الفصل الثالث

الحرب والثقافة

وصف المبشر اليسوعي لويس فرويس في القرن السادس عشر زعيم القراصنة نوشيما موراكامي بأنه «كان شديد البأس لدرجة أن جميع سواحل المملكة، وكذلك المناطق الساحلية في الممالك الأخرى، كانوا يدفعون له جزية سنوية خوفًا من أن يدمرهم». فكانت سفنه «تجوب البحر باستمرار». لم يكن نوشيما يختلف عن غيره من أمراء الحرب في القرن السادس عشر، فلم يكن يعتمد على رعاية من نبلاء كيوتو ليؤمن لنفسه الثراء والسلطة والتأثير. خلال العصور الأولى من تاريخ المحاربين، كانت مراكز القوة في كيوتو وكاماكورا تهيمن هيمنة كبيرة على حياة العديد من المحاربين في جميع أنحاء اليابان، غير أنه خلال الفترة من القرن الرابع عشر حتى القرن السادس عشر، حدث تحول تدريجي نحو إقامة علاقات إقليمية بلغ ذروته في قرن من الحرب، نتج عنه «تغلُّب الأدنى على الأعلى» (جيكوكوجو).

لم تتوقف الحروب على مدار القرون الثلاثة التي تلت سقوط شوجونية كاماكورا وعائلة هوجو في عام ١٣٣١، الأمر الذي أثَّر بالسلب على العلاقة بين النبلاء والمحاربين، وعلى طبيعة ثروة وسلطة المحاربين. ولكن، على العكس من المتوقع، كان دعم المحاربين ومشاركاتهم في عالم الفنون يبلغ ذروته خلال أكثر الأوقات عنفًا في التاريخ. أحرق أودا نوبوناجا، أحد غزاة القرن السادس عشر، المعابد البوذية وقتل آلافًا من أتباع هذه الديانة، ولكنه درس أيضًا فن النُّو المسرحي، كما مثَّل أجزاء من مسرحية أتسوموري قبل خوض معركة أوكيهازاما.

مشكلة كيوتو

تزامن الصدع الأول في سلطة عائلة هوجو منذ حرب جوكيو (١٢٢١) مع تتويج إمبراطور آخر، جو دايجو، الذي تآمر على عائلة هوجو مثلما فعل جو توبا في عام ١٢٢١. تُوِّج جو دايجو إمبراطورًا مؤقتًا بين وفاة الإمبراطور السابق، أخيه غير الشقيق، واعتلاء الإمبراطور التالي العرش. ولكنه كان راشدًا، على النقيض من هذين الإمبراطورين الآخرين، فلم يكن طفلًا سهل الانقياد، وأحاط نفسه بمستشارين داعمين لطموحاته السياسية. كما أنه لم يرفض التخلي عن العرش فحسب، الأمر الذي اتفق عليه مع الشوجونية والنبلاء، بل عيَّن ابنه الإمبراطور التالي ليضمن استمرار سيطرته على كيوتو. كما جمع حوله عددًا كبيرًا من المناصرين، وبسط سيطرته على جميع المحاربين، وفي عام ١٣٣١، دعا إلى حمل السلاح ضد الشوجونية. سرعان ما أنهت عائلة هوجو تلك العدوة، ونفته خارج البلاد، وصفَّت الكثير من أنصاره. ولكن لم يتخلَّ الجميع عن مسعى جو دايجو. فقد ظل قائد جيوشه، كوسونوكي ماساشيجي، ينظم صفوف المحاربين المتعاطفين مع الإمبراطور الذين لا يتبعون الشوجونية. وعدَهم جو دايجو بألقاب وثروات مثلما فعل يوريتومو قبل ما يزيد على قرن من الزمان. كانت عائلة هوجو منزعجة، ولكنها كانت واثقة من النصر، فأرسلت جيشًا تحت قيادة أشيكاجا تاكاوجي، الزعيم الجديد الذي يبلغ من العمر ٢٨ عامًا لعشيرة أشيكاجا، التي كانت حليفًا قويًّا لعائلة هوجو لفترة طويلة. وبدلًا من أن يقاتل جيش جو دايجو، هاجم مقر الشوجونية في كيوتو. وبالمثل، تمرد حليف آخر لعائلة هوجو، عشيرة نيتَّا، عليها في الشرق. وللمرة الأولى منذ أواخر القرن الثاني عشر، تمكَّن أحد الأباطرة أخيرًا من حكم البلاد دون أن يحتاج إلى مشاركة سلطته مع نظام محاربين حاكم.

ولكن لم تستمر احتفالات جو دايجو طويلًا. فعلى مدار ثلاث سنوات، من عام ١٣٣٣ إلى عام ١٣٣٦، أحكم سيطرته على اختصاصات الشوجونية، وأصبح السلطة الوحيدة التي تمتلك الحق في تعيين المحاربين والمطالبة بالأراضي. ولكن نما تأثير تاكاوجي خلال الفترة نفسها، وفشل جو دايجو في كبح جماحه. جمع تاكاوجي محاربين يدينون بالولاء له، وشق طريقه عنوة حتى كاماكورا، ليقضي على صحوة عائلة هوجو هناك، ثم قاتل المزيد من الأعداء وهو في طريق عودته إلى كيوتو. في الوقت نفسه، اندلعت أعمال عنف في كيوتو. نشر كاتب مجهول شكاوى من الحالة السياسية في كيوتو على ضفاف نهر نيجو، قائلًا: «من الأمور الشائعة في العاصمة في الآونة الأخيرة الغارات الليلية، واللصوص، والمراسيم الزائفة، والمجرمون، والخيول المنطلقة بسرعات كبيرة (ما يوحي بالاضطراب في مكان ما)، والعراك العشوائي، والرءوس المقطوعة …»

ومثلما فعل تايرا كيوموري قبل قرون، رفع تاكاوجي خصمه على العرش في كيوتو، ثم بدأ يبني ما سيُعرف لاحقًا باسم شوجونية موروماتشي (١٣٣٦–١٥٧٣)، وسُميت تيمنًا بمقاطعة في كيوتو أصبحت مركزًا لنظامه الحاكم. أنشأ جو دايجو بلاطه على بُعد ٥٠ ميلًا فحسب جنوب كيوتو في يوشينو، حيث مات بهدوء. ظل ورثة الجانبين يقاتلون بعضهم بعضًا حتى عام ١٣٩٢، عندما قُطع نسل الإمبراطور في يوشينو، ولكنه لم يُنسَ؛ ادعى رجلٌ، عند نهاية الحرب العالمية الثانية، أنه سليل البلاط الجنوبي، وطالب بأن يحل محل الأفَّاق الشمالي هيروهيتو.

