الفصل الثاني

سلطة المحاربين الأوائل

اجتاحت قوات ميناموتو يوريتومو اليابان من شرقها إلى غربها، وهزمت جيوش عائلات تايرا في عام ١١٨٥. وبمساعدة النبلاء الذين وُلدوا في كيوتو والحلفاء من المحاربين، أنشأ يوريتومو نظامًا للمحاربين استمر حتى عام ١٣٣٣، عندما دمرت عدة عشائر بارزة من المحاربين نظام كاماكورا نُصرةً للإمبراطور. تحرك رجال بارزون في الشوجونية، وعلى رأسهم يوريتومو، تلَته سلسلة من الأوصياء الذين حكموا نيابةً عن قادة ضعفاء كان يُطلَق عليهم اسم الشوجونات، بفرض سيطرتهم على اليابان على حساب النبلاء. ومن ثم، تتمحور القصة النموذجية لأول نظام للمحاربين في اليابان حول تأسيس الشوجونية، وكيفية تحوُّلها إلى مركز ﻟ «نظام المحاربين» المزعوم. كان النظام يركِّز على الرجال الذين أداروا الأملاك، وأنشَئوا المحاكم القانونية البدائية، ولديهم علاقات مع النبلاء، كأرباب عمل أو حلفاء أو أعداء. في الثقافة الشعبية، يرتدي هؤلاء الرجال في الغالب الدروع في ساحات المعارك، ولا يتوقفون عن القتال. أما في الواقع، فكان الوقت الذي يقضونه في القتال أقل مما تجعلنا الأفلام والمانجا (الروايات اليابانية المرسومة) نعتقد. إن أفضلَ من يمكنه قصُّ تاريخ المحاربين الأوائل كاملًا النساءُ. كان لجميع أُسر المحاربين التزاماتٌ عسكرية، ولكن كانت تلك التزامات تُنظَّم بواسطة أفراد الأسر على نطاق واسع؛ كانت العشائر الكبيرة تضم نساءً، وعبيدًا، وخدمًا يؤدون الواجبات العادية والمعقدة. وتضمنت تلك الالتزامات العسكرية توفير الطعام والملبس والأعمال اليدوية، ولم تكن تقتصر على القتال في ساحات المعارك.

fig1
شكل ٢-١: تظهر توموي جوزين مرتديةً درعًا، رُسمت في صورة مقاتلة بدلًا من زوجة هادئة. ويصفها الرسام بأنها «تتحكم في رمحها مثلما تتحكم في الساقية».

علاوةً على ما سبق، كان استمرار أيٍّ من عائلات المحاربين يعتمد على مدى كفاءتها في إدارة ثروتها، وسلاسة علاقاتها مع حلفائها، وجودة علاقاتها بالأرستقراطيين غير المحاربين، لا سيما بالنسبة إلى عائلات المحاربين النخبة. هيمنَ الرجال على هذه الأعمال، ولكن كان يصعب أن تنجح في أدائها من دون مشاركة النساء. كان الرجال يتزوجون النساء لاستخدامهن كوسائل لتقوية التحالفات بين عائلات النخبة. ولكن كانت النساء تحتفظ بأي ممتلكات تُعطى لهن أثناء فترة الزواج، ويواصلن الإقامة في ممتلكات أُسرهن، أو في منازلهن الخاصة، بشكل منفصل عن أزواجهن غالبًا، ما جعلهن أكثر استقلالية من نظيراتهن من أفراد الساموراي في العصور اللاحقة. كما امتلكت زوجات المحاربين تأثيرًا هائلًا على مكانة عائلاتهن في المجتمع. على سبيل المثال، كن يتصرفن نيابةً عن أزواجهن المُتوفَّين أو الغائبين، وكان يحق للأرامل أن يتولَّين التزامات عشائرهن العسكرية.

في واقع الأمر، لم تكن شوجونية كاماكورا لتستمر دون النساء. فعادةُ الأرستقراطيين في كيوتو بتكليف المربيات وعائلاتهن بإعداد أطفالهم للمستقبل؛ قدَّمَت ليوريتومو شبكة واسعة من العلاقات مع المحاربين وغير المحاربين كانت ضرورية لنجاحه. وبما أن العديد من أقارب يوريتومو الذكور قُتلوا، فقد اعتمد على النساء اللاتي ساعدن في تربيته وهو طفل. فقد أمددنه بالثروة، وحلفاء ذكور منذ صغره، ومعلومات من داخل العاصمة كيوتو. كانت والدته سليلة عشيرة فوجيوارا، العائلة النبيلة الأكثر قوةً قبل القرن الثالث عشر. ضمنت مكانتُها ليوريتومو منزلةً عالية داخل عشيرة ميناموتو؛ لأن سائر زوجات والده كن من عائلات نبيلة أقل منزلة. وعندما هزم كيوموري عشيرة ميناموتو، يُشاع أنه أبقى على حياة يوريتومو لأن زوجة أبي كيوموري تدخلت نيابةً عنه، فنفى يوريتومو إلى مقاطعة إيزو في الشرق، بعيدًا عن مركز الثروة والقوة في كيوتو. نشأ يوريتومو هناك تحت رقابة هوجو توكيماسا، رئيس عائلة صغيرة مجهولة، تمتُّ بصلة بعيدة إلى عائلة تايرا، والذي كان يبلغ من العمر ٢٢ عامًا فقط. وكما هي الحال مع نبلاء كيوتو الآخرين، ترعرع يوريتومو في حياة منعَّمة، ولا بد أنه صُدم عندما انتقل إلى العيش في منطقة ريفية جدًّا وهو في سن المراهقة.

اعتنقت عائلات المحاربين النخبة، مثل «عائلة ميناموتو»، نموذج الزواج وتربية الأطفال الذي يتمحور حول النساء. في ثقافة نبلاء كيوتو، كانت المربيات والمرضعات ينحدرن من عائلات نبيلة صغيرة، وكان الصبية الذين وُضعوا تحت رعايتهن يلعبون ويتعلمون مع أطفال هؤلاء النسوة. ولأن هؤلاء الصبية نشَئوا معًا منذ نعومة أظافرهم، فإنهم غالبًا ما كانوا يصحبون حلفاء موثوقين عندما يكبرون، بغضِّ النظر عن فروقات المكانة الاجتماعية ضمن هرم النبالة. ضمنت النساء النبيلات اللاتي ربَّين يوريتومو طفلًا أن يحيا حياة لائقة في إيزو حتى سن البلوغ.

