الفصل الثالث
كان الكثيرون يعبُرون مزرعتنا للانتقال من مُنخفَض «حفرة الذئاب» إلى المنازل الواقعة على الجانب الآخَر من حقولنا، بدلًا من أن يمشوا كل الطريق الممتد من المدرسة حول التل. لم أمانع ذلك قط؛ لأننا كنا نعرف جميع مَن يعيشون في نطاق أميالٍ من حولنا؛ لكني أحيانًا ما كنت أنتفض مفزوعةً من المتشردين الذين كانوا يمرُّون بالمزرعة من وقتٍ إلى آخَر.
فبعد «الكساد الكبير» بفترةٍ غير طويلة، كان يوجد أناسٌ اعتادوا التجوُّل هائمين على وجوههم، ولم يعرفوا سبيلًا إلى التوقف؛ إذ انفصلوا عن جذورهم وأهاليهم، وكانوا يظلون هائمين هكذا طويلًا جدًّا دون التوقُّف في أي مكان. وكان يوجد أيضًا مَن عادوا إلى ديارهم من الحرب العظمى الأولى مصدومين جدًّا وصامتين جدًّا، لدرجة أنهم بدوا لا يعرفون هُويتهم ولا موطنهم الذي ينتمون إليه.
كان أحدُهم قد مكثَ في البلدة، وكان رجلًا يُدعَى توبي.
لم يكُن كالآخَرين.
فهو لم يكُن يطلب طعامًا ولا مالًا. لم يكُن يطلب أيَّ شيءٍ إطلاقًا. ولكن بدلًا من أن يتجوَّل هائمًا عبر حقولنا في طريقه إلى مكانٍ ما، كان يطوف التلال دون توقُّف، وأعترفُ بأنني كنتُ قَلِقةً منه في البداية.
لكن ذلك كان قبل أن أعرفه.
بحثتُ عنه وأنا سائرة إلى المنزل في ذلك اليوم، إذ ألقيتُ نظرةً فاحصةً على الحقل الملتف حول التل المنخفض الطويل كشالٍ محبَّبٍ صغير. فكثيرًا ما كنت أراه على مسافةٍ بعيدةٍ في طريق ذهابي إلى المدرسة وعودتي منها أيضًا. كان يحبُّ الوقوف عند حافة الأحراج، جامدًا كشجرة. أو على أعلى قمة التل، جليًّا على خلفية السماء.
لم نكُن نعرف من أين أتى توبي، ولم نكُن نعرف الكثير عنه، باستثناء أنه كان فردًا من جنود المشاة الذين حاربوا الألمان في فرنسا. قبل ذلك بعقود. هذا ما سمعناه عنه عرضًا في الكنيسة، وفي السوق، واعتبرناه صحيحًا.
كانت يده اليسرى مليئةً بندوب رهيبة، وبدا أنها تؤكِّد هذه القصة. ومع ذلك، ما من أحدٍ كان يعلم يقينًا من أين أتى، باستثناء أنه ربما قد توقَّف في هذه التلال لأنها تُذكِّره بدياره. أو ربما لأنها تُشبه مكانًا لطالما أراد أن يعيش فيه فحسب.
كان الكثيرون يتوجَّسون خيفةً من توبي، وهو يمشي عبر الأحراج والوديان بمعطفه الأسود الطويل المصنوع من القماش المشمَّع، وحذائه الأسود الطويل الرقبة، وشَعره الأسود الطويل ولحيته السوداء الطويلة، وبنادقه الثلاث الطوال المُعلَّقة على ظهره دائمًا. كانوا لا يفهمون هذا الرجل الذي يخيم عليه الصمت في معظم الأحيان والذي يبدو أنه لا يتوقف أبدًا عن المشي، من الصباح إلى الليل، حاني الرأس متمهِّل الخطوات يسير بالوتيرة نفسها التي سار بها في اليوم السابق، لا أسرع منها ولا أبطأ.
كنت في بعض الأحيان أتصوَّره جاثمًا في خندق، بينما يركض من فوقِه ألفُ ألماني بحرابهم المثبتة في بنادقهم، والأشواك المُدبَّبة فوق خوذاتهم، والتعطش إلى الدماء في عيونهم. وصحيحٌ أنَّ عمري آنذاك لم يكُن يتجاوَز أحد عشر عامًا، لكني كنت أعرف عن الخوف ما يكفي لأن أستنتج أنَّ سيطرة الخوف التام على المرء، بجسده وروحه، كافيةٌ على الأرجح لتجعله غريبًا إلى الأبد فيما بعد. وهذا هو ما كان عليه توبي. غريب.
