بربارا
تعوَّدت أن أراها كل يوم، فما أكاد أفرغ من محاضرات الظهيرة في الجامعة حتى أتجه إلى هذا المطعم القريب لأتناول وجبة الغذاء، وأشرب قدحًا من البيرة الشهيرة، ويستقبلني الوجه الصغير وعليه ابتسامة عذبة: نهاري سعيد.
– نهارك سعيد يا بربارا.
– ماذا يأكل الهر اليوم؟
– ألا تحضرين قائمة الطعام؟
– لست في حاجة إليها، فأنا أحفظ ما فيها عن ظهر قلب، عندنا اليوم سجق.
– كل يوم سجق يا بربارا؟!
– إذن سأحضر لك بفتيك بالبطاطس أو هل تحب طبقًا من الحساء بالمكرونة وذيل الحصان؟ أو …
– هاتي ما يعجبك يا بربارا، هاتي ما يعجبك!
وتنقلت بسرعة كأنها دمية لطيفة، وتعود بعد قليل تحمل صينية عليها أطباق الطعام، ثم تجلس أمامي وتعقد يديها على صدرها، كأنها متهم ينتظر الحكم عليه بين شفتي القاضي، وتتململ قليلًا في مقعدها قبل أن تسألني: هل أعجبك؟
– لذيذ جدًّا!
وانتظرت أن تقولي لي «شهية طيبة» كما تعوَّدت أن تقول لي كل يوم، ولكن صيحة ندت عنها نبهتني إلى أن زوارًا جددًا قد أقبلوا.
– هالو هرشتاين، هالو فراوشتاين.
– هالوا بربارا، كيف حالك؟
وتعود بربارا بعد قليل، وتجلس إلى جانبي وتقرب شفتَيها من أذني كأنها تفضي إليَّ بسر خطير الهر شتاين وزوجته يحضران هنا كل أسبوع، هل تعلم أين يسكنان؟ في الغابة السوداء، هل رأيتها؟
– لا يا بربارا، لم أرَها بعد.
– آه! هي غابة كبيرة، كلها أشجار، أشجار، إذا سرت فيها لا ترى الشمس، لهذا سموها الغابة السوداء.
– ولماذا يعيش الهر شتاين حيث لا تظهر الشمس؟!
– فلاحون، ناس مساكين، يقطع الخشب ويربي الخنازير.
وفي كل يوم أحد ينزل إلى المدينة هو وزوجته، ها هي تجلس إلى جانبه يتنزهان في الشوارع، ويتفرجان على المحلات الكبيرة المنورة، ويشتريان الحاجات، يوم الأحد عندهم يوم عيد ولكنهما لا يأكلان إلا في مطعمنا، نعم، لا يأكلان إلا في مطعمنا، منذ ثلاث سنين كل يوم أحد الساعة الواحدة. ناس مساكين!
– ولماذا هم مساكين؟
وتضع بربارا يدها على خدها وتسكت لحظة ثم تقول: آه! هذه حكاية طويلة، بابا حكاها لي منذ أسبوعين، ألا تلاحظ أنهما يلبسان السواد؟
والتفت لأتأكد من صحة ما تقول، كان الرجل يرتدي سترة صغيرة سوداء حشر فيها جسده النحيل، فبدا كأنه موسيقيٌّ بائس عجوز، أما المرأة فكانت تتدثر في رداء بسيط كأنه قبل أن تفصِّله على قدها كان راية سوداء تُرفَع على المباني العامة في أيام الحداد.
واستطردت بربارا تقول: بابا قال لي إنهما كان لهما ابن، ابن وحيد يسكن معهما في الغابة السوداء، كل صباح يركب الدراجة إلى الجامعة، مسافة طويلة، أليس كذلك؟ كان للهر شتاين أمنية واحدة: أن يرى ابنه «بروفسير» في الجامعة. بروفيسير عظيم، على عينيه نظارة كبيرة، وفي يده حقيبة سوداء، ورأسه كبير جدًّا؛ لأنه يفكر كثيرًا، مثل كل البروفسيرات، وكان الهر شتاين يقاب كل إنسان ويقول له: كيف تكلمني هكذا؟! إن هي إلا أيام وسترى أنني أبو البروفسير، هنري — وكان هذا هو اسمه — سيصبح بروفسيرًا في الجامعة، وسيسكن في المدينة، وسنسكن معه في المدينة، ونترك الغابة السوداء، ولكن هل تعلم ماذا حدث؟
– ماذا حدث يا بربارا؟
– آه! الحرب! الحرب الشريرة، هل عرفتم الحرب أيضًا في بلادكم يا هر؟ كل شيء «كابوت»! بابا يقول دائمًا إنه زمن شرير. زمن شرير وحرب شريرة، هل تشرب قدحًا من البيرة؟ نعم؟ فاتحة أو غامقة؟
كنت قد فرغت من طعامي، وجلست أنتظر عودة بربارا، أطالع وجوه الحاضرين، وأنقل بصري بين الصور المعلقة في الحائط، وأقبل صاحب المطعم بكرشه الضخم ووجهه الأحمر المكتنز وجسده القصير السمين فحياني تحيته المعتادة: نهارك سعيد.