على سبيل المثال، ظلت إحدى مرضعات يوريتومو، الراهبة هيكي، ترسل له الأرز باستمرار، وهو مظهر من مظاهر الثراء. كانت هي من تدير شئون عائلتها بعد وفاة زوجها، وأصبح الوريث الذي تبنَّته، هيكي يوشيكازو، أحد أوثق حلفاء يوريتومو، وأحد أهم مستشاري الشوجونية بعد وفاة يوريتومو. وبالمثل، أصبح زوج ابنتها، أداشي موريناجا، مستشارًا موثوقًا ليوريتومو، وقدمت عشيرته الدعم الاقتصادي الذي كان يوريتومو بحاجة ماسَّة إليه. بل إن ابنة هيكي عملت مرضعة لابن يوريتومو، الشوجون الثاني ميناموتو يوري. وتوسطت مرضعة ثالثة بين يوريتومو وحفيدها، ميوشي ياسونوبو، الذي خدم يوريتومو في وظيفة مكتبية لا وظيفة عسكرية. في الواقع، كان الذَّكر الوحيد القريب الأكبر سنًّا الذي أمكن يوريتومو أن يعتمد عليه أثناء وجوده في إيزو هو خاله، الراهب البوذي يوهان، الذي كان يرسل خادمًا إلى إيزو مرة واحدة كل شهر حاملًا أخبار كيوتو إلى يوريتومو.

لم يكن مقدرًا ليوريتومو أن يكون عظيمًا، بالرغم من أن المحاربين في القرون اللاحقة مجَّدوه. فقد قضى معظم حياته في الخفاء منذ بلوغه. وظل على هذه الحال حتى بلغ الثلاثينيات من عمره، أي منتصف العمر بالنسبة إلى تلك الفترة، ثم هاجم عشيرة تايرا وبدأ بإنشاء شوجونية كاماكورا، ولكن لم يعش حتى يرى اكتمال تلك المؤسسة. ساهمت خلفيته، والمناصرون له، والبيئة السياسية والاقتصادية لعائلات الشرق في نجاحه في توسعة سلطات المحاربين، وهي العملية التي استمرت طويلًا حتى بعد وفاته.

نبعت قدرة يوريتومو على جمع الحلفاء حوله من استغلاله مخاوفهم الاقتصادية. لم تكن عائلات المحاربين تمتلك أراضي خاصة بها، ولكنها كانت تستطيع استغلال الأراضي ومواردها، بشرية كانت أو مادية، من خلال أداء مختلف الواجبات الإدارية والشرطية التي منحهم إياها أصحاب الأراضي الغائبون. لم يكن المحاربون يملكون القدرة على تعيين أو نقل تلك الواجبات، ولم يكن للمحاربين أن يأملوا في الارتقاء إلى الطبقات العليا من النبلاء التي ستجعلهم ملَّاك الأراضي. فعلى سبيل المثال، لم يكن باستطاعة تايرا كيوموري أن يكون مالكًا للأراضي، وكل ما استطاع فعله هو أنه عيَّن نفسه حاميًا وحاكمًا للأراضي. وكان عليه أن يقلِّد ما فعله نبلاء سابقون عن طريق محاكاة ما فعلَته عائلة فوجيوارا، بأن توَّج أحد أحفاده إمبراطورًا.

بالإضافة إلى انعدام الأمان الاقتصادي، كانت ثمة تهديدات إقليمية من الخصوم المجاورين أو أفراد العائلة الذين قد يأخذون الأراضي أو الألقاب عنوةً. ولكن أكبر تهديد كان ينبع من داخل عشيرة المحارب، على العكس من المتوقع. لم يكن مفهوم البِكرية (الابن الأكبر يرث كل شيء) مطبقًا، فكانت وفاة زعيم العشيرة تؤدي إلى صراعات فورية بين الأقارب والأعمام، والأبناء من نساء مختلفات عشن بشكل منفصل عن أزواجهن. بالنسبة إلى النبلاء المحاربين ذوي المنازل الدنيا، أو العشائر التي لم تكن مقراتها تقع في كيوتو أو حولها، كانت عائلة الأم هي من تربِّي الأبناء، ومن ثم تدخل عائلةُ الزوجة صراعَ السيطرة على الثروة والنفوذ.

عندما دعا ولي العهد الإمبراطوري، موتشيهيتو، الناس لعزل كيوموري من منصبه، أخذ الذين استجابوا لدعوته في الحسبان السياسات الداخلية للعشيرة، والعلاقات مع النبلاء في كيوتو، والخصومات الداخلية عند اتخاذ القرار بما إذا كانوا سيتصرفون، وكيف سيتصرفون. قضى يوريتومو الكثير من وقته في قتال الأقارب والعشائر ذات التحالفات القديمة مع ميناموتو خلال المراحل الأولى من حرب جيمبيه. فمنذ بداية الحرب، تحرك رجال ميناموتو الآخرون — على غرار يوريماسا الذي هُزم في عام ١١٨٠، وابن عم يوريتومو، يوشيناكا، الذي تحرك أيضًا ضد كيوموري — لمنافسة يوريتومو في مساعيه. جمع يوريتومو حوله المحاربين الذين ضمن ولاءهم عبر وعوده لهم بمنحهم الألقاب وامتلاك الأراضي، ومبررات لمهاجمة خصومهم المحليين. كما قدَّم بديلًا عن السلطة المركزية في كيوتو لمن يعيشون في الشرق. في واقع الأمر، بمجرد أن أوقعت قوات تايرا الأمير موتشيهيتو في الأسر ثم قتلته، أعلن البلاط الملكي، الذي كان واقعًا تحت سيطرة عائلة تايرا، أن يوريتومو متمرد. وبالتالي، على النقيض من كيوموري الذي ظل طوال مسيرته تابعًا للحكومة الإمبراطورية، كان يوريتومو لديه القدرة على مصادرة الأراضي من أعدائه بدلًا من تسليمها للإمبراطور.

لم تَسِر حرب جيمبيه طبقًا للمتوقع، فقد مات بطلها الأول موتشيهيتو، وعدوه كيوموري، في عامَي ١١٨٠ و١١٨١ على الترتيب. حاصر ميناموتو موتشيهيتو وأنصاره وقتلهم، بينما مات كيوموري بسبب حمَّى شديدة، حتى إن النسخة الأدبية للأحداث في «قصة هيكي» وصفتها بأنها كانت ناجمة عن حراس الجحيم ونيرانها، التي جاءت لتأخذه.

