الفصل الرابع والعشرون
قال هنري حين سمعني وأنا أدخل من باب المدخل، ورأى ما كنت أحمله في يدي: «عجبًا، هذه رواية «جزيرة الكنز» الخاصة بي.»
فقلت وأنا أعطيه إياها: «أجل، إنها هي.»
فقلَّبها في يده وهو يتفحصها من وجهها وظهرها. وقال: «ماذا كنتِ تفعلين بها في الخارج في ذلك الظلام؟»
فقلت وأنا أخلع حذائي: «كنت أقرأ للكلاب. لقد أعجبتها القصة، لا سيما الجزء الذي تأتي فيه شخصية «بلاك دوج» للبحث عن «بونز».»
«كم أنتِ مضحكة يا أنابل!»
كان جيمس قد خرج إلى المدخل لعله يجد شيئًا أكثر إثارة للاهتمام من مسلسل «موكب أمريكا» (كافالكيد أوف أمريكا)، الذي كان أبي وأمي يستمعان إليه خلال الأشهر الباردة. وكان صوت المذياع يصدح خارجًا من غرفة الجلوس.
قال جيمس: «مهلًا، هذه روايتي»، وانخرطا فورًا في مشاجرة على الكتاب القديم.
قلتُ وأنا أمرُّ بهما: «أنتما الاثنان تُشكلان زوجًا ظريفًا»، لكني توقفت عندما تطاير شيء ما من بين صفحات الكتاب، وسقط عند قدمي.
قال جيمس: «ما هذا؟»
فقلت وأنا أدسه في جيبي: «رسالة من الكلاب. مكتوب فيها: «اذهبا إلى الفراش.»»
قال هنري: «أنتِ مشاغبة.»
وقال جيمس: «بل اذهبي أنتِ إلى الفراش.»
قلت: «أظن أنني سأفعل ذلك.»
غسلتُ أسناني بالفرشاة وغسلت وجهي، ثم قضيتُ لحظةً أمام مرآة الحمام. كانت لحظة رائعة، لكنَّ شكلي كان كما هو دائمًا.
قلتُ «طابت ليلتكم» لأبي وأمي، وجدي وجدتي، وحتى العمة ليلي، التي كانت تعتبر مسلسل «موكب أمريكا» «مثالًا للبث الإذاعي الهادف». على عكس مسلسل «ريد سكيلتون»، ومسلسل «الظل» (ذا شادو)، مع أنها أحيانًا ما كانت تجلس في المطبخ، عند طرف الطاولة الأقرب إلى غرفة الجلوس، عندما كنا نستمع إلى مثل هذا «الهراء»، على حد قولها.
بعدما صرتُ جالسة بأمان في غرفتي، أخرجتُ من جيبي الصورة التي كانت قد سقطت من الكتاب، وتفحَّصتُها في ضوء المصباح الموضوع بجوار فراشي.
كانت الصورة مشوبة ببعض الظلال، وبخطوطٍ متعرجةٍ ناتجةٍ من إمساكها بخشونة، لكني مع ذلك استطعت رؤية سطح بِركة صيد مكسوَّة بأشعة الشمس، كما لو كنت أنظر إليها من الجسر الممتد فوقها.
في البداية لم أكُن أعرف لماذا التقط توبي صورة لتلك المياه الراكدة، أو لماذا ترك لي مثل هذه الصورة لأجدها.
ولكن عندما بسطتُ الصورة على سطح الطاولة، وميَّلتُها قليلًا فقط في ضوء المصباح، رأيت في الماء انعكاسًا ضبابيًّا للرجل المُمسِك بالكاميرا على الجسر.
كانت صورة ذاتية. من النوع الذي كان توبي يسمح بالتقاطه لنفسه. كانت تُظهِر شكله، لكن بصورةٍ غير مباشرة، متحولًا بفعلِ الماء.
لم يكُن يوجد شيء على ظهرها سوى أثر الندبة الناجمة عن اقتلاع الصورة من حائط الكوخ. ربما لو كان لديه قلم لكَتَب شيئًا ما.
•••
بينما كنت أدسُّ الصورة تحت مرتبتي، سمعت عجلات سيارةٍ تسحق الحصى في الزقاق. وتلاها صوت بابٍ يُغلَق بقوة. وأتى من بعده صوت شخصٍ يقرع الباب بعد ذلك بلحظة.
كان الضابط كولمان قد وصل.