– نهارك سعيد.
– أرجو ألا تكون بربارا قد ضايقتك.
– على العكس يا سيدي.
– لطيفة هذه البنت، لطيفة وعزيزة علينا.
وضحك ضحكته المجلجلة التي أعرفها منه، ثم تركني وراح يتنقل بين الموائد يحيي الزبائن: شهية طيبة، مرحبًا بكم، شهية طيبة.
وأقبلت بربارا مسرعة ووضعت قدح البيرة أمامي وهي تقول: لحظة واحدة، سأعود حالًا، حذارِ أن تذهب!
ثم رأيتها تقبل على رجل يجلس وحده في الركن المواجه لي، وتبيَّنت من خلال ضحكاتها الحلوة بعض كلماتها: سجق بالبطاطس، شربة بالمكرونة وذيل الحصان!
وانقضت لحظات قبل أن تعود إليَّ وتجلس في مواجهتي.
– هل تعلم حكاية هذا الهر؟
– وما هي حكايته يا بربارا؟
وعقدت يديها على خديها، وأغمضت عينيها الخضراوين الجميلتين، وبدت كأنها تسترسل في حلم طويل، وطال صمتها، فقلت: يا بربارا! هل نمت؟!
قالت وهي تتأملني بعينيها الحزينتين: أنا حزينة من أجل الهر فريدريش.
– ولماذا يا بربارا؟
فعقدت جبهتها وقالت غاضبة: هل تعلم أنه لم يبع شيئًا أمس؟
قلت: وماذا يبيع الهر فريدريش؟ خضارًا أو فاكهة؟
قالت مستاءة: أوه! إنك لم تفهم، لم يبع ولا قصيدة!
قلت: إذن فهو شاعر؟
قالت في حماس: نعم، نعم، كتب في الأسبوع الماضي قصيدتين جديدتين وطاف بهما على كل الجرائد والمجلات في المدينة، آه! زمن شرير، ناس شريرون، ولا جريدة قبلت أن تنشر له بيتًا واحدًا، أوف فيدرزين! أوف فيدرزين هر شتاين. إلى الأحد القادم تحياتي للغابة السوداء. وكل الخنازير التي فيها. أوف فيدرزين!
كان الفلاح وزوجته قد تهيآ للانصراف، أقبل الرجل على بربارا فسلَّم عليها، وانحنت زوجته فطبعت قبلة على جبينها، وأحنيت رأسي لأرد على تحيتها، ثم تنقلت ببصري إلى الشاعر الذي يجلس وحده. كان يجلس إلى المائدة وظهره لي، ورأيت كيف يكون الشعر الطويل المنفوش ضرورة للفنانين والشعراء، قلت في نفسي: لا بد أن يكون له وجه نحيل مستطيل، وعينان باكيتان وقامة شامخة.
تنهدت بربارا وقالت: مسكين!
قلت ضاحكًا: كل الناس عندك مساكين؟
قالت تشير بإصبعها كأنها تتهم العالم كله: زمن شرير، ناس شريرون.
هل تعلم كيف يعيش الهر فريدريش؟
– وكيف يعيش يا بربارا؟
– فوق السطوح، في حجرة صغيرة، تصلح أن تكون مصيدة للفيران.
– وماذا يعمل إذن؟
– إنه يعمل في «الألجمينه تسايتونج» يصحح أخطاء المطبعة، تصور! شاعر عظيم مثله، يقوم بعمل كهذا، يمكن أن تقوم به بربارا! مسكين!