اعتمدت شوجونية أشيكاجا الجديدة على عائلات المحاربين الإقليمية في حكمها. ففي جزيرة كيوشو جنوب غرب البلاد التي حاول المغول غزوها، كان الحكام العسكريون يحكمون بالأسلوب الذي يتراءى لهم. ولم يختلف الوضع في الشرق حول كاماكورا، حيث اضطُرت عشيرة أشيكاجا إلى تفويض سلطاتها إلى المحاربين الذين أعلنوا ولاءهم لها. وعلى الرغم من أنهم لم ينفصلوا بالكامل عن السلطة الشوجونية، فإن أولئك الحكام اكتسبوا تدريجيًّا حقوقًا لم يتمكن أسلافهم في كاماكورا من اكتسابها؛ جباية الضرائب، وإصدار الأحكام وسَن القوانين دون الرجوع إلى الشوجونية، وجمع الرسوم من المدعين المحليين في مقابل تنفيذ العقوبات. مكَّن هذا المدخولُ الأكبر الحكامَ العسكريين من تجهيز جيوش أكبر من جيوش حكام حقبة كاماكورا. ولكن لم تكن جميع أراضي اليابان تخضع لنفوذ الحكام العسكريين. فقد سيطر زعماء محليون ليسوا خاضعين للإدارة الشوجونية الحكومية أيضًا على أراضٍ. وبما أن الكثير من الحكام العسكريين كانوا يعيشون في كيوتو تاركين إدارة مقاطعاتهم في أيدي أتباع لهم، سعى الزعماء المحليون أيضًا إلى الحصول على ألقاب رسمية من الشوجونية، أو أجبروا الحكام على الاعتراف بسيطرتهم على تلك المناطق. حدث التحول نحو الاهتمامات المحلية تدريجيًّا على مدار القرن الخامس عشر. فبالنسبة إلى رجال على غرار القرصان نوشيما، كانت العلاقات الإقليمية والمصالح ومصادر الثروة أكثر أهمية من العلاقات التي تربطهم بالمركز السياسي في كيوتو. هكذا نشأ أولئك الذين سيُعرفون فيما بعد بأنهم «السادة» (دايميو)، أو أمراء حرب القرن السادس عشر.

أدوات الحرب

قبل فترة طويلة من ظهور الساموراي في الأفلام شاهرين سيوفهم الخفيفة الحادة، أو يندفعون للهجوم في المعارك على صهوات جيادهم المهيبة؛ استمتع المحاربون أنفسهم بأوصاف خيالية لأساليب قتال المحاربين. قرأ المحاربون وغير المحاربين على حدٍّ سواء «قصص الحرب»، واستمعوا إليها، وشاهدوا عروضًا تصوِّرها، وكأن نوعًا من الكتابة وُجد منذ القرن الثالث عشر على أقل تقدير. حذَّر المؤرخون من اعتبار هذه الحكايات تصويرًا دقيقًا للأحداث التاريخية، ولكن حتى كتب التاريخ الدراسية تميل إلى ذكر هذه الأوصاف الأدبية المثيرة للجدل عن حروب الساموراي الأولى. أكثر الأساطير شيوعًا وثباتًا هي الاعتقاد بأن المحاربين كانوا يعلنون أنساب عائلاتهم قبل خوض المعارك. ربما كان لهذه الأسطورة جاذبية سينمائية استثنائية، ولكن لا يوجد أي دليل تاريخي يدعمها، ولم يعد المؤرخون العسكريون يقبلونها بوصفها تقليدًا معمولًا به. تخبرنا إحدى الروايات المعاصرة عن غزو المغول أن محاربين يابانيين حاولوا بالفعل إعلان أنساب عائلاتهم قبل المعركة، ولكن قابلتهم قوات المغول بالضحك والسخرية. ولكن ربما كان هؤلاء المحاربون يحاكون السلوكيات البطولية المذكورة في حكايات الحرب، تمامًا كما يحاكي أفراد المافيا اليابانية (الياكوزا) أسلوب الملبس المُصوَّر في أفلام العصابات اليابانية.

ولكن لم تكن الحرب تتعلق بالفاعلية القتالية. فكان المحاربون يتجاهلون الأوامر الموجهة إليهم، أو حتى يستهدفون حليفًا إذا ما شعروا بالإهانة. وكان المحاربون يلوِّنون ويزيِّنون دروعهم، ليس بغرض إرهاب العدو، بل ليكونوا مرئيين للحشود المتجمهرة لمشاهدة المعركة. في تلك المعارك، لم يكن قتل جندي عادي يلقى تقديرًا يماثل هزيمة محارب من النخبة أو من المشاهير. ربما اشتملت تخطيطات المناوشات الحربية قبل القرن الخامس عشر على بعض التراشق اللفظي، ولكن من المؤكد أن هذا لم يكن هو العرف السائد.

