الفصل السادس
في الأيام القليلة التالية، بدا أن بيتي تتجاهلني. كنت أمشي ذهابًا إلى المدرسة وإيابًا منها دون أن تعترضني، وكنت أقضي فترات الاستراحة في اللعب مع أصدقائي، وأتلقَّى الدروس على السبورة مع السيدة تايلور بهدوء دون أحداثٍ تُذكَر، بينما كان آندي وبيتي يظلَّان قاعدَين في مكتبَيهما متلاصقَين خلف ظهرها، يتهامسان ويبتسمان. كانا يختفيان في فترة الاستراحة، ويعودان إلى الدروس في وقتٍ متأخِّر، وكانا يغادران المدرسة معًا، ويصلان بالطريقة نفسها في الصباح.
الجميع لاحظَ هذا، وقد اعتبرتُ أنه بمثابة مقدمة لخطوبة، رغم أنه كان يبدو غريبًا، بالنظر إلى صِغَر سن بيتي؛ إذ كانت في الرابعة عشرة من عمرها فقط. لكن أمي كانت قد تزوَّجَت في سن السادسة عشرة؛ لذا لم أقضِ الكثير من الوقت في التساؤل عن الشيء الذي جعل بيتي تكفُّ عن استهدافي.
غير أنَّ آندي لم يكُن مواظبًا على الحضور في أفضل الأحوال، وسرعان ما أدركتُ أنَّ حتى بيتي لا تستطيع التفوق على يوم واحد من أيام الصيف الهندي.
كان المشي إلى المدرسة في ذلك الصباح بهجة خالصة. الأرض ليِّنة وعَطِرة، والطيور ثرثارة، والشمس غائمة بعض الشيء، كأنها ترتدي جوربًا حريريًّا. وقبل أن أنزل المنحدر الطويل المؤدي إلى مُنخفَض «حفرة الذئاب»، خلعتُ سترتي وقبعتي وعلَّقتُهما على شجرة خوخٍ تشبَّثتْ تشبُّثًا عنيدًا ببضع أوراق قليلة جدًّا صارت باللون الذهبي المميز للخريف.
لم أكُن أعرف أين شقيقاي ولم أكُن أكترث بذلك. شعرتُ بأنني أستطيع بجهد بسيط جدًّا أن أحلِّق فوق هذه التلال، حاملةً الشمس على ظهري، بينما تتوهَّج الأحراج من تحتي بروعةٍ وجمال.
أعتقد أنني ربما كنت أصفِّر أو أغنِّي في سرِّي عندما دخلتُ الأحراج في صباح ذلك اليوم.
لا أتذكَّر.
غير أنَّ ما حدث بعد ذلك محا كلَّ شيء، عدا حقيقة وجود بيتي مجددًا.
ربما كانت تنتظر آندي ولم يأتِ، فأغضبَها ذلك، ومنحها بعضًا من وقت الفراغ.
أو ربما أنها ببساطة لم تتحمَّل أن تقضي كلَّ هذا الوقت الطويل دون فرض بعض الهيمنة، مهما كانت بسيطة.
على أي حال، كانت مستعدة لي بينما لم أكُن مستعدة لها.
وقد اختارت سلاحًا أشدَّ وحشية من ذي قبل.
هنا على الممشى، رأيتُ أمامي مشهدًا غريبًا.
كانت بيتي قاعدةً على جذع شجرةٍ ساقط، تحمل شيئًا ما في حجرها، بينما كان شقيقاي جالسَين القرفصاء أمامها وهما يتحركان بلطفٍ وبطءٍ على غير العادة.
قلتُ: «هنري.»
ردَّ دون أن يلتفت إليَّ قائلًا: «صه. إنها تحمل طائر سُمَّان.»
وقد كانت تحمل طائر سُمَّان بالفعل. كان أنثى، بُنِّية وليِّنة. وكان يبدو من مظهرها أنها صغيرة السن. كانت عيناها حيويتَين وكان ريشها أملس.
كانت بيتي متأبطة إياها بسهولة تحت ذراعها اليُسرى. وكانت يدها اليمنى كقلادة ضيِّقة؛ إذ أحاطت أصابعها بعُنق الطائر الصغير بإحكام كافٍ لإبقائها ساكنة. كانت السُّمْنة ترمش وتغمغم، بينما كان الولدان يمسِّدان رأسها الليِّن بأنامل أصابعهما الصغيرة.
