المقومات الجغرافية للنقل على اليابس
يشتمل النقل على اليابس على كافة وسائل النقل المعروفة قديمًا وحديثًا باستثناء النقل البحري والجوي. ونظرًا لأن النقل على اليابس متعدد الأنواع بهذه الصورة ولأنه مرتبط أشد الارتباط بالظروف الطبيعية من ناحية والظروف البشرية من الناحية الأخرى، فإن من الواجب أن نُلقي نظرة تجميعية شاملة على العوامل التي تساعد أو تناهض عمليات النقل المختلفة على سطح القارات الخمس، في الماضي وفي الحاضر.
(١) العنصر البشري في النقل
لما كان النقل عملية بشرية محضة، تربط بين الإنتاج والاستهلاك في منطقة محلية، أو بين مدينة وظهيرها، أو على مستوًى إقليمي واسع، فإن العامل البشري يبرز لنا أولًا وقبل كل شيء كعنصر أساسي في أنماط النقل، بل هو يكون البناء الأسفل الذي تقوم فوقه كل مقومات النقل الأخرى، ولكن نظرًا لأن هذه حقيقة شائعة، فإن الإشارة إلى العنصر البشري لن تظهر كثيرًا في الصفحات التالية إلا حينما تدعو الحاجة إلى تفسير نمط شاذ من أنماط النقل، أو بعبارة أخرى حينما لا يظهر النقل بصورة واضحة في إقليم ما، أو حينما تشتد كثافة النقل بصورة هائلة في منطقة ما.
وسبب هذا الشذوذ في نمط النقل إنما يرجع أولًا وقبل كل شيء إلى نوع الاقتصاد السائد، ففي المناطق التي تسيطر عليها اقتصاديات الجمع (= جمع النباتات التي تنمو طبيعيًّا، والصيد والسماكة) وفي المناطق التي يكون نمط الاقتصاد فيها أوليًّا (= زراعة أولية أو رعي تقليدي) فإن نمط النقل لا ينمو إلا في أبعاد ضيقة تتحدد بانتقال الأشخاص في أغلب الأحيان؛ ذلك أن هذه الأشكال من الاقتصاد في أساسها يمكن أن تُسمَّى اقتصاديات الاكتفاء الذاتي أو الإعالة أو اقتصاد الإعاشة؛ فالإنتاج يتوازى — بدرجات مختلفة حسب ظروف طبيعية أو بشرية مختلفة — مع المتطلبات الغذائية للمجتمع؛ ومن ثم فإنه يمكن لنا أيضًا أن نسميها اقتصاديات إنتاج الغذاء، وفي مثل هذه الحالات نجد المجتمعات تتكون من وحدات إنتاجية أو اقتصادية صغيرة العدد مبعثرة أو متركزة في مناطق الحصول على الغذاء مباشرة، وهي بذلك ليست في حاجة إلى تطوير وسائل نقل خاصة بالمنتجات الغذائية إلا في أضيق الحدود.
وفي المناطق التي يتكاثف فيها النقل بدرجات فوق العادة، فإن ذلك يعكس صورة مناطق نشاط احتكارية أكثر من اللازم، وتظهر هذه المناطق في الوقت الحاضر في نطاقات صغيرة المساحة شديدة الجاذبية في داخل الدول الصناعية، مثل حوض الرور أو منطقة ساحل بحيرة إيري الجنوبي أو منطقة شيكاجو أو منطقة لندن ونيويورك وباريس وموسكو. ولقد نمَت هذه المناطق الاحتكارية بفضل ظروف تاريخية وظروف علاقات المكان وظروف توفر الخامات في عصر الصناعة الحديثة، بالإضافة إلى نمو وظائف الخدمات في المدن العملاقة، وعلى رأسها وظائف خدمات التجارة بشتى أشكالها: الداخلية والخارجية والترانزيت. ومثل هذا التركيز الشديد، وإن كان من الناحية الاقتصادية مرتبطًا بالتكامل الصناعي والتجاري الاحتكاريين، إلا أنه من الناحية الاستراتيجية أصبح يكون نمطًا تاريخيًّا على عكس النمط الانتشاري الصناعي الحالي في الدول الكبرى الجديدة، وهو من ناحية النقل يُمثِّل عبئًا ضخمًا على كافة وسائل النقل؛ مما يدعو إلى المزيد منها فوق ما فيها من كثافة، ولا شك أن المزيد من وسائل النقل في هذه المناطق أصبح أمرًا شديد التكلفة بصورة تسترعي الانتباه، فأسعار الأراضي في مثل هذه المناطق عالية جدًّا، وإعادة تنظيم المباني ونهايات الطرق البرية أو الحديدية أو النهرية أو البحرية (في حالة الموانئ) أيضًا تصبح شديدة التكلفة، ويدعو هذا أو ذاك إلى كثرة بناء الطرق المعلقة للنقل البري أو الأنفاق للنقل الحديدي والبري. ولا شك أن الاستثمارات في هذه الطرق أصبحت حدِّية؛ ومن ثم فإن تكلفتها تعود بدون شك على السلع المنتجة فترتفع أسعارها.
وهكذا فان التكثيف الشديد لوسائل النقل في المناطق الاحتكارية — داخل مناطق اقتصاديات الصناعة — أمر لا يعود بالنفع على السلع المنتجة في وجه المنافسة العالمية، ويؤدي أيضًا إلى سلسلة من التفاعلات في رفع الأسعار ومطالبات رفع الأجور لمواجهة ارتفاع نفقات المعيشة، ثم تفشي البطالة والتضخم والكساد (أو نمو صناعات الحرب)؛ ومن ثم فإن نمط المناطق المحتكرة يجب أن يتغير لحل الكثير من هذه المشكلات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية.
(٢) العناصر الطبيعية في النقل على اليابس
نظرًا لأن دراسة العناصر الطبيعية منفصلة في تأثيراتها المختلفة على النقل على اليابس يفتت الموضوع المجمع، فإن أحسن دراسة شاملة لهذه العناصر هو تجميعها في صورة إقليمية لتوضيح كافة التفاعلات الطبيعية كمقدمات مساعدة أو مناهضة للنقل في كل إقليم على حدة.
- (١)
الأقاليم المدارية بأقسامها العديدة: الاستوائية والموسمية وأقاليم السفانا.
- (٢)
الأقاليم الجافة بأقسامها الحارة والباردة، وأقسامها البشرية: المأهولة وشبه المأهولة بالسكان.
- (٣)
أقاليم العروض الوسطى والمعتدلة بقسميها الرئيسيين: السهول والجبال.
- (٤)
الأقاليم الباردة أو أقاليم العروض الشمالية.
(٢-١) الأقاليم المدارية
- (١)
الحرارة.
- (٢)
الرطوبة الجوية.
- (٣)
المطر الساقط.
ولكنها تختلف فيما بينها في تنظيم منحنيات كلٍّ من هذه العناصر على مدار السنة، فالإقليم الاستوائي يتميز بتماثل رتيب في ارتفاع كميات الأمطار ودرجات الرطوبة الجوية والحرارة على أشهر السنة مع فوارق بسيطة، والاختلافات الناجمة عن التغاير التضاريسي قد لا يكون لها أثرها الواضح سوى في خفض معدلات الحرارة، لكن هذه المعدلات تظل متماثلة على أشهر السنة، والاستثناء الوحيد ذو القيمة — من ناحية الامتداد المكاني — هو منطقة الأنديز العالية في داخل النطاق المداري الأمريكي.
ويترتب على هذه الظروف نمو الغابات الاستوائية الكثيفة بأنواعها المختلفة، والتي يصلح بعضها للاستغلال الخشبي الحديث؛ ومن ثم نجد طرقًا محددة في اتجاهات هذه الموارد الخشبية. والغابات الاستوائية في مجموعها صعبة الاختراق وتكون عائقًا واضحًا أمام النقل، ولكن النقل ليس عملية أساسية نظرًا لسيادة نُظُم اقتصاديات الإعاشة عند الغالبية الساحقة من سكان المناطق الاستوائية في الأمازون أو الكنغو أو غرب أفريقيا أو غابات جزر جنوب شرقي آسيا؛ ومن ثم لا يوجد تبادل تجاري إلا في أضيق الحدود، ومع دخول هذه المناطق جميعًا في دائرة نفوذ المناطق الصناعية الشمالية، كمنطقة إنتاج للخامات الأولية (معدنية وبيولوجية نباتية وحيوانية) ظهرت الحاجة إلى طرق للنقل، وكانت الأنهار هي الوسيلة الطبيعية الوحيدة للنقل، وبرغم بعض العوائق التي تظهر في هذه الأنهار مثل شلالات لفنجستون على الكنغو الأدنى، إلا أن أنهار الأمازون والكنغو والنيجر قد استُغلت كطرق اختراق ونقل ممتازة، ولا تزال هذه الأنهار تكوِّن الشرايين الرئيسية للنقل السطحي داخل النطاق الاستوائي في أفريقيا وأمريكا الجنوبية.
