الفصل الثالث عشر
لم يكُن سهلًا عليَّ أن أعود إلى النوم في تلك الليلة.
كنت قد ذهبت من قبل إلى مزرعة آندي لعدة مرات مع أبي؛ لمقايضة بعض منتجاتنا الزراعية بمنتجات الألبان — كالتفاح مقابل الجبن أو البقول مقابل الزبد — لذا لم يسعني إلَّا أن أتخيلها الآن مظلمةً وهادئة، ثم تصورتُ العريف يقرع الباب، فيُضاء نور شرفة المدخل، ويظهر والد آندي بهيئةٍ غير مهندمةٍ لأنه قام من نومه فجأةً. وهو يوقظ آندي بعد ذلك لينزل ويُجيب عن أسئلة العريف.
كنت آملُ أن يكون آندي على دراية بمكان بيتي. ربما أدرَكَت أن كل أكاذيبها كانت على وشك أن تُفضَح وتفضحها فهربت. أو ربما خرجت للاستكشاف، وإنْ كان من المُستبعَد أن تفعل هذا تحت الأمطار، وبدون آندي.
لم أستطِع تخيُّل أنَّ توبي له أي علاقة بذلك. وفي الحقيقة شعرتُ بأنَّ جزءًا من نفسي كان يتمنى أن يكون توبي بعيدًا عن المنطقة بحلول ذلك الوقت. لكنَّ الجزء الأكبر من نفسي كان يرجو ظهوره كالمعتاد.
لو أنه قد ترك الكاميرا معلقة بخطَّاف في كوخه، لصدَّقتُ أنه رحل. فتوبي ما كان ليأخذ كاميرتنا معه، مع أنها كانت كاميرته هو أيضًا فعليًّا.
وعندما أنهكني التفكير أخيرًا ونمت، حلمت ببيتي، لكنه لم يكُن حلمًا واضحًا أو يُمكن تذكُّره. بل محض طيف ضبابي تلاشى حالما استيقظت.
لم يكُن الصباح قد حلَّ بعد. فالأجواء أشد ظلامًا من أن تكون صباحية، لكنها ليست بالأجواء الليلية المعتادة. لم يكُن الليل قد انجلى بعدُ. ورغم ذلك شعرت بوجود حركة في الطابق الأسفل.
وفي هذه المرَّة، عندما نزلت إلى الأسفل، وجدتُ أنَّ أبي وأمي كانا مستيقظَين ومرتديَين ثياب الخروج، فيما كان الفطور جاهزًا على الطاولة، مع أنَّ الساعة لم تتجاوز الرابعة صباحًا، أي أبكَر من الساعة المعتادة لاستيقاظ أيِّ أحد، حتى المزارعين في هذا الوقت من العام. وكان العريف أولسكا جالسًا عند الطاولة يتناول البيض والنقانق.
سألتُ من المَدخل وعيناي ترمشان في الضوء الساطع: «هل وجدتموها؟»
فقالت أمي: «لماذا أنتِ مستيقظة في هذا الوقت يا أنابل؟ ما زلنا في الليل. عُودي إلى فراشكِ ونامي مجددًا.»
فقلت: «لقد أخذت كفايتي من النوم تمامًا. هل عادت بيتي إلى دارها يا حضرة العريف؟»
قال: «لا مع الأسف. سنبدأ البحث حالما يبزغ أول ضوء للنهار. جدُّها وبعض الجيران في الخارج يبحثون عنها بالفعل، لكنهم لن يجدوا أي شيء في الظلام. سنخرج إليهم قريبًا، بنشاطنا وثيابنا الجافة، وسنعثر عليها إنْ كان العثور عليها ممكنًا.»
لم يبدُ لي نشيطًا ولا جافَّ الثياب. خمَّنتُ أنه ظلَّ مستيقظًا طَوال الليل. قلت له: «ماذا قال آندي؟»
رد عليَّ وهو يأكل، وكان يبدو عليه الجوع الشديد. قال: «أنا ووالداكِ كنا على وشك الحديث عن ذلك. آندي مغترٌّ بنفسه قليلًا؛ ولذا كنت أتوقع بعض الكلام الوقح منه، لكنه تضايق جدًّا من الخبر. أخبرني بأنه هو وبيتي كانا يعتزمان ألَّا يحضرا إلى المدرسة، وأن يقضيا اليوم معًا يتسكعان في المَزارع و«يعبثان»، على حد تعبيره.»