– وهل يعيش وحده؟
– اسمع، سألته مرة: لماذا تعيش وحدك يا هر فريدريش؟ قال لي: ومع من أعيش يا بربارا؟ قلت: مثلًا تتزوج امرأة. قال لي: وهل أجد امرأة تتزوجني؟ قلت: بالتأكيد، امرأة تحبك. فضحك وقال: النساء لا تحبني يا بربارا، لا تتعبي نفسك! هل تعلم ماذا فعل في اليوم التالي؟ كتب قصيدة اسمها «بربارا»، اسمي أنا! وأقبل في مثل هذا الوقت وقال لي: أحضرت إليك هدية، قلت ماذا أحضرت؟ قطعة شوكولاتة؟ قال بل قطعة شعر، وجلس في هذا الركن نفسه، على هذه المائدة نفسها، وراح يقرأ عليَّ قصيدته.
– حذارِ أن تخطئ في شعري.
ورفعت رأسي فوجدت رجلًا مديد القامة يخلع قبعته ويحييني، واحمرَّ وجه بربارا، وتلعثم لسانها وهي تقول: لا يهم، ما دمت ستصحح خطئي، أليس هذا هو عملك؟ وانحنى الرجل عليها، وأخذ يدها بين يديه وقبلها وهو يقول: آه! يا نجمتي العزيزة الوحيدة! إلى الغد، إلى الغد يا نجمتي الوحيدة! ورفع قبعته مرة ثانية، قالت بربارا: هل تعرف يا هر؟ إنني أتمنى أمنية واحدة؟
– وما هي يا بربارا؟!
– أن أستيقظ من النوم فأجد نفسي امرأة طويلة وكبيرة جدًّا.
قلت: ولماذا تستعجلين يا بربارا؟
قالت وهي ترفع صوتها تحيي زائرًا دخل لساعته: جوتن تاج! ونهضت متعجلة وهي تقول: ألا ترى أن الهر فريدريش يعيش وحيدًا؟! لحظة واحدة، حذارِ أن تنصرف قبل أن أعود، وجرت مسرعة تحيي الزائر الجديد، وسمعتها من بعيد وهي تداعبه: أنا دائمًا في خير، وأنت، جوت؟ هل شهيتك مفتوحة اليوم؟ عندنا سجق بالبطاطس، وشربه بالمكرونة وذيل الحصان.
وجرت نحو أبيها الواقف خلف «البوفيه» كأنه جبل من اللحم، ثم عادت إليَّ مسرعة: هه؟ أنت بالطبع لا تعرف حكاية الهر أرنست؟
قلت وأنا أنظر في ساعتي: ولا أريد أن أعرف!
قالت وهي تلوي شفتيها وترمقني بنظرة يائسة: أنا غاضبة منك!
قلت: تأخرت يا بربارا، لا بد أن أنصرف الآن!
هتفت في حماس: لا! لا! ليس قبل أن تسمع حكاية الهر أرنست.
كانت قد نطقت الاسم بصوت مرتفع، وخشيت أن يكون قد سمعها فوضعت يدها على فمها وعضت إصبعها والتفتت وراءها، ثم قالت: الحمد لله! لم يسمع! هل تعرف أنه كان بحَّارًا؟ طبعًا لا تعرف، وهل تعرف أن سفينته غرقت بكل من فيها عند الساحل الأفريقي؟ طبعًا لا تعرف! وأنه نجا هو واثنان فقط ممن كانوا معه! وأنه أخذ يسبح في الماء المالح سبعة أيام وليالٍ، سبعة أيام في الماء المالح حتى انتُزع جلده؟ طبعًا لا تعرف!
قلت: الساعة الآن الثالثة يا بربارا يجب أن أذهب.
قالت غاضبة: لن أكلمك بعد اليوم!
ورن في القاعة صوت مخيف: بربارا! لا تضايقي الهر!
وأطرقت برأسها الصغير إلى الأرض ووضعت إصبعها في فمها.
قلت وأنا أرتدي معطفي: ألا تسلِّمين عليَّ؟
رفعت رأسها وقالت: هل تأتي غدًا؟
قلت: بالطبع، لأسمع حكاية البحَّار الذي غرق في الماء المالح.
قالت: لا لا! الهر أرنست لم يغرق، ها هو يأكل هناك!
قلت: إلى الغد إذن.
ومدت رأسها الصغير فانحنيت وقبلتها على وجنتيها.
– أوف فيدرزين!
– أوف فيدرزين!