الفصل الحادي والعشرون
كان من الممكن أن أتهرَّب من الموقف عندئذٍ.
فتوبي هو الوحيد الذي كان يعرف أنني مَن خبَّأته. والثيابُ التي كان يرتديها كانت مُطابقة تقريبًا للثياب التي كان كلُّ الرجال يرتدونها، وما كان والدي ليلاحظ اختفاءَها من الخزانة إلَّا بعد فترة. وكنت سأحظى بوقتٍ كافٍ وزيادة لأتدبَّر أمر البرطمانات والكاميرا والمقص، وبقية الأشياء التي كانت ما تزال في عليَّة التبن. وكنت أعرف أنَّ توبي لن يتخلى عني أبدًا. كان سيقول إنه سرق الثياب من أحد حبال الغسيل، وقص شعره ولحيته، وتسلَّل إلى داخل حظيرتنا من تلقاء نفسه.
قلت: «توبي لم يهرب. لقد جعلتُه يأتي معي. ولم يختبئ. أنا التي خبأته. في حظيرتنا. وقصصتُ شعره وأعطيتُه بعض ثيابك ليرتديها يا أبي. وما كان ليفعل أيًّا من ذلك لو لم أجعله يفعله.»
ورغم أنَّ أمي اكتشفت هُوية توبي الحقيقية بالفعل، فقد بدت مصدومةً من هذه الاعترافات. وكان والدي أيضًا عاجزًا عن الكلام.
قال توبي: «كانت تحاول مساعدتي. لا يُمكن أن تكوني غاضبة منها.»
فقالت أمي: «يُمكنني بالتأكيد. لكني لست غاضبة. لست غاضبة الآن. لكن ذلك سيحدث عما قريب.»
قال والدي وهو يحدِّق إليه فاغرًا عينَيه: «لا أستطيع أن أصدِّق أنك توبي. تبدو … مختلفًا جدًّا.»
«لكنه في الحقيقة ليس مختلفًا يا أبي.»
قال أبي: «كلا، هو مختلف.»
قال توبي: «أجل، هذا صحيح. لكن هذا ليس له علاقة بذاك. لم أفعل ما تدَّعي بيتي أنني فعلته. لم أفعل أي شيء منه.» وقف ودفع كرسيه إلى الوراء. وأضاف: «ولكن من الأفضل أن أرحل قبل أن أوقعكم كلكم في مشكلات أسوأ.»
وبينما هممتُ بالاعتراض، قالت له أمي: «اجلس. أنا شخصيًّا أحتاج إلى بضع دقائق لأفهم الأمور. سحقًا. كان الضابط مُحقًّا. المسألة مشوِّشة ومُحيرة.» دسَّت خصلة شاردة من شَعرها خلف أذنها. وأضافت: «ثم إنني أعددتُ فطيرة وسنأكلها حتى وإنْ كانت القيامة ستقوم بعدها.»
نهضت أمي من المائدة وبدأت توزِّع قطع الفطيرة على أطباق، وكانت هذه المرَّة تحمل فوقها قشدة مخفوقة، كما لو كنا في عيد الميلاد المجيد.
ثم قالت وهي تضع الفطيرة على المائدة: «انتظروا القهوة.» فانتظرنا. كانت تستخدم نبرتها الحازمة التي لا تقبل الجدل. وهذه هي النبرة نفسها التي كنتُ قد استخدمتها في كلامي مع توبي لنأتي إلى هنا، إلى هذه المائدة.
أعطتني كوبًا من الحليب، ومزيدًا من القهوة للرجلين. وقالت: «حسنًا، هيا. تلك الفطيرة لن تأكل نفسها.»
أكلَ توبي قطعته ببطءٍ. أطال تناولها لوقتٍ طويل بعدما أنهينا قطعنا. جلسنا وظللنا نشاهده كأنه زرافة أو كائنٌ من المريخ. حتى أنا وجدت صعوبة في تصديق أنَّ توبي كان جالسًا إلى مائدة مطبخنا، يأكل فطيرة، بعدما ظلَّ كل هذه السنين يتجنَّب الاحتكاك بنا سوى مرات عابرة مقتضبة، وبعد سنوات قضاها لا يتحدث تقريبًا، ولا يسمح قَط لأي كائن بأن يراه دون الثياب السوداء التي تغطيه.
