الجيرية أو الطميية أو الرملية الحديثة التكوين، ولكن نشأة الميناء كمركز مواصلات تلتقي عنده نهايات الطرق البرية والبحرية — والنهرية أحيانًا — يؤدي إلى عمليات تفريغ وشحن كبيرة، وعمالة هي الأخرى كبيرة في مجال الخدمات.
وقد لوحظ أن أماكن انتقال السلع والبضائع من وسيلة نقل إلى وسيلة نقل أخرى، يمكن أن تتحول إلى أماكن لمعالجة بعض هذه الحمولة معالجة صناعية؛ وبالتالي تقل تكلفة نقل الخامة إلى مراكز التصنيع في الداخل.
ومن ثم أصبحت كثير من الموانئ مراكز حيوية لنشوء الصناعات، وهي في معظمها صناعات تحويلية وليست صناعات هندسية كبرى، إلا إذا كانت هناك ظروف مواتية، كقرب مصادر الحديد والطاقة، ويُستثنى من ذلك صناعات بناء السفن التي تتوطن في الأصل في عدد معين من الموانئ إذا توافرت شروط خاصة.
وعلى هذا نشأت كثير من الصناعات البتروكيمائية في موانئ استقبال ناقلات البترول الخام، وصناعات النسيج في موانئ استقبال خامات النسيج، وصناعات إعداد الأغذية والمكيفات في موانئ استقبال الخامات الزراعية.
وقد لوحظ أيضًا أن الموانئ التي تمت فيها هذه الصناعات تقع غالبها على نهاية طريق ملاحي داخلي (نهري)؛ مما يؤدي إلى خفض تكلفة نقل السلع المصنَّعة إلى داخلية البلاد في اتجاه الأسواق الرئيسية. ومن الأمثلة على ذلك نيويورك التي تقع على نهاية طريق نهري داخلي هام يربطها بمنطقة البحيرات العظمى الأمريكية والكندية (طريق هدسن-موهوك)، وتبلغ العمالة الصناعية في نيويورك حوالي مليون شخص من مجموع سكان مجمع نيويورك المديني البالغ أحد عشر مليون شخص. وروتردام أيضًا — التي تشتهر بالصناعات الغذائية والمكيفات، تقع على أهم طريق نهري داخلي في أوروبا الغربية (الراين)، وتخدم بذلك هولندا وبلجيكا وحوض الراين الألماني الفرنسي السويسري. وهناك أمثلة أخرى هامة: منتريال على نهر سانت لورنس، شنغهاي على مصب الطريق الملاحي العظيم في وسط الصين: اليانجتسي، الإسكندرية على الطريق الملاحي الصناعي (ترعة المحمودية) إلى الدلتا، مرسيليا عند مصب الرون، هامبورج عند مصب الألب، ليفربول عند مصب الميرزي، كلكتا عند مصب الجانج، وغير ذلك من الأمثلة كثير.
(٣) أنماط النقل العالمي
كلما كان النشاط الاقتصادي مركبًا ومتعددًا فإنه يؤدي إلى شبكة نقل كثيفة متنوعة.
وبتطبيق هذه القاعدة يمكننا بسهولة أن نعمم نمط النقل في العالم من حيث كثافته ونوعه على النحو التالي: نقل كثيف ومتوسط وبسيط.
-
(١)
نقل كثيف متعدد الوسائل: (بحري مع موانئ متعددة هامة – نهري – حديدي – بري – جوي مع تعدد الموانئ الجوية الهامة – أنابيب الغاز والبترول – شبكات نقل الطاقة – شبكة الاتصال السلكي واللاسلكي … إلخ): يتركز هذا النمط في البلاد الصناعية الشمالية من الولايات المتحدة عبر أوروبا إلى الاتحاد السوفييتي واليابان. وبطبيعة الحال تختلف الكثافة والنوع من ناحية الكم وليس من ناحية الكيف في المناطق الهامشية داخل هذا النطاق الشمالي، مثل نطاق البحر المتوسط الأوروبي باستثناء شمال إيطاليا، ومثل معظم اسكندنافيا الشمالية، والشمال السوفييتي وكندا الوسطى والشمالية، ووسط غرب الولايات المتحدة وشمال اليابان.
-
(٢)
شبكة نقل متوسطة الكثافة يسيطر عليها عدد قليل من وسائط النقل: غالبًا يسيطر على النقل البري الطريق الحديدي ويتعاون معه ولا ينافسه الطريق البحري، كما تظهر أيضًا خدمة النقل البحري مركزة في ميناء رئيسي واحد لكل إقليم أو دولة، وكذلك يتركز النقل الجوي في ميناء جوي واحد رئيسي في الدولة أو إقليم جغرافي كبير (شبكة النقل السلكي متوسطة الكثافة).
هذا هو نمط النقل في البلاد المنتجة للخامات الزراعية والكثيفة السكان، وتظهر هذه البلاد في داخل إطار النطاق المداري والموسمي من أمريكا اللاتينية (البرازيل والأرجنتين بصفة خاصة) في الغرب إلى عدد من دول أفريقيا الغربية، وخاصة نيجيريا وغانا، وغالبية دول البحر المتوسط والشرق الأوسط والهند وباكستان وجنوب شرق آسيا وشرقها، ويدخل في هذا النطاق أيضًا دول الإنتاج الزراعي الجنوبية: نيوزيلندا وأستراليا وأفريقيا الجنوبية.
وفي داخل هذا النطاق أيضًا نجد مناطق هامشية كبيرة لا تدخل هذا النمط من النقل المتوسط الكثافة. وكل داخلية أمريكا تُمثِّل مناطق هامشية. وكذلك الأجزاء الشمالية من غرب أفريقيا والمناطق القليلة السكان في دول البحر المتوسط الأفريقية والآسيوية، وإيران والأناضول وأفغانستان والغالبية الساحقة من الجزر الآسيوية الجنوبية الشرقية والغالبية الساحقة من أستراليا الشمالية والوسطى.
-
(٣)
شبكة نقل بسيط يسيطر عليها عنصر واحد من وسائل النقل (غالبًا الأنهار أو خط حديدي منفرد أو طريق واحد تتعاقب فيه وسائل المواصلات إذا كانت هناك عقبات أمام وسيلة النقل). أما النقل بالأنابيب فيكاد يكون منعدمًا إلا في حالات إنتاج البترول. أما المواصلات السلكية فلا تكون شبكة، بل تتركز بدرجة كثافة قليلة أيضًا داخل المدن، المواصلات اللاسلكية هي الأساس في الاتصال بأجزاء الدولة أو الإقليم، وأحيانًا يكون للطيران أهمية واضحة في نقل الأشخاص، إذا كانت مساحة الدولة كبيرة كزائيري والبرازيل، والنقل البحري غالبًا ما يقوم على أساس ميناء واحد للإقليم الجغرافي، بغض النظر عن الحدود السياسية للدول.
