لماذا نسيتني؟
ارتعشت يد الخفير العجوز لحظة قبل أن تضع المفتاح الأسود الغليظ في ثقب الباب، ومال برأسه الصغير إلى الأمام ليتطلَّع في وجه الزائر الغريب، ثم دفع باب المدفن الصفيحي فصرَّ صريرًا مخيفًا كاد يغطي على الصوت الرقيق الذي يسأله: ألا تعرفني يا عم عوض؟
قال الرجل وهو يدعوه أن يتفضل بالدخول، ويمر بعينيه الكليلتين على الوجه الأبيض الذي لا يذكره: لا مؤاخذة يا سيدنا الافندي، العتب على النظر.
ضحك الزائر قائلًا: هل نسيت حسني يا عم الشيخ؟
مر الشيخ عوض بيده المعروقة على وجهه المتجهم كأنه يحاول أن يتذكر أو يحتج احتجاجًا أخرس على الضحكة التي رنت في غير مكانها، ويجبرها على التراجع أمام هيبة الموت ووحشة القبور: حسني بيه؟ ابن الحاج جابر؟ والله سلامات، يا مرحبًا بأهل مصر، الله يرحم والدك.
قال الأستاذ حسني بعد أن خطا خطوتين في داخل المدفن وطالعته ثلاثة قبور تداخلت في بعضها البعض، فبدت كظهور موجات غطَّاها الزبد الأبيض: الله يرحم الجميع.
نفض عم عوض التراب بجلبابه عن مرتفع صغير أُعدَّ للزائرين، ودعاه للجلوس وهو يتمتم بالفاتحة، ثم أراد أن يستأذن في الانصراف معتذرًا بإتمام حراسته حين سأله الأستاذ حسني في خجل: لا مؤاخذة يا عم عوض، من عشر سنين وأنا غائب عن البلد، المرحومة أمي مدفونة هنا، قبل الحاج بسنين، هل تعرف …
قال عم عوض وهو يرفع يديه ويعيد تلاوة الفاتحة: أستغفر الله، طبعًا يا ابني، هنا يا سيدنا البيه، الله يرحمها ويحسن إليها، راسها تحت الشاهد تمام.
أقبل حسني على القبر الأوسط في خشوع شجَّع الخفير على الاعتذار مرة أخرى والانصراف إلى نوبة حراسته، وحين وجد نفسه وحيدًا بعد أن أغلق الباب عليه لم يدرِ على التحديد ماذا يفعل.
مد يده إلى القبر وأخذ يمسح بها عليه، تمنَّى لو تسعفه الدموع أو يشهق بالبكاء كطفل وحيد تعيس، غير أنه كان يعلم أن دمعته بعيدة، وأنها طالما خذلته في مواقف كثيرة لا يستعصي فيها البكاء على أعتى الرجال، وأخذ يفتش عن آية يحفظها من أيام المدرسة فلم تطاوعه إلا الفاتحة التي أخذ يرددها دون تفكير، وأحس بوجهه يلتهب بالخجل، فأخذ يبلغ ريقه كالمتهم الذي وقف الكلام في حلقه أمام المحكمة، كان الوقت بعد العصر بقليل، والهدوء الساكن حوله يزيد من ضربات قلبه ويملأ صدره بالوحشة والرعب، وكانت القبور تنتشر حوله في كل مكان، كلما تلفت وجدها صامتة مستسلمة، غير أنها تبدو كما لو كانت تتعمد هذا الصمت والاستسلام، بل ربما كانت تتربص به أو تدبر شيئًا لن تلبث أن تنفجر فجأة لتهدده به، ومع أنه رجل عاش حياته للعلم ونذرها لمحاربة الأوهام والخرافات، فقد كان هناك شيء يقبض على عنقه وصدره ويكاد يخنقه، شيء لم يستطع أن يتبين إن كان خوفًا أو خجلًا أو توبة من ذنب قديم أو رهبة أمام المجهول الساكن المنتشر كالوحش غير المنظور في كل ذرات الهواء الذي يتنفسه حوله، ولا يدري أيضًا لماذا قفزت إلى ذهنه صورة حيوانات بدائية منقرضة كان قد رأى ظهورها في مناسبة لا يذكرها، ربما في أحد الأفلام أو في كتاب علمي قرأه منذ سنوات.