قال جيمس هامسًا: «إنها لطيفة جدًّا. ليتني كنت أملكها.»
قالت بيتي: «حسنًا، ربما يكون ذلك ممكنًا. ربما يُمكنك أن تُنشئ مزرعة سُمَّان.»
رد هنري قائلًا: «لا، إنها طائر برِّي. ليست دجاجة.» لكنه قال ذلك بنبرة ليِّنة تكاد تكون حزينة، ولم يرفع عينَيه قَط من فوق السُّمْنة البُنِّية الجميلة الراقدة في حِجر بيتي.
وقفتُ وراءهما متسائلة عمَّا إذا كانت بيتي قد تغيَّرَت، لكني كنت موقنة تمامًا أنها لم تتغير.
قلتُ: «هيا الآن يا أولاد. سنتأخر عن المدرسة.»
تجاهلاني تمامًا لدرجة أنني شعرت بأنني غير مرئية.
قالت بيتي: «سأحضرها إلى المدرسة معي. اسبقاني إلى هناك. وسألحق بكما مباشرة.»
بدَت مثلي جدًّا. كانت تمارس دور الأخت الكبرى. لكنهما أطاعاها كما لم يطيعاني قَط.
تراجَعَ الولدان ببطءٍ لئلَّا يفزعَا السُّمْنة، ثم رحلا راكضَين نحو أسفل التل، بينما كان كلٌّ منهما يُهسهس للآخر هَسْهسات ليس لها معنًى وهما يتسابقان.
هَمَمتُ باتباعهما، لكنَّ صوتًا ما أوقفني.
كانت أمي قد لَوَت أعناقَ الكثير من الدجاج وكسرتها من قبل، لكنها دائمًا كانت تفعل ذلك بسرعةٍ شديدةٍ لا تتيح للدجاجة وقتًا لإصدار صوتٍ أو إبداء مقاومة.
كان الصوتُ هذه المرَّة مختلفًا.
التفتُّ عندما سمعت صوتًا مبحوحًا خلفي. كانت بيتي قابضةً على السُّمْنة من رقبتها، فيما كان جسدها الضئيل المكتنز يتأرجح وهي تقاوم أصابع بيتي الملتفة حول رقبتها كالأنشوطة، وكانت مخالبها تتلوى وتتمدَّد، بينما كان جناحاها القصيران يضربان الهواء باهتياج مسعور دون جدوى.
صحتُ قائلة: «بيتي! أفلتيها. إنك تقتلينها!»
مددتُ يدي نحو السُّمْنة، وعندئذٍ اعتصرَت بيتي رقبتها بيدها ورفعتها عاليًا، بعيدًا عن متناولي، وهي تتراجع وتصعد فوق جذع الشجرة الساقط، بينما كانت تعبيرات وجهها جادة، وعيناها محدقتَين إلى وجهي دون أن ترمش.
صحتُ مجددًا: «أفلتيها!»
ولكن بينما مددتُ يدي بسرعةٍ لآخذ السُّمْنة، أحكمت قبضتها أشدَّ إحكامٍ ممكن، وحطَّمَت عنقها. سمعتُ صوت طقطقة العظام الرقيقة.
رَمت الكائنة المسكينة المرتخية عليَّ، فتراجعتُ مبتعدة، وعندئذٍ تعثَّرتُ في جذر شجرة على الممشى ووقعت على ظهري بقوة.
لا أعرفُ من أين أتى توبي حينئذٍ. ففي لحظة، كنتُ ممدَّدة على الممشى، وأنا أحاول بصعوبة أن أستعيد صوابي من الصدمة، وفي اللحظة التالية، كان واقفًا بيننا معطيًا ظهره لي ومزمجرًا، كأنه واحدٌ من كلاب المزرعة.
لا أعرف ماذا فعل. فأنا لم أستطِع رؤية بيتي إطلاقًا. بل توبي فقط. ولم أستطِع فَهْم كلمةٍ مما قاله لها. فأغلب ما سمعته كان ضجيجًا. ضجيجًا فظيعًا.