ويتمثل هذا النمط من النقل البسيط في داخل النطاق الاستوائي عامة، ومناطق القلة السكانية الملحوظة والاعتماد على إنتاج الخامات المعدنية، أو بعض الخامات الزراعية مثل حوض الأمازون، وحوض الكنغو، ونطاق السفانا الأفريقية، بما في ذلك السودان وإثيوبيا والصومال وشرق أفريقيا، ودول البترول العربية، كما يتعدى هذا النمط من النقل المناطق الحارة إلى المناطق القطبية في الشمال الأورو آسيوي وألسكا وكندا الشمالية، وداخلية الصين وسيبيريا ومنغوليا.
ولبيان مدى الاختلاف في هذه الأنماط الثلاثة من النقل، قارن بين شبكة النقل المتعددة في الراين الأدنى أو شمال شرق الولايات المتحدة، أو جنوب اليابان كنماذج للنمط الأول، وشبكة النقل في مصر أو لبنان أو سهل الهندوستان أو الصين أو سهول البمبا في الأرجنتين، أو جنوب شرق أستراليا أو نيجيريا الجنوبية الغربية كنموذج للنمط الثاني، والنقل البسيط في حوض الأمازون أو جمهورية زائيري أو إثيوبيا أو السعودية أو منغوليا أو ألسكا كنماذج للنمط الثالث من أنماط النقل.
(٤) نواحٍ من مشكلات اقتصاديات النقل
(٤-١) حسابات القيمة الإنتاجية للنقل
من المتفق عليه أن النقل عملية إنتاجية، فكيف يخلق النقل قيمة إنتاجية؟ إن عملية النقل يمكن أن يُعبَّر عنها بأنها مقياس زمني للمسافة المكانية بين منطقة الإنتاج ومركز الاستهلاك؛ أي مقياس زمني بين مواقع تبادل المنفعة. ويمكن أن يفلسف الفرق بين عمليتَي الإنتاج والنقل على أنه شيء مماثل للفرق بين النقطة والخط؛ فالإنتاج يحدث في نقطة أو عدة نقاط متجمعة. أما النقل فهو عملية إنتاجية تحدث على طول خط حركة، وليس عند نقطة ثابتة؛ ومن ثم فإن مشاكل النقل لها صفات مكانية مختلفة تمامًا عن مشكلات الإنتاج، وذلك بحكم أن النقطة تختلف عن الخط «باعتبار أن الخط عبارة عن عدد لا نهائي من النقط المتلاصقة».
ويترتب على ذلك أن عملية الإنتاج في النقل تحدث عند أي نقطة من نقاط الخط وليس عند نقطة واحدة ثابتة، فمجرد مرور القطار أو السيارة، أو غيرهما من وسائل النقل — على طول خط الحركة — هو في حد ذاته عملية إنتاجية تزيد فيها القيمة الإنتاجية للنقل بازدياد المسافة المكانية. كما أن القيمة الإنتاجية للنقل يمكن أن تزداد خلال الطريق بإضافة حمولة جديدة لمسافة معينة أو لنهاية الخط؛ ومن ثم فإن المساهمة الإجمالية لكل النقاط على طول الخط أثناء السير، هي التي تكوِّن القيمة النهائية التي تخلقها خدمات النقل.
وعلى هذا فإن القيمة الإنتاجية للنقل تساوي الفرق بين قيمة السلعة قبل النقل وبعده. وبعبارة أخرى فإن أجور النقل هي القيمة الإنتاجية التي تخلقها خدمات النقل، أو هي الدخل أو العائد لهذا النوع من النشاط الاقتصادي، وهو بذلك «دخل معتمد على الحركة بين النقطتين النهائيتين للطريق»، وبين عدد لا متناه (نظريًّا) من النقاط المتوسطة طوال الطريق.
ولما كان خلق القيمة معتمدًا على الحركة، فإن إدارات أو شركات النقل تعتمد اعتمادًا أساسيًّا على مجموعة كبيرة من الحسابات لكي تتمكن من تحديد لائحة أجور لنقل الأشخاص أو البضائع لمسافات مختلفة، فتحديد تعريفة النقل يترتب عليه نجاح أو فشل عملية النقل في تحقيق العائد الضروري للوفاء بكافة الالتزامات. وفي العادة تُحسب الإنفاقات الإجمالية مثل أجور العمال والتشغيل وإيجارات الأراضي أو الأبنية أو المخازن، والفوائد المستحقة على الديون أو السندات التي تكوَّن بواسطتها رأسمال الشركة أو الهيئة القائمة بتشغيل خط أو خطوط النقل، وتُعادَل هذه الجملة بحسابات الربح أو الخسارة على ضوء توقعات حركة النقل بالنسبة لأجور معينة؛ ولهذا لا بد من توافر سجلات دقيقة عن كل الإنفاقات والدخول في المكاتب الرئيسية وفي محطات الطرق وفي نهاياتها وبداياتها، وفوق هذا يجب أن يضاف حساب أجور النقل على الخطوط المنافسة.
(٤-٢) مواقع الطرق
من خلال حساب خلق المنفعة في النقل ظهرت عدة آراء ونظريات عن المواقع التي يمكن أن تنشأ فيها الطرق بحيث تكون عمليات النقل عليها غير خاسرة، وتمر عملية إنشاء خط حركة بمرحلتين متكاملتين يلخصهما التساؤل عن: (١) هل هناك مبرر اقتصادي لإنشاء خط الحركة؟ (٢) أي المواقع يجب أن يطرقها خط الحركة ويمتد عبرها؟
- أولًا: مبررات إنشاء خط حركة: يبدأ التفكير في إنشاء تسهيلات جديدة في النقل في منطقة ما على أساس حسابات وتوقعات كثافة الحركة الاقتصادية للبضائع والأشخاص، على أن تكون هذه الحسابات مبنية على دراسة فعلية لحساب الأرباح والخسائر، وتبدأ العملية بوضع «فرض» أو «توقع» أو «تنبؤ» للحركة المنتظر مرورها على الخط المزمع إقامته، ثم تعمل حسابات تقديرية لتكاليف الإنشاء. ولا شك أن أول تعرف على احتياج منطقة ما لخط مواصلات جديد أو إضافي، ينبع من دراسة القدرات الكامنة للتنقل بين نقطتين على ضوء دراسة الحركة على الخط أو الخطوط الموجودة فعلًا بين هاتين النقطتين، ويتبع ذلك دراسة توقعية أخرى لمدى ما سيؤدي إليه إنشاء الخط الجديد من خلق مسببات لزيادة حركة التنقل بين النقطتين، وقد تؤدي كل هذه الدراسات إلى قرار بإنشاء خط جديد، أو قد تؤدي إلى قرار بشراء حقوق خط موجود فعلًا بهدف إدارته بطريقة أكثر كفاءة، وذلك بوضع استثمارات جديدة في منشآته ووسائل النقل التي تجري عليه أو تحسينه إداريًّا، وفي كلتا الحالتين — إنشاء خط جديد أو تحسين خط موجود — لا بد من عمل الكثير من الحسابات الخاصة بتكاليف التشغيل، وعلى العموم فإن التنبؤ بالتكاليف يعتمد على التوقعات المطروحة عن كثافة الحركة المرتقبة على الخط.