قالت لي جدتي يومًا ما بعد مدةٍ قصيرةٍ من قدوم توبي إلى تلالنا لأول مرَّة: «من الصعب أن نعرف، ولكن أحيانًا يكون شيءٌ أشد من الخوف أو صدمة القصف هو ما يجعل الرجال في حالٍ كحاله. لا بد أنه لم يكُن أكبر كثيرًا من مجرد صبيٍّ حين خاض غمار تلك الحرب البشعة. لكنَّ المؤكَّد أنه رأى من الأشياء وفعل منها ما قد يفقِد الرجال الأقوياء وعيهم، ويطرحهم أرضًا من شدة هولها.»
كنا قد سمعنا أنَّ توبي يمكث دون وجه حقٍّ في كوخٍ قديمٍ لتدخين اللحم في مُنخفَض «كوب هولو» على مسافةٍ أسفل مسكن آل جلينجاري، بالقرب من الحقل الذي نزرع فيه البطاطس والذرة. لم يعُد أحدٌ يملك ذلك الكوخ، منذ أن مات سيلاس كوب واحترق بيته القديم بسبب صاعقة برق. كان الكوخ منصوبًا بعيدًا عن أساسات البيت المحترقة، وكان شبه مختبئ وسط الأشجار والشجيرات التي نَمَت من حوله. كان مكانًا صغيرًا دافئًا مُشيَّدًا من الحجارة والخشب وله سقف معدني. وقد مررت به يومًا ما عندما اختفت إحدى أبقارنا، ورحنا كلنا نبحث عبر الأحراج لإعادتها إلى مزرعتنا.
وصحيحٌ أنني كنتُ أكثر حكمةً من أن أدخل الأكواخ القديمة الواقعة خارج حدود مزرعتنا، التي كان بعضها مبنيًّا حول مضخات آبار النفط، وبعضها مخصصًا لتجفيف اللحوم، والبعض الآخَر للدجاج، وكلها بؤر غالبًا ما تجتذب الثعابين. لكني كنت قد استكشفت الكوخ القديم قبل أن يأخذه توبي لنفسه. وباستثناء رائحة اللحم والدخان التي كانت ما تزال قوية بداخله، كان يبدو مكانًا لطيفًا بما يكفي لرجلٍ مثل توبي ليعيش فيه. وكانت البئر القديمة الواقعة بالقرب من مسكن كوب — مع أنها صارت الآن مجرد حفرة صغيرة في الأرض، كبيتِ كوب نفسه — ما تزال تُنتج ماءً صالحًا للشرب عند تجمُّد النهير القريب.
كنت أستطيع تخيُّل توبي دافئًا داخل الكوخ، كأنه جذوة من النار حيث كانت النيران تُوقَد باستمرار فيما مضى. ربما كان يستخدم خطَّافات اللحم المتدلية من العوارض الخشبية في السقف لتعليق معطفِه عندما لا يكون مرتديًا إياه، وبنادقِه عندما لا يكون معلِّقًا إياها على ظهره. وربما كان يُعلِّق قبعته السوداء على أحدها. وكاميرته على آخر.
كُنا كلنا قد فوجئنا عندما طلب توبي استعارة كاميرتنا، التي أصبحت الآن ملكه، تقريبًا. كان من المذهل أنه تكلَّم أصلًا، وأنه اقترب من أيٍّ منا بما يكفي لأن يتقدَّم بمثل هذا الطلب، وأنه بدا فجأةً متحمسًا تجاه شيء ما، وخصوصًا شيئًا مثل الصور الفوتوغرافية. لكنَّه فعل ذلك حقًّا، وكان الموقف كلُّه حادثًا عَرَضيًّا.
عندما كنتُ في السابعة وهنري في الخامسة وجيمس في الثالثة، اصطحبَتنا أمُّنا إلى متجر «هورنز» الكبير المتعدد الأقسام في مدينة بيتسبرج؛ لالتقاط صورة فوتوغرافية لنا. كانت أمي لديها صورة لنفسها التُقِطَت لها مع أسرتها كلها قُبيل وفاة أمها. وكانت تلك الصورة موضوعةً وسط صفحات إنجيل الأسرة، وبُنِّية كغبار الصيف. وكان أبي لديه صور عديدة لأسلافه، الذين كانوا حفنةً غاضبةً من اسكتلنديين ذوي حواجب كثَّة وأفواه ذات أسنان متناثرة غير منتظمة وعيون شبيهة بعيون الماعز. ومع ذلك، لم تكن توجد في منزلنا أيُّ صورة بسيطة لنا ونحن مبتسمون متشابكو الأذرُع. وكانت أمي تريد صورةً كهذه لأبنائها؛ ومن ثمَّ اصطحبتنا نحن الثلاثة إلى متجر «هورنز» وجعلتنا نقف معًا لالتقاط صورة لنا. قال لها المصوِّر إنَّ كل الصور المُلتقطة في ذلك الشهر ستدخل مسابقةً على الفوز بكاميرا من طراز «كوداك»، وكميةٍ تكفي العمر كله من أفلام التصوير الفوتوغرافي مع حق تحميض الصور مجانًا طوال العمر.