كان يوريتومو مشغولًا بقتال الأعداء المحليين والمنافسين، وبناء مقر وحكومة في كاماكورا حتى عام ١١٨٤، عندما حشد جيوشه في اتجاه كيوتو. في عام ١١٨٥، طارد أخوه غير الشقيق يوشيتسوني عشيرة تايرا أثناء انسحابهم نحو جنوب كيوتو. كان يوشيتسوني، وليس يوريتومو، هو من قاد المعارك الأكثر روعة، بما في ذلك المعركة النهائية على طول ساحل بحر دان نو أورا، في مكان بعيد يقع جنوب غرب كيوتو وكاماكورا. دمرت قوات ميناموتو فلول عشيرة تايرا، بينما قفزت النساء النبيلات من عشيرة تايرا في بحر دان نو أورا وغرقن، وكانت واحدة منهن لا تزال تحتضن الإمبراطور الطفل أنتوكو حفيد كيوموري. كانت هزيمة محاربي تايرا والنساء النبيلات والخدم مأساوية للغاية، حتى إن الأسطورة المحلية تدَّعي أن أرواح محاربي عشيرة تايرا طبعت نفسها على قشور السرطانات الصغيرة.

لا يمكن الحط من أهمية حرب جيمبيه في تاريخ المحاربين اليابانيين، وحصرها في قائمة تضم المنهزمين والمنتصرين، أو المكاسب والخسائر. لم يكن لدى الإمبراطور خيار سوى الاعتراف بأن يوريتومو هو المحارب المهيمن في اليابان، ما جعله «قائد» (شوجو) جميع مقاطعات اليابان. وأعاد ليوريتومو رتبته في القصر، وألغى إعلانه بأنه متمرد، وأقر بحقه في تعيين المحاربين مديرين للممتلكات في جميع أنحاء اليابان. ولكن المحاربين لم يسيطروا على اليابان، حتى يوريتومو نفسه كان يتوق إلى الحصول على رتبة نبالة من القصر والاعتراف من كيوتو. ظهر يوريتومو في اللوحة التي تحمل صورته مرتديًا ملابس الأرستقراطيين، وليس محاربًا يرتدي زي القتال. غرست الحرب شعورًا بالقلق في نفوس طبقة النخبة كاملة، ويشمل ذلك النبلاء في كيوتو، وأعضاء المؤسسات الدينية، والمحاربين، ويوريتومو وحلفاءه، والعائلات المحلية البارزة. لم يعد المحاربون «يخدمون» النبلاء في كيوتو فحسب، بل أصبحوا يتدخلون في صلاحيات الحكم في كيوتو، وهي عملية لم يتمكن أحد، حتى يوريتومو، من السيطرة عليها تمامًا.

fig2
شكل ٢-٢: تروي أسطورة شعبية كيف تحول محاربو عشيرة تايرا المهزومون إلى سرطانات مثل تلك التي تعيش في البحار المحيطة بجنوب غرب اليابان. يُقال إن السرطانات تجسد أرواح المحاربين الغاضبين الميتين، لا سيما أولئك الذين قُتلوا في المعركة البحرية الحاسمة في البحر على طول ساحل دان نو أورا، والتي أنهت حرب جيمبيه (١١٨٠–١١٨٥).

كاماكورا مقر يوريتومو

أصبحت كاماكورا — وهي قرية متواضعة تنتمي أصول ميناموتو لها — مركزًا للسلطة خلال ثمانينيات القرن الثاني عشر. كان يُطلَق عليها «قصر أوكورا» في ذلك الوقت، وكانت مركز ما أصبح يُشار إليه الآن بشوجونية كاماكورا، أول نظام محاربين في اليابان. وفي جميع أنحاء اليابان، أعلن المحاربون الذين أرادوا الاستفادة من نجاح يوريتومو أنهم أيضًا كانوا تابعيه، وكان يُطلَق عليهم «خدم» (جوكينين)، في محاولة منهم لإضفاء صبغة شرعية على مخططاتهم المحلية. تسلمت مكاتب الشوجونية، التي كان يديرها نبلاء أقل منزلة من كيوتو ورهبان ومحاربون، طلبات للحصول على تبعيتها، وحاولت التحكيم في دعاوى قضائية ضد المحاربين من قِبَل محاربين آخرين وأشخاص ليسوا محاربين.

إن ما جعل تأسيس الشوجونية لحظة فارقة هو أنها غيَّرت إلى الأبد من أساليب تعامل مجموعات المحاربين فيما بينها. صحيح أن هذا التغيير اقتصر على من يعيشون في مدينة كاماكورا نفسها، وأغلبهم كانوا من أتباع يوريتومو وموظفي الشوجونية، لكنه وفر للمحاربين فرصًا لأن يلتقوا يوميًّا. قبل القرن الثاني عشر، كان معظم المحاربين يتعاملون مع أفراد العائلة والخدم والأتباع الذين ربما كانوا يخدمونهم فقط، ونادرًا ما كان يلتقي المحاربون من العشائر التي لا توجد بينها علاقات، باستثناء أعمال الحراسة العرَضية في كيوتو أو الحملات العسكرية. بعبارة أخرى، أصبحت الشوجونية، وخاصة قصر يوريتومو نفسه، مكانًا حيث تطوَّر المحاربون ليصبحوا جماعة اجتماعية، جماعة حصرية. كان أغلب هؤلاء المحاربين على صلة مباشرة بيوريتومو. وعمل القصر كمكان للاجتماعات الرسمية والمناسبات الاجتماعية. كما أصبح مكانًا لتعزيز الروابط بين عائلات المحاربين وترتيب الزيجات وإقرار العقوبات. تداخلت الأعمال الحكومية اليومية مع الأحداث الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، قتل يوريتومو أحد أتباعه أثناء لعب إحدى ألعاب الطاولة (سوجوروكو). أما خارج القصر، فكان المحاربون يصطادون معًا ويشاركون في الاحتفالات التي كانت تتضمن طقوسًا دينية زائفة وعسكرية؛ على سبيل المثال، جولات مصارعة السومو أو الرماية من على ظهور الخيول. وفرت هذه الأنشطة للمحاربين فرصًا لتعزيز الروابط فيما بينهم ومع الشوجونية، بشكل منفصل عن النبلاء غير المحاربين في كيوتو. رغم ذلك، ظلت الروابط مع النبلاء في كيوتو، خاصة المصاهرة، مهمة بالنسبة إلى المحاربين طوال بقية التاريخ الياباني.

fig3
شكل ٢-٣: كان نخبة المحاربين في اليابان القديمة يقدِّرون الألقاب التي ينعم البلاط الملكي بها عليهم أكثر من مكانتهم باعتبارهم محاربين. الطريقة الوحيدة التي قد يخمِّن بها الناظر إلى هذه صورة أنها لمحارب، يُقال إنه يوريتومو، هي من السيف القصير المستقر على فخذه.