- ثانيًا: اختيار موقع الطريق: يتبع الخطوة السابقة توقعات دقيقة لحسابات الدخل المنتظر، فبين أي نقطتين هناك في العادة عدد من الخطوط التي يمكن أن تصل بينهما، والخطوة الأساسية هي اختيار الخط الأفضل حتى يمكن أن يحصل التعادل بين مجموعتين من الاعتبارات؛ أولاهما: تلك التي من شأنها أن ترفع الدخل الناتج من التشغيل، والثانية: تلك التي يمكن أن تؤدي إلى خفض الأرباح.
ومن بين الاعتبارات الهامة في زيادة الدخل، محاولة توقع كمية الحركة التي يمكن أن يحملها الخط في النقاط المتوسطة بين نقطتي البداية والنهاية. وهناك في الواقع خطوط حركة ناجحة لأن مواقعها تؤدي إلى ضمان حركة نقل متوسطة، أو لأن هذه الخطوط قد نجحت في خلق حركة متوسطة، ومع ذلك فإن هناك خطوطًا أخرى أساسها خدمة مباشرة بين نقطتي البداية والنهاية.
ولا يتوقف اختيار الطريق على هذه الاعتبارات فقط، بل هناك عوامل أخرى تلعب دورها الهام في اختيار مواقع الطرق، فأحيانًا تكون أقصر المسافات بين نقطتين هي أنجحها من حيث تقصير المسافة والإقلال من مصاريف الإنشاء والتشغيل، لكن هناك عوائق جغرافية قد تقف عقبة أمام الطريق الأقصر تجعل نفقات تشغيله أعلى من الطريق الأطول، مثلًا ارتقاء منحدرات عالية، أو المرور بمنطقة مستنقعية، أو عبور مجارٍ مائية عديدة، أو وجود موسم يتعرض فيه الطريق للجليد أو الانهيارات الجليدية — كل هذه العوائق وغيرها تحتاج إلى استعدادات خاصة لا بد من إيجاد استثمارات لها إذا أريد فتح الطريق أمام الحركة بصفة مستمرة؛ ولهذا قد يكون الطريق الأطول أوفر ربحًا في تشغيله، هذا بالإضافة إلى أن الطريق الأطول غالبًا ما يمر بمناطق عمرانية تزيد من حركة النقل في منطقته الوسطى.
وفي الواقع تدل الدراسات الخاصة بتوقعات الحركة على طرق المواصلات، على أن الطرق القليلة التكلفة عند إنشائها ليست هي الطرق الأقل أجورًا في نقل البضائع والأشخاص؛ نظرًا لارتفاع نفقات تشغيلها، وبرغم ذلك فإن هناك عدة اعتبارات، سياسية أو استراتيجية أو اجتماعية، كانت تتدخل — ولا تزال — في اختيار الطرق ومساراتها لأسباب غير اقتصادية في كثير من الأحيان، ولكن مثل هذه الخطوط — كما سبق القول — تصبح على مر الزمن محاور لنشاط اقتصادي مستحدث، إلى جانب وظيفتها الأولى التي أُنشئت من أجلها.
وفي الفترة الأخيرة دخل اتجاه حديث على موضوع معالجة وفهم خطوط المواصلات، والهدف الأساسي من الاتجاه الحديث هو النظر إلى الطرق كلها على أنها تكون نظامًا للنقل والحركة وليست مجرد طرق فردية، ويُطلق على هذه النظرة التجميعية الشبكة الهندسية، وبمقتضى ذلك ينظر إلى الطرق الجوية أو البرية على أنها بناء متكامل يربط عدة نقط (مدن)، وأن أية إضافة على هذه الشبكة لن تعني ربط نقطة بأخرى، بل نقطة بكل النقط التي تربطها الشبكة من قبلُ؛ ومن ثم فإن الإضافات الجديدة تخلق استجابات جديدة في كل الشبكة، وفي الواقع فإن نظرة الشبكة هذه ترتبط في أساسها بقيام عملية التخطيط والتنمية في المجالات الاقتصادية، التي تأخذ في الوقت الحالي نصيبًا متزايدًا من اهتمامات المفكرين والسياسيين والاقتصاديين، سواء في العالم النامي أو المتقدم.
وفي المجموع فإن قرارات إنشاء الطرق الجديدة عملية معقدة مركبة يحسب فيها حسابات كثيرة من وجهة نظر اقتصاديات النقل، بالإضافة إلى اعتبارات أخرى اقتصادية وبشرية وطبيعية. وقد أصبح اختيار الطريق من بين الاهتمامات التي تشغل بال الجغرافيا الاقتصادية وجغرافية النقل لما لها من حساسية وتأثيرات تنعكس على موضوع الإنتاج والتجارة الداخلية والخارجية معًا.
(٤-٣) وسائل نقل مختلفة وتكلفة نقل مختلفة
وليس من السهل حساب تكلفة طن/ميل بالنسبة لكل وسائل النقل في كافة ظروف التشغيل، وتشتمل ظروف التشغيل على حسابات تحرك وسيلة النقل في طريق مُعبَّد أو غير مُعبَّد، في بيئة جبلية أو سهلية، في الشتاء أو في الصيف، في موسم الأمطار أو الجفاف، في البيئة القطبية أو الاستوائية، في جو عاصف مفاجئ أو في ظروف جوية عادية، فلكلٍّ من هذه الظروف احتياجات خاصة تؤدي إلى اختلاف حسابات التكلفة بالنسبة لوسيلة النقل ذاتها مع تغيُّر الظروف، وليس هذا هو كل الاختلاف، بل هناك أوجه اختلاف أخرى مصدرها البشر وكثافة البشر وكثافة النشاط والحركة البشرية.
فبالنسبة لوسيلة النقل ذاتها يحدث اختلاف في التكلفة بين حركة ميناء حر وآخر مقيد بالجمارك، وبين حركة النقل في ميناء واسع مجهز، وبين ميناء آخر يضيق بالسفن ويؤخر شحنها أو تفريغها، بين ميناء تسير فيه الحركة طبيعية في وقت ما، ويضرب فيه عمال الشحن أو موظفو الميناء في وقت آخر، بين ميناء تخدم ظهيره وسائل نقل منتظمة وآخر تتذبذب فيه حركة النقل البري، وينطبق هذا على الموانئ الجوية والطرق البرية ومحطات السكك الحديدية. وهناك إذن عشرات المسببات التي تؤدي إلى تغيُّر تكلفة نقل الأشخاص والبضائع.