كانت الحروب الأولى تندلع بين جيوش صغيرة مقارنةً بالحروب الكبرى التي اندلعت خلال حقبة الولايات المتحاربة (١٤٧٧–١٥٩٠). بينما كان بعض أتباع الساموراي قادرين على حشد بضع عشرات من الرجال لخوض المعارك، كان الكثير منهم يستطيع حشد بضعة أفراد فقط. كان بمقدور أتباع الساموراي استقطاب رجال محليين ليعملوا مرافقين مؤقتين، كما كان تحالفهم مع أتباع آخرين يخدمون محاربًا أرستقراطيًّا مثل يوريتومو، يسهِّل تجهيز إما جيوش صغيرة مكونة من بضع مئات من المحاربين، وإما كبيرة مكونة من بضعة آلاف من المحاربين. ووفقًا للتقديرات، بلغ عدد الجنود المشاركين في الحرب الكبرى الأولى، حرب جيمبيه، عدة آلاف، رغم أنه من غير المرجح أن يكون العدد قد وصل إلى ٤٠ ألف جندي، طبقًا للمصادر التاريخية. بسبب المدى الجغرافي الواسع لحرب جيمبيه، ووجود الدفاعات التي غيرت من تضاريس الأراضي، مثل الخنادق؛ تزداد أرجحية مشاركة المدنيين فيها أيضًا.

كان القتال يدور خلال حقبة كاماكورا بين المحاربين على صهوات الخيول ومعهم جنود مشاة، إما كانوا يقاتلون بعضهم بعضًا، وإما كانوا يحاولون إسقاط المحاربين عن ظهور خيولهم. قد يبدو هذا الأسلوب مستبعدًا إذا ما تخيل المرء مدى ضخامة وسرعة الخيول المعاصرة وهي تندفع نحو جيوش الأعداء. حتى السياح اليابانيون أنفسهم ينبهرون بعروض سباقات السرعة التي تصاحبها الرماية من على ظهور الخيول (يابوسامي)، التي تُقام في الأضرحة في أنحاء اليابان. يقف الرماة شامخين فوق رءوس المشاهدين، وخيولهم تندفع بأقصى سرعة من دون أن يمسكوا بألجمتها، بينما يطلقون سهامهم على العديد من الألواح الخشبية المنصوبة أهدافًا. ولكن كانت الحقيقة في عصور ما قبل الحداثة أقل إبهارًا من ذلك. كانت الخيول في اليابان في العصور الوسطى في حجم الخيول القزمة، ومع وجود رجل يرتدي الدروع على صهوتها، لم تكن سريعة أو قادرة على التحمل.

ولكن على مدار فترة كبيرة من التاريخ الياباني قبل الحداثة، كان القوس والسهام، وليس السيف، هو السلاح الرئيسي للمحاربين النخبة. وكانت الرماية من على صهوة الخيول شائعة لدرجة أن عبارة «أسلوب الحصان والقوس» (كيوبا نو ميتشي) كانت تصف الفنون العسكرية بوجه عام. في المعارك الأولى التي كانت تعتمد على أسلوب المناوشات، كان إطلاق السهام على محاربين آخرين يمتطون الخيول، أو انتقاء جنود المشاة لإطلاق السهام عليهم، هو الأسلوب المتبع في خوض المعارك. وكانت عرائض المكافآت وتقارير المعارك تشير إلى الأسلحة الأكثر فتكًا. ودائمًا ما كان يعود الفضل إلى السهام في أكبر عدد من الجرحى والقتلى حتى القرن الرابع عشر. لم يكن من شأن سهم واحد أن يقتل المحاربين، وبالأخص الرجال الأكثر ثراءً القادرين على تحمل تكلفة دروع جيدة. لم تكن الدروع نفسها هي ما يصد الكثير من السهام، بل القماش الشبيه بالبطانية الذي يضعه المحارب خلف درعه، والذي من شأنه أن يجعل استهداف المحارب أمرًا أشد صعوبة، فهو يُخفي، من جانب، معالم جسده، ومن جانب آخر، يمتصُّ بعضًا من اندفاع السهم. ولكن بسبب الأساليب الطبية البدائية المتبعة في تلك المعارك، كان من شأن سهم طائش، أو إصابة مؤسفة بسهم أُطلقَ في الاتجاه الخاطئ، أن يتسبب في موت بطيء مؤلم، ناتج عن نزف المحارب دمَه بالكامل.

تُعَد السيوف مصدرًا آخر لانبهار الجماهير المعاصرة، فمن المفترض أنها تمثِّل جوهر الساموراي، كما أنها حادة للغاية لدرجة أنها تجرح بمجرد اللمس. ولكن ظل السيف سلاحًا ثانويًّا حتى القرن الرابع عشر، وحتى حينذاك، كان يُستخدم لكسب أفضلية على العدو خلال الاشتباكات عن قرب، أو لإنهاء حياة خصم طُرح أرضًا، أو لقطع رأسه من أجل الحصول على مكافأة في وقت لاحق. أما السيف النموذجي الذي نراه في الثقافة الشعبية، فقد اختُرع لاحقًا. قبل الغزوات المغولية، كانت السيوف ثقيلة، وذات أنصال طويلة، وكانت تُستخدم للهجوم على قوائم الخيول وكأنها ساطور ضخم. وكان اندفاع هذه السيوف القديمة ووزنها يمنحانها قوة ضرب هائلة جعلت حدة أنصالها أمرًا ثانويًّا. كشفت تقارير المعارك الباقية والاكتشافات الأثرية أن الإصابات النموذجية المميتة الناجمة عن السيوف خلال العصور الوسطى كانت عبارة عن جماجم مهشمة، وليست جروحًا دقيقة استهدفت الشرايين الحيوية.

إلى جانب السيف والقوس الشهيرين، شملت أسلحة محاربي اليابان الحِرابَ (وتُسمَّى أيضًا الرماح)، والمَطارد (وهي رماح تنتهي بفئوس)، والنشابية، والدروع، والفئوس الحربية، والمطارق الضخمة، والأسلحة الطويلة التي تشبه المجاريف، وتُعرَف باسم «مخالب الدب»، وحتى الحجارة. كانت النشابية شائعة الاستخدام في الجيوش الصينية، وربما يتوقع المرء أن يجدها في اليابان. كانت موجودة، ولكنها لم تكن شائعة بسبب عيوبها التي شملت معدل إطلاق السهام البطيء، ومدى المقذوفات المحدود. وردَ ذكر لنشابية ضخمة، ربما كانت مثبتة على برج، تُسمَّى «القوس العظيمة» (أويومي) في النصوص القديمة، ولكن لم يُعثر على أي آثار أو حتى رسومات لها.

