الأسد يموت
دفع العمال القفص الحديدي الكبير إلى السور المحيط بالحلبة، وتقدموا منه يعالجون الأقفال الضخمة واحدًا بعد الآخر، فيدوي صوتها وهي تفتح كصليل أغلال تفك عن عبيد أو أسرى حرب، وحبس الناس أنفاسهم وهم يرون الحارس العجوز النحيل بشعره الأشيب وظهره المحني وبذلته الزرقاء اللامعة الأزرار، يتجه في خطوات مهيبة نحو القفص، وقبل أن يضع يده على الباب الكبير مد ذراعه اليمنى إلى أقصاها، بحركة يعرفها المتفرجون ويصفقون لها، ثم راح يدور حول نفسه في كل اتجاه ويلاحظ مغتبطًا راضيًا أن التصفيق يشتعل من الأكف المتحمسة مع كل لفتة من لفتاته، إنه يعلم بخبرته الطويلة أن التصفيق لا يدل دائمًا على الإعجاب، بقدر ما يعبر عن رغبة مخلصة في تشجيعه، أو في العطف عليه والرثاء له.
ومن كان أولى منه في تلك الليلة بالتشجيع أو بالرثاء؟ أليس العمدة نفسه حاضرًا بين المتفرجين، ومع مشايخ البلد، ومأمور المركز، ورجال الحكومة؟ وهل تتاح له مثل هذه الفرصة لإظهار فنه واستعراض براعته إلا مرة أو مرتين في العمر كله؟ دعا الله بالستر والأولياء الصالحين بالبركة وتقدم من القفص الكبير ففتحه بيده، بينما اليد الأخرى تمسك طرف عصاه الحديدية، ونزل الأسد العجوز من القفص بعد أن تثاءب وحك رأسه الأشقر بالقضبان وتأمل طويلًا وجه الحارس، لم ينزل من القفص إلى الأرض قفزًا كما اعتاد في شبابه، بل ترك نفسه يسقط عليها كمن هدَّه التعب والإعياء، ويظهر أنه تردد طويلًا وأخذ يقلب عينيه الواسعتين الجميلتين بين الأرض ووجه الحارس، فلما وجد أنه لا يسنده ولا يربت على رقبته أو كتفه، بل ينظر إليه نظرة استغاثة واستجداء، تحامل على نفسه وزحف إلى الأرض زحفًا كالتمساح البطيء، مد رأسه أولًا، ثم دفع مقدم جسمه بجهد كبير، وأخيرًا ترك مؤخرته وساقيه الخلفيتين تلحقان بهما، وقع الأسد على الأرض ولم ينهض، قال الناس لأنفسهم لا بد أنها لعبة يقوم بها أو خدعة تمرن عليها، وازداد شكهم حين رأوا الحارس يتقدم منه وينحني على أذنه ويهمس. قال الحارس: أرجوك، شد حيلك معي. هز الأسد رأسه ونفض شعره الذهبي المهيب بقوة، ثم نظر لحظة إلى الحارس في صمت وأطرق برأسه وأغلق عينيه. مال الحارس على أذنه مرة أخرى، ولم ينسَ في أثناء ذلك أن يمد ذراعه إلى أقصاه في الهواء، ويتلقى عاصفة من التصفيق المنبعث عن خوف حقيقي على حياته، قال: في عرضك، قم واستر عرضي، الليلة غير كل ليلة.
لم يبدُ على الأسد أنه سمع كلامه أو فهمه، عاد يتطلع إلى وجهه في صمت، ثم يغمض عينيه أو يقلبهما بين وجوه الحاضرين أو يتثاءب أو يدفنهما بين مخلبَيه الأماميَّين، ألحَّ الحارس عليه في صوت باكٍ وقال: وحياتك لا تكسفني، العمدة هنا الليلة، العمدة بنفسه ومعه الأعيان وحضرة المأمور، حركة واحدة من حركاتك المشهورة تخزي العين، قم الله يسترك واسمع الكلام.
بدا كأن الأسد يستجيب له، حرك ذيله عدة حركات، وفتح فمه الواسع وتأوه، ومد الحارس يده ليسنده من صدره، ولا بد أنه بذل مجهودًا كبيرًا جعل الأسد يقف أخيرًا على أطرافه الأمامية والخلفية، كما جعل الحاضرين يحيونه بالتصفيق والهتاف، استدار الحارس نحوهم، رفع قلنسوته الزرقاء بيد وأرسل إليهم قبلة باليد الأخرى، لكنه تمتم في سره: اللهم فوت الليلة على خير.