وبرغم هذه الاختلافات العديدة المتداخلة والمتشابكة، فإنه في الإمكان حساب متوسطات تكلفة نقل طن/ميل على وسائل النقل، باعتبار أن ظروف تشغيلها عادية، ومن هذه الحسابات يتضح الكثير من الفروق في التكلفة كما يظهر من الأرقام التالية:
النقل القديم | النقل الحديث | ||
---|---|---|---|
الوسيلة | سنت أمريكي للطن | الوسيلة | سنت أمريكي للطن |
النقل بواسطة الحمالين: تكلفة الحمال الواحد | من ٢٥ إلى ١٠٠ | سفن البحيرات العظمى الأمريكية | ٠٫١ |
عربات الخيل | ٢٥ | السفن المحيطية | ٠٫٢ |
| | السفن النهرية | ٠٫٤ |
| | السكك الحديدية | ١٫٤ |
| | النقل البري بالشاحنات | ٦ |
| | النقل الجوي | ٢١ |
- أولًا: أن النقل بالوسائل القديمة كان أعلى من مثيله بالنسبة للوسائل الحديثة، وينبع هذا أساسًا من أن سعة الحمولة في وسائل النقل القديمة أقل بكثير من مثيلاتها في الوسائل الحديثة، ويكفي للمقارنة أن نتصور قدرة الحمال على النقل بالمقارنة بشاحنة حديثة تجري على الطريق السريعة من حيث الكمية المنقولة، ومن حيث السرعة في الأداء، وبالمناسبة فإن هذه المتوسطات الرقمية لتكلفة النقل تعطينا دليلًا جديدًا على صعوبة النقل في الماضي؛ ومن ثم اقتصار التجارة العالمية على السلع ذات القيمة، وتجنب السلع التي لها بدائل محلية كأنواع الأغذية والمنتجات الحرفية التي تُستخدم في الأغراض اليومية (الفخار والأواني المستخدَمة في الطهو)، بينما نجد التجارة العالمية في الوقت الراهن تتناول كل الأشياء المنتجة — غذائية أو حرفية، فضلًا عن السلع الصناعية — وذلك بفضل التيسيرات التي قدمها نمو وسائل النقل.
- ثانيًا: هناك فوارق كبيرة بين تكلفة النقل بالنسبة للوسائل المختلفة، والقاعدة العامة هي أن اتساع حجم الوسيلة وزيادة استيعابها للحمولات المنقولة تعمل على تخفيض أسعار النقل، ولما كانت وسائل النقل المائي عامة أكبر حجمًا فإنها بالضرورة أرخص كثيرًا في أجور النقل، ويكفي أن تعرف أن النقل الجوي يكلف مائة ضعف أو أكثر بالمقارنة بالنقل المحيطي، وأن النقل الحديدي يكلف حوالي ربع تكلفة النقل البري، وهذا يفسر لنا الأهمية الضخمة للنقل البحري العالمي، ويوضح اعتماد التجارة العالمية على هذا النوع من النقل اعتمادًا أساسيًّا، وبالمثل نرى أهمية النقل الحديدي بالمقارنة بالنقل البري، إلا في حالات خاصة. وكذلك تتضح أهمية النقل النهري الداخلي حتى بالمقارنة بالنقل الحديدي.
- ثالثًا: إن الانخفاض المذهل في تكلفة النقل بالنسبة لسفن البحيرات العظمى الأمريكية يوضح لنا كيف أن وسائل النقل الخاصة بسلعة معينة يمكن أن تؤدي إلى هذا الاقتصاد الهائل في تكلفة النقل، فسفن البحيرات العظمى الأمريكية تتخصص في نقل خام الحديد من مناطق الإنتاج حول بحيرة سوبيريور إلى مناطق الصناعة الثقيلة حول بحيرة إيري. وكذلك هناك سفن خاصة تنقل الحبوب في البحيرات العظمى في الاتجاه نفسه؛ أي من مناطق الإنتاج في السهول الأمريكية الوسطى إلى مناطق الاستهلاك الضخمة داخل نطاق الصناعة والخدمات في شمال شرقي الولايات المتحدة وشرقي كندا، وفي مقابل ذلك تنقل السفن الفحم من موانئ بحيرة إيري إلى البحيرات الغربية. ولا شك أن تكلفة النقل في ناقلات البترول الخام والمكرر، وأنابيب نقل البترول والغاز الطبيعي، وأسلاك الكهرباء، وغيرها من وسائل النقل الخاصة، تؤدي بدورها إلى تكلفة نقل شديدة الانخفاض.
وإلى جانب هذه الحقائق النسبية التي توضح أثر التكلفة في نمو شكل أو أشكال من نمط التجارة الداخلية أو الدولية، فإن هناك عوامل أخرى غير أجور النقل، تتحكم أو تساعد على اختيار السلع لوسائل نقل معينة. وبعبارة أخرى فإن تكلفة النقل ليست كل شيء في عمليات النقل.
والتأمين هو من بين العناصر التي تلعب دورًا هامًّا في رفع أو خفض تكلفة النقل؛ ذلك أن كل السلع المنقولة — بما في ذلك وسيلة النقل — مؤمَّن عليها من قِبل شركات التأمين المختلفة، محلية كانت أو عالمية، وتُمثِّل شركة اللويدز أكبر شركات التأمين في النقل البحري، ومما لا شك فيه أن ارتفاع قيمة التأمين أو انخفاضه يمكن أن يؤدي إلى تغيُّر في جملة تكلفة النقل، وبذلك يلعب التأمين دورًا منافسًا بين شركات ووسائل النقل المختلفة.
ومن المعروف أن أجور النقل ترتفع كلما كانت مسافة النقل طويلة، لكن الملاحظ أن هذه الأجور لا ترتفع إلى ما لا نهاية، بل نجد نسبة تزايد الأجور تأخذ في الانخفاض بعد مسافة معينة، تحسب لكل وسيلة نقل في كل بيئة جغرافية واقتصادية وحضارية حسابًا خاصًّا، ومعنى ذلك أن منحنى الأجور الخاصة بالنقل يأخذ في الانخفاض تدريجيًّا، ولا يزيد زيادة مطَّردة كلما طالت مسافات النقل، ولو كان الأمر غير ذلك لشكلت أجور النقل عبئًا على التجارة لا تحتمله السلع التي تسوق في أماكن بعيدة عن مراكز إنتاجها.
ومع ذلك كله، فإنه يمكن التحكم في أسعار النقل بحيث لا تشكل إضافة خطيرة لسعر السلعة، وبذلك يصبح النقل أداة هامة من أدوات تخطيط الإنتاج السلعي وتوجيه حركته نحو السوق. ومن أهم طرق التحكم في أجور النقل تخطيطه في كل منطقة بحيث يصبح مرتبطًا بوسيلة نقل معينة، أو إنشاء وسائل نقل خاصة بسلع معينة؛ مما يؤدي إلى خفض التكلفة كثيرًا، وذلك برغم ما يتكلفه بناء الوسائل الخاصة في النقل من رأسمال تأسيسي، لكن العائد الاقتصادي في النهاية أكبر من النقل المشترك.