قالت أمي مُبتسمةً وهي تعطي المصوِّر ثمن الصورة: «ومتى سأجد متسعًا من الوقت لتصوير أي شيء؟»
وبعدها بثلاثة أسابيع، عندما وصل طردٌ بريدي إلى أمي، ذهلنا حين وجدنا أنه يحوي صورتنا، التي بدونا جميعنا فيها أحلى ممَّا كنا عليه في الحقيقة، وخَبر فوزنا بالكاميرا. كانت الكاميرا أيضًا مُرفَقةً بالطرد، إضافةً إلى العشرات من بكرات أفلام التصوير لتحفيزنا على البدء، وبعض الأظرف الخاصة لإرسال تلك الأفلام من أجل تحميضها.
كانت هذه الهدية مذهلةً جدًّا لدرجة أننا شعرنا بأننا تلقَّينا مركبةً فضائيةً صغيرة، أو آلة زمن.
سرعان ما انتشر الخبر، وسرعان ما أصبح جيراننا يزوروننا بعد ظُهر أيام الأحد، وهم ما يزالون يرتدون ثياب الكنسية، ويتحايلون لكي نلتقط صورًا لهم. كانت أمي أشدَّ انشغالًا من أن تستطيع إسداء هذا الصنيع إليهم. وصحيحٌ أنَّ العمة ليلي كانت مستعدَّةً لالتقاط الصور، لكنها كانت متسلطةً جدًّا وكانت تنتقد مَن تصوِّرهم انتقادًا شديدًا، لدرجة أنهم دائمًا ما كانوا يظهرون في الصور كأنهم مصابون بالأنفلونزا. وعندما كانوا يرَوْن النتائج، كانوا يطلبون محاولةً أخرى مع مصوِّر آخَر، وكان هذا يُهدِر أفلام التصوير والوقت أيضًا. جرَّبتُ نفسي في التصوير، لكني غالبًا ما كنتُ أقتطع رءوسهم من إطار الصور.
ولهذا توقَّفَ الناس عن المجيء بعد فترة، وظلَّ الغبار يتراكم على الكاميرا حتى قررتُ بعد ظهيرة يومٍ ما — حين كانت أشجار الخوخ يانعةً في فترة إزهارها القصيرة، وكانت أشعة الشمس من خلفها تجعل البستان كدخانٍ وردي متصاعد من مستنقع — أن أخرج بالكاميرا وأحاول تسجيل المشهد.
وقفتُ عند أعلى البستان، والتقطتُ صورة تلو الأخرى، وكنت أخفض الكاميرا بين التقاط الصورة والأخرى لأتنهَّد، وأستنشق الهواء الوردي البارد.
وعند لحظةٍ ما، لاحظتُ توبي واقفًا جانبًا بالقرب من أبعد الأشجار إلى الخارج يراقبني.
لم أكُن قد تحدَّثتُ إليه قبل ذلك قَط، ودائمًا ما كنت أجد نفسي قبل ذلك اليوم على بُعد حقلٍ كامل عنه على الأقل. ولم أعهده قَط يراقب شخصًا كما كان يراقبني في هذه اللحظة. لم أعهده واقفًا بلا حَراكٍ وقتًا طويلًا جدًّا في مكان واحد.
سلَّطتُ الكاميرا نحوه ببطءٍ، متوقعةً أن يتجنبها بخجلٍ كأنها بندقية، لكنه لم يفعل. التقطتُ صورته، مع أنه كان يبدو خلال العدسة — من هذه المسافة البعيدة — لطخةً من الظلام تعتمر قبعة.