كان التعب يُخدِّر أعضاءه، واجتمعت حرارة الجو اللافحة مع عرق ممزوج بتراب السفر، راح يتصبب من جبينه وسالفيه ويدخل إلى فمه قطرات مُرة مقززة، وكاد يندم على أنه نزل من العربة على الطريق الزراعي ولم يكمل سفره إلى البلدة، فقد كان في استطاعته أن يزور أخته الكبرى وأخاه المقيم في بيت العائلة، ثم يعود إلى زيارة أبويه في الصباح، ولكنه نفى هذه الوساوس عن نفسه بسرعة، قائلًا إنها لا تليق بعالم مثله، وماذا ترك إذن للجهلة والفلاحين؟! بل ماذا ترك للعجزة والأطفال؟! ها هي البلد تتراءى له من بعيد، جدارًا واهيًا أسود من الطين، ينفث الدخان والغبار من فمه كتنين يموت، والبيوت الصغيرة كتل من السحاب الأسود تحتمي ببعضها البعض خائفة من لفح الشمس ومن مصيرها المحتوم، وبعض الكلاب تعوي من بعيد كأنها تحذِّر من هذا المصير، وتعلن سخطها نيابة عن الفلاحين الصامتين.
أسند رأسه إلى جدار القبر، وتراكم عليه تعب النهار وكآبة الموت وركود الهواء ولفح الحر وطنين الذباب ونعيق الغربان، فاستسلم لذكرياته، وخُيِّل إليه أنه يسمع صوتًا يناديه: حسني.
كان صوتًا هادئًا فيه بحة رنت في أذنَيه رنينًا مألوفًا وغريبًا، وبدا له كيَدٍ دافئة تمسح على رأسه وجبينه: حسني، حسني.
أجاب في لهفة: أمي؟!
قال الصوت العميق: غبت يا ابني، طالت غيبتك.
قال حسني غير مصدق: أهذا صوتك حقًّا؟
أجاب الصوت معاتبًا: نسيت أمك يا حبيبي؟
وضع أذنه على الجدار، ثم رفع صوته محتجًّا: نسيتك؟ كيف أنساك يا حبيبتي؟ عاد الصوت يقول في أسف لم يخفَ عليه: لو كنت تحبني حقًّا، فلماذا نسيتني؟
تمثَّل له الوجه العجوز كما رآه لآخر مرة، كانت الابتسامة الطيبة الساخرة تحاول أن تفسح لها مكانًا بين التجاعيد المزدحمة على طرف الفم وتحت الخدين البارزين، ولم تتضح له العينان تمامًا وإن راح يبحث عنهما تحت المنديل الأسود الذي يشد الجبين ويتدلَّى طرفه فوق الأذن الدقيقة البيضاء. تأمل الوجه الصغير المستطيل وغضب لأنه لم يتبين كل ملامحه وقال:
لا تقولي نسيتك، إنما المشاغل والأعمال.
قالت في حنان: هل تعمل الآن يا حبيبي؟ عندما تركتك كنت في البكالوريا، كان نفسي أفرح بك وأوزع الشربات.
ضحك وقال: البكالوريا؟ هوه، هوه، أنا سافرت وعشت سنين في الغربة.
سمعها تضرب صدرها بيدها: عند الخواجات؟
ضحك من كلامها، تعجب في نفسه من جهلها، ابتسم وقال: ياما سافرت ورجعت.
قالت داعية: تسافر وترجع بالسلامة يا ابني.
أراد أن يقول إنه عبر المحيطات وركب الطائرات والقطارات ثم عاد إليها. تذكَّر أن الأرض كروية، وأن الإنسان يعود دائمًا إلى النقطة التي بدأ منها، حاول أن يجد عبارة تبيِّن أنه لم ينسَها، وأنه كالطفل الضائع، مهما هرب وتاه في بلاد الله لا بد يومًا أن يرجع إلى صدر أمه.