ومن الأمثلة القريبة للذهن أن الشحن بالقطارات أو السفن أو الطائرات المخصصة لركوب الناس أعلى أجورًا من الشحن في قطارات البضائع أو السفن والطائرات المخصصة للشحن فقط. وكذلك الحال في نقل خام الحديد أو الحبوب أو الرمال في ناقلات مائية خاصة أرخص اقتصاديًّا من نقلها في سفن عادية، وبالمثل يَصدق ذلك على نقل البترول في سفن خاصة، أو أنابيب، والأمثلة كثيرة: الغاز الطبيعي، والتيار الكهربائي من بين أمثلة أخرى كثيرة.
(٥) نظريات في مواقع الإنتاج والسوق وتكلفة النقل
نظرًا للدور الذي يلعبه النقل في تسويق المنتجات أيًّا كانت، زراعية أو تعدينية أو صناعية، فإن كثيرًا من الكتَّاب قد تكلموا عن نظريات خاصة بأثر النقل في التسويق، وبذلك تحديد مواقع الإنتاج الأولي والثنائي بالنسبة للأسواق. وفيما يلي عرض موجز لبعض هذه النظريات:
(٥-١) حلقات فون تونن Von ThÜnen١
- (١)
إذا تصورنا مدينة واحدة منعزلة عن الاتصال بأية مدن أخرى، وتسيطر على ظهير إنتاجي خاضع لنفوذ سوق المدينة.
- (٢)
وأن الظهير متناسق المظاهر من الناحية الطبيعية (مقومات الإنتاج الزراعي والرعوي والغابي من حيث ظروف التربة والتضاريس والمناخ)، وأنه ينتج محاصيل العروض الوسطى (كما هو الحال في مزرعة تونن).
- (٣)
وأن الفلاحين راغبون في رفع أرباحهم بتعديل نمط إنتاجهم حسب طلب السوق.
- (٤)
وأن هذا الظهير تخدمه وسيلة واحدة من وسائل النقل الأرضي (عربات الخيل في عصر فون تونن).
- (٥)
فإن النتيجة هي أن تكلفة النقل تصبح مطَّردة الزيادة مع ازدياد المسافة بين مكان الإنتاج والسوق. ويترتب على ذلك أن أرباح الإنتاج هي التي تصورها معادلة فون تونن: ر = ق − (ت + ن).
حيث «ر» = الأرباح. «ق» = قيمة السلعة في السوق. «ت» = تكلفة الإنتاج. «ن» = تكلفة النقل.
ولتوضيح ذلك ساق فون تونن مثالين: الأخشاب والحبوب على النحو التالي:
إنتاج فدان من الأخشاب | إنتاج فدان واحد من الحبوب | |||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|---|
البعد عن السوق «كم» | سعر السوق «ق» | تكلفة الإنتاج «ت» | تكلفة النقل «ن» | الربح «ر» | سعر السوق «ق» | تكلفة الإنتاج «ت» | تكلفة النقل «ن» | الربح «ر» |
١ | ٢٠٠ | ١٤٠ | ٢٠ | ٤٠ | ٨٠ | ٥٠ | ٦ | ٢٤ |
٢ | ٢٠٠ | ١٤٠ | ٤٠ | ٢٠ | ٨٠ | ٥٠ | ١٢ | ١٨ |
٤ | ٢٠٠ | ١٤٠ | ٨٠ | | ٨٠ | ٥٠ | ٢٤ | ٦ |
٦ | ٢٠٠ | ١٤٠ | ١٢٠ | | ٨٠ | ٥٠ | ٣٦ | |
ويتضح من هذا أن حجم الإنتاج يؤدي إلى زيادة تكلفة النقل، فحيث إن حجم الأخشاب أكبر بكثير من حجم الحبوب، فإنها تستدعي عدة رحلات من الحقل إلى السوق بنفس وسيلة النقل؛ لهذا فإن نقل إنتاج فدان من الأخشاب يكلف أكثر من ثلاث مرات نقل إنتاج نفس الفدان من الحبوب.
وبالرغم من أن تجربة فون تونن قد تقادم عليها العهد كثيرًا، فلم تعُد هناك وسيلة نقل واحدة بالطريقة التي عاشها (حجم محدود في النقل)، وبالرغم من الافتراضات الكثيرة التي وضعها لصياغة حلقاته — وكلها افتراضات نظرية — برغم ذلك كله فإن لهذه النظرية حتى الآن وجهًا من الصحة والقوة. صحيح أنه من الصعب أن نجد مكانًا منعزلًا، كما جاء في «دولة» فون تونن الافتراضية، وصحيح أن وسائل النقل من حيث السعة والسرعة والكفاءة، قد باعدت كثيرًا بين واقعنا اليوم وواقع القرن ١٨، ولم تعُد تكلفة النقل متزايدة باطراد زيادة المسافة، ولكن هناك تنظيمًا ما يقترب كثيرًا من تنظيم فون تونن حول الأسواق المحلية أو الرئيسية، فما لم تكن هناك وسائل نقل رخيصة للمنتج الكبير الحجم، فإن هذا المنتج يميل إلى التمركز في حلقة قريبة من السوق.
ويضاف إلى ذلك عوامل أخرى كثيرة غير النقل، ومن بين هذه العوامل مدى تحمل المنتج للنقل الطويل. فالسلعة التي تتعرض للعطب السريع تُنتَج قريبًا من السوق، والسلعة ذات الربح الأوفر هي التي يمكنها أن تتحمل إيجارات الأراضي المرتفعة القريبة من الأسواق، بينما تذهب السلع الأقل ربحًا إلى حلقات إنتاجية بعيدة عن السوق؛ وعلى هذا يمكننا أن نقول إن الخضروات أو الألبان يجب أن تحتل الحلقة المجاورة للمدينة؛ لأنها من السلع السريعة العطب التي لا تتحمل نقلًا طويلًا، ولأن أرباحهما وفيرة، هذا في الوقت الذي تحتل فيه الحبوب وإنتاج الجبن أو الزبد حلقات خارجية.
وخلاصة القول أن نظرية فون تونن كانت نظرية رائدة في الدراسات الاقتصادية عامة، وأنها أوضحت أثر النقل على تنظيم أنماط الإنتاج في علاقتها بالسوق، وأن لهذه النظرية بعض القوة التطبيقية حتى وقتنا الراهن.
(٥-٢) نظرية فاقد الوزن وتكلفة النقل
تعبر هذه النظرية — في جوهرها — عن العلاقة بين فقدان وزن السلع المنتجة بالنسبة للخامات المستخدَمة في صناعة هذه السلع، وبين تكلفة النقل، وبذلك فإن النظرية هي محاولة لفهم مواقع الصناعات بين السوق من ناحية وبين أماكن إنتاج هذه الخامات. ويوضح الجدول اللاحق حالات مختلفة للتعرف على نماذج تؤيد هذه النظرية.
ويتضح من هذه الحالات الافتراضية أنه كلما كان فاقد الوزن كبيرًا، كان من الأوفق إقامة المصنع في مصدر الخامة، كما هو واضح في حالتي ٣ و٤، بينما نجد في حالتي ١ و٢ أن فاقد الوزن أقل؛ مما دعا إلى إقامة المصنع في مركز الاستهلاك؛ أي السوق.
