الفصل العاشر
كانت الأجواء في الكنيسة صباح اليوم التالي كما اعتدناها دائمًا، باستثناء أنَّ السيد جلينجاري وزوجته، اللذين كانا جالسَين في دكتهما خلفنا بثلاث دكك، لم يُلقيا التحية علينا كالمعتاد. شعرت بالأسف حيال ذلك، لكنه لم يكُن شديدًا.
كان أبي محقًّا حين قال إنني سأشعر بتحسُّنٍ بعدما أبوح بمكنون صدري، ولم أمانع في مقابل ذلك الاستغناء عن ابتسامة يوم الأحد المعتادة من آل جلينجاري.
كانت بيتي ترتدي فستانًا مستقيمًا بلا كمَّين من نسيجٍ قطني منقوشٍ بالمربعات، وتحته قميص أبيض ذو ياقةٍ من طراز «بيتر بان»، فبدت في ثوبها هذا حلوة كبازلاء ليِّنة لكنَّ عينَيها كانتا تفضحان حقيقتها.
لم أشغل بالي، وركزت بدلًا من ذلك على أزهار الأقحوان الأرجوانية والصفراء، التي كانت متجمِّعةً في عناقيد حول المذبح والصليب الفارغ المعلَّق فوقه.
شَدَت الجوقة بالترانيم كالمعتاد، فكان السيد سيمونز يُرنِّم من خلال أنفه الضخم، فيما اختلج صوت السيدة لانكاستر أكثر مما كانت شاحنتنا المسطحة تختلج وتهتز، وكنا جميعًا نغني معهم بطُرُقنا المختلفة.
تحدث القس كينل بإسهاب عن تغيُّر الفصول، لكني لم أستطِع فهم هذه المسألة إطلاقًا. كنت ممتنَّة جدًّا للقلم الرصاص الصغير، وظرف التبرعات الذي كان محفوظًا في مكانٍ آمن بجوار كتاب التراتيل، على ظهر الدكة الموجودة أمامي. صحيح أنني لم أستطِع رسم شيء مهم، لكنَّ المحاولة كانت كافيةً لتسليتي وعدم الشعور بالوقت. وكان جدي الجالس بجواري يبدو شاعرًا بالحسد؛ لأنني قضيت معظم الخطبة وأنا أرسم حصانًا.
قال لي هامسًا: «هذا كلب جميل يا أنابل.»
وعندما أخذت أمي الظرف لإضافة بعض العملات المعدنية إلى مجموعة التبرعات، ابتسمت حين رأت الحصان الذي يبدو كلبًا. وقالت: «آملُ أن يُعجَب القس بتبرعك يا أنابل.»
ظننتُ أنَّ كل شيء كان على ما يُرام، وأنه أيًّا ما كانت المشكلات المُقدَّرة لنا، فلتنتظر ريثما نُدركها.
لكن تبيَّن بعدئذٍ أنها هي التي أدركَتنا حين خرجنا من الكنيسة، ووجدنا العريف في انتظارنا بالخارج ومعه آل جلينجاري.
لم يكُن العريف يرتدي شارةً ولم يكُن يحمل سلاحًا، لكن ثكنات شرطة الولاية كانَت في بيتسبرج، وكان أقرب سجن أو محكمة على بُعد مسافةٍ كبيرة؛ لذا كان العريف يتدبَّر شئون الأمن قدر استطاعته، وكان يستدعي القوات إذا لزم الأمر، وهذا لم يحدث قط، على حدِّ علمي.
كنا كلنا نحبه. كان يُدعى العريف أولسكا. كان لديه وجهٌ كبير، ووجنتان حمراوان، وقليلٌ من الشَّعر، ووجهٌ بشوشٌ ضاحك. لكني رأيته ذات مرَّةٍ في معرض المقاطعة يلفُّ ذراعَيه حول مُزارعٍ أفرَط في شرب عصير التفاح المُسكِر، وكان يتصرَّف بحماقة. أمسكه العريف أولسكا آنذاك وثبَّته في مكانه كأنه ليس سوى حزمةٍ من سيقان الذرة، حتى هدأ المُزارع وعاد إلى منزله لينام. لذا كان الناس يعاملون العريف بجديةٍ حين يُقرِّر أن يكون صارمًا.
وقد كان يبدو صارمًا في هذه اللحظة.
قال: «طاب صباحكم يا جماعة. أريد أن أتحدَّث إليك يا جون. وأنتِ يا سارة.»
فتح أبي باب الشاحنة، وأوصل جدي وجدتي إلى داخلها.