استدار وساعدني على النهوض دون أن يتفوَّه بأي صوت آخَر. لَمْلم جثة الطائر النافق. كانت تبدو صغيرة ومثالية في يده المتضررة من كثرة الندوب.
أخذَ نفَسًا وانتصبَ ثم اتجه إلى أعلى الممشى، وخرج من مُنخفَض «حفرة الذئاب».
كل ذلك قد حدث، بدءًا من ركض شقيقيَّ بعيدًا إلى أن تركنا توبي، في أقل من دقيقة.
استلقَت بيتي على ظهرها وسط الشجيرات، فاغِرة عينَيها وعلى شفتَيها شيء من الابتسامة.
قلت لها وأنا في أشد حالات الذهول: «لماذا فعلتِ ذلك؟ ما خطبك؟»
قالت وهي تكاد تُحدِّث نفسها: «لقد سرق طائري. وقال إنه سيجعلني أندم لو لمستك مجددًا.»
لم أفهم كيف يُمكن للمرء أن يشعر بالسرور في تلك الظروف، لكني سُررت. قليلًا فقط.
ربما وجدَتْ بيتي في توبي ندًّا قادرًا على مواجهتها.
قالت وهي تنهض على قدمَيها: «يا له من أحمق غبي!» نفضت ثوبها. وقد التصقَت بعض الأوراق بشَعرها.
كان واضحًا أنها لم تكُن تدرك أنها كانت مستلقيةً في حوضٍ من اللبلاب السام، ولم أكُن أعتزم إخبارها.
ولو كان الجحيم هو عقابي على أنني تمنيت آنذاك أن يحلَّ بها السوء، فليكُن ذلك إذَن.
قلتُ لها: «لستِ سوى شريرة. حتى النخاع.»
أضحكها هذا. وقالت: «جدتي علَّمَتني لَوْي عنق دجاجة وكسرها، وقد أكلناها كلها في تلك الليلة، مع بطاطس مهروسة وصلصة اللحم. لا شرَّ في ذلك. وإنْ كان فيه شر، فجدتي شريرة أيضًا، ومعها أمكِ نفسها.»
هززتُ رأسي. وقلت: «يوجد فارق بين هذا وذاك، وأنتِ تعرفين ذلك»، رغم أنني تساءلت في قرارة نفسي عمَّا إذا كانت تعرف حقًّا.
تركتُها غارقة في أفكارها وسط هذه الرقعة السامة، ودعوتُ الرب أن تستيقظ غدًا وهي مصابة بدمامل قرمزية وقشور صلبة. دعوت أن تُصاب بطفح جلدي يغطِّي وجهها ببثور وقشور جلدية. ودعوت أن تُصاب بندوب. أجل فعلتُ ذلك. دعوتُ أن تغطِّي الندوب يدَيها اللتين قتلتا طائرًا بريئًا غير مؤذٍ. ولم أندم على فعل ذلك.
•••
بحلول فترة الاستراحة بعد الظهر، كانت بيتي تحكُّ رقبتها. وعندما آنَ وقت مغادرة المدرسة، كان طفح جلدي قد ظهر على أحد خدَّيها. وعندما عُدت إلى المنزل في ذلك اليوم، وجدتُ أمي على مقربةٍ من المنزل عند حوضٍ منخفض من أعشاب البلسم التي نَمَت، حيث كان يوجد ينبوع متفجِّر من باطن الأرض.
ناديتُها من الزقاق قائلة: «ماذا تفعلين؟»
لوَّحَت إليَّ لأنضم إليها؛ ومن ثمَّ اتبعت الممشى متجاوزةً حديقة المطبخ وصولًا إلى حيث كان يوجد مجرًى مائيٌّ منحدر صغير قد انبثق من الينبوع.
ولو كانت الأجواء قد شهدت صقيعًا شديدًا بما يكفي لتجميد أعشاب البلسم، لأصبحت المنطقة المحيطة بالينبوع خاويةً من كل شيءٍ سوى الوحل، لكن معظم الأعشاب كانت ما تزال خضراء وحيَّة، وإنْ كانت طويلة السيقان وقليلة الأوراق. كانت الأجربة شبه الشفَّافة الحاملة للبذور التي نَمَت من أزهارها البرتقالية؛ قد تفجَّرت منذ فترة طويلة، ونثرت حمولتها، لكن بقيَتْ كميةٌ كافية من الأوراق.
