الفصل السابع
أجدَتْ أعشاب البلسم نفعًا، لكن مفعولها كان بطيئًا بعض الشيء لأنَّ حالة بيتي كانت متدهورة جدًّا؛ لذا كنت سعيدة باليوم التالي. فقد مكثَت بيتي في المنزل تستعيد عافيتها. وكان آندي ما يزال في مكانٍ ما، لا يؤدي اعتبارًا لواجبات الصداقة وقت الشدة. فتحت السيدة تايلور نوافذ المبنى المدرسي لتسمح بدخول النسيم وزقزقة الطيور. وتعلمت شيئًا يُسمى صياغة الكلمات بالأصوات المعبِّرة عنها، لم أكُن قادرةً بعدُ على تهجئة هذا المصطلح، لكني كنت أمارسه في سرِّي خلال وقت ما بعد الظهر.
•••
وفي صباح اليوم التالي، عاد كلٌّ من بيتي وآندي إلى المدرسة.
كان جلد بيتي في وجهها ويدَيها ما يزال يبدو حسَّاسًا ومؤلمًا عند لمسه، ومحترِقًا قليلًا، لكنه تحسَّن جدًّا لدرجة أنني لم أكَد أصدِّق أنها تعرَّضَت للتسمم من اللبلاب منذ وقتٍ قريب جدًّا. بالرغم من ذلك، كانت ترتدي أكمامًا طويلة وبنطالًا طويلًا، وكانت تتحرك بشيء من الحذر وهي آتية إلى أسفل الممشى وداخل فناء المدرسة.
كنت أشاهدها من درج المبنى المدرسي، الذي كنت جالسةً عليه في ضوء الشمس مع روث وبعض الفتيات الأخريات، ريثما تستدعينا السيدة تايلور إلى الداخل.
قالت إحدى الفتيات: «مرحبًا يا بيتي.»
توقفت بيتي، ثم اقتربت حاملة دلو غدائها في يدها اليُسرى. نظرت إليَّ مباشرة، ورفعت يدها اليمنى، وأغلقتها مُحكِمة قبضتها ببطء.
قالت مبتسمة: «مرحبًا يا أنابل.»
لم أكُن أتوقع أي شكرٍ منها على مساعدتي لها في التعافي. لكني أيضًا لم أتوقع ذلك. كم كنت غبية!
سألتها: «لماذا أنتِ وضيعة جدًّا؟» وكنت أشعر بالفضول حقًّا. كنت راغبةً فعلًا في معرفة السبب.
قالت: «أنا أكبر سنًّا منكِ فقط، هذا كل ما في الأمر. ستتعلمين أنتِ أيضًا تدبُّر شئونك بنفسك. إذا لم تكوني غبيةً جدًّا، مع أنكِ كذلك على الأرجح.»
لكني لم أكُن كذلك. لم أكُن غبية ولا أصغر سنًّا من أن أعرف الوضاعة.
نادتنا السيدة تايلور: «هيا ادخلن.»
ظلَّت بيتي منتظرةً في الخارج وحدها، بينما دخلتُ مع بقية الفتيات.
وعندما خرجتُ أخيرًا، بعد ذلك بنحو ساعة، كان آندي معها.
كان يبدو عليه اسمرارٌ حديثٌ من أثر الشمس، وكانت ثيابه نظيفة. وكانت بيتي، بالرغم من بنطالها، تبدو مُفعَمة بالأنوثة وهي بجواره.
قالت السيدة تايلور لآندي: «أنا سعيدة جدًّا لأنك انضممت إلينا أخيرًا.» وقالت لبيتي: «أرجو أن تكون حالتكِ قد تحسنت.»
جلسا في مقعدَيهما، واستُؤنف شرح الدرس على السبورة، وانقضى باقي الصباح في هدوء تام.
نام آندي خلال شوطٍ طويلٍ منه. وبينما كان نائمًا، كانت بيتي تتأمَّله متجاهلةً شرح السيدة تايلور، فيما كان الكتاب الموضوع على مكتبها مقفلًا. وعندما استيقظ، ابتسمَت بيتي وشدَّت كمَّه. فالتفت إليها وابتسم ابتسامةً عريضةً متثائبًا، وانتصب في جلسته.
فكَّرتُ في أن أطلب من السيدة تايلور أن تسمح لي بتبديل المقاعد مع طالب آخَر؛ بحيث لا أكون مضطرة إلى مشاهدة هذا الهراء. لكني لم أكُن أريد التخلي عن روث، وكذلك كنت أبدو غير مرئية لبيتي ما دام آندي قريبًا منها. لذا لم أكُن أريد فعل أي شيء لتغيير ذلك.