لم يكن كل أتباع يوريتومو يعرفون بعضهم بعضًا، وادعى كثيرون كذبًا أنهم من أتباعه. ولم يتمكن من التفرقة بين خدمه الحقيقيين وغير الحقيقيين إلا في عام ١١٨٩، عندما أمر خدمه بأن يتبعوه إلى حرب ضد الثوار في مدينة هيرايزومي الشمالية. سُلبت من الخدم الذين عصَوا أمره ألقابهم وامتيازاتهم التي لم يكن لهم غنًى عنها. في الغالب، كان المحاربون يهتمون في الأساس بالقضايا المحلية، ولم تمثل لهم العلاقات مع الشوجونية إلا أمرًا ثانويًّا. فكان الولاء للشوجونية ضعيفًا في بعض الأحيان، ولم يمتد ليشمل العدد الكبير من المحاربين في أنحاء اليابان الذين لم يكونوا من أتباع يوريتومو.

وضع يوريتومو، مثلما فعل كيوموري من قبله، النبلاء الموالين له في مناصب حكومية مهمة في كيوتو أثناء إنشائه مقره المستقل. لم يكن يوريتومو يملك خطة طموحة لحكمه، وطالب المحاربين بأن يلتزموا بالممارسات المحلية والأسس التي وضعها النبلاء. علاوة على ذلك، لم يؤدِّ انتصار يوريتومو إلى عصر اتسم بسيطرة المحاربين. فقد كبح هو والشوجونية طموحات المحاربين؛ فلم يستولوا على حكومة كيوتو أو يدمروها. وطوال ما تبقى من القرن الثاني عشر، وجزء من القرن الثالث عشر، كانت كاماكورا شريكًا صغيرًا لكيوتو في الحكم. تطور قسم كبير مما يُعرف باسم نظام كاماكورا شبه الحكومي بعد عام ١١٩٩، عندما مات يوريتومو بطريقة ليست غريبة على المحاربين النخبة؛ السقوط من على صهوة حصان.

هوجو كاماكورا

طبقًا للعرف السائد بين عائلات النبلاء والمحاربين على حد سواء، تربَّى أبناء يوريتومو على يد نساء ورجال من أقارب والدتهم، الراهبة الأرملة هوجو ماساكو. فكانت هي حلقة الوصل الشخصية الأوثق بين يوريتومو والشوجونية. هذا وضعها في مركز الصراع على السيطرة على الشوجونية الذي اندلع بين أخيها (ياسوتوكي)، ووالدها (توكيماسا)، وابنها (يوري)، وعائلة زوجته (الهيكي)، وحلفاء يوريتومو. على الرغم من أن العديد من الأتباع حاولوا الحفاظ على إرث يوريتومو من خلال ماساكو، فإن آخرين تحدَّوا هذه السلطة؛ فلم يكن الولاء الأعمى هو المبدأ السائد. قُتل ما يقرب من دزينة من أعضاء عائلات هيكي وهوجو وميناموتو خلال النزاعات على الخلافة التي تلَت ذلك، وظهرت ماساكو كواحدة من القلائل الذين تمسكوا بالسياسات الشوجونية من أواخر القرن الثاني عشر إلى أوائل القرن الثالث عشر.

كانت ماساكو على صلة أوثق بعائلتها الأصلية؛ عائلة هوجو، بغضِّ النظر عن كونها أمًّا حريصة على سلامة ابنها يوري، الشوجون الثاني، وداعمة له. ووفقًا للسجل التاريخي من أواخر القرن الثالث عشر تحت عنوان «مرآة الشرق»، كان يوري زعيمًا ضعيفًا. فبعد وفاة والده بفترة قصيرة، أرسل يوري أحد أتباع يوريتومو الموثوقين في مهمة زائفة على أمل سرقة عشيقة الرجل منه أثناء غيابه. عاد التابع إلى كاماكورا بعد أن علم بالخدعة التي تعرض لها، فخطط يوري لمهاجمة منزل التابع بشكل استباقي. احتلت ماساكو منزل التابع لمنع هجوم ابنها، ثم أرسلت ليوري رسالة توبيخ. كما أجبرت التابع على أن يقطع على نفسه وعدًا بألا يحاول الانتقام في وقت لاحق. حتى رجال ميناموتو طلبوا الحماية من ماساكو، مثل زينجو، الأخ غير الشقيق ليوريتومو. لكنها اعتبرت زينجو تهديدًا محتملًا لعائلتها، فرفضت أن تحميه، واعتُقل في نهاية المطاف وقُتل.

تسببت محاباة ماساكو لأخيها، بدلًا من ابنها يوري، في تقريب يوري من أصهاره، عائلة هيكي، أكثر؛ مما جعل المواجهة بين عائلتَي هيكي وهوجو حتمية. استغلت عائلة هيكي يوري للحصول على مناصب في الشوجونية، وأحكموا سيطرتهم على أبنائه الذين سيرثون لقب الشوجون. على سبيل المثال، تخيل كبير عائلة هيكي، يوشيكازو، حفيده يرث لقب الشوجون بعد يوري، مانحًا عائلة هيكي هيمنة على الشوجونية. ولكن طرأت على هوجو توكيماسا الفكرة نفسها، فأمر بإعدام وريث يوري، ومعه بعض من أفراد عائلة هيكي. في عام ١٢٠٣، أُجبر يوري على التقاعد بواسطة ماساكو ووالدها توكيماسا بعد أن أُصيبَ بالمرض. وعندما عرف توكيماسا أن يوري يخطط لاغتياله، قُتل يوري أيضًا، ما أمَّن النصر لعائلة هوجو. وبطبيعة الحال، كان لتوكيماسا، بصفته كبير عائلة هوجو، تصوره الخاص لمستقبل الشوجونية؛ أراد أن يسيطر أطفاله من زوجته الثانية عليها. ولكن كانت ماساكو تفضل أن يسيطر أخوها عليها. في عام ١٢٠٥، اعتقلت والدها وسيطرت على الشوجونية بمشاركة أخيها يوشيتوكي.

تفاقم التوتر بين عائلات المحاربين بسبب علاقات المحاربين بالحكومة في كيوتو. وبمجرد أن أُصيبَ يوري بالمرض ومات، نُصِّب الابن الأصغر شوجون، وهذا الابن كان اسمه سانيتومو، ويبلغ من العمر أحد عشر عامًا. ولكنه كان أرستقراطيًّا أكثر من كونه محاربًا، فقد كان يشارك في الأنشطة التي ترتبط عادةً بنبلاء كيوتو. درس الشعر الكلاسيكي بهمة، وتعلم على يد أحد أعظم الشعراء الكلاسيكيين، فوجيوارا نو تيكا. كما حافظ على علاقات وثيقة نسبيًّا مع نبلاء كيوتو، ومنهم الإمبراطور جو توبا. كان سانيتومو، مثل والده، يعتبر لقب «شوجون» أقل شأنًا من الألقاب التي مُنح إياها ضمن التسلسل الهرمي للنبالة. حتى إنه تجاوز يوريتومو في هذا المجال، حيث مُنح لقبًا إداريًّا مرموقًا، «وزير اليمين»، وهو منصب كان ذا طابع رمزي في ذلك الوقت، مهمته أن يشرف على مجلس الدولة في كيوتو. ولكنه لم يستمتع بهذا اللقب إلا لساعات قليلة، فقد قتله ابن أخيه، ابن يوري، خلال الحفل، متهمًا عمه بقتل والده. وبذلك، انتهى نسل يوريتومو بمقتل سانيتومو في عام ١٢١٩.