كانت أمي قد قطفَت عددًا من السيقان المائية، وطوَتْها على نفسها واضعةً إياها في سلةٍ كبيرة، وبدأ تراكُم المزيد بين ذراعيَّ.
قالت: «سنحتاج إلى الكثير من ذلك. فبيتي جلينجاري قد وقعَت بطريقةٍ ما في رقعة من اللبلاب السام، وصار جسدها مغطًّى بالبثور.» هزَّت أمي رأسها. ثم أضافت: «كنت أظن أنَّ الجميع أكثر درايةً من أن يفعل ذلك، ولكن يبدو أنَّ بيتي لم تكُن تعرف اللبلاب السام من قبل. لقد صارت أدرى الآن.»
تمشَّت نملة صغيرة من إحدى الأوراق على يدي. فنفختُها بعيدًا. ثم قلت: «لماذا عليكِ فعل كل ذلك؟ أليس لديهم أيٌّ من أعشاب البلسم عند ينبوعهم؟»
توقفت أمي لترمقني بنظرة. ثم قالت: «السيد جلينجاري ذهب إلى أوهايو لمساعدة أخته للانتقال إلى منزل جديد. والسيدة جلينجاري مُصابة بعرق النسا. لا يمكن أن تتجول في الأحراج لجمع بعض الزهور في حين أن لدينا كمية وفيرة منها هنا بالضبط.» قطفَت كمية أخرى من الأعشاب ملء قبضتها وحشَرَتها بين ذراعيَّ. ثم أضافت: «لقد زارتنا لترى ما إنْ كان لدينا أيٌّ منها ما زال ينمو في هذا الوقت المتأخر من الموسم. وها نحن لدينا بالفعل. لذا سأعدُّ بعضًا من شراب البلسم. وأنتِ ستساعدينني.»
أردتُ إخبارها عن السُّمْنة، لكني لم أكُن أريد الحديث عن ذلك. شعرتُ بالغثيان عندما تذكرت صوت تلك العظام عند كسرها. وكنت أحتاج إلى بعض الوقت للتفكير في بقية ما حدث أيضًا، وما ينبغي فعله بعدئذٍ.
فكرتُ في السُّمْنة. فكرتُ في شقيقيَّ. تذكَّرتُ الصوتَ الذي أصدره توبي في غضبه.
قالت أمي: «حسنًا. من المفترض أن يكون هذا كافيًا وزيادة لفتاة واحدة.»
التقطَت سلَّتها وقادتني نحو أعلى التل في طريق العودة إلى المنزل.
وبدأنا معًا نُعد شرابًا مخمَّرًا لتهدئة الألم الذي دعوتُ أن يصيبها.
غلينا الماء في أكبر قِدر لدينا، ووضعنا فيها أعشاب البلسم، ساقًا واحدة تلو الأخرى. وفي لحظات، ذابت السيقان والأوراق الليِّنة وخضَّرت الماء، فملأت المطبخ برائحةٍ أشبَه برائحة السبانخ أثناء طهوها.
صاحت جدتي من الغرفة الخلفية التي كانت تأخذ فيها قيلولة قصيرة: «مَن الذي أُصيب بسُمِّ اللبلاب؟»
فصاحت أمي مجيبة: «بيتي جلينجاري. أُصيبت به إصابة بشعة.»
قالت جدتي بنبرة غير قاسية: «فتاة المدينة. ستصبح أوعى في المرَّة القادمة.»
ورغم الجزءِ الطيب من ذاتي، تمنيتُ أن تُصاب به مرَّة أخرى، وأن تكون تلك المرَّة بعد صقيع قاسٍ شديد.
عندما انتهينا من غلي كل الأعشاب، سكبنا الشراب المُستخلَص من النقع في أوعية زجاجية، وتركناه يبرد، ثم أغلقناها بأغطيتها، وكدَّسناها في السلة الكبيرة مجددًا.