لم أكُن أريد المزيد من الكدمات والتهديدات، وطيور السُّمَّان النافقة المسكينة.
لم أكُن أريد أي تعاملٍ مع أي فتاةٍ تستطيع أن تُحكِم قبضتها حول رقبة طائر، وهي تبتسم.
كنت أريد أن تعود بيتي إلى المكان الذي أتَت منه.
كنت أريد أن أعيد عقارب الساعة إلى حيث كانت قبل مجيئها. كنت أريد أن ألغي ما حدث منذ وصولها. أن أنسى. أن أستعيد ذاتي القديمة، حين كنت إنسانةً لا تدعو أبدًا أن يُصاب أحد بالبثور. إنسانة لم تفكِّر حتى في فعل ذلك قط.
ولكن إذا كان كلُّ ما أستطيع الحصول عليه هو استراحة قصيرة من انشغالها بي، فسأغتنم ذلك، وبكل سرور. لقد جذبها آندي إليه، بعيدًا عني، وكان عليَّ أن أقنَع بذلك.
•••
كانت فترة الاستراحة لنا تقتصر على الانتشار خارجًا، في الأرض الخالية حول المدرسة مرتَين يوميًّا، لنلعب نطَّ الحبل أو الحَجْلة، أو لنزرع بعض الشُّوفان إن لم نلعب. لم يكُن مسموحًا لنا أن نقترب من الطريق الذي يؤدي إلى ما بعد مبنى المدرسة، وذلك عَبْر المُنخفَض حيث ينتهي عنده أحد التلال، ويبدأ تلٌّ آخَر. لم نكُن نعبأ في العادة بالسيارات التي كانت تمرُّ بنا من وقتٍ إلى آخَر، لكني كنت كلما سمعت مجموعة من الخيول تمشي متثاقلة وهي تجرُّ عربة قش أو عربة نقل مسطحة، توقفتُ عما أفعله لأتمشى بجوارها قليلًا وأنا أثرثر مع المزارعين أو الخيول، وأحيانًا كنت آخذُ إليهم دلوًا من مياه البئر إذا توقفوا للاستراحة في يوم حارٍّ بعد الظهر.
وفي ذلك اليوم، كان حصانا السيد فاس الرماديان قادمَين نحونا ببطء على الطريق، وهما يجرُّان عربةً مليئةً بالتفاح المكتنز في سلالٍ تتراوح سعتها بين أربعة كيلوجرامات وستة عشر كيلوجرامًا، وكان السيد فاس يقودهما ذاهبًا بهما في طريقه إلى السوق.
كان السيد فاس ودودًا ولطيفًا جدًّا لدرجة أنه دائمًا كان يطلب منا أن نناديه بالسيد أنسل، فكنا نفعل ذلك، لكن أمي صفعت هنري خلف أذنه ذات مرَّة حين ناداه باسم أنسل دون كلمة «سيد».
ناديته من درج المبنى المدرسي؛ حيث كنت ألعب مع روث لعبة تشكيل أشكال مختلفة بالشرائط البلاستيكية المرِنة بين أصابعنا: «مرحبًا يا سيد أنسل.» وعندئذٍ شد لجام حصانَيه فجعلهما أبطأ ممَّا هما بطيئان أصلًا، ولوَّح لنا بردِّ التحية. نطق «صباح الخير» بحروف غير سليمة؛ فقد ظلَّت لَكْنته ألمانية رغم كل السنين الكثيرة التي عاشها في تلك التلال.
«وكيف حالك يا أنابل الصغيرة، وأنتِ يا روث الأصغر، في مثل هذا الصباح الجميل؟» كان يرتدي حلَّة عمل كاملة مكوَّنة من قطعةٍ واحدة، وكانت نظيفة كثياب أيام الأحد ومفرودة بإتقان كأنها سطح صلب أملس، وكان يعتمر قبعة منظَّفة جيدًا بالفرشاة، وينتعل حذاءً طويل الرقبة لامعًا، كتفاحه الذي كان يتلألأ في ضوء الشمس، كما لو كان حاملًا إياه إلى صائغٍ ليُرصِّع به بعض الحُليِّ.
قلتُ: «على ما يُرام.» دبدب حصاناه قليلًا، متلهفَين للذهاب، لكني أسندتُ جبهتي لحظةً إلى أقرب خاصرة وربتُّ عليها براحتَي يدي. وأضفتُ: «ليتني أذهب إلى السوق معك ومع هذين الصغيرين الحلوين. إنهما لطيفان جدًّا.»