لكن هذه النظرية تركز كثيرًا على تكلفة النقل فقط، وتفترض أن ما عداها من العوامل التي تلعب دورها في سعر المنتج، عوامل متساوية الأهمية، ولكن ذلك ليس صحيحًا في حسابات الواقع، فسعر نقل الخامة أقل بكثير من سعر نقل السلعة المصنَّعة أو شبه المصنَّعة. فإذا أدخلنا ذلك في حساباتنا نجد أن السوق تصبح عامل جذب أكبر لتوطين الصناعة بالقرب منها، بغض النظر عن فاقد الوزن.
الحالة | فقدان الوزن | تكلفة النقل إذا كان المصنع | |
---|---|---|---|
في مصدر الخامة | في مركز السوق | ||
(١) ١٠٠٠ طن خامة تصنع إلى ١٠٠٠ طن سلع | صفر | نقل ألف طن سلعة إلى السوق بسعر ٢٠ جنيهًا للطن من المصنع للسوق = ٢٠٠٠٠ جنيه | نقل ألف طن خامة من المصدر إلى المصنع بسعر ١٠ جنيهات للطن = ١٠٠٠٠ جنيه |
(٢) ١٠٠٠ طن خامة تصنع إلى ٦٠٠ طن سلع | ٤٠٪ | نقل ٦٠٠ طن سلعة من المصنع إلى السوق بسعر ٢٠ = ١٢٠٠٠ جنيه | نقل ألف طن خامة من المصدر إلى المصنع بسعر ١٠ جنيهات للطن = ١٠٠٠٠ جنيه |
(٣) ١٠٠٠ طن خامة تصنع إلى ٤٠٠ طن سلع | ٦٠٪ | نقل ٤٠٠ طن سلعة من المصنع إلى السوق بسعر ٢٠ = ٨٠٠٠ جنيه | نقل ألف طن خامة من المصدر إلى المصنع بسعر ١٠ جنيهات للطن = ١٠٠٠٠ جنيه |
(٤) ١٠٠٠ طن خامة تصنع إلى ٥٠٠ طن سلع | ٥٠٪ | نقل ٥٠٠ طن سلعة بسعر ١٧ جنيهًا للطن = ٨٥٠٠ جنيه | نقل ألف طن خامة من المصدر بسعر ٩ جنيهات للطن = ٩٠٠٠ |
وفكرة النقاط الوسيطة على طول خط شحن تتغير فيه وسيلة النقل قد طبقت بنجاح كمواقع حديثة للصناعات؛ ومن ثم فإن الموانئ الكبيرة قد أصبحت في الفترة الأخيرة تضيف الوظيفة الصناعية إلى مجموع وظائفها الأخرى كتطور حديث في جغرافية الصناعة، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أن موانئ استقبال البترول الخام قد تحولت إلى مراكز للصناعات البتروكيميائية، وبدلًا من إعادة شحن البترول الخام إلى مراكز الصناعة القديمة الداخلية، أصبحت مشتقات البترول تُنقل في أنابيب وشاحنات خاصة في صورة مصنعة من الموانئ إلى مراكز الاستهلاك.
(٥-٣) نظرية فيبر ومثلث المواقع في الصناعة A. Weber
- (١)
هناك موارد منتشرة الوجود كالرمال والمياه، وموارد يتحدد ظهورها بأماكن محددة كالفحم والحديد.
- (٢)
إن العمالة متوفرة، لكنها مركزة في أماكن محددة.
- (٣)
ومن ثم فإن تكلفة النقل تصبح مرتبطة بالوزن والمسافة.
وقد انتهى فيبر إلى القول بأن مواقع تشييد المصانع يجب أن تكون استجابة لثلاث قوى، هي: القيمة النسبية لتكلفة النقل، وتكلفة العمالة، وأخيرًا عنصر «التجمع».
- أولًا: في حالة وجود سوق واحدة وخامة واحدة:
- (١) إذا كانت الخامة منتشرة في أماكن عديدة فالمصنع ينشأ في السوق؛ حيث إن تكلفة النقل ستدفع فقط بالنسبة للخامة.
- (٢) إذا كان مصدر الخامة متوطنًا في مكان معين. وكان الخام لا يفقد وزنًا، فإن المصنع يقام في مصدر الخامة أو السوق بدون بروز عامل حاسم في التفضيل.
- (٣) إذا كان مصدر الخامة متوطنًا وتفقد الخامة وزنًا أثناء عملية تصنيعها، فإن المصنع ينشأ على الفور في مكان وجود الخامة.
- ثانيًا: في حالة وجود سوق واحدة ومصدرين للخامة نجد الحالات
التالية:
- (١) الخامتان «أ»، «ب» منتشرتان؛ فإن عملية التصنيع تكون في السوق.
- (٢) خامة «أ» منتشرة، وخامة «ب» متوطنة في مكان، وبافتراض أن كليهما يشكلان خامات نقية أو قليلة الشوائب؛ فإن المصنع يقام في السوق؛ وذلك لأن تكلفة النقل سوف تدفع على الخامة «ب». أما إذا أقيم المصنع في مكان الخامة «ب» فإن تكلفة النقل سوف تدفع على السلعة المصنَّعة. وبما أن الخامتين لا تفقدان وزنًا، فإن معنى ذلك أن تكلفة نقل السلعة المصنَّعة ستكون أعلى لأن وزنها = وزن الخامتين معًا.
- (٣) الخامتان «أ» و«ب» نقيتان ومتوطنتان في مكانين، فإن المصنع يقام في السوق؛ لأن الخامتين سوف ترسلان إلى السوق مباشرة؛ وذلك لأنه لو أقيم المصنع في أحد مصادر الخامتين فإن النقل سيكون على النحو التالي: من مصدر خامة «أ» إلى مصدر خامة «ب»، ثم تصنع الخامتان وتنقل السلعة المصنَّعة إلى السوق، وهي في هذه الحالة تعني تكلفة نقل وزن الخامتين معًا + تكلفة نقل وزن الخامة الأولى.
- (٤) إذا كانت الخامتان متوطنتين وتفقدان وزنًا فإن الحل يصبح معقدًا. وقد أدخل فيبر فكرة «مثلث المواقع» لحل هذه القضية (انظر الشكل رقم ٣-٤) بطريقتين، تبعًا لظروف مختلفة. فإذا كانت إحدى الخامتين تفقد وزنًا أكثر من الأخرى، فإن المصنع يقام إلى جوارها، أو إذا كانت الحاجة إلى إحداهما أكثر من الأخرى، فإن المصنع يقام عند مصدر هذه الخامة. أما الطريقة الثانية فتفترض أن فقدان الوزن متساوٍ في كلتا الخامتين، والحاجة إليهما متساوية من ناحية الكمية؛ فإن المصنع يقام بينهما في نقطة «ﺟ» لصغر المسافة بينهما وبين السوق (= ٥٠كم من خامة أ إلى ﺟ + ٥٠كم من خامة ب إلى ﺟ + ٨٧كم من ﺟ إلى السوق)، بينما تصبح المسافة المنقولة في أي من رءوس المثلث أكبر (١٠٠ + ١٠٠كم).
