الفصل الخامس
ظهر توبي تدريجيًّا وأنا أمشي نحو أعلى الزقاق المُنحدِر؛ فأولًا ظهر رأسه المُغطى بالقبعة، ثم بقية أجزاء جسده جزءًا تلو الآخَر، نزولًا إلى حذائه الطويل الرقبة، عند وصولي إلى الأرض المستوية عند قمة الزقاق. بدا شديد الشَّبَه بفزَّاعة لولا البنادق المعلَّقة على ظَهره، وذراعَاه المتدليتَان عند جانبَيه.
ولو افترضتُ أنه قد رآني آتية آنذاك، فإنه لم يُبدِ أيَّ علامة على ذلك. لم يكُن توبي يتحرك قَط لملاقاة شخص قادِم نحوه.
قلتُ: «مرحبًا توبي. لقد أرسلَتْني أمي بقليل من الطعام للعَشاء.» وأضفتُ: «كان لدينا أكثر مما يكفي حاجتنا نحن فقط»؛ لم أكُن أعرف أنني سأقول ذلك حتى قلته بالفعل.
كان وجه توبي في ظلِّ حافة قبَّعته هادئًا ووديعًا، كوجه كلب عجوز.
لاحظتُ الكاميرا متدلية من رقبته. فسألته: «هل لديك أي فيلم تصوير تريد إرساله؟»
كنا نرسل أفلام التصوير بالبريد نيابةً عنه عندما يكون لديه أحدها؛ إذ كنا نسلِّمه إلى عمتي ليلي، بما أنها مديرة مكتب البريد، وكانت تذهب إلى المكتب جميع أيام الأسبوع، ما عدا الأحد، وعندما تعود الصور مطبوعةً، فعادة ما كنتُ أحملها إلى أن نتلاقى أنا وتوبي مصادفةً. لم نفتح أيَّ طرد مُرسَل إليه من قبلُ قَط، مع أنني أحيانًا كنتُ أشعر برغبة في ذلك. وعندما كان توبي يريد أن نرى ما صوَّره، كان يعرضه علينا من تلقاء نفسه.
في إحدى المرات، أراني دُفعة من الصور بها صقر أحمر الذيل يحمل في منقاره أرنبًا، وركام رعدي لامع في ضوء المساء، وغزالة غافية في رُقعة من نبات البدفيل. لم أعهد من قبلُ أيَّ شخصٍ هادئ بما يكفي لأن يقترب من غزالة نائمة دون إيقاظها. ولم أعهد أي رجل جائع يصوِّب كاميرا نحو غزالة ليصوِّرها، بدلًا من أن يصوِّب بندقيةً يصطادها بها ليأكلها.
أخرجَ من جيبه بَكَرة صغيرة وسلَّمَها لي. وأعطيتُه أنا صرَّة الطعام.
سألتُه: «هل ما تزال لديك كمية من أفلام التصوير؟»
أومأ بالإيجاب. فكلما كانت الصور تعود إلينا مطبوعة، كان يوجد معها لفافتان جديدتان من أفلام التصوير في الطرد. فكوداك تفي بوعدها.
أزاحَ البنادق المعلَّقة على ظهره قليلًا. ولم يستدِر ليغادر فورًا كما كان يفعل دائمًا.
فانتظرتُ.
مدَّ يده واضعًا إياها في جيبه. ثم قال وهو يُعطيني بنسًا: «هذا ملككِ.» كان دافئًا عندما أخذتُه.
تذكرتُ بيتي وهي تبحث وسط شجيرات العَشَقَة الواقعة بمحاذاة الدرب المؤدي إلى المدرسة. لا بد أنَّ توبي كان يراقب الموقف من بين الأشجار.
وضعتُ البِنس في جيبي.
انتظر توبي مزيدًا من الوقت، بطريقة تكاد توحي بأنه يترقَّب شيئًا ما. ما دام يعرف أنَّ ذلك البِنس ملكي، فقد رأى بيتي وهي تضربني. ربما قد سمعَ تهديداتها. لكنه لم يتدخل.
إذا كان ينتظر مني أن أكلِّمه عن الأمر، أو أن أطلب مساعدته، فأنا لم أستطع ذلك. لم أكُن متيقنةً بشأن ما أشعر به حيال ذلك كله.