وأخرجه الصوت من حيرته حين سمعه يسأل: وتوظفت يا حبيبي؟
ظل يضحك حتى فاجأه الخجل ورهبة المكان فقال: موظف؟ قولي مدير، رئيس.
عادت تسأل: بركة يا ابني، وشغلك صعب؟
تهيَّأ للشرح الطويل، رفع ذراعه وأخذ يشير بإصبعه ويقول: صعب؟ كله إلا التخطيط يا أمي، كله إلا التخطيط.
انعطف الوجه الحنون عليه في إشفاق، غابت منه الابتسامة وحل محلها حزن أبدي مظلم، كالذي يكسو وجوه الفلاحين.
سألت وهي تلفظ الحروف في حذر شديد: تخطيط؟
وجد أن المسألة تحتاج إلى شرح طويل، رفع ذراعه إلى أعلى وبدأ يشير بسبابته كأنه يوضح رسومًا على لوح أمامه: التخطيط يا أمي هو الذي تخصصت فيه، طبعًا حصلت على أعلى الشهادات …
قاطعته قائلة: ربنا قادر يا ابني يعطيك.
استمر يقول: التخطيط يا أمي هو سياسة اقتصادية لتحقيق أهداف معينة، هو رسم صورة للمجتمع الجديد، المجتمع الذي نحلم به، هو الإطار المادي للمثل والآمال التي تسيطر علينا، أنا أرسم هذه الصورة، مع زملائي طبعًا، وكلهم دكتاترة مثلي.
هتفت في فرح: يعني أنت دكتور يا حبيبي؟
قال في استنكار: أوه، طبعًا، طبعًا يا أمي، نرجع للموضوع، مجتمعنا متخلف، راكد، شبه ميت، يسود التأخر جميع مرافقه الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، يعيش في الظلام بعيدًا عن الحضارة والعلم والمدنية والحرية، يحيا غريبًا في هذا الكوكب، ينظر إلى العالم كأهل الكهف أو كالمتفرج الهابط من كوكب آخر، سبعون في المائة من السكان أميون، عاجزون، مرض بالبلهارسيا والدوسنطاريا القدرية والفقر والصبر، مستوى دخل الفرد لا يصل إلى حد الكفاف …
قاطعته في صبر نافد: كلامك يا ابني …
أشار إليها أن تسكت واستطرد يقول: نريد أن نغيِّر الهيكل الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، نريد أن نبني بناءً جديدًا مكان البنيان المتداعي القديم، نريد أن ننهض به إلى مستوى لائق من الحضارة، حالتنا سيئة يا أمي، حالتنا سيئة، ٧٠ إلى ٩٠ في المائة ما زالوا يعيشون على الزراعة، ينفقون كل دخلهم على الغذاء والضروريات، لا يعرفون الادخار، تصوري أن مستوى دخل الفرد منخفض عن مستوى دخله في الهند؟
قالت الأم وهي تبتسم فتكشف عن فم بلا أسنان: الهند بعيدة يا حبيبي، ما لنا وما للهند؟
أجاب مندفعًا غاضبًا: يعني نحن في الحضيض، ما زلنا في الحضيض رغم التعب والعرق والمجهود، بيننا وبين العالم المتحضر هوة سحيقة، نركب الحمار وهو يركب الصاروخ، نزرع بالفأس والمحراث وهو يستخدم الطيارة والجرار، نعيش في عصر الساقية وهو يعيش في عصر الميكنة، لا بل كما يقول العلماء في عصر ميكنة الميكنة.
قالت جزعة: المكن خطر يا ابني، ربنا ينجكيم من الأخطار.
زاد صوته حدة وراح يشير بيده: نريد أن نحول مجتمعنا إلى مجتمع صناعي، مجتمع متقدم، نريد أن يأتي اليوم الذي يترك فيه الفلاح الفأس، يكسر المحراث، يقتل حماره بالرصاص.
سألت خائفة: حرام يا ابني.
رفع صوته أكثر وقال: بل يقتل كل الحمير، كل هذه المخلوقات الغبية الكسولة التي تنضح عليه.
