الفصل الخامس عشر
قبل أن أعود إلى المنزل، تسكعتُ خارج سياج المرعى وأنا أجمع قرون نبات الصقلاب، حتى انتفخَت جيوبي بها عن آخِرها.
قالت لي أمي عندما دخلتُ من الباب: «أين كنتِ يا أنابل؟ لا يُمكننا تَحمُّل فقدان فتاةٍ أخرى. هل تعرفين مدى القلق الذي شعرتُ به حين وجدتُ فراشك خاليًا؟»
لم أكُن أريد الكذب على أمي؛ لذا حاولت قول أكبر قدر ممكن من الحقيقة. قلت لها: «كنتِ في السرداب عندما نهضتُ. كان يجب إخراج الخيول والأبقار إلى المرعى؛ لذا أخرجتها، ثم ارتأيتُ أن أجمع بعض قرون الصقلاب من أجل الجنود.» وهنا أخرجتُ قرنًا رطبًا من جيبي. وأضفت: «لكني لم أكُن أحمل حقيبة.»
لم يُكن بإمكاننا نحن الأطفال أن نُسهِم بمساعدةٍ كبيرةٍ في المجهود الحربي، ولكن كان يُطلَب منا جمع قرون الصقلاب من أجل استخلاص خيوطها الحريرية، التي كانت تطفو أفضل من مادة الفلين. فكانت قوات البحرية تحتاج إليها لصنع سترات النجاة؛ لذا كان الأطفال في كل أنحاء الريف يُكلَّفون بجمع الصقلاب. قلت: «سأصطحب الولدَين إلى الخارج ونجمع البقية قبل فوات الأوان.»
كان المزارعون يرتعبون من أن يفوت أوان جمع الصقلاب؛ فتتطاير بذوره عبر البساتين وتُرسِّخ جذورها مما قد يؤدي إلى مشكلات بالغة؛ إذ إنها تزعج الماشية للغاية إذا رسخت جذورها في المراعي.
نظرت أمي إليَّ بارتياب. وسألتني: «لماذا ترتدين كل هذه الثياب ولا ترتدين معطفًا؟»
هززت كتفي. وقلت: «لا أعرف.»
والغريب أنَّ هذا الرد أقنعها على ما يبدو.
قالت: «حسنًا، إلى أن يهدأ الوضع حولنا تمامًا، أخبريني قبل أن تذهبي إلى أي مكان.»
«أين الجميع؟»
«استيقظ شقيقاكِ مع شروق الشمس وظلَّا يُلحَّان على أبيك حتى سمح لهما بالذهاب، والمشاركة في البحث.» ثم تنهَّدَت. وأضافَت: «أستطيع تخيُّل المشهد الآن. أبوكِ والولدان والكلاب الأربعة. وجدكِ المسكين يلفُّ بالشاحنة مرارًا وتكرارًا، وهو يحاول أن يكون نافعًا لهم بأيِّ طريقة.»
وقد كان هذا مُرضيًا لي، ما داموا كلهم بعيدين عن الحظيرة.
•••
وبينما عاودت أمي أداء مهامها المنزلية، أخذتُ بعض لفائف الخبز من صندوق الخبز، وملأتُ كوبًا بالقهوة من قِدر على الموقد، وتوجهتُ إلى الكرار.
كان كرارًا كبيرًا له جدرانه وأرضياته من الحجارة، ويتكون من أربع حجرات. كانت إحداها مخصَّصة للغسيل، رطبةً دائمًا لكنها نظيفة، وكانت تحتوي على الغسالة العاصرة في أحد أركانها، وحبالٍ معلَّقةٍ بين جدارَين، وسلة من الخوص على طاولةٍ طويلةٍ فيها كيس قماشي يحوي مشابك خشبية، ودلاء من الصفيح لسحب مياه الغسيل من البئر، وموقد بشُعلةٍ واحدةٍ لتسخين المياه، وبالوعة في الأرضية.
وفي غرفة أخرى، كانت توجد أرفُف مبطَّنة بالجرائد، تحمل جرات من المربى والمخللات والفلفل والبقول والطماطم والخوخ والبازلاء والذرة.
وثمَّة غرفةٌ ثالثة للفحم كانت تحتوي على مسقط منصوب بالقرب من السقف؛ ليستطيع أبي وضع الفحم فيها بمجرفةٍ من الزقاق الموجود في الأعلى. كانت مكانًا قذرًا مكسوًّا بالسخام، ولم يكُن أحد يذهب إليها إلى أن يحل الشتاء، ويتوجَّب تغذية الفرن بالوقود.