أومأ توبي إيماءة طفيفة أخيرة، ثم استدار ومشى بعيدًا، فيما كانت بنادقه وحذاؤه الطويل تُصدر موسيقاها البسيطة. لم أفهم إطلاقًا كيف كان يستطيع إسكات صوتها. فأنا لم أستطع من قبل أن أفاجئ بقرة، ناهيك عن غزالة.
مكثتُ قليلًا وشاهدتُه وهو يشق طريقه عائدًا عبر الأرض المحروثة بين رقعة الفراولة والغابات، فيما كان يهبط ويعلو وهو يقطع أخاديد الأرض المحروثة بسيره، كقارب يعبر بحرًا صغيرًا.
وفي طريق عودتي على الزقاق، توقفتُ عندما أبصرتُ منزلي وسط الظلام المتزايد، مضاءً من الداخل، وتساءلتُ عمَّا إذا كان توبي قد توقَّف من قبل في هذا المكان على الإطلاق، ورأى ما رأيتُه.
خَطر، ببالي بينما كنت أتحسَّس البِنس في جيبي بإصبعي، أنَّه ربما قد فعل هذا.
•••
وجدتُ والدي جالسًا على عتبة الباب الخلفي. دائمًا ما كان يبدو أنه يوجد هناك عند عودتي من توصيل العَشاء إلى توبي. سألني وهو يتبعني إلى داخل المنزل: «وكيف حال توبي الليلة؟»
قلتُ: «كما هو دومًا. صامت.»
فقال والدي: «يعجبني ذلك فيه. ولكن ينبغي أن تخبريني إذا أثار قلقكِ في أي وقتٍ على الإطلاق يا أنابل.»
أفزعني هذا. فقلت له: «كيف؟»
هزَّ والدي كتفَيه. وقال: «بأيِّ طريقةٍ مهما كانت.»
«تقصدُ إذا كان يبدو مريضًا أو جريحًا؟»
أجابَ بوضع يده على رأسي وتبسَّم لي ابتسامةً طفيفة.
وبعدها قال: «هيا اذهبي وأدِّي فروضَكِ المنزلية.»
لكني ذهبتُ أولًا للبحث عن عمتي ليلي؛ لكي تُرسِل فيلم التصوير الذي أعطاني توبي إياه، ولم يكُن أيٌّ منَّا يعلم أنَّ تلك البَكَرة الصغيرة تحوي مشكلةً أخرى تنتظر مَن يجدها.
•••
بينما كنت أستعد للنوم في تلك الليلة، تفحَّصتُ فخذي المتضرِّرة والكدمة التي أحدثتها بها بيتي. بَدَت مثل ثمرة خيار صغيرة، وكان لونها أحمر لم يتحوَّل إلى الأسود بعد، وكانت تؤلمني عند لمسها.
وحينها قررتُ على الفور أنني لن أعطيها إبزيم عمتي ليلي. ارتأيتُ أنَّ حتى فتاة مثلها لا يُمكن أن تُلحِق بشقيقيَّ، أو بي، أيَّ أذًى أشدَّ من الإصابة بكدمةٍ على شكل خيارة. لم تكن مثل هذه الأشياء تحدث. ومعرفة أن توبي ربما يكون في مكانٍ قريبٍ أشعرَتني ببعض الطمأنينة. كنت متيقنةً من أنه لن يدعَ أي مكروهٍ شديدٍ يُصيبني أنا أو شقيقيَّ. إذا كان في مكانٍ قريبٍ آنذاك. إذا رأى مكروهًا يحدث.
وإذا أُصِبتُ بكدمة أخرى في مساومتي معها، فسأخبر أمي. وهي ستعرف ما ستفعله.
•••
عندما ركضَ شقيقاي وسبقاني نحو المدرسة في صباح اليوم التالي، ركضتُ أنا أيضًا ليبقيا قريبَين منِّي — وأبقى قريبة منهما — وهكذا ظللتُ أركض نحو أعلى الزقاق وأسفل الجانب الآخَر من التل، عبر الحقول، صوب «حفرة الذئاب». توقَّفا أكثر من مرَّة لينظرا إليَّ، وفي إحدى المرات، قال هنري: «أنتِ سريعةٌ مُقارنةً ببقية الفتيات»، وطلبَ مني جيمس في مرَّة أخرى أن أبطئ سرعتي وأغرُب عنهما. صاحَ وهو يركض بأقصى سرعة: «نستطيع المشي إلى المدرسة وحدنا.»