وإلى جانب الأنهار ظهرت طرق أخرى حديدية وبرية في محاور متعامدة مع محور النقل النهري وليست موازية له. وبعبارة أخرى فإن ما نجده من وسائل نقل أرضية غير النهر ليست مواصلات منافسة للنقل النهري، بل إنها وسائل مكملة لهذا الشريان الرئيسي، في مجموعة من الطرق بعضها مائي وبعضها حديدي وبعضها بري لكنها في مجموعها ذات اتجاه واحد، ونادرًا ما تتصل بغيرها من الطرق الأخرى (انظر خريطة ٣-٦: النقل في زائيري كنموذج للنقل في الإقليم الاستوائي).
وبرغم بطء النقل النهري، إلا أن غالبية المواد المنقولة هي من السلع التي تتحمل البطء مثل الخامات المعدنية أو المنتجات النباتية من أخشاب أو بن أو كاكاو أو ثمار نخيل الزيت … إلخ. وكذلك فإن تكلفة إنشاء الطرق الحديدية والبرية عالية نظرًا لكثرة أعمال تمهيد الأرض مثل قطع الأشجار وإقامة الجسور لعبور الأنهار الصغيرة والكبيرة، ونظرًا لوجوب إنشاء طرق كل الأجواء التي لا يصلح غيرها للسير في التربة الاستوائية الموحلة والمستنقعية في أحيان كثيرة، وعلينا أن نلاحظ أن النطاق الاستوائي كان خاليًا من أنواع الحيوانات التي يمكن للإنسان استخدامها في الحمل أو الجر نتيجة للظروف الإيكولوجية في هذا النطاق. والحيوان الوحيد الذي تم استئناسه على نطاق ضيق هو الفيل في غابات حوض الكنغو، بواسطة البلجيكيين، تقليدًا لما يفعله الهنود منذ وقت طويل، لكن الفيل الأفريقي يختلف عن الفيل الهندي، والطبيعة البرية في أفريقيا تختلف عن طبيعة السكن البشري الكثيف في الهند، وعلى العموم فإن استخدام الفيل في الكنغو لم يكن موجهًا لخدمة عملية النقل، لا من قِبَل البلجيكيين ولا من قِبل السكان الأصليين، وإن استئناسه قد تم بأعداد قليلة جدًّا لأنه كان في نية البلجيكيين تكوين فرقة فرسان تركب الفيلة لإحكام الرقابة على أجزاء الكنغو الشاسعة.
أما في المناطق المدارية الموسمية في جنوب وشرق آسيا، فإن عملية التفاعل بين عناصر الحرارة والمطر والرطوبة الجوية تختلف عما شاهدناه في النطاق الاستوائي، فالحرارة العالية معظم السنة تتميز بفصل تهبط فيه الحرارة هبوطًا نسبيًّا أثناء هبوب الرياح الموسمية الداخلية؛ وبالتالي تقل الرطوبة الجوية ولا تسقط الأمطار، وبرغم قصر هذا الفصل إلا أنه قد أدى إلى اختلافات كثيرة عن المنطقة الاستوائية، تنعكس في ظهور الغابات الموسمية، وهي أقل كثافة من الاستوائية. كما أنه يؤدي إلى ظهور الأعشاب في المناطق التي تقع في ظل الأمطار. كذلك أدى الارتفاع التضاريسي إلى تغيرات محلية في مكونات المناخ والنبات الطبيعي كما هو في هضاب جنوب الصين وجبال الهند الصينية وهضبة الدكن في شبه جزيرة الهند.
وقد أدت هذه الظروف، مع ظروف بشرية أخرى لا نعرف على وجه الدقة خلفيتها ومدى فاعليتها، إلى نمو سكني مستمر وكثيف في المناطق الموسمية، لكن معظمه كان يتكوَّن من مجتمعات اقتصاديات الإعاشة الموجَّهة للاستهلاك المباشر؛ مما أدى إلى قلة الحاجة إلى النقل، وعوضًا عن النقص الواضح في النقل والتجارة الداخلية في هذا الإقليم، فإن نمطًا من التجارة الخارجية قد نشأ في منطقة جنوب وشرق آسيا؛ ذلك أن عدة وحدات وتنظيمات سياسية قديمة قد قامت في المنطقة، تتراوح بين الإمارات الإقطاعية وبين الإمبراطوريات الكبيرة (الصين – إمبراطورية المغول في الهند – مملكة سيام وكمبوديا وأنام في الهند الصينية – الإمارات والسلطنات الإسلامية في الملايو). وهذه الوحدات السياسية كانت دائمًا تستدعي قدرًا من التجارة والنقل؛ ومن ثم جاءت النهضة المبكرة في النقل البحري الصيني والهندي في المحيط الهندي وبحار الصين وجنوب شرق آسيا، وكذلك كانت هناك الطرق البرية (القوافل) التي تربط هذا الإقليم بغيره من الأقاليم عبر جبال وسط آسيا.
ولا شك أن الظروف الإيكولوجية قد ساعدت على وجود حيوانات يمكن استئناسها واستخدامها في النقل داخل الإقليم الموسمي، وعلى رأس هذه الحيوانات الأبقار والجاموس، وإلى جانب ذلك البغال في الهامش الجبلي للإقليم الموسمي، والخيول التي وردت إليه من النطاقات الجافة المجاورة، وكذلك الفيلة التي استُؤنست من فترة طويلة في الهند والهند الصينية.
وإلى جانب ذلك فإن الإقليم يتميز بكثرة الأنهار، ومعظمها صالح للنقل بواسطة القوارب المحلية الكبيرة: اليانجتسي كيانج وسيكيانج في الصين، والميكونج والمينام وإيراوادي في الهند الصينية، والجانج وبراهما بوترا في سهل الهندوستان. وقد أدت هذه الأنهار خدمات جليلة في النقل وتوسيع نطاق التجارة والنفوذ السياسي إلى داخلية هذه الأحواض النهرية. وتتميز هذه الأنهار عامة بظاهرة الفيضان السنوي الطويل المرتبط بسقوط المطر الموسمي، وهو الأمر الذي كان يؤدي إلى عرقلة الملاحة النهرية في هذا الموسم، وفي أحيان كثيرة تقل المياه في مجاري الأنهار الصغيرة الأحواض خلال موسم الجفاف؛ مما يعرقل الملاحة أيضًا، أو يؤدي إلى توقُّفها فترة من الوقت.
وفي الوقت الحاضر لم تعُد الحيوانات وسيلة النقل الرئيسية، وإن ظلت كذلك في كثير من المناطق الريفية: فلقد دخلت السكة الحديدية والطرق البرية مجال النقل في هذه الأقاليم الموسمية نظرًا لكثافة السكان. ونظرًا لتحول الكثير من هذه المناطق إلى إنتاج الخامات الأولية للصناعة، أو إنتاج الغذاء للتجارة الداخلية والخارجية، وتزداد كثافة النقل البري والحديدي الحديث في أجزاء الإقليم الموسمي المنتج للخامات الصناعية مثل سهل الهندوستان ودلتا الجانج ومنطقة غرب الهند (كلها تُنتج القطن والجوت والشاي) بالقياس إلى المناطق التي لم تنتقل بعد إلى هذا النوع من الإنتاج (جنوب الصين أو الهند الصينية في مجموعها التي لا تزال تُنتج الغذاء من أجل الكفاية المحلية).