تبدأ القصة المتعارف عليها لوصول الأسلحة النارية إلى اليابان بسفينة برتغالية جنحت بفعل العواصف إلى جزيرة صغيرة تُسمَّى تانيجاشيما. وفقًا للقصة، في عام ١٥٤٣، أدرك حاكم الجزيرة أهمية مدافع السفينة البرتغالية التي جنحت على شواطئها، فأمر الحرفيين المحليين بتفكيكها ودراستها لإعادة إنتاجها، الأمر الذي أدى إلى نشوء صناعة محلية للأسلحة النارية، في الوقت نفسه الذي شهد تزايد الطلب عليها بسبب الحرب الأهلية التي اجتاحت البلاد آنذاك. ذكر المؤرخون العسكريون في اليابان أن البنادق العتيقة — البنادق القديمة ذات الفتيل التي تُعبَّأ ذخيرتها الكروية من مقدمتها — دخلت اليابان منذ منتصف القرن الخامس عشر، حيث أتت من أماكن مثل أوكيناوا، وجنوب شرق آسيا، والصين. لم يكن الأوروبيون هم أول من أدخل الأسلحة النارية إلى اليابان، ولكنهم هم من جلب كميات كبيرة من الأسلحة التي ربما كانت ذات جودة أفضل خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر. ربما كانت الأسلحة النارية تصنع الفارق خلال المعارك، ولكنها لم تغير من الطبيعة الأساسية للحروب أو تكتيكاتها في اليابان.

كانت أكبر خرافة رُويت عن الأسلحة النارية في اليابان هي أن أفراد الساموراي تخلَّوا عنها في نهاية المطاف لصالح السيف، لأن السيف كان أكثر شرفًا، ويمثِّل روح الساموراي. ولكن هذا ليس صحيحًا. ففي البداية، استمر الناس في استخدام الأسلحة النارية في المعارك القليلة الصغيرة، والانتفاضات التي اندلعت خلال حقبة السلم التالية لحقبة الولايات المتحاربة. كان السادة يمنحونها هدايا، واستخدمها عامة الشعب والمحاربون على حدٍّ سواء في الصيد والترفيه. خلال الفترة من القرن السابع عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر، كانت المدافع المتمركزة في ميناء ناجازاكي، أكبر موانئ اليابان، تضاهي نظيراتها المستخدمة في أوروبا. كذلك، استخدم الساموراي الأسلحة النارية ضد الصينيين المتهمين بالتهريب في ميناء ناجازاكي الجنوبي. وهذا يعني أن المحاربين لم «يتخلَّوا» عن الأسلحة النارية أبدًا، بل ظلوا يستخدمونها. إلا أن فرص استخدامها بدأت تتذبذب بعد حقبة الولايات المتحاربة.

يملك درع الساموراي النموذجي تاريخًا طويلًا، ولكنه تغير بمرور الزمان، شأنه شأن الأسلحة. كانت الدروع خلال حقبة كاماكورا (١١٨٠–١٣٣٣) تتكون من قطع من الخشب المطلي بالورنيش مضمومة معًا، مع بعض الدعامات المعدنية في منطقة الصدر. كانت الدروع تغطي أغلب أجزاء الجسم فيما عدا الوجه، ولكنها لم تكن تحمي الأطراف على الوجه الأمثل. كان هذا النوع من الدروع الكاملة عالي التكلفة، ولم يكن أغلب جنود المشاة يرتدون شيئًا سوى الدروع العادية التي تغطي منطقة الجذع فقط. بدأ استخدام دروع الجنازير، التي تشبه نظيرتها الأوروبية، ولكن بجنازير أصغر، في القرن الرابع عشر فصاعدًا، وكان يُدمج مع نوع أقدم من الدروع المصنوعة من صفائح معدنية. تنوعت أشكال الخوذ وفقًا لرتبة المحارب. فكانت تُصنَع للمحاربين من عدة مواد مثبتة معًا، شملت الحديد والصُّلب، والصفائح المعدنية، والجلد المقوَّى، للجنود العاديين. تغيرت أشكال الدروع بما يعكس تغيرات التكتيكات الحربية، لا سيما خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر عندما أصبحت الحروب تندلع بين جيوش أكبر بكثير، مكوَّنة من جنود أفضل تنظيمًا، يستخدمون أسلحة على غرار الحراب، والسهام الماطرة، والأسلحة النارية. ثمة دروع ساموراي في حالة جيدة للغاية، معروضة في المتاحف في جميع أنحاء أمريكا الشمالية وأوروبا، ولكن تجدر الإشارة إلى أن معظم هذه القطع تعود إلى الفترة بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، وهي فترة شهدت عددًا قليلًا للغاية من الحروب، ولم يكن أفراد الساموراي يرتدون هذه الدروع إلا في المواكب الاحتفالية، أو يعرضونها في منازلهم باعتبارها تحفًا فنية، ولم تُستخدم فعليًّا في المعارك. كانت ثمة تأثيرات أوروبية تتجلى من حين لآخر في الدروع اليابانية، ومن بين الأمثلة على ذلك الخوذات التي كانت تشبه تلك التي يرتديها الجنود الأوروبيون، ولكنها كانت حالات نادرة الحدوث.