وكان هذا صحيحًا بالطبع، لكن لم تكُن له أية علاقة بالغرض من ركضي خلفهما.
وعندما وصلنا إلى الممشى المؤدِّي إلى «حفرة الذئاب»، لحقتُ بهما وأمسكتُ جيمس من ذراعه. قلتُ: «أريد المشي معكما بقية الطريق.»
أزاحَ جيمس يدي عنه مجيبًا بالرفض، لكن هنري قال: «ما الخطب؟»
فقلتُ: «لا شيء. كل ما في الأمر أنني رأيتُ ثعبانًا كبيرًا على الممشى أمس.»
بدا أنَّ هنري يتقبَّل ذلك. كان يعرف طبيعة شعوري تجاه الثعابين.
نظر جيمس بعينَين محدقتَين من الدهشة وقال: «ثعبان كبير؟»
فأومأت بالإيجاب. وقلت: «أكبر ثعبان رأيتُه في حياتي.»
«سحقًا يا أنابِل. كنت سأعود لأراه لو أنك أخبَرْتِنا أمس.»
قلتُ: «لهذا لم أخبركما أمس. لكن دعونا نمضِ قُدمًا بهدوء، وقد نراه مرَّةً أخرى.»
وبهذا كنا نحن الثلاثة معًا عندما خرجَت بيتي إلى الممشى من خلف شجرة.
توقَّف الولدان على نحوٍ مفاجئ جدًّا لدرجة أنني اصطدمتُ بهما. قال هنري: «مرحبًا يا بيتي.» واكتفى جيمس بالوقوف ساكنًا. أمَّا أنا، فالتففتُ من حول الولدَين إلى الأمام، وواصلتُ المُضيَّ قُدمًا نحو أسفل الممشى.
قلت: «هيا تعالَيَا، وإلا فسنتأخر عن المدرسة.»
لم أنظر خلفي. تبعني الولدان عن قُرب. وعند أول منعطفٍ في الممشى، أشرتُ لهما نحو الأمام، فركضا، وركضتُ أنا أيضًا نزولًا من التل وحتى مبنى المدرسة.
قال جيمس ونحن نفك أزرار معاطفنا ونعلِّق قبَّعاتنا: «لا أحب بيتي. إنها مخيفة.»
فيما قال هنري: «إنها فتاة غبية فحسب»، لكنه خفض صوته والتفتَ إلى الوراء وهو يقول ذلك.
وصلت بيتي آنذاك، لكنها لم تكترث بنا إطلاقًا.
ركَّزت بدلًا من ذلك على مكتبها. وكان يشاركها المكتب واحدٌ من أضخم الصبيان، اسمه آندي وودبيري. كنت أحب هذا الاسم — وودبيري — لكني لم أكُن أحب آندي. لم يكُن أحدٌ يحبه. ولا حتى الصبيان الضخام الآخَرون، بالرغم من أنهم كانوا يفعلون كلَّ ما يطلبه منهم أيًّا كان.
لم يكُن آندي طالبًا في المدرسة قبل انضمام بيتي إلينا. كان هو وأبوه وأعمامه يُشغِّلون مزارع متجاورة لا تبعد كثيرًا عن مزارعنا؛ كانت تحتوي على أبقار حلوبة في الغالب، لكنها كانت تحتوي أيضًا على ذُرة وتبن وبطاطس. وكان بها أيضًا حديقة خضراوات. ونعاج كافية لاستخلاص الصوف وإعداد خروف صغير على العَشاء في أيام الأحد في فصل الربيع. ودجاج. وبعض الماعز. كانت تحتوي تقريبًا على كل الأشياء التي عادةً ما توجد في مزرعةٍ لمنتجات الألبان.
في نهاية أكتوبر، كان آندي يأتي إلى المدرسة من حينٍ إلى آخَر، وأظنه كان يفعل ذلك في الغالب لتغيير أجواء يومه المعتادة ليس إلا. فلم يكُن يكترث بدروسه ولا بالسيدة تايلور.
قالت له بيتي: «أنت في مقعدي.» كان طوله حتى وهو جالس يكاد يضاهي طولها وهي واقفة، لكنها لم تَبدُ متوترة بشأنه إطلاقًا.