أما إقليم السفانا فإن تفاعلات ظروفه المناخية مماثلة تمامًا لظروف المنطقة الموسمية مع فارق واحد، هو قلة كمية الأمطار الساقطة، وامتداد موسم الجفاف فترة زمنية أطول، وقد ترتب على ذلك قلة النمو الشجري، وسيطرة الحشائش على النبات الطبيعي للإقليم؛ ولهذا جاء اسم الإقليم مرتبطًا بحشائش السفانا.
ونظرًا لسيادة النمو الشجري فإن السفانا أصبحت — على عكس النطاق الاستوائي — منطقة مكشوفة يسهل التحرك فيها. وقد كانت كذلك بالفعل، منطقة الهجرات الرئيسية للشعوب والقبائل المختلفة في أفريقيا على وجه خاص، وفي أمريكا الجنوبية وأستراليا بوجه عام، ويزيد من التحرك أن منطقة السفانا صالحة لوجود الحيوان الذي يمكن استئناسه، وخاصة الأبقار. كما أنها صالحة لاستخدام الخيول أيضًا، وفي أطرافها المجاورة للنطاق الصحراوي تصبح صالحة لدخول الإبل. وهكذا فإن الظروف الطبيعية المكشوفة قد ارتبطت بوجود حيوانات يمكن أن تصلح لاستخدامات النقل والحركة السريعة أو البطيئة.
ونضيف إلى هذا أن في نطاقات السفانا أنهارًا أو أجزاءً من نُظُم نهرية كبيرة تصلح أيضًا للملاحة ولأغراض النقل: في أفريقيا يجري معظم مسار نهر النيجر في نطاق السفانا في غرب أفريقيا. وكذلك مسار نهر السنغال، وفي إقليم السفانا الشرقي يخترق نهر النيل السودان الجنوبي بروافده الكثيرة: بحر الغزال وبحر الجبل ونهر السوباط والنيل الأبيض، وفي نطاق السفانا في أفريقيا جنوب خط الاستواء نجد نهرَي الزمبيزي واللمبوبو، بالإضافة إلى أعالي الكنغو. أما الأنهار القصيرة في السفانا شرق أفريقيا وفي أنجولا فهي أنهار قصيرة لا تصلح للملاحة، ونجد في السفانا الأمريكية بعض روافد الأمازون الشرقي وأنهار البرازيل الشرقية وعلى رأسها نهر ساو فرانشيسكو، وهي في مجموعها أنهار صالحة أساسًا لنقل الأخشاب مع ملاحة محدودة، وفي سفانا أستراليا مجموعة صغيرة من الأنهار التي تصب في خليج كاربنتاريا.
ولكن النقل النهري في نطاقات السفانا يكاد يقتصر على أنهار السفانا الأفريقية، وخاصة النيل في السودان الجنوبي والأوسط، والنيجر في مالي ونيجيريا والسنغال في جمهورية السنغال والزمبيزي الأدنى في موزمبيق. وبما أن معظم نطاقات السفانا تُمثِّل مناطق قليلة السكان، ومعظمهم يكونون مجتمعات تعيش على إنتاج الكفاية الغذائية، ومن ثم فإن حركة النقل والتجارة كانت محدودة، ولا تزال قاصرة على التنقل التقليدي للرعاة في سفانا أفريقيا والجماعين والصيادين في سفانا البرازيل وأستراليا؛ ولهذا نجد غالبية مناطق السفانا خالية من الطرق الحديثة البرية أو الحديدية، إلا إذا كانت هناك مناطق إنتاج حديث، وفي هذه الحالة نجد خطوطًا حديدية مفردة (غير مزدوجة) وذات اتجاه واحد، وقد ترتبط هذه الخطوط بالنقل النهري لتكوِّن معه محورًا رئيسيًّا للنقل الحديث؛ مثال ذلك سكة حديد السودان، والملاحة النهرية في النيل الأبيض، وبحر الجبل، وبحر الغزال (انظر خريطة المواصلات في السودان رقم ٥-١). وكذلك السكة الحديدية الممتدة من دكار إلى باماكو على نهر النيجر، والخط الحديدي الممتد من بنجويلا في أنجولا إلى مناجم النحاس الغنية في زامبيا وكاتنجا، ثم امتداده بعد ذلك شرقًا إلى موانئ موزمبيق على المحيط الهندي، والطرق البرية محدودة وتحتاج إلى تجهيزات خاصة لكي تصبح صالحة للاستخدام خلال موسم الأمطار. ومن أهم هذه الطرق الطريق الذي يربط كوناكري في جمهورية غينيا مع باماكو على النيجر الأعلى. وكذلك الطريق الذي يشق زامبيا وروديسيا وتنزانيا (وهو جزء من طريق القاهرة-الكاب) والطريق البري الحديث بين نطاق النحاس في زامبيا وميناء التصدير الجديد في دار السلام.
وتدفع النشاطات الاقتصادية والاتجاهات السياسية إلى مزيد من الطرق الجديدة، مثلًا خط حديد الأبيض-واو في السودان هدفه اقتصادي واستراتيجي معًا، والخط الحديدي الذي يُبنى الآن بين زامبيا وتنزانيا هدفه «نقل نحاس زامبيا» وسياسي (ابتعاد زامبيا عن موانئ التصدير التي تسيطر عليها البرتغال في كلٍّ من أنجولا وموزمبيق). وكذلك تشتد كثافة النقل الحديث في القسم الشرقي من السفانا البرازيلية، حيث يُزرع البن وحيث تتركز النشاطات الزراعية الحديثة في البرازيل. وكذلك في أستراليا يمتد خط حديدي عبر السفانا من كوينزلاند على الساحل الشرقي إلى سهول خليج كاربنتاريا.
وعلى وجه العموم، فإن السفانا بيئة غير طاردة للسكن أو السكان لأنها بيئة مكشوفة يمكن اختراقها، وفيها مقومات إنتاج جيدة، ولكن ظروفها الحضارية والاقتصادية المتخلفة جعلتها تنتمي إلى نمط المواصلات البسيط في الوقت الحاضر.
وليس تنبؤًا أن نقول إن السفانا — بإمكاناتها العديدة وامتداداتها السهلية الواسعة — توازي وتُماثل الأقاليم المعتدلة السهلية في أوروبا وأمريكا، وإنها في المستقبل — وإذا واتتها الظروف — سيكون لها ما للأقاليم المعتدلة من دور اقتصادي هام؛ ومن ثم ستتكاثف فيها وسائل النقل، وهي مماثلة للأقاليم المعتدلة من حيث فصلية الأمطار، ولو أنها أكثر حرارة، في مقابل برودة الشتاء في الأقاليم المعتدلة، وهما متشابهان من حيث سيطرة السهول على المنظر التضاريسي العام، مع القليل من الارتفاعات، وتخترقها أنهار جيدة يمكن أن تصبح خطوط مواصلات جيدة مثلها في ذلك مثل أنهار أوروبا وأمريكا الشمالية، وسوف يتم ذلك حينما يقوم الإنسان بإحداث التعديلات اللازمة في النظم المائية للأنهار، كما حدث من قبلُ في أوروبا وأمريكا، ويحتوي إقليم السفانا على مناطق شاسعة لإنتاج الحبوب (دخن – ذرة – أرز) مثل السهول في الأقاليم المعتدلة (قمح – ذرة – شيلم)، وتتميز عنها أنها أيضًا صالحة لأنواع أخرى من النباتات التي تصلح خامات صناعية مثل القطن والسيزال، وكل ما ينقصها لتتشابه مع الأقاليم المعتدلة مصادر الطاقة، ونقص التكنولوجيا، والأولى يمكن تدبيرها بالمشروعات الهندسية على الأنهار الكبرى والصغرى، والثانية يمكن تداركها بالتعليم.