كانت علاقة سانيتومو بالنبلاء تمثل فترة ازدهار محتملة بين البلاط والشوجونية. وبما أنه لم ينجب وريثًا، فقد توسطت ماساكو لعقد اتفاق مع جو توبا في عام ١٢١٨ قد يصبح بموجبه أميرٌ إمبراطوري الشوجون الرابع. راق هذا الاحتمال جو توبا، فبذلك سيكون قادرًا على التأثير في الإمبراطور الجديد والشوجون الجديد على السواء. ولكن عوضًا عن ذلك، وفَّر مقتل سانيتومو فرصة ذهبية لجو توبا لتحقيق ما حاول جو شيراكاوا تحقيقه في أعقاب حرب جيمبيه؛ إخضاع المحاربين لسلطة كيوتو.

نظام جوكيو

لم يكن هجوم جو توبا على الشوجونية، المعروف باسم حرب جوكيو (١٢٢١)، والذي سُمي تيمنًا باسم سنة تولِّي الحكم، يستحق الذكر كحدث عسكري. فقد واجهت مجموعة متنوعة من محاربي جو توبا، بعضًا من خدم كاماكورا، والعديد من المحاربين من الغرب ليسوا تابعين للشوجونية، عائلة هوجو وأنصارها. كان كل جيش مكونًا من نحو ١٠٠٠ جندي، واستمر القتال لأقل من شهر. ولكنها كانت حربًا مهمة بسبب الدور الذي لعبته في إبعاد السلطة عن يد الإمبراطور وبلاطه، ووضعها في يد الشوجونية. ونُفي على إثرها ولي العهد والإمبراطور وثلاثة أمراء متقاعدين. لعبت ماساكو في هذه الحرب أيضًا دورًا حاسمًا عبر مناشدة حس الولاء لدى محاربي عائلة هوجو لزوجها المتوفَّى، هذا إذا كانت القصص التي تتحدث عن خطابها حقيقية. ربما حفز الولاء بعض المحاربين من كلا الجانبين، ولكن استخدم بقية المحاربين الحرب ذريعة لمهاجمة خصومهم. علاوة على ذلك، كان من المحتمل أن يضعف نصر جو توبا سلطة المحاربين في جميع أنحاء اليابان، عوضًا عن تعزيزها. على أي حال، استغرق الأمر من جيش عائلة هوجو شهرًا واحدًا فقط لإلحاق الهزيمة بقوات جو توبا.

اكتمل تطور الكثير من الألقاب والمناصب والبُنى الحكومية لشوجونية كاماكورا خلال القرن الثالث عشر في ظل سيطرة عائلة هوجو بعد انتصارهم في الحرب. لم يكن حكم عائلة هوجو خاليًا من العيوب، ولكن كان المحاربون يتوقون إلى الحفاظ على استقرار الريف وحماية أنفسهم. فعلى الرغم من أنهم لم يكونوا يناصرون عائلة هوجو بإخلاص، فقد كانوا على استعداد للتعاون مع الشوجونية في تلك الفترة. واستجابت الشوجونية لهذه المخاوف بأن أشركت عددًا أكبر من المحاربين في حكم الشوجونية.

عيَّنت الشوجونية المزيد من المحاربين، من بينهم امرأة واحدة على الأقل، مديرين للولايات في جميع أنحاء اليابان، خاصةً في المناطق التي تعجُّ بمناصرين جو توبا المنهزمين، والمناطق التي لم يكن بها مديرون قبل إنشاء الشوجونية. وبدلًا من اتباع قواعد جباية الضرائب الكثيرة التي كانت معمولًا بها قبل حرب جوكيو، حاولت الشوجونية توحيد قواعد جبايتها في جميع الولايات. لم تكن تلك السياسات التوسعية لتحقِّق النجاح في ظل حكم الشوجونية الأولى، عندما لم يكن يوريتومو وخلفاؤه المباشرون يملكون القوة البشرية أو المعرفة لمجابهة سياسات كيوتو المتقدمة. ففي تلك الفترة، كانت الشوجونية تابعة لقيادة كيوتو، كانت تحكم مع كيوتو وليس ضدها. ولكن بعد حرب جوكيو، وسَّعت الشوجونية من سلطات المحاربين، وكثَّفت من اختراقها لجميع مفاصل الدولة في اليابان.

كلفت عائلة هوجو حكامًا عسكريين بإنهاء حالات التمرد، والقبض على المجرمين، والدفاع عن السواحل ضد القراصنة، ومحاكمة المجرمين وعقابهم، في المناطق البعيدة جنوبي اليابان. كان يمكن هؤلاء الحكام العسكريين أن يعبروا الحدود بين الولايات والأراضي العامة، على النقيض من المحاربين المحليين. ومع ذلك، لم تكن تكليفات منصب الحاكم العسكري دائمة، فلم يكن يقع ضمن سلطة الحاكم فرض الضرائب أو التصرف باستقلالية عن الشوجونية، أو التعدي على أراضٍ مملوكة لغير المحاربين.

على سبيل المثال، لم يُسَن القانون التشريعي الأول للشوجونية — قوانين وتشريعات الحكم (جوسيباي شيكيموكو) — إلا في عام ١٢٣٢، كردِّ فعل على حرب جوكيو. وعلى الرغم من أنه يوصف عادةً بأنه مجموعة من القوانين العسكرية، فإنه يعكس الكثير من المشكلات المستشرية في نظام كيوتو الحكومي. ويُعَد وصفُه بأنه قانونٌ مبالغةً في تقييم مدى تأثيره على مختلف المجموعات من الناس الذين يُدعَون محاربين. لم يكن مصطلح «قانون» يحمل في طياته المعاني التي يحملها في العصر الحديث؛ على سبيل المثال، ثمة عدد قليل من آليات إنفاذ القواعد في عصور ما قبل الحداثة، ولم تكن ثمة ثقافة قانونية من شأنها أن تملأ الحياة اليومية مثلما هي الحال حاليًّا. لم تتمكن أيٌّ من حكومات عصور ما قبل الحداثة أن تنفِّذ — أو حتى تضع تصورًا بشأن — متابعة وتصنيف حياة الناس وممتلكاتهم، من الميلاد إلى الممات، مثلما تفعل حكومات العصر الحديث. في الغالب، حددت قوانين وتشريعات الحكم توقعات وعقوبات للحكام العسكريين والأوصياء على الأراضي، أي الإدارة العليا والمتوسطة. وتجاهل الكثير من المحاربين في أماكن بعيدة عن كاماكورا هذه القوانين بكل بساطة. ولكن مثَّلت قوانين وتشريعات الحكم سابقةً أولى لنظام محاربين في اليابان يتمكن من إنشاء نموذج للسلوكيات ينطبق على المحاربين، بغضِّ النظر عن المكان والزمان، نموذج ظل قادة المحاربين والمفكرون يدرسونه حتى القرن التاسع عشر، بعد فترة طويلة من انهيار شوجونية كاماكورا.