وقد لقي مثلث فيبر هجومًا على أساس: (١) أن تكلفة النقل لا ترتفع باطِّراد. (٢) أن تكلفة النقل للخامات عادة أرخص من تكلفة نقل السلع المصنَّعة، وهذا هو الهجوم الذي تتعرض له حلقات فون تونن، وبرغم ذلك فإن نظرية فيبر تُعَدُّ بحق الخطوة الكبرى في نظرية المواقع؛ ذلك أن النظرية يمكن أن تطبق على أرقام من واقع تكلفة النقل الفعلية، ويمكن تطوير «المثلث» إلى «مربع» مواقع في حالات معقدة مثل وجود سوقين وخامتين بدلًا من سوق واحدة وخامتين.
ومما يُذكر لفيبر أنه لم يقف موقف الملتزم الصارم بمثلث المواقع وأهمية تكلفة النقل في اختيار مواقع الصناعة، بل إنه قد اعترف بدور تكلفة العمالة كعامل آخر يحسب حسابه في مواقع الصناعة، فحيث تكون أجور العمال أرخص يمكن أن يصبح ذلك عامل جذب للصناعة. وقد ظهر ذلك بوضوح كعامل وراء خروج الاستثمارات الأمريكية إلى أوروبا واليابان، حيث العمالة الصناعية أرخص من مثيلتها في الولايات المتحدة.
(٦) تعقُّد وتشابُك مشكلات النقل
في ختام هذا الفصل الثالث نحب أن نؤكد على بعض النقاط الهامة في دور النقل كعامل مؤثر في النشاط الاقتصادي، ومن بين ما ترجع إليه أسباب هذا التأثير كفاءة الشحن والتفريغ مع قلة الخسائر إلى الحد الأدنى الممكن.
وقلة الخسائر في عمليات الشحن والتفريغ تنطوي هي الأخرى على مفهوم واحد محدد؛ ذلك هو زيادة الأرباح، وعلى الرغم من أن كافة السلع والبضائع معرَّضة لبعض الخسائر أثناء عمليات النقل، فإن الإقلال من هذه الخسائر — ما أمكن — يؤدي إلى زيادة أرباح النقل من ناحية وأرباح السلعة في السوق من ناحية ثانية؛ وذلك لأن قيمة الخسائر تضاف عادة — أو تحسب على سعر السلعة. وأيًّا كان الأمر، فإن البضائع والسلع تختلف فيما بينها بطبيعة تعرُّضها للخسائر، أو درجة احتياجها لسرعة النقل. فخام الحديد الناعم يخسر حوالي ٢٥٪ من وزنه أثناء عملية التفريغ والشحن، وبعض البضائع سريعة العطب؛ مما يؤدي إلى خسارة جزء منها مع طول انتظارها على أرصفة الموانئ أو في مخازنها.
النقطة الثانية هي أن شرايين المواصلات المفردة أو الشرايين المزدوجة التي تصبح وحدها دعامة النقل الرئيسية في إقليم أو دولة، تتعرض إلى ضغوط شديدة في عمليات النقل؛ مما قد يتسبب عنه تأخير أو تلف في بعض الأحيان. والأمثلة على ذلك خطوط السكك الحديدية في أستراليا الغربية أو سيبيريا الشرقية أو كندا الوسطى والغربية، أو أفريقيا الوسطى، أو خط حديد الصعيد في مصر، أو خطوط السكك الحديدية في السودان … إلخ. والسبب الرئيسي راجع إلى عدم وجود طرق نقل أخرى مساعدة تجري موازية لهذا الخط أو ذاك، بل على العكس نجد أن طرق النقل الأخرى، برية أو نهرية، كثيرًا ما تتعامد على محور النقل الرئيسي وتلقي بحمولاتها على عاتق الخط الرئيسي مما يزيد في أعبائه. وبذلك فإن النمط العام للنقل في مثل هذه الحالات يصبح متكاملًا مع اختلاف وسيلة النقل، بينما كان يجب أن يكون منافسًا أو مساعدًا بمعنى وجود عدة طرق تجري في محور واحد. ومن الطبيعي أن تزداد الخسائر الناجمة عن كثرة الحركة في هذا النمط من النقل، خاصة إذا تعرَّض الخط إلى التعطل بفعل عوامل طبيعية، كالفيضانات أو الانهيارات الثلجية أو السيول المفاجئة، وذلك حسب اختلاف البيئات الطبيعية.
النقطة الثالثة هي أن وسائل النقل تتعرض لتأثير عدد من الظروف البشرية الطارئة التي تسبب توقف العمل فترات محدودة أو طويلة نسبيًّا. وأهم هذه الظروف إضرابات عمال الشحن من أجل رفع الأجور، ومما لا شك فيه أن الخلل الناجم عن الإضرابات — حتى لو استغرقت وقتًا قصيرًا — يتضخم كثيرًا في سير عمليات النقل؛ لأنه يؤدي إلى ارتباك كبير في الزمن المتعاقد عليه من أجل نقل السلع، وتستغرق عملية إعادة الأمور إلى سيرها الطبيعي وقتًا وجهدًا إضافيين.
كذلك يحدث الإضراب بين عمال الشحن احتجاجًا على البطالة التي يتسبب فيها دخول الآلات الحديثة في عمليات النقل بدلًا من العامل البشري. ومما يزيد الأمور تكلفة أن هيئات الموانئ أو مرافق النقل تضطر إلى دفع معاشات تقاعد للعمال الذين تسببت الآلات الحديثة في تقاعدهم، وكل هذا يؤدي إلى زيادة رسوم النقل في الموانئ أو محطات السكك الحديدية، وهو بدوره يزيد تكلفة النقل.
وللتكنولوجيا الحديثة دورها أيضًا في إحداث بطالة أو كساد في عدد من الموانئ النشطة سابقًا، فإن كبر غاطس السفن نتيجة لزيادة حمولتها، كثيرًا ما أدى إلى أحد أمرين: أولهما أن تهبط الحركة في الموانئ غير المجهَّزة لاستقبال هذه السفن من حيث عمق مياه المرفأ وأطوال أرصفته ومساحة مخازنه، وحجم شرايين النقل البري التي تخدم الميناء، ويؤدي ذلك إلى تحوُّل السفن الكبيرة إلى موانئ أرحب وأكثر تلاؤمًا مع متطلبات النقل الحديثة، وفي هذا نلمح اتجاهًا واضحًا نحو ازدياد احتكارية عدد قليل من الموانئ، بينما تكسد الحركة في موانئ كثيرة اعتيادية. والأمر الثاني أن تلجأ الموانئ إلى استثمارات ضخمة لتعميق الميناء وإطالة أرصفته، وتجهيزه بالوسائل الحديثة، وزيادة رقعة المخازن، وإيجاد وسائل نقل برية أكثر كفاءة، لمواجهة الحجم المتزايد للسفن والبضائع.