(٢-٢) الإقليم الجاف
يمتد هذا الإقليم في محور شرقي غربي في العالم القديم مع ميل إلى الشمال الشرقي في آسيا وإلى الجنوب والجنوب الغربي من أفريقيا، وأهم صفاته الطبيعية التي تميزه عن الأقاليم الطبيعية الأخرى في العالم هو الجفاف، لكن الإقليم يمكن أن يقسم إلى قسمين رئيسيين على ضوء معدلات الحرارة؛ فهناك الإقليم الجاف المداري في أفريقيا (الصحراء الكبرى والصحراء العربية والصومالية وصحراء ثار الهندية، وصحراء كلهاري)، والإقليم الجاف البارد (صحاري وسط آسيا من منغوليا إلى إيران). وكذلك يمكن تقسيمه على الأساس التضاريسي إلى الإقليم الجاف الهضبي (إيران أفغانستان، سنكيانج «تركستان الصينية»، منغوليا)، والإقليم الجاف السهلي (سهول وسهول عليا) في تركستان السوفييتية والصحراء العربية الأفريقية، وفي داخل هذا القسم نجد مناطق هضبية متميزة بارتفاعها الواضح مثل هضبة الحجار وجبال تبستي في الصحراء الكبرى والحافة الانكسارية للبحر الأحمر، وخاصة في اليمن وعسير في الصحراء العربية.
وعلى هذا الأساس أو ذلك الأساس تتحدد كثير من مسهلات ومعوقات النقل، فضلًا عن معوق رئيسي يربط بين هذه الأقسام جميعًا هو الجفاف.
والحيوان الذي يمكن استئناسه في الإقليم الجاف هو الجمل، ولو أنه يختلف بين الجمل البكتيري (ذي السنامين) في النطاق البارد، والجمل العربي في النطاق الجاف المداري. وإلى جانب الجمل توجد الخيول والحمير، وفي أحيان البغال. والخيول أصلًا من وسط آسيا (من حيث نشأة استئناسه)؛ ومن ثم فهو شائع في تلك المناطق بينما هو رمز الغنى والوفرة في النطاق الجاف المداري؛ ولذلك تقل أعداده فيها. أما الحمير فقد يكون موطنها الأساسي الشرق الأوسط وأفريقيا، ولكنها أكثر استخدامًا عند المجتمعات الزراعية المستقرة في الإقليم الجاف الهضبي والمداري عنها في وسط آسيا، ويوجد الحمار أيضًا عند الرعاة الذين يعيشون بالقرب من الواحات والمناطق الزراعية في الصحاري العربية الأفريقية، وأخيرًا فإن البغل يظهر في المناطق الهضبية والجبلية الآسيوية أكثر من ظهوره في النطاق الجاف العربي الأفريقي.
ولقد استُخدمت هذه الأنواع المختلفة من الحيوان في الحمل والجر. وكانت الإبل هي التي تُمثِّل خطوط المواصلات الطويلة أو الدولية مع كثير من التحفظ في وسط آسيا أو في المنطقة العربية الأفريقية، وذلك راجع بدون شك إلى التحمل الكبير الذي يتصف به الجمل عن غيره من حيوانات النقل التجاري في الإقليم الجاف، هذا فضلًا عن أن طاقته في الحمل أكبر من الحصان وغيره من الحيوانات؛ فالجمل هو أكثر الحيوان تأقلمًا على الجفاف.
أما النقل القصير أو المحلي فكانت تُستخدم فيه قوافل البغال في المناطق الهضبية، وقوافل الحمير في السهلية، وقد ترتب على نوع التجارة المنقولة، وطول الطريق، ونوع حيوان النقل، أن نشأت محطات متخصصة للقوافل غالبيتها للراحة والتموين في أجزاء الطريق، بينما كانت توجد في نهايات تلك الطرق المحطات الكبيرة التي كانت — في الواقع — أسواقًا زاخرة بكل أشكال النشاط الثالث: تجارة جملة وتجارة تجزئة، وكلاء تجاريون، تنظيمات أشبه ما تكون بالأعمال البنكية والائتمانية، خانات (فنادق) ومقاهٍ ومحلات للتسرية والترويح، مخازن للسلع، مصادر للأخبار والثقافة، وسائل نقل أخرى. وخلاصة القول أنها كانت مشابهة تمامًا لوظائف الموانئ الحالية من حيث تكدس التجارة والخدمات والتقاء عدة طرق من المواصلات من أنواع مختلفة في مكان واحد، ومن بين قائمة طويلة من هذه المحطات نذكر: كشغر، خوقند، سمرقند، مرو، بغداد، دمشق، مكة، القاهرة، أسيوط، الفاشر، طرابلس، فاس، كانو، تمبكتو.
وهذا الغنى الهائل في محطات ونهايات طرق القوافل — الذي انعكس في أنماط المعمار الرائعة وفي المراكز الثقافية والعلمية والمالية التي كانت تعجُّ بها هذه المحطات — هو نقيض الفقر المدقع الطبيعي في بقية الإقليم الجاف في العالم القديم.
ولكن هذا التناقض البين يرجع إلى علاقات الموقع للإقليم الجاف؛ فهو يقع بين ثلاثة أقاليم غنية منذ أقدم العصور: إقليم البحر المتوسط والعالم الأوروبي من ناحية، وإقليم المحيط الهندي وشرق آسيا من ناحية ثانية، والإقليم المداري الأفريقي من ناحية ثالثة؛ ومن ثم أفاد سكان العالم الجاف إفادة كبيرة من القيام بعمليات النقل والوساطة التجارية، عبر أرض لا يعرفها غيرهم، وبواسطة حيوانات نقل لا يعرفها غيرهم، وهم في ذلك تمامًا يشابهون الملاحين الفينيقيين والإغريق في الماضي. وكانوا يقومون بدور مماثل لما قام به الأسطول التجاري الإنجليزي لبريطانيا، وكما يفعل الأسطول النرويجي أو اليوناني الحالي لبلاده: استغلال ظرف طبيعي وتأقلم تام وتجاوب مستمر بين الناس وهذا الظرف الطبيعي.
وبالرغم من انقضاء العهد على تجارة القوافل إلا أن العالم الجاف ما زال حلقة أساسية من حلقات التجارة الدولية، والفضل في ذلك يعود أيضًا إلى علاقاته المكانية المتوسطة البرية والبحرية والجوية. وقد أدى ذلك إلى تصارع القوى الدولية في القرن الماضي والحالي على العالم الجاف في مجموعه؛ فالنفوذ الروسي القيصري المتوسع كان يتجه إلى العالم الجاف بكل ثقله منذ القرن التاسع عشر، ونجح في الحصول على كل وسط آسيا. وفي الوقت نفسه اصطدم هذا الاتجاه بنفوذ بريطاني قادم من المحيط الهندي يضغط هو الآخر للحصول على العالم الجاف. وقد وقفت هذه الاتجاهات المتصارعة عند حدود الهضبة الإيرانية الأفغانية في الشرق والهضبة الأرمينية والأناضول في الغرب؛ أي إن التوسع الروسي والبريطاني ابتلعا المناطق السهلية من النطاق الجاف: الأولى وسط آسيا والثانية النطاق الغربي الجاف. وكذلك حاولت ألمانيا القيصرية أن تمد يدها إلى النطاق الجاف بوسيلة مواصلات برية تمثلت في سكة حديد برلين-بغداد، لكن هذه اليد كانت أطول مما يجب فلم تستمر طويلًا، ومن أجل تحقيق الهدف نفسه احتلَّت فرنسا نصف العالم الجاف الأفريقي.
وفي مجال العلاقات البحرية للعالم الجاف كانت المنطقة الرئيسية للصراع على مناطق المواصلات — ولا زالت — منطقة الشرق الأوسط؛ حيث يقترب البحر المتوسط من ذراعين بحريين للمحيط الهندي، هما البحر الأحمر والخليج العربي، ولقد تنافست بريطانيا وفرنسا خلال القرن التاسع عشر على هذه المنطقة، ومن قبلُ حاولت إمارات أوروبا المفككة الحصول على هذه الحلقة الجوهرية في النقل العالمي، وتم ذلك لفترة في صورة الاحتلال الصليبي الفاشل لليفانت. وقد فشل لأنه — بدلًا من استقدام التجارة العالمية واحتكارها — أوقف التجارة بجعل المنطقة منطقة اضطراب وحرب، وهما شرطان لا تتعايش معهما التجارة على الإطلاق. وقد شجع ذلك على انتقال خطوط التجارة إلى الشمال عبر سهول قزوين وأوكرانيا، وإلى الجنوب عبر مصر (في بعض الأحيان). وكذلك تتصارع القوى الغربية والشرقية التي خلفتها الحرب العالمية الثانية من جديد على كل المنطقة الجافة من منغوليا في الشرق إلى موريتانيا في الغرب وإلى الصومال في الجنوب، ويشمل هذا كل الصراعات المختلفة بين الاتحاد السوفييتي والصين، وبين أمريكا والاتحاد السوفييتي، وبين النفوذ الأوروبي والأمريكي، وأخيرًا العربي والصهيوني.