قالت أمي: «من المفترض أن يفي هذا بالغرض. ارتدي معطفكِ. سنأخذ الشراب إلى هناك ونُحضر بعض ثمار البنجر إلى هنا في طريقنا ونحن عائداتان.»
فسألتُها: «هل من اللازم أن أذهب؟ يُمكنني البدء في إعداد العَشاء ريثما تذهبين وتعودين.»
قالت أمي وهي تجرُّ السلة إلى حجيرة المدخل: «لن نبقى هناك طويلًا. والآن اركضي خارجًا إلى الحظيرة وأحضِري جدَّك. فالمسافة أطول من أن نستطيع مشيها بكلِّ هذا الحمل الثقيل.»
كنتُ عازمةً على أن أظل في الشاحنة مع جدي ريثما تُسلِّم أمي الشراب. غير أننا حين توقَّفنا أمام بيت آل جلينجاري، وضعَتْ وعاءً في كلٍّ من يديَّ، ودفعتني باستعجال لأتقدَّمها نحو الباب. قالت: «لقد ساعدتِني في إعداد الدواء. ينبغي أن تعرف بيتي ذلك. ربما تصبحان صديقتَين.»
لم يكُن يوجد شيءٌ أستطيع الرد به على ذلك؛ لذا لم أقُل شيئًا.
عندما لبَّت السيدة جلينجاري طَرْقَتنا وفتحت الباب، كانت تبدو متضايقةً جدًّا على غير العادة. قالت: «يا إلهي، ادخلي يا سارة. ادخلي يا أنابِل. أنتما مَلاكَان. مَلاكان حقًّا. انتظرا ريثما تريان بيتي. رباه، إنها مريضة للغاية.»
وقد كانت كذلك بالفعل. لم أتفاجأ إطلاقًا عندما رأيتها. فأنا مَن دعوتُ أن تُصاب بالبثور. وقد استُجيبَ لدعائي.
كان جلدُ بيتي أحمرَ ومتورمًا للغاية في كل المواضع التي لمست اللبلاب السام، وكانت بعض البثور ضخمةً جدًّا لدرجة أنني استطعت أن أرى من خلال الجلد مدى عُمق تجمُّع السائل في الداخل. ذكَّرَني شكلها بضفدعة كبيرة تُصدر نقيقًا عميقًا وحلقها منتفخ كفقاعة.
كان من الصعب أن أنظر إليها. وكان من الأصعب ألا أنظر إليها. لم أرَ في حياتي أحدًا مُصابًا بسُمِّ اللبلاب كما كانت بيتي.
قالت أمي وهي تخلع معطفها وتضعه على الحافة السفلية من سرير بيتي: «رباه، حالتكِ حرِجة جدًّا. هلَّا تُحضرين بعض الخِرَق النظيفة يا مارجريت؟»
بينما كانت جدة بيتي تُحضر الخِرَق، مدَّت أمي ذراعَي بيتي وساقَيها برفق، ولَمَّت شَعرها بعيدًا عن وجهها. ثم قالت: «يا لكِ من مسكينة! من المؤكَّد أنكِ تشعرين بحكةٍ رهيبة.»
كانت بيتي تشاهد أمي وهي تفعل ذلك. قالت من بين أسنانها: «لا أهتم.» تنفَّسَت بأزيز. وأضافت: «إنه طفح جلدي غبي فحسب.»
هزَّت أمي رأسها. وقالت: «يا لكِ من فتاة شجاعة يا بيتي!»
قالت السيدة جلينجاري وهي تكوِّم الخِرَق فوق حافة السرير السفلية: «ها هي الخِرَق. ماذا أيضًا؟»
«أحضِري طَستًا. وأنتِ يا أنابل، أحضري إليَّ اثنين من هذه الأوعية.»
شكرًا للرب أنه حبانا بأعشاب البلسم. صحيحٌ أنها لا تتكدس فوق بعضها فتفرقُ البحر، ولا تحوِّل الماء إلى نبيذ على غرار المعجزات الأخرى، لكنها الشيء الوحيد الذي يُمكن أن يشفي بيتي.
سكبت أمي الشراب الدافئ في الطَّست، ونقعَت الخِرَق فيه، واعتصرتها حتى صارت تقطر فقط، ثم وضعَتها على جلد بيتي، فغطَّتها كلها عدا عينَيها، اللتين كانتا تتابعاني وأنا أتأمل أرجاء غرفة نومها.