وكوثيقة قانونية، وحفاظًا على الممارسات التي وضعتها الشوجونية منذ نشأتها، أكدت القوانين على اتباع الأعراف. «يمكن حكام المقاطعات وملاك الأراضي (من غير المحاربين) أن يمارسوا سلطاتهم القضائية المعتادة دون الرجوع إلى سلطات الشوجونية.» في واقع الأمر، قيل لملاك الأراضي هؤلاء إن الشوجونية لن تلبِّي حتى طلبات المعابد أو الأضرحة للحصول على المشورة من الشوجونية.

سعى القانون إلى تقييد السلطة الجديدة التي تحصَّل عليها الخدم والإداريون الجدد بعد حرب جوكيو. فعندما كان يُضبَط أي مفوض متلبسًا باختلاس الضرائب المحصلة أو جباية ضرائب أكثر من المفروضة «يُعزَل من منصبه». وحتى إذا ما ارتكب مساعدوهم جرائم أو «خالفوا القوانين والأعراف»، فسيتحمل المفوضون المسئولية إذا كانوا على علم بتلك الجرائم، وحاولوا التستُّر على نوَّابهم. كذلك الحكام العسكريون الذين يصادرون أي ممتلكات بسبب بعض المخالفات دون تقديم تقرير مناسب «سيُعاقَبون جنائيًّا».

في منتصف القرن الرابع عشر، أُلِّف دليل للمحاكمات تحت عنوان «كتاب لمن يجهل الأمور القانونية» (ساتا ميرينشو)، وحوى هذا الكتاب تعريفات لمصطلحات بسيطة، مثل «المدعي»، ومفاهيم أكثر تعقيدًا، مثل الدعاوى المدنية على اختلافها، والقضايا الجنائية. من بين القضايا المدنية: «القروض في صورة نقود أو حبوب مقابل فائدة؛ بيع حقول الأرز والعبيد والعمال شبه الأحرار؛ اختطاف الخدم». وشملت القضايا الجنائية «التمرد، والهجمات الليلية، والسطو المسلح، والتسلل بغرض السرقة، وقطع الطرق، والقرصنة، والقتل، والحرق، والاعتداء بالضرب، والإصابة بأداة حادة، واختطاف النساء واغتصابهن، ونشر الذعر، وسرقة مقتنيات الناس أثناء فرارهم، وحصاد حقل أرز أو حقل جافٍّ يخص شخصًا آخر».

كيف كان شكل حياة المحاربين في اليابان؟ اعتمد هذا على الشخص الذي يعملون لصالحه، وعلى موقعهم في هذا التسلسل الهرمي المحلي. كانت الشوجونية تتوقع من خدمها أن يؤدوا مهمة حراسة في كيوتو عدة أشهر خلال العام، مقدِّمين تلك الخدمة لحاكم إقليمي، أو ربما العمل في إحدى الولايات متولِّين وظيفة حكومية أو شرطية. كان الرجال يتناوبون على المناصب المختلفة لكي يتعلموا جميع الواجبات التي يجب أن يتعلمها أتباع الشوجونية. أما المحاربون الذين لم يكونوا على صلة مباشرة بالشوجونية، فكانوا يعملون في وظائف مماثلة محليًّا داخل مناطقهم، فكانوا يؤدون العديد من الوظائف لصالح عائلة نبيلة، أو مجمع معابد بوذية، أو عشائر ذات نفوذ في الريف تربطهم بكيوتو أو شوجونية كاماكورا علاقات واهية، أو لا تربطهم بهم علاقات على الإطلاق. عمل بعض المحاربين لصالح الإمبراطور مباشرةً. ولأن اليابان لم تكن في حالة حرب دائمة، كانت الوظائف في أغلب الأحيان عادية أو بدنية؛ فقد عمل الكثير من المحاربين في الزراعة، شأنهم شأن عامة الشعب.

عانى معظم المحاربين من ظروف اقتصادية صعبة. فكان مسئولو إدارة الأراضي يتقاضَون رواتبهم من الضرائب التي يجمعونها، وغالبًا ما كانوا يستغلون سلطتهم في تحصيل الضرائب لمصالحهم الشخصية. وعلى الصعيد الاقتصادي، عانت العشائر التي تملك أراضي على مدار أجيال بسبب عادة تقسيم الميراث بالتساوي بين الأبناء والبنات، ما أدى إلى تقلُّص حجم ثروة العائلات تدريجيًّا. وكان إنشاء المشاريع العمرانية، ورعاية المعابد البوذية، وشراء التحف الفنية من الصين، والمشاركة في طقوس البلاط، من بين أمثلةٍ كثيرة للنفقات التي استنزفت ثروات النخبة من المحاربين، وأجبرتهم على اقتراض المال من التجار المحليين، وهي مديونية لم تُسدَّد أبدًا. بالإضافة إلى ذلك، لم تتمكن مصادر دخلهم التقليدية، أي المحاصيل الزراعية، من مواكبة النمو السريع للاقتصاد التجاري. ولم تظهر هذه المشكلات فجأة، ولكن غزوات المغول أدت إلى تفاقمها بشكل كبير.

الاجتياح المغولي

في عام ١٢١٥، حقق كوبلاي خان، حفيد جنكيز خان وزعيم المغول، ما لم يتمكن جده من تحقيقه؛ غزو الصين. وانطلاقًا من بكين، بدأ كوبلاي عقودًا من الغزوات محققًا نجاحات متفاوتة. فعلى سبيل المثال، أخضع كوريا، ولكنه فشل في غزو جاوا، ومملكتَي داي فيت وتشامبا في فيتنام، واليابان على الرغم من محاولاته المتكررة. لم يكن تاريخ المحاربين بمعزل عن الأحداث التي تقع في أماكن أخرى من آسيا، وعلى الرغم من أن المغول لم يحققوا أي مكاسب في اليابان، فقد كشفت غزواتهم نقاط ضعف «نظام المحاربين».