اهتزَّ البيت بهجرةِ كلِّ مَن فيه إلى المدخل، ودخول الشرطي الضخم، وحماس شقيقيَّ، اللذين من المؤكد أنهما، وسط هذه الجلبة، قد نسيا أنَّ توبي لم يمسسهما بأيِّ سوء من قبل.
رجوتُ أن يتذكرا ذلك قريبًا.
لم تكُن نافذة غرفة نومي مواجهة للحظيرة؛ لذا أُعفِيتُ من إغراء مشاهدة الضابط وهو يسير نحوها على ضوء كشافه، ومعه والدي بالتأكيد.
أخذتُ وقتًا طويلًا حتى استغرقت في النوم، لكني نمتُ قبل عودتهم.
•••
نمتُ نومًا طويلًا وعميقًا جدًّا، لدرجة أنني شعرتُ بأنني إنسانةٌ غريبة على نفسي، حين أيقظتني أمي في صباح اليوم التالي. وبدا أنَّ أيًّا كان ما حلمت به في نومي تلك الليلة قد أخذني من حياتي، وظللت بضع لحظاتٍ أحاول العودة.
قالت لي أمي وأنا أفتح عيني: «كنتِ متعبة بالتأكيد.»
فقلت وأنا أتثاءب بعلو صوتي وأمد ذراعيَّ فوق رأسي: «أجل، على ما أظن. هل عليَّ الذهاب إلى المدرسة اليوم؟»
التقطَت من الأرض جوربًا مُلقًى في غير موضعه، ورمَتْه في سلة ثيابي. ثم قالت: «أظن أنكِ ستفرحين بالعودة إلى المدرسة.»
«سأفرح بذلك، حين ينتهي كل هذا.»
«انتهى يا أنابل. الجزء الذي يخصك انتهى. لن تكوني جزءًا ممَّا سيحدث تاليًا.»
لم يعجبني ما أوحى به ذلك الكلام.
جلسَت أمي على حافة فراشي.
فسألتها: «ما الذي يجري؟»
«الضابط كولمان فتَّش الحظيرة. لم يعثر على أي شيء.»
«بالطبع. فتوبي قد رحل منذ وقت طويل.» لم أخبرها بعودته، ولم أكُن متيقنة من أنني قد أخبرها بذلك أبدًا. كنت أشعر، مع وجود صورته تحت مرتبتي، بأنني كالأميرة في قصة «الأميرة وحبة البازلاء».
قالت: «نعم، لكنَّ الضابط كولمان ذهب بعدها إلى الكوخ ليتفقده مجددًا. ووجدَ شيئًا هناك بالفعل.»
تذكرتُ أنَّ توبي قد عاد إلى هناك قبل ذلك ليأخذ صوره.
أضافت أمي: «لقد ترك توبي إحدى بنادقه هناك. ومن المؤكد أنها لم تكُن موجودة هناك حين فتَّش الضابط كولمان الكوخ في المرَّة الأولى، بعد فقدان بيتي.»
فانتصبت في جلستي.
أردفَت: «لكن هذا هو الجزء الغريب حقًّا يا أنابل. البندقية التي تركها بندقيةٌ سليمة عاملة، وما تزال معبَّأة بالذخيرة. البندقية السليمة الوحيدة التي كانت لدى توبي. لقد أخذ البندقيتَين العاطبتَين الأخريَين، لكنه ترك السليمة التي تعمل. وهذا غير مفهوم إطلاقًا.»
تساءلت في قرارة نفسي، وقلتُ هل خاف من أن يضطر إلى استخدامها، إذا ألحقوا به أذًى يا تُرى. أم أنه كان يُخفِّف حمولته فحسب.
لم أقتنع بأيٍّ من الإجابتَين. ولكن لم تكن لديَّ إجابةٌ ثالثة.
كانت أمي تراقبني بفضول.
فركتُ عينيَّ لأستفيق. وسألتها: «هل ترك أي شيء آخَر؟»
«لا. بل أخذ شيئًا ما في الحقيقة. بعض الصور من جدران كوخه.»
«هذا الجزء مفهوم.»
عدلَت أمي طرف بطانيتي. ثم قالت: «صاروا يعرفون الآن أنه كان في حظيرتنا في وقتٍ ما؛ لأنه ترك كاميرته وقبعته هناك. وهذا، بالمناسبة، يُمثِّل مشكلةً أخرى؛ لأنَّ القبعة لم تكُن موجودةً في الحظيرة حين فتشوها الليلة الماضية.» مررت يدَيها خلال شَعرها. وأضافت: «هذا جنون يا أنابل. إنَّ تذكُّر ما يُفترض أننا نعرفه وما يُفترض أننا لا نعرفه؛ لا يفتأ يزداد صعوبة.»