صَرَفنا أبي بإشارة منه، فأطعناه وتدافعنا لنصعد إلى مؤخرة الشاحنة، لكننا احتشدنا على مقربةٍ من المحادثة قدر المستطاع.
لم أستطِع سماع كل ما قالوه، لكنني سمعت اسم توبي واسم روث والسيد أنسل. شاركَت بيتي في المحادثة ببعض الكلام، فشعرتُ بالغضب، لكنَّ أبي وأمي كانا موجودَين للتحدُّث نيابةً عني، ورضختُ لذلك.
كان صوت أمي مسموعًا جدًّا؛ لأنها سرعان ما تضايقت مما كان آل جلينجاري يقولونه.
قالت بنبرةٍ منفعلةٍ إلى حدٍّ ما: «ما الذي حدث بحقِّ السماء لمقولةِ إنَّ المتهم بريء حتى تثبت إدانته؟ وما الذي حدث للسماح للمرء بأن يعيش كيفما يشاء؟» كانَت واضعةً قبضتَيها على وركَيها. وأضافت: «دعونا لا نرمِ الصالح مع الطالح.»
وهذا حيَّرني. فأنا لم أكُن أفهم ما الصالح وما الطالح.
وضع أبي يدَه على كتفها، لكنها تجاهلته. أضافت قائلة: «ربما يكون توبي غريبًا، لكنَّ المسألة تقتصر على ذلك. ربما تجعلونه أسوأ من مجرد شخص غريب إذا وضعتموه في مأزقٍ حَرِج، في حين أنه لم يرتكب أيَّ ذنب. وفوق ذلك، لا يحقُّ لكم أن تحبسوا رجلًا لأنَّ فتاةً تقول إنها رأته على جانب تل. وخصوصًا أنها فتاةٌ سيئة.»
صار الجميع يتكلم بصوتٍ عالٍ يصَمُّ الآذان، وكلهم في وقتٍ واحد. كان واضحًا أنَّ أمي سئمَت المسألة برمتها، فصعدت إلى مؤخرة الشاحنة وركبت معنا. تلاها والدي فركب خلف عجلة القيادة، وشغَّل المحرك، ونادى عمتي من خارج النافذة قائلًا: «ليلي!»
لكنَّ عمتي بقيت بضع لحظاتٍ أخرى تتحدَّث إلى العريف، وتومئ برأسها الشبيه برأس الطائر تجاوبًا مع ردوده، ثم اتجهت إلى سيارتها الخاصة. لم تعجبني النظرة التي علَت وجهها آنذاك. إذ كانت تبدو أقرب ما تكون إلى السعادة، وهذا كان شيئًا نادرًا غريبًا جدًّا على العمة ليلي، وكان أغرب في مثل تلك الظروف.
•••
كان غداء يوم الأحد يقتصر في العادة على قولِ دعاء ما قبل الطعام، وتناولِ ما يُقدَّم لنا. ومحادثة قصيرة. وكنا نعكف بعدئذٍ على تنظيف المائدة وترتيبها (بينما تذهب العمة ليلي إلى غرفتها لقضاء فترة العصر في الصلاة والتأمل … مع أننا كنا نسمع نغمة رقصٍ تتسلل مُنجرِفةً من تحت بابها في بعض الأحيان).
كان الناس يزوروننا في أيام الآحاد من حينٍ إلى آخَر. وفي أغلب الأحيان كنا نقضي اليوم بتمهُّل وهدوء. سعداء بقليلٍ من السكون والراحة.
لكن الوَضْع كان مختلفًا في ذلك الأحد.
قالت والدتي لي ولشقيقيَّ بعد الغداء وهي توزِّع قِطَع فطيرة التفاح، وتسكب عليها القشدة: «أريدكم أن تبقوا بعيدين عن بِيتي جلينجاري في المدرسة غدًا. لا تَقربوها. لا تُكلِّموها. وأخبروا السيدة تايلور إذا فعلت بيتي أي شيءٍ يضايقكم. أي شيءٍ مهما كان.»
وقال والدي: «وأخبرونا نحن أيضًا حين تعودون إلى المنزل. لا تكتموا شيئًا بعد الآن.»
فقالت العمة ليلي: «حسنًا، بصراحة يا أنابل، ألا ترين أنكِ ربما كنتِ تبالغين قليلًا؟ تبدو بيتي فتاةً حلوةً تخشى الرب، وهي شجاعةٌ جدًّا لدرجة أنها أخبرتنا بما فعله توبي، مع أنه أكبر مَصدرٍ للرعب في هذه المقاطعة كلِّها.»