سار في نشاط ملحوظ إلى وسط الحلبة فدفع كرسيًّا عاليًا ذات درجات نحو الأسد، وسحب كرباجه الطويل من حزامه ودوى به في الهواء قبل أن يهتف: يا بركة أم هاشم، تصفيق يا جماعة، يالله، وانتظر أن يتحرك الأسد ويقفز قفزته المشهورة فيكون في لحظة فوق المقعد الطويل، غير أن الأسد ظل جامدًا في مكانه، يقلب فيه عينيه الحزينتين اللتين لمح الحارس فيهما برغبة في البكاء، رفع كرباجه في الهواء مرة أخرى فدوى الصوت في الحلبة، وعاد يهتف: توكل على الله، يا لله، ولكن الأسد ظل جامدًا في مكانه، ولم يبقَ هناك شك في أنه يذرف الدموع، أراد الحارس أن يداري خجله بصنعة ماهرة، فصفق بيديه وقال وهو يلتفت للحاضرين: والآن ترون اللعبة العجيبة، اللعبة المشهورة، هيا يا رجال، هاتوا الطوق، هاتوا النار، ومد إليه عامل الطوق الحديدي من وراء القضبان، وفرقع بالكرباج في يديه لحظة فصفق المتفرجون وهم يشهقون، ثم أخرج علبة كبريت من جيبه وأشعل النار فيه، وتقدم من الأسد والطوق الملتهب في يده، غير أن الأسد رفع إليه رأسه وراح يتطلع في وجهه، وبدلًا من أن يقفز قفزته المشهورة وينفذ من الطوق تهاوى على الأرض في هدوء، سكتت الموسيقى النحاسية التي مهَّدت للعبة الخطرة، وأخذ الناس ينظرون إلى بعضهم البعض وبدا كأن الموقف قد أفلت من يد الحارس فتقدم من الأسد في محاولة جديدة، راح يربت على شعر رأسه وكتفه ويلاطفه ويداعبه، بل لقد مال برأسه عليه وراح يلثم شعره، قال له الحارس: قم يا رجل، قم لأجل خاطري.
تأوه الأسد آهة مسموعة ودفن رأسه بين مخلبَيه.
عاد الحارس يهمس في أذنه: قم يا رجل قم، خلِّ الليلة تفوت على خير، العمدة هنا وحضرة المأمور، ومشايخ البلد والأعيان، يرضيك الناس تشمت فينا؟
تأوه الأسد آهة طويلة، زفر زفرة تُقطِّع القلب، تحامل على نفسه ونهض بصعوبة، فرح الحارس وعاد يقدم إليه الطوق الملتهب بكلتا يديه، لكنه بدلًا من أن يقفز منه زأر زأرة مخيفة جعلت الحارس يبتعد عنه، ولما تقدم منه من جديد هبشه بمخلبه في صدره، فوقع على الأرض وكادت النار تحرق صدره وتمتد إلى ملابسه.
صاح المأمور من بعيد: اضربوه بالنار يا عساكر، صرخ الناس وقاموا يريدون الهرب، رفع الحارس ذراعه وصاح: لا، لا، حاسبوا عليه، ابني وأنا أعرفه. عاد المأمور يهتف: اضربوه بالنار قبل ما يأكله. تقدم الأسد في خطوات بطيئة من سور الحلبة، اقترب من الموضع الذي يجلس فيه العمدة والأعيان وحضرة المأمور، وقف أمامهم قليلًا ثم برك على الأرض وتأوه، صاح صوت: الأسد تعبان، مريض وظاهر عليه الموت، فتح الأسد فمه مرتَين وأغلقه قبل أن يزفر ويخرج صوتًا يشبه الكلام: نعم يا ولدي، تعبت وظهر عليَّ الموت.
التفت الناس لبعضهم، خُيِّل إليهم أنهم يسمعون كلامًا كالذي ألفوه، تشجع العمدة وسأل: قل يا أسد، تكلم بحريتك.
قال الأسد: الله يحفظك يا سيدي العمدة، تعبت، تعبت، تعبت.
نهض العمدة من على مقعده وأشار للناس بالسكوت، طلب من العساكر أن تبتعد ببنادقها عن القضبان، تأكد له أن الأسد يسمعه ويرد عليه، فسأل: اطلب ما تشاء يا أسد، هل تأخذ إجازة؟
قال الأسد: إجازة؟ الله يحفظك يا عمدة.