وعندما بدأ يمشي نحوي، انتظرت. كنا في وضح النهار، وكنت واقفةً في مزرعتي. ومن ثمَّ لم يكُن هناك ما يدعو إلى القلق. هذا ما قلتُه لنفسي. لكن عمري آنذاك كان تسع سنواتٍ فقط، أي أصغر من أن أتحلَّى بجرأةٍ شديدة. كان توبي رجلًا طويلًا لا يبتسم أبدًا. ونادرًا ما كان يتحدث. وكانت لديه تلك الندوب البشعة على يده. وتلك البنادق.
كنت أسمع شخصًا ما يطرق شيئًا بالمطرقة من بعيد، والأرجح أنه كان أبي يُصلح الألواح الواقية لجدران الحظيرة. جعلني هذا الصوت أبقى مكاني بينما كان توبي يمشي نحوي. وعندما صار على بُعد حوالَي عشر أقدام، شعرتُ برائحة الدخان واللحم تفوح منه، ممزوجة برائحته. لم تكُن كريهةً تمامًا، لكنها كانت مغلَّفةً برائحة الكيروسين النتنة المنبعثة من مشكاته. الحق أنَّ الكلاب كانت تهزُّ رءوسها وتعطس كلما دنت منه.
نظر إلى الكاميرا ثم إليَّ. وقال: «هل هي ملكك؟»
فكَّرتُ في الأمر. وقلت: «ملك أمي. وملكي.» ففي النهاية، كانت صورتي هي مَن فازت بالكاميرا. كانت ملكي أنا وجيمس وهنري.
رفعَ توبي حزام بنادقه أعلى قليلًا على كتفه. كنتُ قد حملتُ بندقيةً من قبل. ولذا كنت متيقنةً من أنَّ ثلاث بنادق حِملٌ ثقيلٌ جدًّا. كان معطفه الأسود طويلًا وجامدًا، وله ياقة عالية تحيط برقبته وتجعله يبدو أضخم من حجمه الحقيقي. كان كبعض الحيوانات التي تنفش فروها حول رقبتها عند التقاتُل مع الحيوانات الأخرى.
«هل تلتقطين صورًا للزهور؟»
أومأتُ بالإيجاب. «وصورة لك. صورة واحدة فقط لك. هل تريدها عند صدورها؟»
هزَّ توبي رأسه بالنفي. وقال: «أعرفُ شكلي.»
تساءلتُ في نفسي عن عدد السنين التي مرَّت منذ أن رأى نفسه في مرآة.
كان يحدِّق إلى الكاميرا. خلعتُ حزامها من حول رقبتي. ومددتُها نحوه قائلة: «هل تريد أن تجرِّب؟»
رمقني توبي بنظرة خاطفة. ثم نظر بعيدًا. ثم إليَّ مجددًا. ثم بعيدًا. إلى الزهور، ثم التفت إلى الوراء نحو الحقول التي كانت محروثةً للتو من أجل زراعتها. ونظر إلى صفٍّ من أشجار التَّنُّوب الزرقاء التي كانت أعلى من أي شيءٍ آخَر لمسافة ميلٍ كامل. سار مقتربًا مني، وأخذ الكاميرا، ثم تراجَع.
«سأعيدُها غدًا، إنْ كان هذا مقبولًا.»
شعرتُ بقليلٍ من الفزع. فقد كان تبدُّل سلوكه من عدم قول أي شيء لي إطلاقًا، إلى الجرأة إلى هذا الحد مفاجئًا. لكني لم أكُن أعرف كيف يمكنني أن أرفض، خصوصًا وأنه شخصٌ كبير، ولم أظن أيضًا أنَّ أمي ستمانع. فهي غالبًا ما كانت تخبز رغيفًا إضافيًّا لتوبي أو تُعِد له برطمانًا إضافيًّا من المربى. لم تكُن تخاف منه. ولم أظن أنها ستمانع إذا استخدم الكاميرا يومًا واحدًا.
وكانت تلك بداية تغيير في حياتنا. فلو لم نفُز بكاميرا «كوداك»، لو كانت أزهار الخوخ أقل جمالًا في ذلك العام، لو كان توبي في مكان آخَر في أثناء مسيره في ذلك اليوم، لو أنني قد هربت من نطاق رؤيته، لو أنني رفضت طلبه، لَمَا تعلَّم توبي التقاط الصور التي التقطَها، ولَمَا صارت الكاميرا له، في النهاية. ولَمَا آلت الأمور إلى أن أعرفه كما عرفته، وأن يعرفني هو.
كنا سنتجنَّب بعض العناء لو أننا لم نلتقِ في ذلك اليوم. لكن من المهم أن نتأمل النهاية التي أفضى إليها كلُّ هذا، وليس ما حدث في أثناء تلك الفترة فحسب.