كانت غرفتها شبيهة جدًّا بغرفتي. كانت تحوي سريرًا. ومنضدة صغيرة تحمل مصباحًا. وكرسيًّا في أحد أركانها. وخزانة ملابس كان بابها مفتوحًا بما يكفي لأرى أنها لم تكُن تحوي الكثير داخلها. كان لون حوائطها أبيض خالصًا. وأرضيتها خشبية عارية. وكانت صورة يسوع معلَّقة على أحد الحوائط. وكان ثمَّة حائط آخَر يحمل صورة لرجل وامرأة يرتديان ثيابًا جيدة؛ إذ كان الرجل يرتدي ربطة عنق فيما كانت المرأة تعتمر قبعة.
ولأنني كنت واقفة في غرفتها وهي عاجزة ممدَّدة على سريرها، مع وجود شخصَين كبيرَين معنا، أطلقتُ العنان لفضولي قليلًا. سألتُها قائلة: «هل هذان والداكِ يا بيتي؟»
لكن السيدة جلينجاري هي التي أجابتني. قالت: «أجل، هذا ابني، والد بيتي، لكنه …» سكتَت فجأةً. ونظرَت إلى أمي.
فقالت بيتي: «رحلَ»، قالتها بنفس الطريقة التي قد تقول بها أي كلمة عادية.
لم أكُن أعرف ما المقصود بكلمة «رحل».
قالت أمي: «لا بأس.» وسحبَت بطانيةً على جسد بيتي حتى ذقنها، وقامت من فوق السرير.
أدارت بيتي رأسها قليلًا، ورأتني أنظر إليها، ثم أشاحت بوجهها مجددًا، ولكن بعدما رأيتُ عينَيها. كانتا حمراوَين احمرارًا ينمُّ عن التهابهما. كانت الخِرَق الموضوعة على وجهها تقطر الشراب المستخلَص من نقع أعشاب البلسم داخل شعرها. وربما أشياء أخرى مع ذلك الشراب.
بالرغم من شدة خسة بيتي، شعرتُ بسرور مفاجئ لأنَّ بعض أعشاب البلسم كانت ما تزال موجودة في شهر نوفمبر المعتدل ذاك واستطعنا جمعها.
قالت أمي للسيدة جلينجاري وهي تسلِّمها الطَّست: «افعلي ذلك كل ساعة. لا تُبالغي في اعتصار الخِرَق فتصبح أجف مما ينبغي. يجب أن تكون جيدة ورطبة. ولا تتركي الفتاة تبرد.»
وعند الباب، توقَّفَت أمي وقالت بهدوء: «مارجريت، إذا تفاقم ذلك الأزيز الصادر من أنفاسها، فأعطيها بعض الشراب لتشربه، واستدعي الطبيب بنسون.»
«سأفعل ذلك يا سارة. شكرًا لكِ. شكرًا لكِ. وأنتِ أيضًا يا أنابِل. دائمًا ما تقول بيتي أشياء طيبة عنكِ. ربما يُمكنك أن تأتي وتلعبي معها حين تستعيد عافيتها.»
•••
كان الظلام قد حلَّ عندما وصلنا إلى حقل البنجر، لكننا عملنا على ضوء المصابيح الأمامية للشاحنة، وسرعان ما جمعنا من البنجر كمية كافية للعَشاء.
كنتُ مستعدة بكل سرور للبقاء وقتًا أطول في الحقل، ومواصلة أداء هذا العمل، قانعةً بحبَّات البنجر التي كانت تتدلى كمفاجأة دسمة من كلِّ عنقود أخضر كنت أقتلعه من الأرض.
صحيح أنَّ تلك الحبات لم تكُن تبدو شهية جدًّا. فقشرتها الخارجية كانت تحمل كتلًا من التراب الطيني المتجمِّع، وكانت مغطَّاة بشُعيرات من جذور رقيقة، وصلبة كالحجر. ولكنَّ لُبَّها الداخلي كان بمثابة ياقوت حلو متلهف للتسخين حتى الليونة.
كنت قد اشتقت إلى تلك الحياة.