لم يستخدم المحاربون اليابانيون الدروع الخفيفة التي تُحمَل على ذراع واحدة، مثل الدروع الأوروبية. بل كانت الدروع اليابانية في المعتاد بطول الإنسان، ومصنوعة من الخشب. وكانت تحتوي عادةً على حمَّالة حتى يتمكن صفٌّ من الرجال أن يتحركوا ويصفُّوها متجاورةً لإنشاء جدار متحرك. عادةً ما كان المحاربون يلجَئون إلى ارتجال دفاعات من بيئتهم المحيطة؛ الأبواب الخشبية، أو أجزاء من الجدران، أو حُصر الأرضيات التي تُقتلع من المباني أثناء الحروب.

وماذا عن القلاع؟ ثمة مشكلتان قد تسببان خيبة الأمل. أما الأولى، فهي أن القلاع كانت، كما تصورها الأوروبيون، عبارة عن خنادق مائية وأسوار تحيط حصنًا مركزيًّا، وقد شهدت تطورًا متأخرًا إلى حد ما في التاريخ الياباني، وتحديدًا في القرن السادس عشر على أقل تقدير. من المفترض أن بعض القلاع لها منشأ سابق لهذا التاريخ، ولكن أُعيدَ بناؤها مرات عديدة بعد حقبة الولايات المتحاربة. خلال العصور السابقة لذلك، حرب جيمبيه على سبيل المثال، كانت هناك بعض التحصينات، ولكنها لم تكن ضخمة أو دائمة. ربما كان المحاربون الذين يخدمون شوجونية كاماكورا يمتلكون مجمعًا ضخمًا مكونًا من أسوار وعدَّة أبنية على أقصى تقدير. وبما أن الكثير من المحاربين عملوا مديرين وشرطيين وحكام، لم تكن ثمة حاجة ملحَّة لإنشاء أبنية ضخمة. حتى قصر يوريتومو في كاماكورا، الذي كان يضم الكثير من مكاتب الشوجونية الحكومية، لم يعد موجودًا.

في القرن السادس عشر، بدأ اليابانيون يصممون قلاعًا بغرض صد غزو الأعداء وهزيمتهم إذا ما تمكنوا من اختراق الدفاعات الخارجية. وعلى الرغم من اختلافاتها الإنشائية عن القلاع الأوروبية، فإنها تشاركت معها الكثير من السمات؛ الخنادق المائية، والبوابات القوية الضيقة لمنع العدو عن اجتياحها، والنوافذ الصغيرة التي سمحت للمحاربين بإطلاق السهام أو صب السوائل المغلية على القوات المغيرة. تمثَّل الفارق الأكبر بين القلاع الأوروبية واليابانية في الأسوار. فعلى الرغم من تغير أسلوب بنائها لتناسب الأسلحة النارية بمجرد بدء استخدامها في اليابان، لم تتعرض هذه الأسوار للاقتحام أو الحصار الذي يصاحبه قصف مدفعي مثلما حدث مع مثيلاتها الأوروبية. كانت الزلازل هي التهديد الأكبر لتماسك الأسوار اليابانية. ومن أجل منحها المزيد من الحماية، لم تُبنَ الأسوار بزاوية رأسية قائمة على الأرض باستخدام الأحجار التي تُلصَق معًا بالملاط. فكانت الأسوار اليابانية تُبنى بميل خفيف، وكان البناءون يقطعون الأحجار ويرصُّونها على نحو مثالي بحيث يلائم بعضُها بعضًا دون حاجة لاستخدام الملاط.

على الرغم من وجود الكثير من القلاع في أنحاء اليابان في وقتنا الحالي، فإن دزينة منها فقط هي التي تحتوي على حصون يتخطى عمرها ١٠٠ عام. فنادرًا ما كانت الحصون تُستخدم لأغراض عسكرية؛ استُخدمت في الغالب من أجل فرض السيطرة على الأراضي. على مدار حقبة توكوجاوا (١٦٠٠–١٨٦٨)، دمرت الحرائق الكثير من الحصون وغيرها من الأبنية الخشبية على غرار أبراج المراقبة أو مواقع الحراسة. وبفضل شكل الحصون الجميل، أُضيفت إلى القلاع التي لم تكن تتضمن حصونًا عندما بُنيت. أدرك السياسيون المحليون أن القلاع تمثل مصدر جذب سياحي كبير ورموزًا للفخر الحضاري. عُدلت أغلب قلاع اليابان بعد الحرب العالمية الثانية خلال فترة الازدهار الاقتصادي بعدما وضعت الحرب أوزارها. لم تكن بعض حالات إعادة البناء دقيقة، أو استخدمت كمية مبالغًا فيها من الخرسانة منحت القلاع مظهرًا جذابًا رغم عدم أصالته.

fig4
شكل ٣-١: درع كامل من القرن الثامن عشر يحاكي أسلوب القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وتوضح الصورة مدى تأثر محاربي العصور الأحدث بأسلافهم من العصور الوسطى. عُثر على الكثير من قطع الدروع في حالة ممتازة؛ لأنها لم تكن تُستخدم في المعارك، بل كانت تُعرَض في منازل المحاربين كتحف.
fig5
شكل ٣-٢: تُعَد قلعة هيميجي، المدرجة ضمن مواقع التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، إحدى أكبر وأقدم قلاع اليابان. أُنشئت القلعة في الأساس في القرن الرابع عشر ولكنها لم تكتمل، وأُعيدَ بناؤها بعد أن استولى عليها أمير الحرب تويوتومي هيديوشي في أواخر القرن السادس عشر. ومثلما هي الحال مع الكثير من القلاع اليابانية، استخدمتها القوات المسلحة اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية.

ربما كانت أكثر قلاع اليابان «أصالة» هي قلعة هيميجي المدرجة ضمن مواقع التراث العالمي لمنظمة اليونسكو. نجت قلعة هيميجي من المصير الذي لاقته القلاع الأخرى، التي إما هُدمت بعد ثورة مييجي الإصلاحية (١٨٦٨) وبيعت على أنها خردة، أو دُمرت بفعل كوارث طبيعية، أو قصفتها الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية. على الرغم من ذلك، خضعت قلعة هيميجي لإصلاحات، وانتقدها البعض لأنها أشد بياضًا مما هو مفترض أن تكونه قبل القرن العشرين. ولكن هذا لم يمنع اعتبار قلعة هيميجي القلعة اليابانية النموذجية، وتبع الكثير من القلاع التي أُعيدَ بناؤها نموذج قلعة هيميجي، بغضِّ النظر عن الاختلافات التاريخية بينها.