وفقًا للرواية التاريخية الشائعة عن الغزوات، هاجمت القوات تحت قيادة المغول، والتي ضمت أعدادًا كبيرة من الصينيين والكوريين، جزيرة كيوشو الجنوبية مرتين. واجه المحاربون اليابانيون، في عام ١٢٧٤، ومجددًا في عام ١٢٨١، قوة أكثر تفوقًا بكثير من حيث عدد القوات وتنظيمها، والتقنيات المستخدمة، بما في ذلك استخدام المتفجرات. أرجع المؤرخون العسكريون الخسائر اليابانية الكبيرة إلى ما يُسمَّى بالأسلوب التقليدي الياباني في القتال؛ إعلان المحارب عن نسبه والانخراط في القتال الفردي. لم يستمر الغزو الأول سوى يوم واحد فقط قبل أن تهبَّ عاصفة عاتية تعيد المغول إلى البحر. أعدَّ اليابانيون دفاعات على طول خليج هاكاتا، بما في ذلك بناء سور، وتمكنوا من صد هجوم المغول لعدة أشهر قبل أن تهب عاصفة أخرى لتنقذهم. أصبحت العواصف تُعرَف باسم الرياح الإلهية (كاميكازي)، ولم يشتهر هذا المصطلح إلا أثناء الدعاية الحربية في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته. إبان نهاية الحرب العالمية الثانية، كان الجيش الياباني يأمل أن تتمكن «رياح إلهية» من الطيارين الانتحاريين من صد غزو جديد لجماعة أجنبية أكثر تفوقًا؛ الأمريكيون.

تشير الدراسات الحديثة إلى أن العواصف ربما كانت أسطورة. وعوضًا عن ذلك، زجَّت المؤسسات الدينية بقصة التدخل الإلهي من أجل الحصول على مكافآت مقابل مشاركتهم في هزيمة المغول. يزعم بعض المؤرخين أن العواصف لا يمكن أن تهزم المغول وحدها. لماذا انسحب المغول إذن؟ ربما لم يكن اليابانيون أضعف من المغول، وتمكنوا من هزيمتهم باستخدام فاعليتهم القتالية. أو ربما تمكَّن المغول بالفعل من هزيمة اليابانيين، ولكن كان هدفهم هو اختبار قوة الجيش الياباني فقط، وليس احتلال البلاد بأكملها. كان كوبلاي لا يزال يقاتل الصينيين طوال حقبة سبعينيات القرن الثالث عشر، ثم بدأ يغزو مكانًا آخر خلال حقبة الثمانينيات من القرن نفسه، ومن ثم، لم يكن يملك الوسيلة أو الرغبة في غزو اليابان بأكملها.

عزَّز الدفاع عن كيوشو، والاستعداد للغزو الثالث الذي لم يحدث أبدًا، من وجود عائلة هوجو في جنوب اليابان ووسطها. فقد زاد عدد الحكام العسكريين في تلك المناطق، وكان أغلبهم ينتمون إلى عائلة هوجو أو فروعها. وجندت الشوجونية رجالًا من الأراضي التي كانت خالية من أي وجود للشوجونية قبل غزوات المغول. وبمجرد أن أصبح للشوجونية وجود في الأراضي التي لم تكن مملوكة لأتباعها، لم تتركها مجددًا. امتدت سلطة عائلة هوجو على المعابد والأضرحة الكبرى، التي كانت مقصورة في السابق على شرق اليابان، لتشمل المعابد والأضرحة في غرب اليابان أيضًا.

لم تخلق الغزوات المغولية مشكلات جديدة لنظام المحاربين الحاكم، ولكنها أدت إلى تفاقم المشكلات القديمة. كان الكثير من المحاربين الذين حشدوا رجالهم للدفاع عن كيوشو يأملون في الحصول على مكافآت مقابل جهودهم. فمن دون ضرائب قومية مفروضة أو تقديم دعم اقتصادي كبير من الشوجونية نفسها، تحمَّل أولئك المحاربون عبء جمع المزيد من الضرائب من الأراضي المحيطة بهم. لم تكن عائلة هوجو نفسها تملك إلا القليل من الأراضي المسيطَر عليها حديثًا لتوزيعها على المحاربين، وكان الذين تلقَّوا بعض المكافآت محاربين من جزيرة كيوشو. أمرت عائلة هوجو عائلات كيوشو بقَصر الميراث على ذريتهم من الذكور فقط، الأمر الذي سلب بناتهم امتيازاتهن الاقتصادية، وامتد ذلك العرف بمرور الزمن ليشمل المحاربين في جميع أنحاء اليابان. وبالتدريج، أصبح الميراث يُعطَى بالكامل إلى الابن الأكبر، الأمر الذي همَّش حتى نسل العائلات الذكور الآخرين.

أصدرت عائلة هوجو أيضًا سلسلة من المحظورات على المحاربين فيما يتعلق ببيع أراضيهم أو إعطائها لغير الأقارب. وأفضت هذه المحظورات إلى «المرسوم القويم» الذي أجبر أي شخص تلقى أرضًا من عائلة محارب — إما كضمان على الديون أو كسلعة مبيعة في صورة هدية — على إعادتها إلى عائلات المحاربين الأصلية. كانت إلغاءات هذه الديون «قويمة»؛ لأن الأراضي لم تكن سلعة تُباع وتُشترى، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من إرث عشيرة المحارب. وكان هذا المرسوم غير واضح كحال مراسيم عصور ما قبل الحداثة الأخرى. ففي كثير من الأحيان، كانت مطالبات المستفيدين أنفسهم غير قابلة للتنفيذ، وكان بعض كهنة الأضرحة يعتقدون أن المرسوم ينطبق عليهم أيضًا. ومن ثم، كان فرض وتنفيذ المحظورات مستحيلًا في أغلب الأحيان.

تدهور كاماكورا

عانى الأتباع العاديون في كاماكورا والشوجونية من نزاعات داخلية خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر. فقد بدأ اثنان من أقوى أتباع عائلة هوجو، تايرا يوريتسونا وأداشي ياسوموري، في قتال بعضهم بعضًا بعد وفاة حاكم الشوجونية القوي، هوجو توكيمون (١٢٨٤). وفي عام ١٢٨٥، حاول يوريتسونا اعتقال ياسوموري، الأمر الذي أدى إلى سلسلة من الاغتيالات، وحملات التطهير، وحالات الانتحار بين أنصارهم وأتباعهم حتى قتل يوريتسونا نفسه في عام ١٢٩٣. انتشر تأثير هذه المؤامرات السياسية العنيفة في جميع أنحاء كيوتو، فقد انقسم النبلاء إلى فصيل مستاء من تدخل عائلة هوجو في سياسات البلاط الإمبراطوري، وفصيل آخر يدعم الشوجونية. بدأت عائلات المحاربين الفرعية في الانفصال عن عشائرها الرئيسية عبر الاستجابة لدعوة للدفاع عن كيوشو من تلقاء أنفسهم دون انتظار أوامر زعماء العشائر. وبالتدريج، قلَّت تحالفات عشائر المحاربين مع أقربائهم الذين يعيشون في أماكن تبعد عنهم جغرافيًّا، وزادت تحالفاتهم مع المحاربين المجاورين لهم.