قال والدي أخيرًا حين أنهى توبي آخِر قضمة مُغمضًا عينَيه: «ساعدني لأفهم ما حدث. لا أفهم كيف استطاعت أنابل … أن «تُهرِّبك» خلسة أمام أعيننا. العريف يبحث عنك منذ أمس.»
هزَّ توبي كتفَيه. وقال: «كنت أصطاد تحت جسر الجدول طَوال الجزء المُمطر من اليوم، ثم ذهبتُ إلى بيت آل ترنر لأحصل على بعض اللحم المقدَّد، ثم عدتُ إلى مسكني بعد حلول الظلام …»
فقلت: «وذلك بعدما كان العريف أولسكا قد ذهبَ إلى الكوخ ورحل.»
أضافَ: «علَّقتُ أغراضي المبللة وخلدتُ إلى النوم. لم أكُن أعرف شيئًا عن اختفاء بيتي حتى طرقت أنابل بابي قبل شروق الشمس، وأخبرَتني بما يجري وبأنه يجدر بي الذهاب معها.» كاد يبتسم لأمي، لكنها لم تبدُ ميَّالة إلى رد الابتسامة بعد. وقال لها: «كانت نبرتُها تبدو كما كانت نبرتكِ الآن للتو.»
وهنا لم يستطع والدي إلا أن يقابل ذلك بابتسامة عريضة، لكنها قصيرة. وقال وهو يكاد يُحدِّث نفسه: «أعرفُ تلك النبرة.»
فقالت أمي: «ستعرفها على نحو أفضل إن لم تنتبه إلى كلامك.»
«إذَن، فقد كنت في الحظيرة منذ …»
«وقت مبكِّر جدًّا من صباح اليوم.» مرَّر توبي يده السليمة على لحيته وأسفل حلقه. وأضافَ: «يبدو أنَّ ذلك كان منذ وقت طويل.»
قال لي والدي: «نزلتِ إلى هناك في الظلام وحدك لتُحضريه؟»
أومأتُ برأسي وأنا منقسمة بين شعور بالفخر وإحساس بالذنب. قلت: «لم أستطِع النوم وكنت أعرف أنَّ ذلك كان يبدو سيئًا جدًّا. ألا تظن أنَّ الضابط كان سيأخذ توبي معه لو لم أفعل أنا ذلك؟»
كانت هذه حجة دامغة لم يُكلِّف أحد نفسه عناء دحضها. فجميعنا كان يعلم رأي الناس في توبي، بمَن فيهم العمة ليلي وآل جلينجاري.
قالت أمي: «ثم؟»
«خبَّأتُه في علية التبن. أخذت له بعض الطعام والماء. وكتابًا. وبعض الثياب. وصابونة. واستعرتُ مقصك لأهذب له شعره.»
قالت بإمعان في التفكير: «وهكذا وُلِدَت شخصية جوردان.»
قلت: «لم نخطط لذلك هكذا. ولم نخطط للنزول إلى مُنخفَض «كوب هولو» مرَّة أخرى أيضًا. لكني تذكَّرتُ صوتًا سمعتُه في الظلام الليلة الماضية، بجوار الكوخ. حسبتُه آنذاك صوتَ قنفذ. لكن عندما أخبرَنا الضابط بما قاله آندي، عن أنَّ بيتي كانت تعتزم النزول إلى هناك، فكرت، وقلت لنفسي … ماذا لو أنها قد فعلت ذلك بالفعل؟ ماذا لو كان هذا هو المكان الذي توجد فيه؟ وفكَّرتُ بإمعان أكبر في صوت القنفذ. وتذكَّرتُ البئر.»
جلسنا صامتين قليلًا، ونحن ننظر بعضنا إلى بعض.
ثم عقد والدي ذراعَيه على صدره. وقال: «مَن قرَّر أن يشارك توبي في جهود الإنقاذ؟»
فقلتُ وقد تمزقتُ مجددًا بين الشعور بأنَّ ذلك كان تصرفًا ذكيًّا والإحساس بأنه لم يكُن كذلك: «أنا. كنت متيقنةً تمامًا من أنه بذلك سيندمج مع الغرباء الآخَرين، وسيستطيع مراقبة ما ستئول إليه الأمور. ومن ثَم يواصل المُضيَّ قدمًا في طريقِه إن اضطر إلى ذلك. أو يمكث إذا أمكن.»