ومن بين الأسباب البشرية الأخرى التي تؤدي إلى تغيُّر كبير في وظائف الموانئ بالارتباط باحتياجات العصر، نشأة موانئ جديدة أو أرصفة خاصة في الموانئ الواسعة، مخصصة ومجهَّزة لاستقبال ناقلات البترول الضخمة أو العملاقة، وإذا استمر اتجاه العالم إلى الاعتماد المتزايد على ناقلات ضخمة، فإن ذلك سوف يكون مصدر تهديد خطير للموانئ الصغيرة التي كانت تتعامل مع ناقلات البترول الصغيرة أو الاعتيادية.
ومُجمل القول في هذا الصدد أن كثيرًا من الموانئ التي لا تستطيع مواجهة أساليب النقل البحري والبري الحديثة، مضطرة — للأسف — إلى البحث عن أشكال جديدة من الوظائف والنشاطات الاقتصادية في قطاع الصناعة أو قطاع الخدمات؛ لمواصلة إمداد السكان بمصادر للرزق، فإذا كانت هذه الموانئ في مواقع ملائمة فإنها تتحول إلى تكثيف حرفة السماكة، أو الاتجاه إلى الصناعات التحويلية أو الصناعات الخفيفة، أو على الأقل إلى النشاط السياحي والترفيهي، وذلك حسب ظروفها الطبيعية ومواقعها وظهيرها. ورويدًا رويدًا قد تهدأ الحركة ويتحول السكان إلى مناطق أخرى، وتصبح هذه المدن الموانئ قرى هادئة يقصدها طلاب الراحة وأصحاب المعاشات! ولا شك أن هذه الصورة، مهما كانت درجة قتامتها، قد تكررت كثيرًا في الماضي؛ فإن عهد السفن التجارية وسفن المحرِّكات والموتورات قد قضى على نشاط كثير من الموانئ النشطة في عصر السفن الخشبية ذات الشراع، وأن كثيرًا من هذه الموانئ قد تحولت في بريطانيا وفرنسا والبحر المتوسط وغير ذلك من أماكن، إلى النشاط الترفيهي والسياحي، أو على أحسن الفروض إلى قرى تعيش على السماكة.
ولا يقتصر الأمر على الموانئ البحرية أو النهرية أو مراكز تجمُّع المواصلات البرية الأخرى، بل إن عصر الطيران النفاث قد أحدث تغيرات سريعة جدًّا في مواقع المطارات وتجهيزاتها بالقياس إلى ما كانت عليه في عصر طائرات المحرِّكات. فاحتياجات النفاثات السريعة إلى مدارج طويلة قد غير مواقع المطارات، وتكنيك الهبوط والإقلاع والشحن والتفريغ وقاعات استقبال الركاب، ويتذكر الكثير منَّا أحجام المطارات القديمة بالقياس إلى المطارات الحديثة.
وكما كانت هناك في عصر سفن الشراع موانئ بحرية عديدة في الإقليم الواحد، كان هناك في عصر طيران المحرِّكات مطارات عديدة في الإقليم الواحد. وقد كان ذلك مرتبطًا بمدى الطيران القصير لتلك الطائرات، وحاجتها إلى النزول للتزود بالوقود على مسافات معقولة. أما مدى الطيران في العصر النفاث فقد زاد كثيرًا؛ مما دعا — من ناحية اقتصاديات النقل — إلى ضرورة تباعد المطارات؛ ومن ثم نما نمط الموانئ الجوية الاحتكارية، وأصبح هناك عدد محدود من المطارات في العالم، تشكل نقط التقاء رئيسية في خطوط النقل الجوي العالمية. أما المطارات الصغيرة القديمة فإنها تخدم النقل الجوي الداخلي الذي ما زال يستخدم أنواع الطائرات القديمة، أو نفاثات صغيرة قصيرة المدى بحيث يمكن تشغيلها اقتصاديًّا على شبكة الخطوط الداخلية في إقليم أو دولة.
- (١)
استثمارات جديدة مقابل إنشاء المطارات الجديدة.
- (٢)
إطالة خطوط الطيران فوق حاجز الصوت لتجنب مناطق المدن المركزية.
- (٣)
إطالة زمن الانتقال البري من المطار إلى المدينة، أو اتخاذ وسيلة نقل جوية أخرى أكثر ملاءمة وأسرع كالهليكوبتر (الطائرات العمودية).
هذه التغيرات في مُجملها تزيد من تكلفة النقل الجوي، وهو ما لا تسعى إليه شركات الملاحة الجوية إلا في أضيق الحدود لكي تصبح وسيلة نقل قادرة على المنافسة.
- (١)
مجموعة متغيرات ذاتية: ونقصد بها المتغيرات التي تطرأ على تكنولوجية وسائل النقل بهدف توسيع أحجامها، ولكنها تؤدي إلى نمو نمط احتكاري في عدد يسير من نقط الانطلاق ونهايات خطوط الحركة أيًّا كان نوع وسيلة النقل.
- (٢)
مجموعة متغيرات في اقتصاديات النقل: وهذه تؤدي إلى ارتفاع كبير في الاستثمارات والقروض والفوائد المدفوعة على تلك القروض، وكلها تعود وتنصبُّ على أجور النقل وتشكل عبئًا على كاهل الركاب أو الشاحنين.
- (٣)
مجموعة العناصر الطبيعية: وهذه تتحكم أو تعطي أفضليات معينة لخطوط النقل بالارتباط بالتنظيم الطبيعي في الأقاليم أو الدول.
- (٤)
مجموعة العناصر البشرية: وترتبط هذه بعدد كبير من العوامل البشرية تبدأ بالتوزيع الإقليمي للكتل السكانية ومراكز الأسواق الرئيسية، والتنظيم الإقليمي للنشاطات الاقتصادية المختلفة، وتنتهي بالتراكيب والمكونات السياسية التي تحدد وتوجه النقل في الإطار القومي أو الإقليمي أو الاتحادي.
- (٥)
وأخيرًا: فإن تفاعل هذه المتغيرات والعوامل معًا يجعل من عملية النقل — وخاصة النقل التجاري الناجح — عملية حساسة وسريعة التذبذب ما لم تكن مرنة المرونة الكافية، ويدعو هذا إلى عقد عدد كبير من الاتفاقات الثنائية أو الإقليمية أو الدولية لتنظيم النقل، وإلى تخطيط مستمر للإبقاء على مرونته في مواجهة التغيرات السريعة الطارئة أو المستحدثة في أشكال الإنتاج وأنماط التسويق. وأخيرًا وليس أخرًا؛ أن يظل النقل نشاطًا اقتصاديًّا رابحًا، ومن أجل هذا تُعقد كثير من المؤتمرات ويحدث الكثير من المشاورات والاستشارات على نطاق محلي ودولي في شتى مجالات النقل، بما في ذلك وسائل المواصلات البريدية والسلكية واللاسلكية.