كان الأطفال الآخَرون قد التزموا الصمت وهم يشاهدون السيدة تايلور حين كانت تكتب درسًا على السبورة، ويبدو أنها لم تلاحظ ذلك بعدُ.
نظر آندي نحو بيتي من أعلى إلى أسفل. وسألها: «مَن أنتِ؟»
فقالت: «بيتي جلينجاري (أي رمح الوادي). مَن أنتَ؟»
«آندي وودبيري (أي توت الأحراج).»
تفحَّصَته بدقة، واضعة يدَيها على فخذَيها. وسألَتْه: «هل تعيش في الأحراج؟»
«لا.»
«هل أنتَ ثمرة توت؟»
«لا.» صار أكثر انتصابًا في جلسته. وسألها: «هل تعيشين في وادٍ؟»
فقالت: «في الحقيقة، أجل.»
لم يستطع الرد. فبينما كان يسألها قائلًا: «وهل أنتِ …؟» بدا هنا أنَّ آندي أيضًا قد أدرك عدم وجود طريقة جيدة لإنهاء هذا الحوار. وكانت بيتي تبتسم بالفعل.
قالت: «… رمح؟ لا، لستُ رمحًا. إلَّا إذا كان الرمح فتاة تعتزم الجلوس في ذلك المقعد الذي تجلسُ فيه أنت.»
بدا آندي بحلول تلك اللحظة متحيِّرًا جدًّا لدرجةٍ جعلَتني أستنتج أنَّه لا أنثى على الإطلاق قد كلَّمَته بهذه الطريقة. ولا حتى أمه.
ولو كان أي أحد قد سألني آنذاك عن توقُّعي لما سيحدث، لقلتُ إنَّ بيتي سوف تجد — على الأقل — بعض النباتات الشوكية في شَعرها بحلول نهاية فترة الاستراحة، ولكن كان سيتبيَّن أنني مخطئة.
فها هو آندي قد نهض بلا أي كلمة، وانتظر ريثما جلسَت بيتي في مقعدها. وقف مائلًا ببنيانه الضخم ونظرات متوعِّدة فوق بنجامين، الصبي الصغير القاعد في المكتب المجاور لها، حتى لَمْلَم الصغير أغراضه بتنهيدة متحسِّرة وانحشر بجوار طالب آخَر.
جلس آندي ومدَّ ساقَيه. كانت ثنيتا ساقَي بنطالِه وأربطة حذائه الطويلِ الرقبة مليئةً بكُريَّات عُشبية شوكية لاصقة.
وعندما التفتت السيدة تايلور عن السبورة ورأته قاعدًا هناك، رفعَت كتفَيها وأنزلتهما ببطء، وأرخت الجزء العلوي من جسدها قليلًا.
قالت: «صباح الخير يا سيد وودبيري. هل أحضرتَ كتبك معك؟»
قال وهو ينقر رأسه بإصبعه: «لا أحتاج إلى كتب. فأنا لديَّ كل شيء هنا.»
كنت جالسة خلف بيتي، لكني رأيتها تبتسم حين استدارت نحو آندي. وقالت بيتي: «يمكنه أن يشاركني كتبي يا سيدة تايلور. لا أمانع ذلك.»
فقالت السيدة تايلور: «هذا لُطف كبير منك.»
وقال آندي: «إنه كذلك بالتأكيد.»
ظننتُ من الطريقة التي كانت بيتي تنظر بها إلى آندي أنَّها ربما لن تشغل بالها بي كثيرًا من الآن فصاعدًا.
•••
انقضى باقي الصباح على أحسن ما يُرام، مع أنَّ آندي غفا عند لحظةٍ ما، وقاطعَ الدروس بصوت شخيره. وضعَتْ بيتي يدًا على ذراعه العارية لإيقاظه. وعندما استيقظ، هزَّ جسده وتثاءب بعلو صوته وعقد ذراعَيه كأنه سيد نبيل.
لم يكُن صبيًّا سيِّئ المظهر، وكان أنظف من البعض، لكن بيتي كانت أول فتاة تُعجَب به. تعجَّبتُ من ذلك؛ مدى سرعة نشوء هذا الانجذاب المفاجئ بينهما. لكني رأيت شيئًا مثل هذا من قبلُ، عند ظهور كلب جديد في الحديقة. فأحيانًا ما كان ينشب عراك قبل أن يعرف أيُّ أحد السبب. وأحيانًا أخرى كان يحدث العكس تمامًا.