وأهمية العالم الجاف في الوقت الحاضر تعدت الاقتصار على طرق الاتصال العالمية، وأضافت إليها مصادر الثروة الجديدة في العالم الجاف، وخاصة البترول في المنطقة العربية الأفريقية الجافة؛ ولهذا فإن طرق المواصلات في العالم الجاف في الوقت الحاضر وإن كانت بعيدة عن أن تكون شبكة، إلا أنها متعددة ومتنوعة. فبرغم أن خطوط المواصلات الحالية كثيرة نسبيًّا إلا أنها لا تتنافس مع بعضها لأنها كلها ذات اتجاهات واحدة: فالطرق الحديدية والبرية في منغوليا ووسط آسيا السوفييتية لا تتشابك، وإنما هي خطوط طويلة تصل مناطق الإنتاج الواحية أو المعدنية أو الأماكن الاستراتيجية بشبكة المواصلات السوفييتية، ومع ذلك فهناك شبكة نقل لا بأس بها في مناطق الكثافة الإنتاجية، وخاصة منطقة طشقند-زرفشان-ألما أتا (أعالي نهر سرداريا ووديان جبال تيان شان وقرغيزيا الغنية بالمراعي والمعادن). وعلى هذا فإن المواصلات الحديثة في العالم الجاف السوفييتي لا تزال مرتبطة بالظروف الطبيعية الجافة؛ أي إنها عبارة عن خطوط طويلة تقطع الصحاري غير المأهولة ولا المنتجة وتسير في اتجاه المناطق المنتجة في منتجعاتها التي كوَّنتها الظروف الطبيعية: الوديان الخصيبة ذات المياه الدائمة أو التي تكفي الاحتياج الأساسي لسكان مستقرين في نمط قروي أو مدني على سفوح القوس الجبلي الكبير تيان شان-بامير-هند كوش.
ولكن ليس من شك في أن إمداد الخطوط الحديدية والطرق البرية عبر صحاري وسط آسيا وسهوبها قد أدى إلى زيادة الاهتمام ببعض الأماكن؛ ومن ثم حدث التعمير الكبير في قازاكستان السوفييتية، والتنمية العظيمة لمصادر الثروة المائية في بحر آرال ومشروعات التنمية المقترحة من أجل تحويل بعض مياه نهر الأوب إلى وسط آسيا في صورة سدود وقنوات تحويل طويلة. وعلى هذا النحو نرى أن نمط المواصلات الحديثة قد بدأ بداية مرتبطة بالظروف الطبيعية: عبور اللامعمور الجاف إلى مناطق العمران، وفي هذا تشابه المواصلات الحديثة، من ناحية النوع، طرق القوافل القديمة العابرة للامعمور دون أن تأبه به. ولكن المواصلات الحديثة أخذت من حيث الشكل والكم صورة أثبت من طرق القوافل القديمة (طريق حديدي أو بري مثبَّت بالأرض) ووسيلة أسرع وحمولة أكبر، والخطوة الأخيرة في الاختلاف أن المواصلات الحديثة بدأت في إحداث التأثير الاقتصادي المعروف على الأرض التي تعبرها: التعمير والإنتاج.
وفي بقية العالم الجاف نجد أن المواصلات الحديثة عبارة عن طرق حديدية أو برية تخترق الإقليم من طرف إلى آخر دون أن تكوِّن شبكة نقل معقولة إلا في حالة تركيا، حيث توجد مجموعة من الخطوط الحديدية تخدم أجزاءً لا بأس بها من الهضبة الجافة في الأناضول. وبطبيعة الحال فإن الأنهار والنقل النهري منعدم في هذا النطاق باستثناء منطقتي الدجلة-الفرات والنيل.
أما النطاق الجاف في العالم الجديد فإنه لم يكن — بعلاقات موقعه — مساويًا للعالم الجاف في العالم القديم؛ ومن ثم فإن السكن فيه قد اقتصر على جماعات بدائية محدودة تمارس اقتصاديات الاكتفاء الذاتي، مثل الأستراليين الأصليين ومجموعات الأمريند في صحاري أريزونيا ونيومكسكو وكاليفورنيا وشيلي، لكن النمط الاقتصادي في هذه المناطق قد تغيَّر كثيرًا بعد الاستيطان الأوروبي، وظهرت كثير من مناطق التعدين والرعي الحديث؛ ومن ثم مدت عدة خطوط حديدية في هذه الأقاليم. ونظرًا لأن المناطق الصحراوية في الأمريكتين صغيرة المساحة فإنها تقع غالبًا داخل شبكة مواصلات جيدة بين الأقاليم الغنية التي تقع على أطرفها. أما الصحراء الأسترالية فمساحتها كبيرة ونمط النقل الحديث فيها مشابه — من حيث القلة — للصحراء الكبرى أو منغوليا في العالم القديم.
(٢-٣) أقاليم العروض الوسطى
تحتل هذه الأقاليم مناطق ممتازة من حيث الظروف الطبيعية والعلاقات المكانية منذ القدم، وتمتد هذه الأقاليم بمساحات واسعة في القارات الشمالية، وخاصة أوروبا وأمريكا الشمالية، وبمساحات ضيقة صغيرة في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وأستراليا، ومن الناحية التضاريسية يمكن أن تقسم هذه الأقاليم إلى نطاقين رئيسيين: السهول والجبال، وتمتد السهول في نطاق عرضي كبير في أوروبا وآسيا من خليج بسكاي في غرب أوروبا إلى سهوب قازاكستان في آسيا الغربية، مشتملة بذلك على السهل الأوروبي الأعظم. أما النطاق الجبلي فيقع إلى الجنوب من السهل الأوروبي ويشتمل على السلاسل الألبية المتصلة والمتقطعة بواسطة الوديان والسهول الصغيرة في حوض البحر المتوسط.
وفي آسيا الشرقية وأمريكا الشمالية تنتظم السهول والجبال في صورة نطاقات طولية من الشمال إلى الجنوب؛ فاليابان وكوريا عبارة عن مناطق جبلية تمتد كجزء من حلقة النار من الشمال إلى الجنوب حتى جزيرة فرموزا أو تايوان، وإلى الغرب من هذه الجبال يمتد سهل الصين العظيم من منشوريا إلى حوض يانجستي كيانج، الذي يحده غربًا هضاب وجبال النطاق الجاف في منغوليا. وفي أمريكا الشمالية تتعاقب السهول والنطاقات الجبلية من الشرق إلى الغرب: السهل الساحلي الشرقي المقطع في منطقة سانت لورنس والذي يتسع جنوبًا إلى أن يدخل المنطقة المدارية في فلوريدا، يليه إلى الغرب نطاق جبال الأبلاش ثم نطاق السهول العظمى الأمريكية، ثم نطاق البراري أو السهول العليا، ثم الكورديليرا الأمريكية بما فيها من وديان ضيقة خصبة (منطقة بوجيت ساوند وفانكوفر، وادي كاليفورنيا).
وفي أمريكا الجنوبية يتكون إقليم العروض الوسطى من سهول الأرجنتين ومنطقة لابلاتا تليها إلى الغرب سلسلة الأنديز في شيلي الوسطى بما تحتويه من وديان صغيرة. وفي جنوب أفريقيا نجد الإقليم مماثلًا للعروض الوسطى من حيث امتداد أودية وسلاسل جبلية في صورة أشرطة ضيقة من الشرق إلى الغرب تتمثل في منطقة الكاروو ووديانها الضيقة ومنطقة كيبتاون. وهذه المناطق عامة تقع لضيق مساحتها على هامش العروض الوسطى وتتأثر كثيرًا بظروف الجفاف الذي يسيطر على النطاق الصحراوي إلى الشمال منها. وكذلك الحال بالنسبة لإقليم العروض الوسطى في أستراليا: عبارة عن وديان ضيقة وسلاسل من التلال والجبال غير المرتفعة التي تفصل بينها وبين النطاق الصحراوي وشبه الصحراوي الذي يقع شمالها، وبرغم ذلك فإن العروض الوسطى الأسترالية هي أكثر مناطق الاستقرار الأوروبية كثافة من حيث السكن والسكان في أستراليا.