بدا للعمدة أن الأسد يتهكم عليه، أعاد سؤاله مرة أخرى: هل تحب أن نلغي اللعبة؟ هل تعود للقفص؟
قال الأسد: تعبت يا عمدة من الأقفاص.
قال العمدة: ولكن القفص ضروري يا أسد، ضروري للمحافظة على الأمن، للمحافظة على أرواح الناس.
قال الأسد: وروحي أنا يا عمدة؟ هل فكرتم فيها؟
قال العمدة: بالطبع يا أسد، فنحن نكرمك ونعجب بك ونرسل لك أحسن لحم في البلد ونسميك ملك الحيوانات.
تأوَّه الأسد: ملك الحيوانات؟ كان هذا قديمًا يا عمدة، أما الآن …
قال العمدة: والآن أيضًا يا أسد، الناس تهابك والوحوش والطيور تخافك، فأنت كما يعلم الجميع ملك الحيوانات، ملك الغابة.
قاطعه الأسد قائلًا: الغابة؟ لا تذكرني بما مضى يا عمدة، أين أنا الآن من الغابة؟ إنني أموت.
قال العمدة متأثرًا: الموت علينا حق يا أسد، لو سمعنا أنك مريض لأرسلنا إليك الطبيب في الحال.
قال الأسد متأوِّهًا: الطبيب؟ وماذا يفعل الطبيب في مرض العصر يا عمدة؟
سأل العمدة: مرض العصر؟ هذا شيء لم نسمع به في الأرياف يا أسد، ما هو هذا المرض؟
قال الأسد: الملل يا عمدة، الممل.
سأل العمدة: من أي شيء يا أسد؟ مع أن السيرك تحت أمرك، والأهالي معجبة بك، انظر.
قال الأسد: مللت السيرك والناس يا عمدة.
سأل العمدة: عجيب يا أسد، وماذا تريد؟
قال الأسد: أن تهدموا السيرك، أن أرجع لعريني وزوجتي وأولادي، أن أجري وراء الغزال والحمار الوحشي وأتعارك مع الوحوش وأنعس في الشمس كما أشاء، أريد أن أعود أسدًا كما كنت في ماضي الزمان.
نظر العمدة إلى المتفرجين حوله، خُيِّل إليه أنهم يتابعون كلام الأسد ويتعجبون، شعر أنه يتحدث بلسانهم فتشجع وقال: ولكن الناس هنا معجبون بك، إنهم لم يحضروا إلى السيرك إلا ليروك.
قال الأسد: تعبت من السيرك، تعبت من الحراس والقضبان والقفز على الكراسي العالية وفوق ظهور الخيل.
ضحك العمدة وقال: ولكنك تعلم أن هذا نظام السيرك في العالم كله.
شاركه المأمور الضحك وقال: ومنذ أن وجد الإنسان وهو يقيم السيرك ويروِّض الأسود، وأجدادك كانوا يلعبون أمام الرومان كما تعلم ويبهجون الناس في كل مكان.
قال الأسد: سئمت الناس، وسئمت الرومان.
سأل العمدة: ألا يرضيك أن تفرح الأهالي؟ ألا يعجبك أن يصفق لك الأطفال والفلاحون كل ليلة؟ …
قال الأسد: تعبت من التصفيق يا عمدة، تعبت من رؤية الوجوه البائسة التي تضحك عليَّ، ألا تراهم يخرجون من السيرك فيعودون إلى حزنهم وبؤسهم من جديد؟
قال العمدة: ولكن هذا هو السيرك في كل الدنيا، يدخل الناس ويفرحون ساعات ثم يرجعون إلى التعب والجري على الأرزاق.
قال الأسد: وأنا أقول لك: فرح كاذب، أريد لحظة صدق واحدة، أريد أن أعيش بلا قيود ولا أقفاص ولا عربات.
قال العمدة: ولكن لا بد من النظام يا أسد، نحن البشر أيضًا لا نستغني عن القيود والأقفاص.
قال الأسد: افعلوا ما تشاءون بالبشر، افرضوا عليهم القيود وضعوهم في السجون والأقفاص، سنوا لهم القوانين كما تشاءون، ولكن اتركونا في حالنا، دعونا نرجع أسودًا كما كنا، دعونا نعش حياتنا.