فقلت: «لقد ضربَتني بشدةٍ لدرجة أنها تركَت كدمةً سوداء بحجم ثمرة الخيار. يستحيل أن أكونَ مُبالِغةً في الحديث عن اللون الأسود.»
اعتدلت العمة ليلي وجلست بوضعية أكثر انتصابًا. وقالت بحدة: «لا تشهدي زورًا على جارتك.»
وبالرغم من مرور بعض الوقت منذ أن ضربتني بيتي بتلك العصا، وقفتُ وكشفت فخذي أمام الجميع، وتركتهم يَرَون العلامة التي كانت ما تزال واضحة. ما تزال قبيحةً جدًّا.
أشاحَت العمة ليلي بنظرها بعيدًا. ولم تتفوَّه بكلمةٍ أخرى طوال بقية الوجبة.
•••
بعد انتهاء الوجبة وإتمام ترتيب المائدة، جمعَت أمِّي المستلزمات اللازمة وأعدَّت كِمادةً بينما كنت أشاهدها. أحضَرَت حفنةً من أوراق نبات الشاغة الروسي من حديقة مطبخها وماءً مغليًّا، وهرست المزيج معًا ليُصبح عجينةً ساخنة، ثم وضعَته بملعقةٍ في قطعة قماشٍ نظيفة، وطوَتها بإحكام على شكل مربَّع مُتقَن. أخذَتني إلى غرفتي، وجعلَتني أرقد على جانبي، وضبطَت الكِمَادة على الكدمة.
قلت لها: «لم تعُد تؤلمني.»
فقالت: «حسنًا، يؤلمني أن أعرف أنها موجودة أصلًا. هذا سيزيلها تمامًا.»
كان أكثر ما أسعدني جلوس أمي على حافة سريري، وهي واضعةٌ يدها على الكِمَادة لتبقيها دافئة.
قلت لها: «لم أفترِ على أحد. ما كنتُ لأفعل ذلك.»
«أنا أعرف يا أنابل. العمة ليلي تظن أنها تعرف أكثر ممَّا تعرف. يكفي الحديث عن هذا الآن.»
كنا جالستَين بهدوء، وشعرتُ بوجود مسافةٍ بعيدةٍ بيننا وبين صوت شقيقيَّ في الطابق الأسفل، حيث كانت نبرتهما غير لائقةٍ بيوم الأحد وكانا صاخبَين كأيِّ يومٍ آخَر في الأسبوع.
سألتها: «ماذا سيحدث لتوبي؟»
تنهَّدت أمي. وقالت: «حسنًا، العريف أولسكا ليس لديه معلوماتٌ كافية لاستدعاء القوات والقبض على توبي، وهذا ما يريده آل جلينجاري منه. صحيح أنه لا يُمكن أن يصرف نظرًا عمَّا قالته بيتي، لكنه لا يستطيع القبض على توبي استنادًا إلى ذلك فقط. لا يستطيع القبض عليه بأي حالٍ من الأحوال؛ لأنَّ الشرطيين الفرسان هم المخوَّلون بالفصل في ذلك القرار وتنفيذه. لذا قال إنه سيتحدث إلى آندي عمَّا قالته بيتي، بخصوص وجودهما في برج الجرس. وسيذهب ليزور توبي أيضًا. وربما يأتي ويتحدث إليكِ قليلًا عن تلك المسألة الأخرى بينكِ وبين بيتي. وسيُحاول معرفة هُوية ذلك الشخص الذي شدَّ ذلك السلك عبر الممشى. سيفعل كل ذلك، لكني لا أعرف بأيِّ ترتيب. ربما حتى قد يتحدَّث إلى توبي مساء اليوم، أو في وقتٍ مبكِّر من صباح غد. حقًّا لا أعرف يا أنابل. لكن كل ما يريده الآن أن يتحدَّث إلى بعض الأشخاص ويكتشف حقيقة الأمر.»
دسستُ يدي تحت خدي، وحاولتُ أن أتصوَّر الشرطي يقرع باب الكوخ الذي يسكنه توبي، وتخيَّلتُ النظرة التي ستعتلي وجه توبي عندما يفتح الباب، ويجد تلك الطامة أمامه على الجانب الآخَر.
«لا أصدق ما يقولونه عن توبي. إنه ليس هكذا.»
«ولا أنا يا أنابل. لكن العريف أولسكا رجل عادل. لا أظن أنه سيفعل أي شيء الآن سوى التحدُّث.»
خشيتُ أن يكون حتى هذا في حد ذاته فوق احتمال توبي. فتوبي كان رحَّالة متجولًا. وتوقعتُ أنه ربما يفكِّر الآن في ترك تلالنا والرحيل إلى مكان جديد.