والظروف المناخية في العروض الوسطى ظروف ممتازة من حيث وضوح أقسام السنة وضوحًا جيدًا من حيث الحرارة والمطر. وكذلك تتعادل كل عناصر المناخ معًا، فلا يسيطر عنصر مناخي واحد على ظروف الإقليم المناخية — مثل البرودة التي تسيطر على الإقليم القطبي أو الجفاف الذي يسيطر على الإقليم الجاف، أو المطر الدائم الذي يسيطر على النطاق الاستوائي — ومن ثم كان الإقليم المعتدل معتدلًا فعلًا من حيث اشتراك كل العناصر المناخية في تشكيل المناخ وتقسيمه إلى أربع فصول واضحة.
وقد كان لتفاعل الظروف التضاريسية والمناخية تأثير واضح في شكل النشاط البشري ووسائل النقل منذ العصور القديمة؛ فالسهول أو الوديان تجعل الانتقال سهلًا، كما كان لتوفر مصادر المياه والغذاء النباتي والحيواني بالنسبة لجماعات الصيد في العصور الحجرية أثر واضح في انتشار المجموعات البشرية انتشارًا كبيرًا على مسطح الإقليم دون الحاجة إلى التزاحم حول مراكز محددة مثل الإقليم الجاف، وحينما انتقلت مجتمعات العروض الوسطى إلى الزراعة كان النمط المنتشر للسكان والسكن أيضًا هو النمط السائد لكثرة الأراضي التي يمكن أن تُعَدَّ للزراعة بعد قطع الغابات، ولم يحدث التركيز السكاني والسكني إلا في المدن. وهذه ظاهرة من ظواهر المجتمعات التي تبلغ مرحلة عالية من التنظيم السياسي القائم على أسس اقتصادية ثابتة: الزراعة والتجارة. وقد حدث ذلك مبكرًا في حوض البحر المتوسط، وانتقلت منه هذه التنظيمات إلى السهل الأوروبي. ومهما قلنا عن تكدس السكان والسكن في مدن العصور الوسطى فإن ذلك لا يساوي التكدس الهائل الذي حدث بعد الثورة الصناعية في العروض الوسطى. ونظرة واحدة إلى خريطة الكثافة السكانية في سهول أو وديان العروض الوسطى الأوروبية أو الأمريكية توضح الفوارق الكبيرة بين نمط الكثافة في مناطق وأقاليم الصناعة والريف.
ويرجع ذلك بطبيعة الحال إلى عيب جوهري في أصول وجذور التنظيم الإنتاجي في النمط الصناعي كحرفة اقتصادية؛ هذا العيب هو التجميع الشديد للخامات وتصنيعها في نقاط محدودة المساحة جدًّا: المصنع، ويستدعي ذلك تكدسًا بشريًّا حول المصنع للقيام بكل عمليات التحويل المركب، والنقل والخدمات والإدارة. أما الزراعة فهي — من الناحية الجغرافية أكثر الحرف الإنسانية تعادلًا في توزيع السكان وانتشارهم بكثافات معقولة على مسطحات الأرض الصالحة للزراعة. ولا شك أن ذلك مرتبط بأن الإنتاج الزراعي إنتاج أفقي مرتبط بالظروف الجغرافية ارتباطًا وثيقًا، بينما الإنتاج الصناعي إنتاج رأسي مرتبط أساسًا بقوانين اقتصادية أكثر منه بقوانين طبيعية «على أنه لا يجب أن نهمل عددًا من القوانين الطبيعية التي أثرت في مواقع أقاليم الصناعة: علاقات المكان ومصادر الطاقة والخامات».
وأيًّا كانت الأوضاع البشرية التي أهلت العروض الوسطى في كل جهات العالم لأن تصبح أكثر مناطق العالم من حيث تكامل شبكات النقل الحديث، فإنه لا يجب أن ننسى أن الظروف الطبيعية لهذه الأقاليم كان لها دورها الفعال في ذلك الاتجاه، ومهدت له بصورة متكافئة في أجزاء هذه الأقاليم.
فمن الناحية التضاريسية تشتمل العروض الوسطى على أعظم سهول العالم امتدادًا ومن أكثرها خصبًا، وتخترق هذه السهول مجموعة كبيرة من الأنهار معظمها عريض هادئ الجريان، وبذلك ظهرت السلسلة الفقرية الأولى في تنظيم النقل والاتصال؛ ففي أوروبا مجموعة عظيمة من الأنهار الهادئة التي تخترق كل أجزاء السهل فيما يشبه المحاور المتوازية، تقطع السهل من الجنوب إلى الشمال متعامدة بذلك على الامتداد المحوري الأصلي للسهل: من الغرب إلى الشرق، ويكفي أن نذكر أنهارًا كالسين والراين والألب والأودر والدنيبر والفولجا لكي نعرف كيف كانت السهول الأوروبية محظوظة طبيعيًّا؛ لأن الطبيعة قد أقامت لها هذه المحاور العظيمة من طرق النقل التي تخترق السهل في كل مكان إلى أعماق أعماقه.
وقد استفاد الإنسان من هذه الطرق الطبيعية استفادة هائلة، وحولها من مجرد محاور إلى شبكة نقل متكاملة بواسطة القنوات التي شق معظمها في اتجاه محور السهول — أي من الغرب إلى الشرق — رابطًا بذلك الكثير من هذه الأنهار في شبكة نقل مائي داخلي عظيمة كانت هي في الواقع الأساس المتين الذي ارتكزت عليه الصناعة والنقل الصناعي الثقيل، قبل أن تنشأ شبكات النقل البرية والحديدية الحالية، وما زال النقل المائي الداخلي يكوِّن عصب النقل الصناعي الثقيل في أوروبا.
ورغم موسمية التصريف النهري في هذه الأنهار في صورة فيضانات الربيع الناجمة عن ذوبان الجليد في مناطق المنابع الجبلية، إلا أن أمطار الصيف والشتاء — في شرق وغرب السهول على التوالي — تجعل مستوى المياه في هذه الأنهار محتفظًا بحد أدنى صالح للملاحة. وكذلك على عكس الأنهار القصيرة التي لا تحتمل أحواضها الذبذبة في كمية المطر المتساقط أو الجليد الذائب. مثل هذه الأنهار القصيرة تتعرض لذبذبات كبيرة تجعل الملاحة فيها غير منتظمة، وبذلك فإن عامل المناخ — بانقسامه المتعادل إلى الفصول الأربعة الواضحة — كان له دور هام في انتظام الملاحة في هذه الأنهار.
فضلًا عن ذلك فإن هذه الأنهار قد كوَّنت في منابعها العليا ممرات وطرق اختراق جيدة لسلاسل جبال الألب التي تفصل بين السهل الأوروبي ومناطق الوديان الخصيبة في حوض البحر المتوسط.
وهذه السلاسل الألبية، برغم كونها كتلًا جبلية كبيرة، إلا أنها لم تكن حاجزًا يمنع الحركة المستمرة في كل أجزائها؛ فهي من ناحية الارتفاع ليست جبالًا شاهقة كجبال آسيا الوسطى أو الأنديز، ومن ناحية الامتداد ليست أيضًا سلاسل طويلة مانعة كالهملايا أو هندكوش أو الأنديز، ومن ناحية ثالثة فإنها لا تفصل بين إقليمين متباينين مثل سهول الهند وهضبة التبت، أو وديان أفغانستان والسند من ناحية وصحاري التركستان من ناحية ثانية، بل إنها تفصل بين أقاليم متشابهة: السهل الأوروبي وسهل لمبارديا، أو السهل الأوروبي وسهول المجر ورومانيا.
وحتى في إقليم الجبال نجد الأنهار تكوِّن طرقًا بعضها صالح للاستخدام الملاحي، وأعظم أنهار النطاق الجبلي الأوروبي هو نهر الدانوب في وسط وجنوب شرق أوروبا، وروافده العديدة في سهل المجر والصرب، ويماثله في الأهمية — وإن لم يكن من حيث الضخامة والحركة — نهر الرون في جنوب فرنسا، ورافده الساءون الذي يصل السهل الأوروبي بالبحر المتوسط، وفيما عدا ذلك فإن أنهار البحر المتوسط تتكون من أحواض محلية صغيرة قليلة الأهمية ملاحيًّا باستثناء نظام البو في شمال إيطاليا.