وأمَّا الغرفة الرابعة، فكانت مخصصة لكل شيء آخَر لا يُمكن وضعه في الطابقَين العلويين. كالدلاء التي تحتاج إلى إصلاح ثقوبها. وجرَّات التعليب الفارغة. وأدوات البستنة. وبعض براعم النباتات البصلية المُقتَلَعة من الأرض والمُخزَّنة في أوعية من الخُثِّ.
كان يوجد باب يؤدِّي من مؤخرة الكرار إلى الخارج، عند مكانٍ من التل هو أدنى ارتفاعًا من موضع بقية أجزاء المنزل. وفي الخارج مباشرة، كان يوجد مدخل منفصل إلى قبو الطعام الأرضي، حيث كنا نخزِّن البطاطس والبصل والبنجر والجزر، وأي شيءٍ يجب أن يبقى أطول فترةٍ ممكنةٍ حتى الشتاء.
أخذتُ دلوًا صفيحيًّا ما زال سليمًا لكنه كان قديمًا متهالكًا، وملأتُه ببعض المُؤَن: لفائف من الخبز، ووعاء من مربى الفراولة، وبعض الجزر، وبضعة أوعية فارغة وأغطية لها؛ ثم ملأتُ واحدًا بكوب القهوة. وقررت أن أملأ الأوعية الأخرى عند صهريج الحظيرة.
وبعدئذٍ تركت الدلو خارج باب الكرار، وصعدت الدرج.
وجدتُ أمي تنزع الملاءات عن فراش جدي وجدتي، بينما كانت جدتي جالسة في كرسيها الهزاز ترتِّق جوربًا.
قلت: «سأعود لجمع المزيد من الصقلاب.»
وعندئذٍ اجتاحتني موجة الأسف الأولى التي نبعت من كتمان سرٍّ جديد. قلتُ لنفسي لعلهم يعثرون على بيتي بحلول نهاية هذا اليوم، ويستطيع توبي العودة إلى كوخه دون حدوث أي ضرر.
وإذا لم يحدث ذلك، فسأخبر أمي. فأنا لا أستطيع كتمان هذا السر إلى الأبد. ولا أستطيع تخبئة توبي فترة طويلة بعزله على هذا النحو في علية التبن كقطٍّ ضالٍّ.
قالت أمي وهي تحشر الملاءات وأغطية الفراش المتسخة في غطاء وسادة: «لا تنسي أن تأخذي حقيبة هذه المرة.»
ظللتُ لحظةً أخرى أشاهد الاثنتَين وهما تمارسان عملهما. كانتا تبدوان مختلفتَين جدًّا. ومتشابهتَين جدًّا في الوقت نفسه. كانت الغرفة مليئة بأشياء من صُنع أياديهما. وكانت كل هذه الأشياء قد لانت من كثرة الاستخدام.
انتابتني في هذه اللحظة موجة الأسف الثانية، لكني هذه المرة كنتُ آسفة على توبي؛ لأنه محرومٌ من مثل هذه الأشياء منذ وقت طويل جدًّا، هذا إنْ كان قد حظي بها في حياته أصلًا من قبل.
•••
في ظل غيابي عن المدرسة وتحرُّري من شقيقيَّ، كان لديَّ متسعٌ من الوقت لنفسي. وكنتُ أقضي معظم هذا الوقت في الحظيرة على أي حال، بصحبة كتاب وبعض الحمائم الجبلية، لكنَّ اليوم كان يوم توبي.
ناديتُ هامسةً من عند أسفل سلم العلية، وقلت: «هذه أنا لا تقلق.» لكني لم أسمع ردًّا.
تسلقتُ السلم بحذر، وكان الدلو ثقيلًا، فشعرتُ بشيء من الألم في أصابعي بسبب مقبضه المعدني. وعندما وصلت إلى الأعلى، وضعت الدلو جانبًا، ودخلتُ العلية بكلِّ جسدي وتركت السلم. ثم قلت: «توبي؟»
وعندئذٍ ظهر من وراء جدارٍ من حزم التبن. كان قد خلع معطفه. وبدا بدونه نحيفًا كدُبٍّ في فصل الربيع. ولأنه كان بدون قبعته، لم يكُن ثمَّة ظل يختبئ فيه. ورأيتُ عينَيه؛ كانتا زرقاوَين.
قلت له: «لقد صنعتَ لنفسك مخبأً. تصرُّف ذكي.» ثم أشرت إلى الدلو. وقلت: «هل أنت جائع؟»
هزَّ كتفَيه. وقال: «لديَّ لحم مقدَّد.»
«والآن لديك خبز ومربى وجَزَر ومياه جوفية من البئر. وقهوة، لكنها ستبرد إذا لم تشربها الآن. يمكنني أن أحضر إليك المزيد بعد العشاء.»