فقلت: «وهذا تحديدًا ما جعلني أخلد إلى الفراش قبل مجيء الضابط كولمان إلى هنا الليلة الماضية.»
أومأَت بالإيجاب. وقالت: «أشعر بالأسف على والدكِ. فقد اضطر إلى الذهاب إلى الحظيرة، والتظاهر بالاندهاش بأنَّ القبعة لم تكُن موجودةً حيث تركها. والآن صار الضابط كولمان مقتنعًا بأنَّ توبي ما يزال قريبًا من هنا. وهو مقتنعٌ أيضًا بأنه مضطرب. وخَطِر.»
قلت: «لكننا نعرف أنه ليس كذلك.»
«أجل. ولذا قال والدك للضابط كولمان بأنَّ بندقيتَي توبي الأخريَين عاطبتان، لئلَّا يعتبروه مسلحًا.»
قلت: «ويطلقوا النار عليه.» أرخيتُ ظهري. وأضفتُ: «أرجو أن يكون على بُعد أميال من هنا الآن.»
«وأنا أيضًا. لكنهم سيطاردونه بكلاب بوليسية.» كانت هذه الجملة الأخيرة كافية.
تصورتُ الكلاب تشد مقاودها، وتنبح باهتياجٍ مسعورٍ وهي تجرُّ ساستها عبر الأدغال طلبًا لتوبي.
قلت: «أنتِ محقة. أريد الذهاب إلى المدرسة.»
تنهَّدَت أمي. وقالت: «ليت ذلك كان ممكنًا يا أنابل. لكنَّ الضابط كولمان أصدر أمرًا بأن يلزَم الجميع بيوتهم، ويوصدوا الأبواب عليهم إلى أن يعثروا على توبي.»
فانتصبتُ في جلستي مجددًا. وقلت: «ماذا؟»
«يريدون ألَّا يتأذى أي أحد، سواءٌ بفعلِ توبي أو عن طريق الخطأ. ويريدون ألَّا يجد أي مكان يختبئ فيه.»
«لا يُمكنهم أن يوصدوا كل خُن دجاج وكل كوخ نفط، أليس كذلك؟»
«بلى لا يستطيعون، لكنهم لا يخشَون أن يأسر توبي حفنةً من الدجاج ويأخذها رهائن.»
قلت وأنا أقوم منتفضة من فراشي: «رهائن؟» ثم أضفتُ: «هم المخبولون. يا أمي، لقد بدأ كل ذلك بسبب ادِّعاء بيتي كذبًا أنَّ توبي آذى روث. وادِّعائها كذبًا أنه رماها إلى أسفل تلك البئر. الكل يتصرف بناءً على ادِّعاءاتها. هذا ليس صحيحًا. أنتِ تعلمين ذلك.»
«أنابل، يُمكنكِ أن تقفي هنا وأنتِ لا تزالين في ثياب النوم وتقولي كلَّ ما تشائين، لكني لا أعرف ما يُمكننا فعله. المسألة خارجة عن إرادتنا. بيتي لن تغيِّر قصتها. ما الذي قد يجبرها على تغييرها؟ الجميع يظنها الضحية. وأنا لا أستطيع لومهم على ذلك في الحقيقة. فهي تبدو كأنها ضحية بالفعل. وتوبي يبدو شريرًا، سواءٌ ما إذا كان كذلك أم لا.»
«إذَن، سنكتفي بالجلوس هنا في المنزل خلف الأبواب الموصدة، وننتظر أن يقبضوا عليه؟»
«أجل مع الأسف. النساء والأطفال يبقون في الداخل. والرجال يشاركون في المطاردة.»
لم أكُن أعرف ما إنْ كنت قادرة على تحمُّل مفاجأة بشعة أخرى أم لا.
فسألتها متخوِّفة: «الرجال يشاركون في المطاردة؟ أتقصدين أنَّ أبي مضطر إلى الذهاب ومطاردة توبي؟»
أومأت أمي بالإيجاب. وقالت: «ليس مضطرًّا إلى ذلك في الحقيقة. لكنه هو مَن أصرَّ على أنَّ توبي ليس مسلحًا. ربما يكون خطرًا، ولكن ليس بقدرِ خطورته لو كانت لديه بندقية سليمة. ولهذا يطلبون من كل رجلٍ بالغ الانضمام إليهم. فنحن أدرى بهذه الأدغال من أفراد الشرطة، وستستغرق الكلاب البوليسية وقتًا طويلًا في الاستكشاف قبل أن تعرف المسار الصحيح. لذا ففي هذه الأثناء، يوجد عدد قليل من أفراد الشرطة وجيشٌ من المتطوعين، يحملون صفارات بدلًا من البنادق. لا أحد يريد أن تصل المسألة إلى إطلاق النار. ولا أحد يريد أن يضع توبي يدَيه على سلاح سليم.»