أمَّا روث، التي كان شَعرها الداكن مربوطًا في ضفيرة مُحكَمة، وكانت ترتدي تنورةً مستقيمةً أنيقة، فلم تقترب، وظلَّت بعيدةً عن حوافر الحصانَين وأسنانهما الصفراء الكبيرة. كان والدها محاسبًا. وكان الحيوان الوحيد في منزل روث قطة مرقطة.
لاحقًا، سيتساءل الجميع عمَّا فعلَته روث لتستحق ما حدث لها في اللحظة التالية.
فالحَجَرُ الذي أصابَ روث في عينها مباشرةً كان أصغر من أن يصدَّه حاجبُها، وكان كبيرًا لدرجة أنه طرحها أرضًا على ظهرها وألحقَ بعينها جُرحًا بالغًا. كان كلُّ ذلك واضحًا حتى لي وأنا أشاهد الدم يسيل على خدها.
لقد صُعِقت روث كما يُصعَق طائرٌ اصطدم بنافذة تنعكس عليها صورة السماء وكأنها امتدادٌ لها. كانت راقدة بلا حراك، لكنَّ يدَيها وقدمَيها كانت ترتعش بقوة في الغبار الذي هبَّ متصاعدًا بفعلِ سقوطها.
عرفتُ عندما قفز السيد أنسل من مقعد العربة وجثا على ركبتَيه بجوار روث.
عرفتُ عندما صار فناء المدرسة يعجُّ بالصياح والفوضى.
عرفتُ عندما أتت السيدة تايلور إلى الطريق راكضة، ورأت وجه روث، وذهبَت مجددًا بسرعة لإحضار سيارتها.
عرفتُ عندما استفاقت روث من ذهولها وبدأت تصرخ. عندما حملها السيد أنسل إلى المقعد الخلفي في سيارة السيدة تايلور التي كانت من طراز «فورد»، ووقف كلانا بعيدًا بينما انطلقت بسيارتها على الطريق وذهبت بعيدًا بسرعة، والغبار يتصاعد من خلفها.
قال السيد أنسل لي: «سأذهب بأقصى سرعة وأخبر والديها.»
كان معطفه النظيف للغاية ملطَّخًا ببقعة دم.
صعدَ إلى العربة والتقط الزمام بسرعة. وانطلق حصاناه، اللذان كانا مستاءَين أصلًا، مهرولَين.
تناثر بعض التفاح على الطريق خلف العربة، فكان بمثابة ذيلٍ طويل متدحرج لم ينتهِ حتى انحنى الطريق بعيدًا.
هبطت ذبابة على قطرات دم روث المتناثرة على الأرض، ورأيتُها تشرب منه.
كان الأطفال الآخَرون ما يزالون مُصطفِّين بطول الطريق. صامتين تمامًا.
جاء هنري وجيمس ليقفا معي. وقال لي هنري، الذي لم يكُن يفعل ما أقوله له قَط: «ماذا علينا أن نفعل؟»
كنا كلنا أطفالًا في تلك اللحظة بعد ذهاب السيدة تايلور. وحتى الأولاد الأكبر سنًّا، الذين كانوا متجمعين خلف البقية، بدوا صغار الحجم. لم أرَ آندي. ولم أرَ بيتي. كنتُ سعيدة آنذاك بعدم وجودهما هناك.
كان هذا كل ما خطر ببالي عنهما حينئذٍ.
قلت: «هنري، اركض إلى المنزل وأحضر شخصًا ما.»
صحيحٌ أن منزلنا لم يكُن الأقرب، لكنه المكان الذي توجد فيه أمي.
وعندما رحل هنري، تبعه جيمس، ولم أنادِهِ ليبقى؛ فهو لم يكُن ليُفيدني بأي حال من الأحوال.
بعد ذلك، أحضرت دلو ماء من البئر، وسكبته على الدم المُراق في الشارع، ودخلتُ لأنتظر.
أتى بعض الأطفال الآخَرون. لَمْلمَ معظم الأطفال أغراضهم وذهبوا إلى منازلهم. كان الأطفال الأصغر جالسين إلى مكاتبهم وقد عقدوا أذرعهم، ريثما يأتي شخصٌ ما ويأخذهم إلى منازلهم. بينما جلست أنا على مكتبي، الذي كان أوسَع بكثير؛ لأنَّ روث لم تكُن موجودة، وأسندتُ رأسي إليه وبكيتُ.
•••
كنتُ أنتظر على درج المبنى المدرسي عندما جاء والداي في شاحنتنا القديمة، وتوقَّفا بجوار الوادي الصغير قُرب المبنى.