لم يقترب توبي حتى تلك اللحظة أيَّ خطوة إلى المكان الذي كنتُ واقفة فيه عند حافة العلية. صحيح أنَّ الحافة كانت مزودة بدرابزين، ولكن من دون أعمدة رأسية. لذا فمن المؤكَّد أنَّ توبي الذي يخشى الأماكن المرتفعة قد اعتبر وجود هذا الدرابزين كعدمه تقريبًا.
قلت له: «سأحضر المزيد من المياه أيضًا، ولكن يوجد صهريج بمضخة يدوية حيث دخلنا الحظيرة. هذا إن كنت تحتاج إلى الاغتسال، بعد حلول الظلام. أو يمكنك أن تذهب بعيدًا قليلًا نحو آخِر المرعى. يوجد هناك حوض صغير. إنه يستمد مياهه من نبعٍ؛ لذا فماؤه عذب وحلو. لكنه بارد.»
تخيلتُ أنَّ توبي كان معتادًا على الاستحمام، وغسلِ ثيابه في الجدول القريب من الكوخ الذي يسكنه، مع أنَّ معطفَه كان جامدًا جدًّا من كثرةِ تعرُّضِه لعوامل الطقس والسخام، لدرجة أنَّ توبي لم يبدُ شديدَ النظافة قَط. ولكن لأنه كان واقفًا في هذه اللحظة بدون المعطف، كاد يبدو رجلًا موقَّرًا، مع أنَّ شَعر رأسه ولحيته كان طويلًا ومتشابكًا. أضفت قائلة: «ولكن إذا لم تكُن تريد النزول …»
وهنا نقلتُ الدلو بعيدًا عن حافة العلية، ووضعته بجوار حزمة تبن يُمكن أن يجلس عليها توبي. فاقترب مني، وعندئذٍ تذكرتُ الكلاب الضالَّة حين كانت تأتي إلى المزرعة أول مرَّة.
قلت: «بئسًا. نسيتُ سكين المربى.» فأخرج توبي مطواة من جيبه.
قعد على حزمة تبن وشَطَر إحدى لفافات الخبز نصفَين. وبعدها نَزَع الربطة الملفوفة على وعاء المربى واقتلع غطاءه بسنِّ مطواته، وفَرَد بعض المربى على نصف اللفافة. ثم مدَّها إليَّ.
فقلت له: «لكنَّ هذه لك يا توبي. يُمكنني أن آكل في البيت.»
لكن يدَه ظلَّت ممدودةً حتى أخذتُ قطعة الخبز.
فَرَد توبي بعض المربَّى على قطعته، ووضعها على ركبته وهو يمسح المطواة بين أصابعه لينظفها، ثم أغلق المطواة وأعادها إلى جيبه. وبعدئذٍ فتح برطمان القهوة.
قلتُ: «آسفة إذا كانت باردة.»
أكل قطعة الخبز بتمهُّل، بينما كان يشرب القهوة من البرطمان.
وأخذتُ أنا قضمة من قطعتي، وعندئذٍ فقط أدركتُ أنني كنت جائعةً جدًّا. شعرتُ بأنَّ دهرًا طويلًا قد مرَّ منذ أن استيقظتُ لأجد العريف جالسًا عند طاولتنا، وأعرف أنَّ أفراد شرطة الولاية قادمون.
أكلنا في صمت. وأنهى توبي القهوة.
سألته وأنا أخشى أن يكون جاهلًا بالقراءة: «هل تريدني أن أحضر إليك كتابًا لتقرأه؟»
رمقني توبي بنظرةٍ حادة.
فهززتُ كتفي. وقلت: «لدينا كتب كثيرة. من كل الأنواع. شقيقاي يحبَّان روبرت لويس ستيفنسون. وأنا أيضًا أحبه. يُمكنني أن أحضر إليك شيئًا منها، إنْ شئتَ. لكنك ستكون مضطرًّا إلى قراءته خلال النهار.»
لم يفكر توبي في اختيار كتابٍ معيَّن. بل قال: «أي شيء لديك.»
قعدتُ على الأرض وعقدتُ ساقيَّ. كنتُ أفكر فيما إذا كان يَصِحُّ أن أطرح عليه بعض الأسئلة أم لا.
كنتُ ألفُّ قشَّةً بين راحتَي يديَّ. وقلت: «هل لي أن أسألك سؤالًا يا توبي؟»
فشابك أصابع يدَيه. وقال: «لقد سألتِني للتو بالفعل.»