وعلى عكس المحاور النهرية العديدة في السهل الأوروبي، وفي الشاطئ الشرقي لأمريكا الشمالية، فإن السهل الأمريكي الأوسط تخترقه في العروض الوسطى شبكة مائية طبيعية عظيمة القيمة الملاحية تتمركز كلها حول محور المسيسبي: روافده التي تمتد في صورة مروحة هائلة لتغطي أهم مناطق السهول الوسطى الأمريكية بشبكة نقل طبيعية متكاملة: الأوهايو والتنسي في الشرق والميزوري وأركنساس في الغرب. ولنهر أوهايو أهمية ضخمة؛ حيث إنه يربط طبيعيًّا بين منطقة الصناعة والازدحام السكاني في بنسلفانيا وأوهايو بوسط الولايات المتحدة.
وقد ربط نظام المسيسبي النهري بأعظم نظام نهري للنقل في العالم، ونعني به سانت لورنس وبحيراته العظمى، التي تكون محور نقل مائي هائلًا في القسم الشرقي من العروض الوسطى الأمريكية، وقد تمت شبكة النقل المائي الداخلي هناك بربط نظام سانت لورنس بالهدسن الذي يخترق سلسلة الأبلاش الشمالية؛ ومن ثم أصبح للنقل على سانت لورنس بوابة مفتوحة طول العام على المحيط عند نيويورك «على عكس مصبه الذي يتعرض للتجمد خلال الشتاء»، وبذلك صحح الإنسان بعض أخطاء الطبيعة لمصلحته الاقتصادية. أما في أوروبا فإن غالبية أنهار العروض الوسطى تنتهي إلى بحار مفتوحة طول العام مع استثناء وحيد هو الفولجا الذي صحح الإنسان نهايته أيضًا بربطه بقناة ملاحية حُفرت عام ١٩٥ ويبلغ طولها ١٠١ كيلومتر إلى الدون والبحر الأسود.
وتشبه جبال الأبلاش جبال أوروبا من حيث قلة الارتفاع النسبي وسهولة اختراقها بواسطة تتبع مجاري الأنهار الشرقية والغربية. أما الكورديليرا الأمريكية فإنها أضخم المناطق الجبلية في العروض الوسطى من حيث اتساعها وتعقُّدها وتعدُّد سلاسلها الجبلية، لكنها أيضًا ليست صعبة الاختراق.
ويسيطر على سهل الصين العظيم تصريف نهري رئيسي يُمثِّله نهر هوانجهو أو النهر الأصفر، وعلى عكس أهمية أنهار أوروبا وأمريكا، نجد الهوانجهو نهرًا غير مستأنس إلا في الفترة الأخيرة، فكثير من فيضاناته المدمرة كانت تؤدي إلى تحوُّل مجراه تحولًا كاملًا من مسار إلى مسار آخر يبعد عنه بضع مئات من الكيلومترات؛ ولهذا كانت أهمية النهر محدودة في النقل، وإن كانت منطقة هذا السهل من أكثف مناطق العالم سكانًا. ولقد تغيَّر كل هذا نتيجة الإنشاءات الهندسية العديدة التي أقيمت عليه، أو التي هي قيد الدرس (انظر الخريطة ٥–٢).
ويحف بالسهل الصيني من الجنوب طريق ملاحي ممتاز يكونه يانجستي كيانج؛ ومن ثم حفر الصينيون قناة ملاحية جيدة تصل بين الوادي الأدنى لهوانجهو والوادي الأدنى لليانجستي لكي يمكن خدمة الجزء الشرقي من سهل الصين. وقد عُرفت هذه القناة باسم القناة العظمى.
وأخيرًا فإن العروض الوسطى الجنوبية لا يوجد فيها تصريف نهري يستحق الذكر — من ناحية الأهمية الملاحية — سوى البارانا ومصبه الواسع في كلٍّ من الأرجنتين وأوروجواي.
وفي المناطق الجبلية المنعزلة من العروض الوسطى نجد أن النقل الشاطئي والبحري أسهل بكثير من النقل على اليابس، والأمثلة التقليدية على ذلك هي النرويج واليونان واليابان؛ حيث تنتشر ألسنة الجبال في اتجاهات عديدة تاركة وديانًا قزمية المساحة تستغل استغلالًا كثيفًا، ويربط بينها الملاحة الساحلية؛ لأنها أسرع وأكبر حجمًا وأقل تكلفة من النقل الجبلي الوعر الطويل، وبرغم وجود منطقة امتداد سهلية لا بأس بها في جنوب جزيرة هنشو، إلا أن الملاحة في بحر اليابان الداخلي بينها وبين جزيرتي شيكوكو وكيوشو، قد أدت خدمات جليلة في الربط البشري والاقتصادي لجزر اليابان.
ومع اشتداد حركة النقل أُنشئ نفق بين هندو وكيوشو للسكك الحديدية لتأمين حركة نقل سريعة للأفراد والبضائع. وعلى هذا النحو لنمط النقل في العروض المعتدلة يمكن أن نضم أيضًا نيوزيلندا التي تشابه اليابان كثيرًا في الملاحة الشاطئية، ولو أن الحركة الداخلية للنقل أقل عشرات المرات من حيث الكثافة بالقياس إلى اليابان، ونفس الحالة يمكن أن تنطبق على اسكتلندا والبحر الأيرلندي، بينما في بقية إنجلترا يتكاثف النقل النهري والبري في منطقة السهول الشرقية والجنوبية الشرقية بوصفها جزءًا من السهل الأوروبي.
وإلى جانب النقل النهري، فإن العروض الوسطى قد استخدمت الحيوان في النقل منذ القدم. وقد جاء الحيوان المستأنس إلى السهول الأوروبية عن طريق الجماعات الرعوية في وسط آسيا، وعن طريق البحر المتوسط، حيث استأنس أصحاب الحضارات القديمة في الشرق الأوسط الخيول والبغال والحمير منذ العصر النيوليتي «الحجري الحديث». وقد كان الحصان هو أكثر الحيوانات التي استُخدمت في السهول الأوروبية في النقل؛ نظرًا لملائمته لهذه الأجواء. ونظرًا لأنه قد استخدم أيضًا كحيوان ركوب سريع، وحينما استوطن الأوروبيون أمريكا الشمالية فإنهم قد جلبوا معهم الحصان الذي سرعان ما انتشرت أعداده بسرعة كبيرة، وأتقن الأمريند ركوبه للدرجة التي يخال معها الإنسان أنهم قد عرفوه قبل وصول الأوروبيين، ولكن ذلك ليس صحيحًا.
وقد ظل الحصان وسيلة النقل الرئيسية في أوروبا طوال العصور التاريخية حتى فترة اختراع القطار. وكان الحصان يستخدم أيضًا في جر عربات ثقيلة الحمولة «عند المناجم» تجري على قضبان لتسهيل حركة الجر، وبذلك كان الحصان أول طاقة تُستخدم في جر القطارات إلى أن حلت محله طاقة البخار ثم الديزل والكهرباء.
وفي الوقت الحاضر ساهمت الظروف الطبيعية عامة في انتشار شبكة النقل الحديث في كافة العروض الوسطى؛ ذلك أن السهول والوديان قد ساعدت على مد الخطوط الحديدية والطرق البرية دون عناء أو رأسمال كبير. أما في الجبال فإن التقدم التكنولوجي الحديث قد ساعد على مد الطرق والخطوط الحديدية بواسطة الأنفاق والجسور، وبواسطة فكرة الطريق الحلزوني «السربنتين».
كما أن وسائل النقل الخاصة في المناطق الجبلية متوفرة بكثرة في العروض الوسطى، بينما تظهر في حالات قليلة في جبال المناطق المدارية أو الجافة. ولا شك أن هذا مردُّه إلى الكثافة السكانية والتقدم الاقتصادي، ونمو التكنولوجية الحديثة مع تطبيقاتها المتنوعة في دول نطاق العروض الوسطى.