المحاربون أثناء المعارك

على مدار قسم كبير من التاريخ الياباني، كانت المكافآت هي أساس الحصول على خدمات المحاربين. اعتمد نجاح يوريتومو على قدرته على مكافأة حلفائه، وخسرت عائلة هوجو من يدعمونها عندما أخفقت في منح المحاربين الذين قاتلوا ضد المغول مكافآت كافية، وتمكَّن الإمبراطور جو دايجو من شراء ولاء الساموراي لصالحه، بعيدًا عن الجنرال الأخير الذي حاول أن يدخل في حرب ضده في عام ١٣٣٣. كيف كان المحاربون يثبتون خدماتهم إذن؟ عبر تقديم التقارير وعرائض المكافآت، وتجميع الأدلة، أي رءوس الأعداء.

كان جمع رءوس الأعداء من الممارسات التي نشأت في الأساس ضمن المهام الشرطية. فقد تضمن العنف الذي مارسه المحاربون في البداية مطاردة المجرمين وقطع رءوسهم، لإثبات أن عقوبة الإعدام قد نُفذت. كانت الرءوس تُجمَع، وتُوسَم، وتُعرَض على الملأ في كيوتو. وخلال الحروب الكبيرة، كان قطع الرءوس يُستخدم بوصفه طريقة تساعد المحاربين على تسجيل إنجازاتهم، ومن ثم الحصول على المال مقابل خدمتهم. كانت الرءوس تُنظَّف عادةً وتُعرَض على لوح خشبي أمام أحد الجنرالات لفحصها. كانت رءوس الأعداء المشهورين تمنح المحاربين المكافآت العليا، ولكن كان تحديد هويات المحاربين ذوي الرتب المتوسطة والدنيا أكثر صعوبة، وكان الأسرى يساعدون في تحديد هويات الرءوس. كان من المعتاد أن تُتجاهل رءوس الجنود العاديين.

كان العيب المتعلق بقطع رءوس الأعداء خلال المعارك بديهيًّا؛ كان من الممكن أن يُقتل المحارب أثناء أخذه الرأس. حل بعض الجنرالات هذه المشكلة عبر إصدار أوامر «قطع الرءوس وإلقائها»، التي تقوم على روايات شهود عيان على عملية قطع الرأس، الأمر الذي جعل جانب جمع الرءوس من العملية غير ضروري. كما لجأ المحاربون إلى خداع النظام عبر البحث في ساحة المعركة عن جرحى لم يموتوا بعد، وقطع رءوس المدنيين، وتزييف الهويات أو تغيير بطاقات الأسماء، والبحث عن رءوس مقطوعة متروكة، وهي أفعال غير لائقة تستوجب السخرية.

لم تعلُ أي مفاهيم للشرف، القائمة على الحفاظ على السمعة، على الرغبة في تحقيق النصر. فلم تكن ثمة قواعد سلوكية مكتوبة، ولم تكن هناك تكتيكات غير مقبولة. شملت تلك التكتيكات الإحراق عمدًا، الذي كان يقتل الجميع دون تمييز، والكمائن، والهجوم الليلي، حيث كان العدو يؤخذ على حين غِرة. كان الخداع، وخاصة الخداع الذكي، يُكسِب المحارب الثناء والتقدير، على غرار ما ورد في سجل عسكري من القرن السادس عشر بعنوان «مرآة كاي العسكرية»:

أثناء معركة تويشيكوزور، انفصل أحد جنود العدو عن زملائه وكان مسلحًا برمح طويل. عندما طارده إيماي، غيَّر جندي العدو، الذي كان أحد محاربي أمير الحرب ويسوجي كينشن، موقع رمحه، وكان على وشك إسقاط إيماي من على صهوة حصانه. ونظرًا إلى أن جندي العدو كان يسير على قدميه، فقد كانت لديه القدرة على التحرك بحرية، على النقيض من إيماي الذي كان يمتطي صهوة حصانه. خدع إيماي، المحارب الشهير، خصمه بأن ناداه كما لو كان حليفًا له. عندما خفض جندي العدو رمحه محييًا إيماي، بدأ رجال إيماي هجومهم. كان إيماي خبيرًا عسكريًّا على الرغم من أنه لم يكن ماهرًا في استخدام السيف، ولم يكن يعرف الكثير عن الفنون القتالية.

لا يصلنا الكثير من التفاصيل عن كيف تدرب المحاربون معًا في مجموعات خلال حقبة كاماكورا. ولكننا نعرف أن التدريب كان نشاطًا اجتماعيًّا ساعد في تطوير هوية الجماعة إلى حد ما. أثناء حقبة كاماكورا، استغل الرجال الصيد باعتباره فرصةً لتعلم كيفية التنسيق بين أفراد الجماعة. كما حدد المديرون العسكريون للأراضي قطعًا من الأراضي لممارسة الصيد، أو الصقَّارة التي ساعدت المحاربين في تعلم مسح الأراضي. بدأت الرماية من على ظهور الخيول بين المحاربين في كيوتو في القرن الحادي عشر على أقل تقدير، ولكن عادةً ما ترتبط تكتيكاتها بحقبة كاماكورا حينما كان يوريتومو ينظِّم مسابقات رماية ضخمة في الأضرحة الكبيرة. كان التصويب على الكلاب نشاطًا ترفيهيًّا واجتماعيًّا آخر ساعد المحاربين في الجاهزية العسكرية. كان مدربو الكلاب المحترفون يحتفظون بالكلاب ويطلقونها في مكان مُسوَّر، ويبدأ المحاربون في التصويب عليها من فوق ظهور الخيول بسهام غير قاتلة.

fig6
شكل ٣-٣: تصوِّر لفيفةٌ يدوية من بدايات القرن الرابع عشر أحداثَ المعركة التي دارت في روكوهارا، عندما هاجمت عشيرة ميناموتو قاعدة تايرا كيوموري في قصر روكوهارا. خسر ميناموتو تلك المعركة، وأُخمد تمرد هييجي (١١٦٠). في تلك الصورة، يظهر جنديان من عشيرة تايرا يهجمان على أحد محاربي ميناموتو، ويمسكان به لقطع رأسه.