هزَّ العريف رأسه. وأضاف: «كان الصبي غرًّا وديعًا في معظم كلامه عن بيتي. لقد زالت منه كل فظاظته. قال إنهما كان من المفترض أن يلتقيا عند «حجر السلحفاة» قبل أي شيءٍ آخَر، في الصباح الباكر من يوم أمس، لكنه اضطر إلى البقاء في المنزل في اللحظة الأخيرة؛ إذ طلب منه أبوه إصلاح سياج. وعندما وصل إلى الحجر، كانت بيتي قد رحلت. فذهب للبحث عنها، وانتهى به المطاف عند المدرسة، واكتشف أنها لم تحضر، فذهب إلى بيت آل جلينجاري. لم يجِد أحدًا هناك. فاستنتج أنهم قد أخذوا بيتي إلى مكانٍ ما. لذا عاد إلى منزله.»
سألتُه قائلة: «هل سألتَه عن مسألة برج الجرس وكل ذلك؟»
فقالت أمي: «ليس الآن يا أنابل. سنجد وقتًا مناسبًا لتلك المسألة عند العثور عليها.»
وهذا كان منطقيًّا، في رأيي، لكني لم أرَ المسألتَين منفصلتَين. كان الموضوع كله، من وجهة نظري، أشبَه بحبلٍ كل أجزائه متضافرة معًا. لكني أمسكتُ لساني.
سخَّنَت أمي قهوة العريف، وتحدث ثلاثتهم عن عملية البحث، بينما أعددتُ فطوري بنفسي وأنا أستمع إليهم.
ظهرَت العمة ليلي في المدخل. كانت قد أزالت البكرات من شَعرها، وكان منسدلًا حول كتفَيها في لفاتٍ حلزونية هزيلة. كانت ما تزال مرتدية رداءها المنزلي ونعلها، وكان وجهها يحمل بقايا من كريم النوم تحت عينَيها. سألَت قائلة: «هل وجدتموه؟»
فقلنا كلنا كأننا عائلة من البوم: «مَن؟»
قالت بحدة: «توبي.»
فقال العريف: «لا أبحث عن توبي. ظننتُ أنكِ تقصدين آندي.»
قالت: «آندي ليس مفقودًا ولا يحتاج إلى أن يعثر أحد عليه.» سكبت لنفسها كوبًا من القهوة، وجلست إلى الطاولة. ثم قالت: «يجب أن يكون توبي هو مَن تبحثون عنه، قبل أن يختطف فتاة أخرى.»
قالت أمي بحدة: «ليلي!»
فقالت عمتي: «ترين أنَّ أنابل ينبغي ألا تسمع مثل هذا الكلام؟ أوافقكِ الرأي يا سارة، لكنكِ أنتِ مَن سمحتِ بأن تجلس هنا إلى الطاولة مع الكبار. وأودُّ أن أعرف أيها العريف: هل خطر ببالكِ أنَّ الاثنين ربما يكونان معًا في مكان ما، وأنَّ بيتي ربما تكون سجينة لديه؟»
تنهَّد الشرطي. وقال لعمتي: «بالطبع خطر ذلك ببالي يا ليلي، وقد اتصلت بشرطة الولاية بالفعل ليبدءوا البحث عنه. أو عنهما.»
أصابني هذا الكلام بصدمة عميقة. فهذا لم يخطر ببالي قَط. لكني بدأت أتفق مع عمتي في شيء واحد على الأقل.
قلت: «من الأفضل أن أعود إلى فراشي.»
ابتسمَت لي أمي ابتسامة حزينة قصيرة. وقالت: «فتاة صالحة. وربما ينبغي أن تبقي أنتِ والولدان في المنزل وتغيبوا عن المدرسة اليوم. أنتم مُتعبون. ولا أحد سيهتم بواجباته المدرسية في ظل حدوث كل ذلك.»
كانت هذه صدمة أخرى، لأنَّ أمي لم تقترح شيئًا كهذا من قبل قَط. لم تكُن تسمح لنا بالغياب عن دروسنا إلَّا عند إصابتنا بمرضٍ شديد، أو هبوب عاصفة ثلجية عنيفة.
أومأتُ. وقلت: «حسنًا.»
حاولتُ العودة إلى النوم. بذلت قصارى جهدي. لكني لم أستطِع التوقُّف عن التفكير فيما قالته العمة ليلي. فلماذا قد يريد توبي أن يأخذَ بيتي معه ويجعلها «سجينته». لقد كانت فتاةً بغيضة، وكان يعرف ذلك. لكنَّ العمة ليلي والشرطي أيضًا يظنان، لسببٍ ما، أنهما ربما يكونان معًا.