(٢-٤) العروض الشمالية
تحتل هذه العروض إقليمين رئيسيين، هما: إقليم الغابات المخروطية وإقليم التندرا، وهما لا يتمثلان إلا في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، فقارات العالم الجنوبية لا تصل إلى هذه العروض العليا إلا في أقصى جنوب أمريكا الجنوبية، وهي مساحة صغيرة من الأرض كثيرة الفيوردات والجزر الصخرية، بما في ذلك جزيرة تييرا دلفويجو ومجموعة فلكلاند وشتلند الجنوبية، وكلها في حدود درجة العرض٦٠ جنوبًا. أما قارة إنتاركتيكا فمساحة ضخمة من اليابس تغطيها حقول الجليد الدائم، وخالية من السكن الدائم، وعلى وجه العموم فإن هذه الجزر تستخدم النقل البحري، فضلًا عن أن عدد السكان متناهٍ في القلة (سكان تييرا دلفويجو من الأمريند الذين ينقسمون إلى قبائل عديدة، منها: الأوتا والياهاجان، وهي تعيش على صيد الحيوانات البحرية، وعددهم في تناقص مستمر (الياهاجان كان عددهم ٣٦ شخصًا في ١٩٣٨)).
وتشغل الغابات المخروطية والتندرا مساحات شاسعة من آسيا وأمريكا الشمالية، ومساحات محدودة من أوروبا، وذلك بفضل وصول كتل الهواء الدافئة وتيار الخليج الذي يؤدي إلى رفع درجة الحرارة؛ ومن ثم يقلل فرص نمو الغابات المخروطية في شمال أوروبا.
والظروف الطبيعية السائدة هي سهول واسعة تتحول إلى مستنقعات كبيرة في مناطق كثيرة أهمها منطقة سيبيريا الغربية وخليج هدسن والماكنزي الأدنى، ولكن توجد بعض المرتفعات المتوسطة كما هو الحال في سيبيريا الشرقية وشمال اسكندنافيا وأيسلندا أو جرينلاند وبافن ولبرادور وألسكا ومعظم جزر المحيط الشمالية. وهذه الجبال تؤدي إلى تكوين حقول من الجليد الدائم، وخاصة في جرينلاند وبافن وسبتزبرجن «سفلبارد».
وتسيطر البرودة الشديدة معظم السنة على المناخ، وهو بذلك عكس الأقاليم المدارية، ولكنْ هناك صيف قصير، قد ترتفع فيه درجة الحرارة ارتفاعًا كبيرًا، وخاصة في المناطق الداخلية القارية مثل سيبيريا الشرقية ومنطقة سهول كندا الشمالية، ويؤدي هذا إلى مدًى حراري سنوي كبير، وإن كان المدى اليومي ضعيفًا.
والحيوانات الوحيدة التي يمكن استئناسها هي الرَّنَّة في آسيا والكاريبو في أمريكا الشمالية، هذا إلى جانب الكلاب القطبية. وقد استُخدمت هذه الحيوانات منذ فترة طويلة في النقل، وخاصة جر الزحافات؛ لأن الأرض المتجمدة لا تسمح إلا بمثل هذا النوع من وسائل النقل غالبية السنة.
وأنهار العروض الشمالية طويلة وواسعة ومعظمها بطيء الجريان، لكن يعيبها أنها تتجمد فترة طويلة من السنة، ولم تكن هذه الأنهار ذات فائدة للسكان الأصليين في عمليات النقل «الفائدة الوحيدة كانت صيد الأسماك»، ولكن هذه الأنهار تُستخدم في الوقت الحاضر في نقل الأخشاب إلى المناشر الآلية المنتشرة قرب هذه المجاري، ويعوق النقل في هذه الأنهار الشمالية أن المنابع تذوب مياهها قبل المصبات؛ مما يزيد في عرقلة حركة النقل.
وفي اسكندنافيا، بعد ظهور حديد كيرونا السويدية، أُنشئ خط حديدي يربط شمال خليج بوثنيا بالمحيط الأطلنطي الشمالي في النرويج مارًّا بمنطقة مناجم جيلفار وكيرونا، وينتهي إلى ميناء نارفيك النرويجي حيث ينقل الحديد بحرًا إلى أوروبا الغربية.
وإلى جانب الطرق البرية والحديدية في شمال أوروبا وآسيا، فإن هناك خطوط الملاحة الساحلية، وخاصة في النرويج والاتحاد السوفييتي. ولعل الطريق البحري الشمالي السوفييتي هو أطول الطرق الملاحية في العروض العليا، ولو أنه لا يُستخدم كله في خلال الصيف القصير.
وفي كندا مدت خطوط حديدية في لبرادور إلى مناجم الحديد الغنية في شيفرفيل وجانيون في وسط شبه الجزيرة، كما يوجد خط حديدي يربط ميناء تشرشل على خليج هندسن بمنطقة القمح الربيعي في البراري الكندية الغربية، ولكن حركة النقل عليه قليلة ولا يستخدم حاليًّا إلا لنقل المنتجات المعدنية في مناطق متناثرة قرب هذا الخط.
•••
وفي ختام هذا الفصل نعود إلى تلخيص أهم مظاهر التفاعل بين الظروف الطبيعية وطرق النقل على اليابس، وأول ما يبدو لنا هو أن السهول هي أكثر أشكال الأرض تشجيعًا على حركة الانتقال، وخاصة بالنسبة لوسائل النقل الحديثة والبرية، وعلى العكس تقف الجبال بتضرسها ووعورتها عائقًا أمام النقل وتحدد مناطق معينة للعبور «الممرات الجبلية»، ولكنَّ الإنسان أيضًا استطاع أن يتغلب على ذلك بحفر الأنفاق، وإن كان ذلك يستدعي إنفاقات رأسمالية وتكنولوجية كبيرة.
وتختلف السهول فيما بينها اختلافًا جوهريًّا من حيث تقدم التسهيلات أو إقامة العقبات أمام طرق النقل؛ فالسهول الجافة تقف عائقًا لم يمكن التغلب عليه حتى الآن، مع استثناءات محدودة؛ حيث تستدعي الظروف الاقتصادية نشأة طرق نقل مختلفة، مثل صحاري الشرق الأوسط المنتجة للبترول والسهول المتجمدة — كما هو في التندرا — تقف عائقًا أمام الطرق الحديثة إلا في حالات محدودة جدًّا. وكذلك تصبح السهول الغابيَّة عقبة أمام النقل؛ لأنها تقتضي قطع الأشجار وتمهيد الطريق. وتختلف سهول الغابة من حيث المناخ؛ فهناك الغابات المخروطية والغابات الاستوائية، والأولى أسهل في شق طرق الانتقال الحديثة، بينما الثانية تستدعي عمليات مكلفة في قطع الغابات الكثيفة وبناء الجسور لعبور الأنهار والنهيرات والمستنقعات العديدة.
ولا شك أن أحسن السهول قاطبةً هي السهول المفتوحة التي تنمو فيها أنواع الأعشاب، فمن السهل القضاء على الأعشاب وشق الطرق، لكن هنا أيضًا يتدخل الاختلاف المناخي، فالسهول العشبية المدارية «السفانا» تختلف كثيرًا عن سهول الإستبس؛ ففي السفانا يحتاج الأمر إلى بناء طرق كل الأجواء وإقامة جسور عديدة على الطريق الواحد تجنبًا للمطر الغزير الذي يسقط في موسم الصيف. أما في الإستبس فإن الأمطار، ولو أنها صيفية، إلا أنها ليست غزيرة كما هو حال السفانا.
وأكثف شبكات النقل الأرضية حاليًّا توجد في منطقة سهول الغابات النفضية في أوروبا أو أمريكا، ولكن هذه الغابات قد أزيلت منذ انتشار الزراعة في أوروبا، وبذلك حل سهل مكشوف منظم زراعيًّا بواسطة الإنسان محل سهل غابي قديم. وقد ساعد ذلك على تقدم المواصلات تقدمًا كبيرًا في هذه المناطق.
وفي دراستنا للتفاعلات الطبيعية مع طرق النقل يجب ألا ننسى دور الإنسان والنشاط الاقتصادي الذي يتخطى في كثير من الأحيان العقبات الطبيعية من أجل المنفعة الاقتصادية.