قالت تذكِّره بالماضي: أبوك كان يحبه يا ابني، حماره الأبيض بعلامة سوداء على رأسه، ما أحلاه وهو يسرح به إلى الغيط.
قال ساخطًا: لو كان أبي حيًّا لأجبرته أن يقتل الحمار.
سألت مشفقة: وماذا يفعل من غيره يا ابني؟
قال: يركب هو وكل الفلاحين الجرار.
سألت: الأتومبيل؟ كل الفلاحين على أتومبيلات، ومن يزرع الأرض يا ابني ويرويها ويعزقها ويلم محصولها؟
قال مؤكدًا كلامه: بالمكن يا أمي، قلت لك بالمكن.
قالت في لهجة يائسة: ربنا قادر يا ابني، والبهايم من يحلبها يا حبيبي؟ من يرعاها؟
قال متطلعًا إلى القرية الهاجعة كجثة تنزف طينًا أسود: البهائم ستعيش في حظائر، تحلب بالمكن وتأكل بالمكن، المعدات البدائية ستزول وتحل محلها آلات جديدة نظيفة، ألم أقل لك لا بد أن ندخل عصر الصناعة، لا بد أن نسابق الزمن، الزمن الذي يجري كالأرنب ونحن نزحف وراءه كالسلحفاة؟ انظري، هؤلاء الفلاحون الذين يجلسون في الشمس قانعين راضين بالقدر …
قاطعته وكأنها تحذِّره: المقدر لازم يكون يا ابني، وكل حي ونصيبه.
فهتف وهو يشوح بكلتا ذراعيه: هذه هي القدرية، نريد أن نقضي عليها، لا بخت ولا نصيب بعد الآن، الإنسان هو سيد القدر، هو صانع الحياة، هو المسيطر على الطبيعة، هكذا يقول العلم، العلم.
قالت مستسلمة: بحره واسع يا ابني، وربنا يزيدك من نعيمه.
استطرد يقول كأنه يخطب: والعلم يقول لا بد من ثورة في الريف، لا بد من تحطيم المجتمع التقليدي، لا بد من القضاء على القدرية والقناعة بالبخت والنصيب.
قالت تحاول أن تهدئ من حماسه: القناعة يا ابني كنز.
أجابها كالعاصفة: غلط، القناعة هي سر المصائب، القناعة علَّمت الفلاح أن يرضى بالقليل، أن يعيش هو وأولاده كالحمير والجاموس، تغذية سيئة (نسبة ضئيلة من السعرات الحرارية)، حالة صحية سيئة (طبيب لكل ٣٦٠٠ إنسان، تصوري!) أمية وجهل منتشر (٧٥ في المائة، تمامًا كما كانت على أيامك)، خزعبلات وأوهام موروثة يسمونها تقاليد، تعصب للأسرة وللأرض، وبلغة العلم جمود أفقي.
سألت: إيه يا حبيبي؟
استطرد متجاهلًا سؤالها: جماهير مفرطة في الفقر، وأفراد مفرطون في الغنى.
قالت تنبهه: أمر الله يا ابني.
زمجر ساخطًا: بالعكس، ناس ترضى بالبؤس والكدح، ترثهما وتورِّثهما للأولاد والأحفاد، هذا بلغة العلم هو الجمود الرأسي.
مصمصت بشفتَيها، فهتف: قلت لك جمود رأسي!
هزت رأسها آسفة: ربنا يعينك يا ابني وينصر المسلمين.
تعجب في نفسه لسذاجتها، ثم عاد ينظر إلى القرية المستسلمة تحت نجوم لا ترحم: بلادنا يا أمي قرية، قرية كبيرة واحدة، قرية منسية، متخلفة، أمية، مريضة، مغلقة، بدائية، القرية هي أم المشاكل، لا بد أن نحييها، ننفخ فيها نور العلم، نبنيها من جديد، بيوت عصرية بالماء والنور والمجاري، بينها شوارع نظيفة، فيها بساتين ومساحات، مسارح وملاعب للأطفال، مكتبات. كل الفلاحين لا بد أن يخرجوا من تحت الأرض، يحسوا بالدنيا، يأكلوا ويشربوا، يرقصوا ويسمعوا الموسيقى، يفرحوا، لا بد أن يفرحوا يا أمي مرة واحدة من نفسهم، ويلبسوا البذل.