كنتُ متيقنة من أنهما مخطئان.
وخشيتُ أن أكون أنا الوحيدة المهتمة بمساعدة توبي، قدر الاهتمام بالعثور على بيتي.
صحيح أنَّ أبي وأمي كانا يُحبَّانه، لكن عدم العثور على فتاةٍ مفقودةٍ كان مسألةً في غاية الأهمية. أغلب الظن أنْ لا أحد سواي كان يعتبر توبي أهم من تلك المسألة.
استلقيتُ في فراشي وحاولت التسليم بأن توبي قد رحل عن تلالنا. ولكن أيُعقل أنه قد أخذ الكاميرا؟ أيُعقل أنه غادر دون أن يودِّعنا؟ أو حتى بدون تذكار صغير لإخبارنا بذلك … لإخباري بأنه آسف لرحيله؟
لم أستطِع تصديق ذلك. كنت موقنةً من أنَّ توبي لم يرحل، رغم كل الشواهد الظاهرية التي تؤكد ذلك. كنت موقنةً من أنه موجود في المكان الذي يُفترض أن يكون موجودًا فيه بالضبط. في المكان الذي ستستطيع الشرطة العثور عليه فيه حالما تبدأ البحث.
وهنا سألت نفسي ما الذي سأكون مستعدةً لفعله حيال ذلك، إذا تحقَّق هذا الاحتمال.
•••
ارتديتُ ثيابي في الظلام، واكتسيتُ بطبقاتٍ إضافية من الملابس لأستطيع البقاء خارجًا في البرد فترة طويلة، ونزلتُ الدرج خلسة. وعندما اختلست النظر إلى داخل المطبخ، وجدتُ أنَّ أبي والعريف أولسكا قد غادرا. وكانت أمي منشغلة بأداء بعض العمل عند الحوض، وظَهْرها إليَّ. ولم أجِد أثرًا للعمة ليلي.
تسلَّلتُ إلى حجيرة المدخل، التي كانت مليئة بالوحل الذي خلَّفناه كلنا فيها بأقدامنا طَوال اليوم الماضي، وحملتُ حذائي الطويل الرقبة إلى الباب، وارتديته عند العتبة قبل أن أطَأَ الأرض المبلَّلة بقدميَّ، وأغلقتُ الباب خلفي بهدوء.
عندئذٍ أحسست بشعورٍ يعرفه كلُّ مَن انتقل في حياته من الدفء والنور الساطع إلى البرد والظلام. لقد أدرتُ ظهري لكل الأشياء الآمنة. واتجهتُ إلى الليل؛ صحيحٌ أنه لم يكُن أسود كما كان يبدو من خلال النوافذ، لكنه كان مظلمًا جدًّا، وكانت السماء من فوقي صافيةً في تلك اللحظة، بلا سُحبٍ تُضفي بياضًا على الظلام، فيما كان يتخلَّلها بصيصٌ بسيطٌ من ضوء النجوم، وكانت خاليةً تمامًا من أي ضوءٍ للقمر. كانت الأشجار ينحني بعضها لبعض كأنها على وشك أن ترقص، بينما كانت تعزف موسيقاها الحزينة. وحينها ملأتني الهواجس فجأةً.
كنتُ قد خرجت في الليل من قبل مرارًا، لكني لم أخرج وحدي قَط، ولم يحدث من قبل أن تخطَّيتُ نهاية زقاقنا.
لذا انتابني بعض التردد؛ لكنَّ عيني اعتادت على الليل، وخفت الظلام بعض الشيء. وصار الصباح قريبًا. وكنتُ أعرف وجهتي.
كان كوخ توبي يقع في مُنخفَض «كوب هولو» أسفل بيت آل جلينجاري، على الجانب الآخَر من تلَّتنا المرتفعة من مُنخَفَض «حفرة الذئاب»، بعيدًا عن مبنى المدرسة، وكان موجودًا في الأحراج بالقرب من زقاق ترابي كنتُ قد مشيته مرارًا. لم يكُن بعيدًا جدًّا. ولم يكُن يوجد بيننا وبينه سوى الأحراج تقريبًا.
لم أكُن أحب التفكير في وجود دببة، لكني لم أرَ منها سوى واحد من قبل، وقد هرب مسرعًا من الخوف آنذاك عندما رآني. وأحيانًا ما كان الناس يتحدثون عن وجود أسد جبلي في المنطقة، لكن ذلك لم يستمر طويلًا. ولم يعُد يوجد مزيد من الذئاب هنا. وفوق ذلك، فأنا لم أكُن وحدي تمامًا في الحقيقة. بل كان معي في الخارج هناك رجالٌ يبحثون عن بيتي.