نظرتُ إلى كلٍّ منهم واحد تلو الآخَر. وقلت: «لكنَّ هذا ليس ممكنًا، أليس كذلك؟»
تنهَّد والدي. وقال: «لا أعرف يا أنابل. المسألة كلها فوضوية، من أولها إلى آخرها. ويوجد شيء آخَر.» عرفتُ من نظرته العابسة أنَّ هذا الشيء لا يمكن أن يكون جيدًا. أضاف: «أخبرني العريف عندما اتصل للتو بأنهم كثفوا جهود البحث.»
بادله توبي النظرة العابسة، وكان من الواضح أنه متحير. قال: «لكننا وجدنا بيتي.»
فقال والدي: «لا يبحثون عن بيتي. بل يطاردونك.»
•••
ظللنا طوال الساعة التالية نتحدَّث عمَّا ينبغي فعله، وعن طريقة تمكننا من كتمان هذا السر الذي أصبح سرَّنا جميعًا الآن، حتى وجدنا طريقة لإصلاح الوضع.
ولكن سرعان ما بدأت تأثيرات اليوم السلبية تُدركنا، أنا بالذات. فأنا كنت ألفُّ على قدمٍ وساق منذ ساعات الصباح الأولى، وشعرتُ بأنني مُثقَلة كجوالٍ من الصخور. وحتى توبي نفسه، الذي كان أكثر تعوُّدًا على قلة النوم وكثرة الحركة، كان مُنهَكًا تمامًا.
قال: «ما زلت أرى أنني ينبغي أن أغادر الآن. يُمكنني أن أكون على بُعد عشرين ميلًا من هنا بحلول الصباح.»
فقال والدي: «وهذا بالضبط هو المكان الذي يبحثون فيه. ولا أرى أنك تستطيع المشي عشرين ميلًا بحالتك هذه.»
كانت أمي قد أحضرت بطانيتَين ووسادة، وكانت في هذه اللحظة تُسلمها إلى توبي.
قالت: «لن يكون الجو دافئًا جدًّا في علية التبن، لكني أظن أنه المكان الوحيد الآمن لك الآن.»
فقال: «العلية ستكون مناسبة. الرائحة طيبة هناك في الأعلى. وأنا أحب الحمام.»
«وهاك بعض الخبز والجبن للصباح. يُمكن أن تحضر أنابل القهوة إليك قبل ذهابها إلى المدرسة.»
صدمتني فكرة الذهاب إلى المدرسة. لكني كنت أعلم أنني مضطرة إلى الذهاب. كان ينبغي ألَّا نفعل أي شيء يلفت الانتباه إلينا أو إلى مزرعتنا. كان ينبغي أن يسير كل شيء كالمعتاد.
قلتُ وأنا أسلِّم توبي معطف جدي: «طابت ليلتك.»
وأضافَ والدي: «إذا رآك أي أحد، فلتقُل فقط إنني استأجرتك لإصلاح بعض الكسور في الحظيرة.» وكان هذا تفسيرًا منطقيًّا تمامًا.
لكن كل شيء بدا لي أسهل ممَّا أستطيع استيعابه، وأنا متجهةٌ إلى فراشي.
•••
عندما استيقظت، أدركت أنني أطلت النوم. فالضوء كان ساطعًا سطوع أواخر الصباح، والمنزل كان هادئًا. نزلتُ مسرعة إلى المطبخ حيث وجدت جدتي تشطر بعض ثمار القرع الجوزي نصفَين، وتضعها مقلوبة على وجهها على ورقة خبز.
قلت لها: «ما الخطب؟»
فقالت مبتسمة: «لا شيء إطلاقًا. ارتأت أمك أنكِ كنتِ تحتاجين إلى النوم وقتًا أطول قليلًا.»
شعرتُ بالحرج لأنني لم أكُن أعرف ما كانت تعرفه، أو ما يُمكنني قوله بأمانٍ دون إحداث مشكلة. كان قول الحقيقة متشابكًا جدًّا مع الأسرار، لدرجة أنني لم أستطِع قول أي شيء دون إفشاء سرٍّ ما. لذا اكتفيتُ بالجلوس لأتناول فطوري من الحبوب، في انتظار أن تتضح معالم اليوم.