«صفارات؟»
«لكي يبلغ بعضهم بعضًا إذا رأوه.»
حاولت تصوُّر الوضع. حفنة من المزارعين يحملون صفارات.
كنت متيقنة من أنَّ قلة منهم على الأقل سيُسلحون أنفسهم بشيء أقوى، بغض النظر عمَّا قاله الضابط.
فقد كنتُ أسمع في كل عام عن صائد غزلان أطلق النار على رفيقه بالخطأ؛ لذا كان من السهل أن أتخيَّل ما يُمكن أن تئول إليه مطاردة كهذه.
قلت: «أنا سعيدة لأنَّ جيمس وهنري أصغر سنًّا من أن ينضما. وكذلك الأولاد على شاكلة آندي، الذين كانوا سيُطلقون النار على أي شيء يتحرك أمامهم.»
«وجدُّكِ أيضًا؛ فهو أكبر سنًّا من أن يستطيع فعل أي شيء سوى الجلوس في شاحنته مع دورق قهوة حافظ للحرارة.»
أخرجتُ بنطالًا وسترة من خزانة ثيابي. وقلت: «ربما ينبغي أن يربطوا العمة ليلي بمقود، ويجعلوها تشم أحد قفازي توبي.»
فقالت أمي وهي تحاول كبح ابتسامتها: «اصمتي يا أنابل.»
وصمَتُّ آنذاك، لأستمع إلى صدى ما قد قلتُه للتو.
قلت: «أتعرفين … ينبغي أن نخفي معطف جدي. المعطف الذي كان توبي يرتديه. والقفاز أيضًا. فرائحتهما ستكون كرائحته تمامًا.»
ابتسمت أمي هذه المرة. وقالت: «هل تظنين أنَّ الكلاب البوليسية ستصل إلى حجيرة المدخل في منزلنا؟»
هززتُ كتفي. وقلت: «مَن يعرف؟ ربما يحدث ذلك. فالكلاب البوليسية تستطيع التعقُّب خلال الماء. وحتى الفيضانات. ويمكنها أن تشم أثر المرء حتى وإنْ لم يكن ملامسًا للأرض، وكان محمولًا على ظهر شخصٍ آخَر.»
«كيف تعرفين ذلك؟»
«توبي أخبرني.»
عبست أمي. وقالت: «كيف عرف ذلك يا تُرى؟»
«لا أعرف، لكنه كان في مطبخنا يوم أمس للتو؛ ولذا فأثرُ رائحته ممتدٌّ من الكوخ الذي كان يسكنه إلى الحظيرة، ثم إلى المنزل، ومنه إلى الحظيرة مجددًا ثم بعيدًا إلى داخل الأحراج.»
نهضت أمي. وقالت: «سحقًا. الوضع يصبح أسوأ وأسوأ.»
لم يقُل أيٌّ منا شيئًا آخَر بينما كنت أرتدي ثيابي. وأمشط شَعري بالفرشاة. وأبدأ ترتيب فراشي. ثم قلت أخيرًا: «سيكتشفون ذلك. سيكتشفون أنَّ توبي كان هو جوردان.»
فقالت أمي: «أتظنين ذلك؟» سوَّت غطاء سريري. وأضافت: «أعتقد أنهم سيكتشفون ذلك. إذا جاءت الكلاب البوليسية إلى باب بيتنا. لكنَّ أثر الرائحة الأحدث يمتد من الحظيرة ويبتعد إلى وسط الأدغال. لذا من المفترض ألَّا تقترب الكلاب من المنزل.»
فقلت: «ما زلتُ أنوي إخفاء معطف جدي وقفازه هنا في خزانة ثيابي.»
قالت: «حسنًا. أظن أنَّ ذلك لن يُحدِث أي ضرر.»
ونزلنا نحن الاثنتان إلى الطابق السفلي، لنبدأ أحد أغرب الأيام التي قضيناها على الإطلاق، محبوستَين داخل البيت كأننا سجينتان.