قرَّباني إليهما لحظة، ثم ذهبت أمي إلى الأطفال الآخَرين.
انحنى والدي لينظر إليَّ في عيني. وسألني: «ماذا حدث يا أنابل؟»
كنت قد توقفتُ عن البكاء لكنَّ دموعي الباقية كانت كثيرة؛ ولذا أوشكت في تلك اللحظة أن أبكي مجددًا.
قلت: «لا أعرف.» ثم أضفت وأنا ألتفتُ لأشير إلى مكان الحادثة: «كنت واقفة هناك بالضبط أتحدث إلى السيد أنسل. كانت روث خلفي بقليل، خائفةً من الحصانَين.» وأردفتُ واضعةً إصبعي على جفني الأيسر: «وأصابها حَجرٌ هنا بالضبط. فسقطَت واصطحبتها السيدة تايلور في سيارتها.»
انتصبَ والدي وتجاوزني بعينَيه أنا والشاحنة ناظرًا إلى الطريق، والتلة المرتفعة من خلفه. وقال: «أريني.»
فالتففتُ من حول الشاحنة ووصلت إلى الطريق. كان ما يزال يحمل بقعة رطبة حيث غسلتُ دماء روث.
قلت: «هنا. هذا هو المكان الذي كانت روث واقفة فيه.»
«في مواجهة التلة؟ وكان السيد أنسل متجهًا إلى أسفل المُنخفَض؟»
«أجل، إلى السوق. انظر، التفاح هناك، سقط من شدة سرعته وهو ذاهب إلى أم روث ليخبرها. أجل، كانت واقفة هناك.» أضفتُ وأنا أتجه إلى حيثُ كنتُ واقفة: «وأنا كنتُ هنا. والحصانان كانا أمامي مباشرة، والعربة والسيد أنسل كانا هنا.» أشرت بيدي وأنا أحاول رسم شكل عربة على الهواء.
«إذَن، فقد أتى الحَجَرُ من جوار التلة هناك؟»
رفعتُ عيني ناظرةً إلى التلة المواجهة. كانت منحدرة، وكانت تعج بالأشجار والشجيرات التي ضربت جذورها في كل الأماكن الممكنة، فيما كانت حواف صخور الأردواز منتشرة في كل أنحائها، وكان الوادي الصغير الواقع أسفلها مليئًا بالحَصى المتساقط.
«لا بد أن يكون كذلك، على حد ظني، لأن هذا هو المكان الذي كانت روث مُواجِهة له.»
وقف والدي واضعًا يدَيه على فخذَيه متأملًا جانب التلة المنحدر. ثم قال: «إذَن، فالعربة والحصانان وأنتِ؛ كلكم كنتم بين روث والتلة.»
أومأتُ قائلة: «هذا صحيح.»
قال مفكِّرًا: «أي إنَّ الحجر لا يُمكن أن يكون قد انفصل، وسقط تلقائيًّا من المنحدر، وارتدَّ من الوادي الصغير، وإلَّا اصطدم بالحصانَين أو العربة قبل أن يصيب روث. لا بد أنه قد جاءَ من مكان أعلى ليتجاوزكم جميعًا ويصيبها.»
لم يكُن ذلك سؤالًا؛ ولذا لم أرد.
وعلى حد علمي، لم يتسلق أحد تلك التلة في فترة الاستراحة، مع أنَّ الأولاد أحيانًا كانوا يلعبون لعبة «ملك الجبل» عند انتهاء اليوم الدراسي، وكانوا يُمسكون بالأغصان وهُم يتسلَّقون، ويستندون بأقدامهم إلى مواطئ على حواف الصخر، وبطولِ جذوع الأشجار. ونتيجةً لهذا؛ فإنَّ حركة الأرانب والغزلان والأولاد على التلة قد خلقت مساراتٍ متعرِّجة، تُبين أسهل الطرق لصعود التلة والنزول منها.
«وهل رأيتِ أي أحد في الأعلى هناك عند حدوث ذلك؟»
أومأتُ برأسي بالنفي. وقلتُ: «كنت أنظر إلى الحصانَين والسيد أنسل. وبعد ذلك كنت أنظر إلى روث.» وعندئذٍ بدأت شفتاي ترتجفان.
قال والدي واضعًا يده على رأسي: «حسنًا يا أنابل. لا بأس. لسنا مضطرين إلى الحديث عن ذلك الآن.» لكنه التفت ونظر إلى أعلى التلة مجددًا، وعرفتُ أنَّ المسألة لم تنتهِ عند ذلك الحد.