قالت أمي وهي تدخل من الباب حاملةً سلَّةً من البيض: «عجبًا، انظروا مَن التي استيقظت.» ثم ارتدَت مئزرًا وربطَته وقالَت لي: «مخفوق أم مقلي؟»
فقلت لها: «تناولتُ بعض الحبوب بالفعل.»
«إذَن اذهبي واستعدي للمدرسة.» لكنها غمزت لي وهي تقول ذلك. ثم أضافت: «سأصعد إليكِ في غضون دقيقة.»
وبينما كنت ما أزال أتساءل عن مغزى تلك الغمزة، دخلَت غرفتي وأغلقَت الباب.
قالت بهدوء: «اعتنى والدك بتوبي هذا الصباح. لقد أعطاه فطورًا.» جلست أمي على حافة فراشي بينما كنت أرتدي ثيابي. وأضافت: «وعندما عاد، أخبرني ببعض الأشياء.» ثم ربتت على السرير بجوارها. وقالت: «تعالي اجلسي دقيقة يا أنابل.»
ففعلتُ ذلك، وعندئذٍ استغرقَت لحظة لتنتقي كلماتها. ثم قالت: «والدكِ يظن أنَّ توبي ربما يكون … مضطرب الفكر قليلًا.»
«بخصوص ماذا؟»
«أنتِ تعلمين أننا دائمًا ما كنا نظنه غريب الأطوار. وأنا متيقنة من أنكِ أيضًا كنتِ تظنينه كذلك. فقد كان يمشي طوال اليوم لكنه لا يذهب إلى أي مكان. ولم يكُن يتكلم إلا إذا اضطر إلى ذلك. وكان يعيش في كوخ قديم لتدخين اللحم، في حين أنه ربما كان يُمكن أن يعيش في مكانٍ أفضل.»
«لكني كنت أظن أنكِ تحبينه.»
«أجل أحبه. دائمًا ما كنت أحبه. أنا متيقنة من أنه مرَّ بأشياء فظيعة أوصلته إلى حالته تلك، وسأساعده دائمًا ما دمتُ قادرة. لكن الليلة الماضية، بعدما ارتدى تلك الثياب النظيفة، وهذَّب شعره ولحيته، وجلسَ إلى المائدة، وتحدَّث بجمل تامة؛ لم يعُد يبدو غريب الأطوار. لكنه غريب الأطوار فعلًا يا أنابل، وأريدك ألَّا تنسي ذلك.»
فسألتُها: «هل حدث شيء في الحظيرة صباح اليوم؟»
هزَّت رأسها بالنفي. وقالت: «لا، لكن والدكِ قضى بعض الوقت معه، وذَكَّرني بأن المرء ينبغي ألَّا يحكم على كتابٍ من غلافه؛ ولذا فأنا أيضًا أذكِّركِ بذلك. توبي مضطربُ الفكر. وعليكِ أن تتذكري ذلك، بقدرِ ما تحبينه.»
حيَّرني كل هذا الكلام عن اضطراب الفكر وأغلفة الكتب. فقلت لها: «لا أفهم. دائمًا ما كنتِ تقولين إنَّ الناس ينبغي ألَّا يخافوا من توبي، لمجرد أنه كان يبدو مخيفًا. والآن تقولين إنني ينبغي أن أخاف من توبي، مع أنه نزل إلى أسفل تلك البئر لإنقاذ بيتي، ولأنه صار يبدو جيدًا؟»
حدَّقت أمي إليَّ وهي ساكنة تمامًا كالعمود. وقالت: «أنابل، لم أقُل إنكِ ينبغي أن تخافي منه.» نظرَت إلى يدَيها في حِجرها وتنهَّدت. ثم أضافت: «أنا فقط قلِقة من قضائكِ الوقت وحدكِ مع رجلٍ لا نعرفه جيدًا في الحقيقة، رجل غريب الأطوار، وفقًا لكل ما يُقال عنه. يا أنابل، إنه ببساطةٍ «غريب الأطوار».»