بالتوازي مع الخلافات التي استشرت في طبقات المجتمع العليا، زادت في طبقاته الدنيا أعداد اللصوص والقراصنة والمرتزقة، والغزاة الذين كان يُشار إليهم باسم «عصابات الشر» (أكوتو). ولم تتمكن شوجونية كاماكورا وأتباعها، أو البلاط الإمبراطوري في كيوتو، من السيطرة على احتكار العنف المستشري في أنحاء اليابان. وفي النصف الثاني من القرن الثالث عشر، نمت أعداد هذه العصابات من بضع عشرات في الغالب إلى عدة مئات. وبلغت أعدادهم ذروتها خلال أوائل القرن الرابع عشر، وكذلك تعقيد إمكاناتهم؛ فبنى بعضهم حصونًا، أو انضموا إلى قوات المحاربين المحليين، أو عملوا لصالح المعابد المحلية. سلَّحت مجموعات مختلفة من الناس أنفسها لمحاربة اقتصاد القرن الثالث عشر المرتكز على التجارة والسيولة النقدية، وأيضًا للدفاع عن أنفسهم ضد التهديدات من قمة الهرم الاجتماعي وقاعه.

إرث أول نظام حاكم للمحاربين

قربَ نهاية عصر الساموراي في منتصف القرن التاسع عشر، ربط المحاربون وجودهم بإرث يوريتومو. فبالنسبة إليهم، كان يوريتومو هو مؤسس نظام المحاربين الحاكم. ولكن لم يظهر هذا الثناء الكبير على يوريتومو إلا في وقت متأخر من عصر ما قبل الحداثة في تاريخ المحاربين. لم يلقَ يوريتومو احترامًا كبيرًا خلال حياته. فقد قتل يوريتومو ابن عمه (يوشيناكا)، وأخاه غير الشقيق (يوشيتسوني). وعندما أراد يوريتومو مقابلة الراهب الصيني تشينانا كي، الذي أعاد بناء معبد تودايجي في كاماكورا بعد أن احترق في عام ١١٨٠، رفض الراهب مقابلته لأنه كان مشمئزًّا من أساليب يوريتومو العنيفة. ولما أرسل إليه يوريتومو هدايا، رفض تشينانا تسلُّمها، باستثناء سرج حصان ودرع، ثم تبرع بالسرج للمعبد، وأذاب الدرع وأعاد تشكيله في صورة مسامير. كانت المكايد السياسية داخل قيادة الشوجونية منذ أواخر القرن الثاني عشر، وخلال القرن الثالث عشر، تتسم بالعنف. فقد ظل أقرباء يوريتومو أهدافًا للاغتيال، ولم يمت أيٌّ من نسله المباشرين ميتة طبيعية، ولم يستمر نسله.

كانت قصة أول نظام محاربين حاكم في اليابان تتسم بالتغير التدريجي. فقد نشأ بالتوازي مع الأحداث التي وقعت في كيوتو بين النبلاء والأباطرة. ظهرت في كيوتو النماذج الإدارية الحكومية، وغالبًا أعضاء الحكومة أنفسهم، مقاييس الثروة، رعاية المؤسسات الدينية، الأعراف الأدبية، وحتى سياسات الزواج. وسواء ادعى المحاربون أنهم من «أتباع» ميناموتو، أو غزَوا أراضي أحد النبلاء أو أحد المعابد، أو استغلوا مناصبهم في كاماكورا لسرقة السكان المحليين؛ تطلب الأمر منهم أن يتعاملوا مع مؤسساتٍ وعادات لم يبتكروها.

من جهة أخرى، لم يتسنَّ للنخبة في كيوتو أبدًا السيطرة على سلطة المحاربين. فكان الإمبراطور «يمنح» لقب الشوجون، ولكنه لم يقصد أبدًا سيطرته عليه. لم يُرد يوريتومو أو عائلة هوجو لقب شوجون فحسب، بل كانوا يطالبون به. حاول عدد من أباطرة كيوتو استعادة السلطة من المحاربين، بدأ ذلك مع جو شيراكاوا، الذي قلَّب يوريتومو على شقيقه الأصغر يوشيتسوني، ثم تكرر مع جو توبا الذي لم تستمر حربه ضد عائلة هوجو طويلًا. ونجح إمبراطور ثالث، جو دايجو، في تحدي الشوجونية في عام ١٣٣٣، ولكن حتى آنذاك، لم يتمكن البلاط الإمبراطوري من الحد من طموحات المحاربين. لم يعش النبلاء في كيوتو والمحاربون البارزون في كاماكورا قط في ممالك منفصلة. وبعد وفاة سانيتومو في عام ١٢١٩، أضحى الشوجون يُعيَّن من نبلاء كيوتو، وليس من عائلات المحاربين.

تتحدث الوثائق القانونية التي يعود تاريخها إلى شوجونية كاماكورا عن أهمية العائلة التي لم تشمل، بتعريفها الفضفاض، الأقارب بالدم فحسب، بل أيضًا المحاربين التابعين، والخدم غير المحاربين، والمربيات والمرضعات، والعائلات الفرعية البعيدة جغرافيًّا وزمنيًّا، فمن الممكن أن يكونوا جميعًا إما أوثق الحلفاء وإما أخطر الأعداء. لم ينطبق هذا على العائلات التي تحتل منزلة رفيعة في مجتمع المحاربين فحسب، بل انطبق أيضًا على العشائر الهامشية التي يمكن أن تُهدد رغبتها في الاستمرار والتوسع، أو تقوى عبر العلاقات العسكرية والدينية والأرستقراطية في جميع أنحاء اليابان.

أنشأت الشوجونية في كاماكورا نموذجًا لأنظمة المحاربين الحاكمة التالية، رغم أنه يُعَد ضعيفًا. في عام ١٨٦٢، اشتكى أحد أعضاء حكومة المحاربين من تدخلات النبلاء في كيوتو وأنصارهم، ولاحظ أن المحاربين كانوا مسئولين عن سياسات اليابان منذ نشأة الشوجونية في كاماكورا. وفي نهاية المطاف، استسلم رئيسه، الشوجون الياباني الأخير، للإمبراطور في عام ١٨٦٨، وبعد عام، أُعلنت حكومة عصرية حديثة التشكيل، قائلة: «تغلَّبنا أخيرًا على شرور الحكم السيئ للمحاربين منذ زمن كاماكورا، واستعدنا الحكومة الإمبراطورية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