قال العمدة: إن بقية زملائك لا يشكون، إنهم يقفزون ويلعبون ويتعلمون، وهم جميعًا سعداء بوجودهم معنا وتسليتهم لنا، الكلب سعيد لأنه يتعلم القراءة في السيرك ويدخل المدرسة، والقرد سعيد لأنه يلبس البذلة والنظارة ويزف إلى عروسه آخر الليل، والحصان سعيد لأنه يرقص على الواحدة ويحمل البهلوان على ظهره، والنمر سعيد لأنه يتعلم قفزات جديدة غير التي علمتها له الطبيعة ويكتسب فنونًا عويصة لم يكن ليتعلمها بنفسه، والجميع سعداء لأنهم يسلون الأهالي ويُدخِلون الفرح على قلوبهم، وحتى زملاؤك الأسود في الغابة يتمنون أن يعيشوا عيشك ويتمدنوا مثلك، أليست هذه من علامات الحضارة التي أدخلناها على عالم الحيوان؟
قال الأسد: الحضارة؟ ولكنني أريد أن أتركها لكم.
سأل المأمور: وهل يعقل أن يخلو السيرك من الأسد؟ هل يقبل الناس عليه إذا عرفوا أنك لست فيه؟ إن الكلب والقرد والحصان والفيل والدب تسليهم، ولكنك تبهرهم وتوقظ فيهم مشاعر الرهبة والجلال وغموض الغابة العذراء، صدقني يا أسد، زملاؤك في الغابة يحسدونك على فنك وألعابك.
قال الأسد: وأنا أحسدهم لأنهم مازالوا أسودًا، أنا ملك الغابة أصبحت عبدًا، أنا سيد الوحوش أصبحت قردًا ومهرِّجًا، أنا الذي كنت كونًا بأسره أصبحت أخاف من لذعة السوط وعصا الحارس ومنظر القضبان، أنا الذي كان النجم في عيني والرعد في صوتي والموت في مخلبي.
قال العمدة: ما زلنا نكن لك الاحترام من قلوبنا، ما زلت مثلنا الأعلى في العظمة والمجد والشجاعة والجلال.
قال الأسد: أرجوك يا حضرة العمدة، اتركني في حالي، أطلق سراحي، أخرجني من القفص.
قال المأمور: محال يا أسد، ضرورات الأمن لا تسمح بهذا، أرواح الناس.
وأيَّده العمدة فقال: نظام السيرك، نظام المدنية والحضارة.
تأوَّه الأسد ثم زأر بصوته العميق المخيف، وقف على ساقَيه الخلفيتَين ومد مخلبَيه كأنه يستعطف القديس القديم الذي نزع منهما الشوكة، فتح فمه مرتَين ليشرب الدموع المنسابة من عينيه، وأفاق الحارس العجوز في هذه اللحظة من إغمائه الطويل وجرى فَرِحًا إلى الأسد، عانقه وغمر عُرفه الذهبي بالقبلات وهو يقول: بارك الله فيك يا ولدي، كنت متأكدًا أنك ستبيض وجهي أمام حضرة العمدة وتسترني أمام الأهالي والأعيان وسعادة المأمور، جزاك الله عني خيرًا يا ولدي، هيا يا سبعي، هيا إلى المقعد العالي، هيا اعرض عليهم قفزتك المشهورة من الطوق الناري، هيا متِّعهم وفرِّح قلوبهم.
تخلص الأسد من الحارس بصعوبة: تأوَّه وزأر زأرة خفيفة، ثم شهق شهقة خُيِّل للحاضرين أنه يلفظ معها آخر أنفاسه.
وتهاوى على جنبه وتمرَّغ على الأرض وعفَّر رأسه الذهبي بالتراب قبل أن يقول: أنا أموت، أموت.
ثم اختلجت أطرافه وانتفض جسده لحظة قبل أن يلقي الحارس العجوز نفسه عليه.
قال العمدة: الأسد مات.
هتف المأمور والمشايخ والأعيان: مات الأسد.
أما الناس فقد تعجبوا كثيرًا حين قالوا لهم بعد الخروج من السيرك إن الأسد كان يتكلم، مع أن الأسود — وهذا أمر معلوم — لا تعرف اللغة العربية، كما أن هذه اللغة — وهذا أمر معروف أيضًا للجميع — لغة عويصة يصعب حتى على البشر أن يتكلموا بها كلامًا مفهومًا.