«لكن …»
«ألستِ تعرفين يا أنابل أنه يحمل تلك البنادق طوال الوقت؟»
«بلى. وما المشكلة في ذلك؟»
«ألقى والدكِ نظرةً على تلك البنادق. وتبيَّن يا أنابل أنَّ واحدةً فقط منها هي التي تعمل على نحوٍ سليم. أمَّا الاثنتان الأخريان، فعاطبتان. إنهما لا تصلُحان لأيِّ شيء. لكنه مع ذلك ظلَّ يحملهما طوال سنوات، بالرغم من ثقلهما. ألَا ترين هذه علامةً على اضطراب الفكر؟»
فكرتُ في القصص المروعة التي أخبرني بها توبي. تذكَّرتُ الطفل الرضيع الذي كان عمره بضع لحظاتٍ فقط.
نظرتُ إلى أمي في وجهها مباشرةً. وقلتُ: «لا أرى أنَّ هذه علامةٌ على اضطراب الفكر. هي علامةٌ على شيءٍ لا نفهمه فحسب. توبي لديه أسبابه، ولا أرى أنَّ هذا يجعله غريبَ الأطوارِ إطلاقًا. أو إذا كان يجعله كذلك، فعندئذٍ سأكون أنا أيضًا غريبةَ الأطوار، وأنتِ كذلك.»
نهضتُ وواصلت الاستعداد للمدرسة، بينما ظلَّت أمي جالسةً على السرير تشاهدني. نهضَت بعد ذلك، وغادرَت الغرفة دون أن تتفوَّه بأي كلمةٍ أخرى.
•••
كانت المدرسة مختلفةً في ذلك اليوم لسببَين.
الأول أنني فوجئتُ عندما دخلت بأنَّ الجميع وقفوا ليحيوني بالتصفيق. حتى شقيقاي انضما إليهم، مع أنهما بدوَا محرجَين قليلًا من ذلك. لم يكُن أيُّ أحدٍ قد صفَّق لي من قبل، وشعرتُ بالأسف لأنني كنت أنال التصفيق آنذاك على شيءٍ ربما كان يُمكن أن أفعله بوتيرةٍ أسرع، وعلى نحوٍ أفضل ممَّا فعلته.
والثاني أنَّ المدرسة كانت أفضل كثيرًا بدون بيتي، وآندي أيضًا، ولم أكُن حزينةً لغيابهما. لكنها كانت أسوأ كذلك لأنَّ روث أيضًا قد رحلت، ولأنَّ بعض الأمهات، اللواتي كُنَّ لا يعرفْنَ توبي كما كنت أعرفه، أبقينَ أصغرَ الأطفال في المنازل خشيةَ أن يكون توبي متربصًا بين الشجيرات، منتظرًا أن يرميَ أطفالَهن في أقرب بئر.
لم يكُن عددنا يتجاوز العشرين؛ ولذا حظيت السيدة تايلور بوقتٍ كافٍ وزيادة لتُخرجنا إلى السبورة بالتناوب، وتشرح لنا بعض عمليات الجمع وقواعد اللغة.
وفي أثناء أحد دروس الحساب، بدأت أدرك الخطوة التالية التي ينبغي أن أتخذها. فمنطق الأرقام كان مهدئًا ونشَّط خلايا عقلي المُتعَب.
تراءى لي أنَّه إذا كان إثبات براءة توبي مسألة، فمفتاحُ حلِّها هو آندي.
كان يعرف كلَّ شيء؛ هُوية مَن رمى الحجر، ومَن ربط السلك المشدود، والسبب في ذهاب بيتي إلى مُنخفَض «كوب هولو»، وكل ذلك.
وتراءى لي أنه إذا كان دفع آندي إلى قول الحقيقة مسألة، فلم أكُن أعرف حلها.
لكني تذكَّرتُ كم أنَّ البوح بسرِّي كان أسهل، حين أدركتُ أنَّ أمي كانَت تعرف جزءًا منه بالفعل: أنَّ جوردان كان توبي في الحقيقة. وحالما زال غطاء الزجاجة، تدفَّق بقية ما فيها.
ومن ثَم؛ إذا كان الحل هو إزالة غطاء أسرار آندي، ينبغي إذَن أن أعرف السبيل إلى إقناع آندي بأننا نعرف بالفعل الحقيقة التي كان يكتمها.
قضيتُ بقية النهار أفكِّر في ذلك. وبحلول نهاية اليوم الدراسي، صارت عندي بذور فكرة وليدة في رأسي.