كان التدريب والطقوس يحدثان في أماكن تتبع الديانة البوذية أو ديانة الشينتو، ومن ثم فإن الحرب والدين كانا متداخلَين. كان للمعابد البوذية وأضرحة الشينتو سلطة سياسية وعسكرية واقتصادية. فكانت تمتلك الأراضي، وتجمع الضرائب، وتُقرِض الأموال (بمعدلات فائدة عالية تصل إلى ٣٠٠ بالمائة)، وتُقدِّم الحماية لمختلف روابط التجار، بما في ذلك إنتاج المشروبات الكحولية (الساكي) والأسلحة. إن فكرة وجود «رهبان محاربين» ذوي ياقات بيضاء، مسلَّحين بالسيوف العريضة (ناجيناتا)، مستقاةٌ في الغالب من التاريخ والأدب والثقافة الشائعة. ولكن واصل الرهبان، الذين كانت مسيراتهم المهنية تتضمن خبرات عسكرية، القتالَ لصالح المعابد. كانت المعابد الكبرى تعتمد على مؤيديها الوثنيين ليكونوا بمثابة القوة الداعمة للمؤسسة، وكانوا في بعض الأحيان من المحاربين المتقاعدين. كانوا يساعدون في جمع القروض أو حماية المعابد من اللصوص والقراصنة والمحاربين الذين يغيرون على أراضيها.

كانت المؤسسات الدينية تواجه خصومها بأسلحة خارقة للطبيعة؛ كانت الصلوات والترانيم أقرب إلى إلقاء التعاويذ من كونها ابتهالات ليحابيهم الحظ الحسن. كان الكهنة يتوقعون الحصول على مكافآت مقابل دعواتهم للآلهة وبوذا، كي يرسلوا «الرياح الإلهية» التي كانوا يدَّعون أنها دمرت قوات المغول الغازية. كان المحاربون يكتبون كلمات باللغة السنسكريتية على أسلحتهم ودروعهم لحمايتهم من الأذى. كانت الاستدعاءات وصور البوذية الباطنية أكثر أهمية بالنسبة إلى المحاربين الخارجين إلى الحرب أكثر من تأملات الزن. كما قرءوا تعاويذ، أو تعلموها من محاربين آخرين ورهبان، على غرار تلك التعويذة التي تخبر ملقيها بكيفية تفادي هجوم باستخدام النار: «لكي تتفادى هجومًا من عدو يهاجمك مستخدمًا النار، ولِّ وجهك ناحية الماء، أو انظر نحو السماء، وقُل: «فليتقدس اسم إله المطر والماء»، سبع مرات. ثم أنشد الترنيمة «أون سووي روينوتن سواكا» on, su’u ruinōten sowaka، واسكب الماء على القوس بدايةً من قمتها.»

كان المحاربون يمجِّدون أيضًا الكائنات السماوية المرتبطة بالحرب. شملت تلك الكائنات الكائنة البوذية الإلهية ماريشيتن التي صُورت حاملةً العديد من الأسلحة في أيديها الست، وتمتطي ظهر خنزير بري، وهاتشيمان، إله حرب آخر في البوذية. كانت الآلهة تزور المحاربين في أحلامهم، وكانت في بعض الأحيان تنبئهم بنتائج إيجابية للحرب. رُقِّي بعض المحاربين المهيمنين من قِبَل أتباعهم إلى مرتبة القداسة أو التأليه بعد موتهم.

حقبة من الحرب

شهد القرنان الخامس عشر والسادس عشر مزيجًا مدهشًا من الحروب والثقافة الراقية. فخلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر، عانت عشائر المحاربين الأكثر تأثيرًا، على غرار أشيكاجا، من نزاعات داخلية على الخلافة، تفاقمت إلى استخدام العنف. حتى بعد أن أتت هذه النزاعات على الأخضر واليابس في كيوتو على مدار عقد كامل، شهدت أجزاء اليابان الأخرى نوعًا جديدًا من الحروب يختلف اختلافًا جوهريًّا عن الحروب التي شهدتها سابقًا. فلم تعد المعارك تحدث تحقيقًا لمنطق قنص الأعداء من أجل عقاب المتمردين (حرب جيمبيه)، أو من أجل رفعة الأباطرة (حرب جوكيو)، فكان المحاربون يقاتلون من أجل توسعة رقعة الأراضي التي يسيطرون عليها، أو من أجل الدفاع عنها.

مثلما هي الحال مع الحروب السابقة، اندلعت حرب أونين (١٤٦٧–١٤٧٧) بسبب التوترات الهيكلية على قمة الهرم السياسي. كانت هناك ثلاث من عشائر المحاربين، هوسوكاوا، وهاتاكياما، وشيبا، تتولى مهمات الحكام العسكريين، ولكنها كانت أيضًا تتولى بالتبادل فيما بينها منصبًا جديدًا استُحدث خلال شوجونية موروماتشي، عُرف باسم «نائب الشوجون». بعد وفاة الشوجون الثالث، يوشيميتسو (توفي عام ١٤٠٨)، لم يعد الشوجونات التالون يملكون القدرة أو التأثير للسيطرة على الشوجونية بمفردهم. كما لم تكن هناك أي عائلة مثل عائلة هوجو، على علاقة بالشوجون عبر المصاهرة، تملك القوة الكافية لبسط سيطرتها. ومن ثم، تعاون نائب الشوجون وعائلته مع العشائر الأخرى للحفاظ على استقرار الشوجونية. وكان هذا النظام فعالًا عندما كانت العشائر مترابطة داخليًّا، وكان التعامل فيما بينها جيدًا. وضمنت المنافسة فيما بينها ألا تسيطر إحداها على الشوجونية. ولكن عندما زادت العشائر ضعفًا أو نشأت توترات بين عائلات نواب الشوجون، ضَعُفت الشوجونية. كانت النزاعات التي اندلعت داخل هذه العائلات تتعلق بقضايا حول هوية المسيطر على الشوجونية في أي وقت. علاوةً على ما سبق، بدأ الحكام العسكريون يتحولون تدريجيًّا إلى سادة شبه مستقلين، رغم أن هذا المنصب كان مؤقتًا وذا سلطات محدودة خلال حقبة كاماكورا.