كان عليَّ توخِّي الحذر لأبقى بعيدة عن طريقهم. إذا ظنوا خطأً أنني هي، فسيُصاب الجميع بخيبة أمل فظيعة. وسأقع في ورطة.
ومن ثمَّ، لزمتُ الأحراج، متتبعةً آثار سير الغزلان وسط الأوراق الزلقة بحذر. عرفتُ طريقي ببساطة بالتوجه نحو أسفل التل. كان من الصعب أن يتوهَ المرء في هذه التلال؛ لأنَّ كل مُنخفضٍ كان به زقاقٌ أو طريقٌ ممهَّد يمتدُّ عبره، وكان بجواره بيوتٌ متفرِّقة كنتُ أعرفها كلها.
وعندما وصلت إلى الأرض المستوية، سلكت الطريق الترابي باتجاه بيت سيلاس كوب القديم. لم أرَ أي إنسان، لكني سمعت أشخاصًا ينادون من بعيد. كانت أساسات منزل كوب المحترقة راسخةً بعيدًا وسط الأشجار، لدرجة أنها لم تكُن مرئيةً من الطريق، ولكن كان ما يزال هناك زقاق سالك ولافتةٌ خشبية معلَّقة على عمودٍ ملتوٍ، ومكتوب عليها كلمة «كوب» لتمييز المكان.
كان الزقاق موحلًا كمستنقَع، وقد انحنت الأشجار المصطفَّة على كلا جانبَيه على ارتفاع منخفض من فوقه، فجعلته نَفقًا يقطر ماءً ويهتز في الريح. لم تكُن هناك أي علامة على قطعة الأرض الخالية التي كان منزل كوب موجودًا فيها يومًا ما. فقد اختفت تمامًا وسط نبات العليق، الذي امتد على أحد جانبَي الزقاق، فيما كانت بعض الأشجار قد نمَتْ من بين الأساسات، لكنها كانت رقيقة بما يكفي لظهور أجزاء من السماء في الأعلى، فرأيتُ طيفًا من اللون الأزرق في سواد السماء، وهنا استنتجتُ أنَّ الشمس ستشرق قريبًا.
وبينما كنت متوقِّفة هناك، سمعتُ شيئًا جديدًا.
لم يكُن صوت الرياح. ولم يكُن صوت الرجال الباحثين عن بيتي من بعيد. بل كان أشبه بصوت حيوان. شعرتُ بأنها صيحةٌ من نوعٍ ما. لم يكُن صوت بومة. ولا ثعلب.
كانت معظم الحيوانات التي تعيش في الأرض والطيور الحاضنة تبقى صامتةً في الليل، خوفًا من جذب انتباه الحيوانات المفترسة؛ لذا فأيًّا كان الكائن الذي يُصدِر هذا الضجيج الغريب، فإنه لا يشعر بمثل هذا الخوف.
كنتُ قد سمعت صوت القنفذ بضع مرات من قبل. وهو كمزيجٍ من صوت اصطكاك الأسنان والأنين، ممزوجٍ بثغاءٍ خفيف صادر من آلة تنبيه مثقوبة.
كان هذا الصوت أشبَه بذلك، وحينها انتابني الخوف فجأةً. فقد رأيت كلبًا ذات مرَّة، وكان أنفُه مليئًا بالريش الشائك؛ ولذا لم أكُن أريد التشابك مع قنفذ.
لكنَّ الصوت قد سَكَن وأنا واقفة هناك. أرهفت أذنيَّ لأسمعه مجددًا، لكني لم أسمع سوى صوت الريح.
كان كوخ توبي أمامي ببضع خطوات أخرى فقط، خلف أجمة من الأشجار الكثيفة واللبلاب. وكان توبي قد أخلى المنطقة المحيطة بالكوخ. فرأيتُ جَدَعة مغروسًا فيها بَلطة، وعندئذٍ وجدتُ نفسي تلقائيًّا أتخيَّل مَشهد الملك آرثر وهو يسحب سيفه السحري الأسطوري من الحجر.
وعندما وصلتُ إلى باب الكوخ، خَطَرت في ذهني كلمة «سجينة»، فترددتُ لحظة قبل أن أقرعه.
ذهلتُ عندما تحرَّك شيءٌ ما في الداخل. وأحدثَ ضجيجًا.
تراجعتُ حالما بدأ البابُ ينفتح.
وكان مَن فتحه هو توبي.