رأيت فمه مرَّةً أخرى يختلج الاختلاجة نفسها التي تكاد تنُمُّ عن ابتسامةٍ طفيفة. وكدت أقول: «هل لي أن أسالَك سؤالًا آخَر؟» لكني أدركتُ أنَّ هذا بحد ذاته سيكون سؤالًا آخَر. فقلت: «ما اسمك؟ أي اسم عائلتك؟»
لكن توبي لم يُجِب. أشاح بعينَيه بعيدًا. فقلت بسرعة: «لا. لديَّ سؤال أفضل.» أردتُ أن أعرف موطنَه الأصلي، وما إذا كان لديه أيُّ إخوة أو أخوات، وما إذا كان قد اقتنى أيَّ كلبٍ من قَبل، وماذا كان يسميه، وكم كان عمره عندما ذهب للقتال في الحرب، وكيف أُصيب، وكم عمره الآن (مع أنَّ أمي كانت تقول دائمًا إنَّ عمره لا بد أن يكون أربعةً وأربعين أو خمسة وأربعين تقريبًا)، وماذا كان يقصد عندما قال إنه فعل «شيئًا سيئًا».
قلتُ فجأةً دون تفكير وكأنني طفلة: «ما هو طعامك المفضَّل؟»
نظر توبي إليَّ مباشرة هذه المرَّة، وقال بعد سكوت قصير: «فطيرة الجوز.»
«حقًّا؟ أمي تُعدُّ فطيرة جوز لذيذة جدًّا. أكنتَ تعرف ذلك؟»
أومأ بالإيجاب. وقال: «لقد احتفظت لي بقطعةٍ باقية منها ذات مرَّة. وكانت هذه ألذَّ شيءٍ أكلته في حياتي.»
بدا صوت توبي مختلفًا. صارت نبرته أكثر لينًا. أضاف: «قالت إنها آسفة لعدم وجود أي قشدة فوقها.» هز رأسه بعد ذلك. وقال: «لا أعرف ماذا كان سيحدث لي لو كانت ألذ مما كانت بالفعل. ربما كنت سأموت.»
قضينا بعض الوقت على هذا النحو أسأل أسئلة بسيطة، فيعطيني توبي إجابات أطول وأطول، حتى أصبحنا ندردش دون تكلُّف، وصار توبي أيضًا يسألني بعض الأسئلة. فحدثته عن جدتي التي لم يكُن قد رآها إلا نادرًا. وعن العمة ليلي، لكني لم أقُل عنها سوى «وتوجد أيضًا عمتي ليلي، وهي تدير مكتب بريد»، وعندئذٍ قاطعني توبي بسرعة قائلًا: «نعم، لقد رأيتها»، ولا شيء غير ذلك.
وظللنا هكذا إلى أن اضطررت أن أسأله سؤالًا أصعب، لكنني شعرتُ بأنَّ هذا كان من حقي. قلت له: «ما الذي قصدته عندما قلت لأبي إنهما أحدثا خدوشًا على «حجر السلحفاة»؟»
تراجع توبي قليلًا، وأحكَم إسناد ظهره إلى المكان الذي كان جالسًا فيه، وظلَّ يفكِّر لحظة. ثم قال: «كانا يشحذان سلكًا.»
فقلت: «بيتي وآندي؟»
أومأ بالإيجاب.
فسألته: «هل تعرف ماذا فعلا به؟»
أومأ بالإيجاب مجددًا. وقال: «لو كنتُ رأيتهما يضعانه هناك، لأخذته قبل أن يجرح أخاك.»
«هل سمعت عن ذلك؟»
«رأيتكم أنتم الثلاثة تخرجون من مُنخفَض «حفرة الذئاب»، بينما كان جيمس ينزف، وكانت تلك الفتاة بيتي تراقبكم وأنتم تعبرون الحقل. وعندما رحلتم، ذهبت نحو أسفل الممشى ورأيتها تفك السلك من إحدى الشجرتَين. ركضت هاربة حين رأتني قادمًا.»
«كان السلك غير موجود حين أخذتُ أبي لأريه إياه.»
«لقد أخذَته معها.» ثم نظر مباشرة إلى عينيَّ. وقال: «كانت فتاة سيئة.»
لم أعرف ماذا كان يُمكن أن أقول عن كلمة «كانت».
وقفتُ ونفضتُ الغبار عن مقعدي. وقلت: «يجب أن أذهب لأجمع بعض الصقلاب.»
«لماذا؟»
«أفراد البحرية يحتاجون إليه لصنع سترات النجاة.»
لم يقُل توبي شيئًا آخَر.
قلت: «سأحضر إليك كتابًا فيما بعدُ.» وتركتُه وحده.