ضحكت حتى كاد يعاتبها وقالت: يلبسوا بذل؟ ربنا قادر على كل شيء.
قال وهو ينفخ الهواء من الغيظ المكتوم في صدره: طبعًا حقهم، ويقرءوا الكتب ويعرفوا أخبار الدنيا ويتمتعوا بالثقافة والحضارة، يقولوا نعم ولا وقت اللزوم. الديمقراطية يا أمي.
سألت: إيه يا ابني؟
استمر في اندفاعه: والاشتراكية، مجتمع المساواة، مجتمع العدالة، مجتمع …
أشفقت عليه من هذا الهياج، صعب عليها أن يفور الدم في وجهه وتنتفخ عروقه ويسيل العرق أنهارًا على صدره دون أن يشعر، أخذت تنظر إليه صامتة، فقال يطمئنها: لن ننسى الريف يا أمي، لن ننساه بعد الآن، سنزحف عليه كالجيوش الهائلة لنمدِّنه ونعلِّمه ونشفيه ونعالج رمده القديم، سنعمل، سنعمل.
تردد صوتها الخافت في أذنَيه: العمل عمل الله يا حبيبي، لا تنسَ قراءة الفاتحة على روحي.
بدا له أنها تعاود بالتهمة التي تصور أنه دفعها عن نفسه، قال وفي صوته احتجاج لم يستطع أن يغطي على الندم: أنسى؟ كيف ينسى الإنسان أمه؟
بدأ وجهها الساطع يلتف في سحابة تبيض وتسود، اختفت عيناها الضيقتان الصافيتان، زادت الابتسامة الوديعة الساخرة اتساعًا حتى لم يبدُ له سوى فتحة كادت تملأ قلبه خوفًا، وجد نفسه يقف ويتقدم منها ويؤكد كلامه بيديه وخلجات وجهه وأطرافه وانتفاضة جسده: أقسم لك إننا سنعمل، إن لم يعمل هذا الجيل فلا بد أن يعمل الجيل الذي بعدنا، والجيل الذي بعده.
بدت الابتسامة كهلال نحيل يضيء وحيدًا في السماء الصافية، خُيِّل إليه أن الشفتَين تتحركان في همس يرن مع ذلك رنينًا واضحًا: إن كنت تحبني حقًّا، فلا تنسني.
بعدت الابتسامة، أضاءت ثم شحبت ثم انتفضت قبل أن تتلاشى. صرخ حسني بملء صوته:
أنساك، لا يمكن أبدًا، أنت أمي، أمنا، لا بد أن نعيش معك، لك، فيك، لا بد أن نبني البيوت الصحية والمدارس والحدائق والمسارح، لا بد أن نعمل، نعمل، نعمل.
شعر بجبل ثقيل يتمايل ويتحرك ويهتز.
انزاح الجبل عن صدره ورأسه وانزاح ظله الأسود عن عينيه، استمر شيء يهزه ويهزه. فتح عينيه وقفز مذعورًا، كان لا يزال يصرخ بصوت مجروح ومختنق ينبعث من حلق مر ملتهب: العمل، العمل، عندما انتبه إلى عم عوض الذي أخذ وجهه الصغير المصفر ينتفخ وينكمش أمامه.
هز رأسه لحظات قبل أن يفيق تمامًا ويقول: لا مؤاخذة يا عم عوض.
قال عم عوض ضاحكًا: معذور يا ابني من التعب، الشمس راحت والمغرب أذن، وحضرتك يعني لو نسيتك كنت لا مؤاخذة …
تذكر وهتف: لا، لا، إلا النسيان.
ابتسم، وضع ذراعه في ذراع عم عوض الذي أغلق باب المدفن الصفيحي فصر صريره المخيف، وسارا معًا على أقصر طريق يؤدي إلى البلدة التي بدت في ظل السحب الداكنة المحمرة الأطراف مثل جدار واهٍ من الطين يحاول التشبث بالأرض الطرية التي تئن تحته وتهدد بالسقوط.