كان من السهل عزل عشيرة أشيكاجا بالكامل من السلطة بعد وفاة آخر قادتها العظماء، الشوجون الثالث يوشيميتسو. حافظ يوشيميتسو على سيطرته على الشوجونية حتى بعد تقاعده عبر ابنه، الشوجون الرابع. كان المحاربون والنبلاء، وحتى أسرة مينج الصينية، يحترمون يوشيميتسو، ولكنهم كانوا يحتقرون ابنه. مات الشوجون الخامس في سن صغيرة، أما الشوجون السادس، يوشينوري، الذي أظهر قدرة حقيقية على الحكم، فقد اعتبرته الكثير من عائلات المحاربين المهمة طاغية، وكانوا محقِّين؛ فقد قتل الطهاة الذين لم يؤدوا مهامهم على الوجه الأمثل، والبستانيين الذين كسروا فرعًا من شجرة برقوق، بالإضافة إلى ٥٩ نبيلًا، وبعض المحاربين، أو جرَت تصفيتهم، أو فرُّوا بأرواحهم من بطشه. أما الحاكم العسكري أكاماتسو ميتسوهيدي، فقد اغتال يوشينوري بوحشية بعدما عرف أن يوشينوري بصدد مصادرة أرضٍ منه ومنحها لشخص آخر. أقام ميتسوهيدي حفلًا في فيلته على أطراف مدينة كيوتو، ودعا يوشينوري ومحاربين بارزين آخرين إلى المشاركة في حدث ترفيهي يفضِّله المحاربون، وهو مشاهدة فن النُّو المسرحي. اندفعت فجأة خيول عبر الحدائق، خالقةً إلهاءً مكَّن السفاحين من اقتحام الفيلا وقطع رأس يوشينوري. كتب أحد رجال البلاط في تلك الفترة أن يوشينوري «مات مثل كلب».

مات ابن يوشينوري، الشوجون السابع، طفلًا، فانتقل منصب الشوجون إلى أحد أبنائه الآخرين، يوشيماسا سيئ السمعة. على الرغم من أن يوشيماسا كان مثالًا حيًّا على ذروة مشاركة المحاربين في ثقافة النبالة — إذ كان شاعرًا بارعًا — فإنه كان شوجونًا مترددًا لم يكن لينتج عن تأثيره إلا تدمير الشوجونية. وعندما أراد أن يتقاعد، وبما أنه فشل في إنجاب وريث له، طلب من أخيه يوشيمي أن يتولى منصب الشوجون. وخطط لأن يتبنى شقيقه رسميًّا، وكان هذا حلًّا شائعًا بين المحاربين الذين احتاجوا إلى وريث ولم ينجبوا أبناءً من أصلابهم. كان يوشيمي متشككًا، ولديه كل الحق في ذلك؛ ماذا لو أنجبت زوجة يوشيماسا ابنًا فجأةً؟ كما أن يوشيمي كان قد اختار لنفسه بكل سعادة مسيرة مهنية لا علاقة لها بحكم الشوجونية، كحال أبناء النبلاء الآخرين الذين لم يعودوا مؤهلين لرئاسة العائلة؛ وفي حالة يوشيمي، كان يعمل رئيس دير رهبان بوذيين. مُنيت جميع الأطراف المعنية بالحظ السيئ، فبعدما قَبِل يوشيمي عرض أخيه، أنجبت زوجة يوشيماسا ابنًا. اندلع القتال بين أنصار يوشيمي الكُثر وأنصار ابن أخيه الحديث الولادة في كيوتو، مفاقمًا الوضع الهش الذي تحول فيما بعد إلى حرب أونين.

مثَّلت معارك حرب أونين نقطة تحول نحو نوع جديد من القتال. على الرغم من أن بعض المعارك وقعت في الريف، فإن أغلبها وقعت داخل مدينة كيوتو. لم تمثل المعارك الأسلوب القديم القائم على قنص المجرمين والمتمردين، أو الالتحام بين المشاركين في المعركة في ساحة قتال مفتوحة. أثبت أسلوب تكتلات الرجال المسلحين بالرماح أنه مناسب للحروب داخل المدن أكثر من الرجال الذين يمتطون الخيول. كان القتال يحدث عشوائيًّا في الأفنية والحدائق والشوارع بين رجال لم يكونوا محاربين في الأساس، بل مدنيين جُندوا لزيادة أعداد الجنود في تلك الجيوش الصغيرة. كان الهدف من هذه المعارك هو هزيمة العدو والانتقام في كثير من الأحيان. في الحروب السابقة، كان من لم يقطع رأس خصم من نخبة المحاربين، يُسمَح له بأن يتقاعد في المنفى. ولكن خلال حرب أونين، كان العنف مكثفًا لدرجة أن بعض المحاربين استخدموا جماجم الأعداء المطلية بالورنيش أكوابًا. كانت هذه الحرب طاحنة لدرجة أنه عندما سأل أحد المراسلين الصحفيين الرئيس السابع عشر لعائلة هوسوكاوا، هوسوكاوا موريسادا، والد رئيس وزراء اليابان هوسوكاوا موريهيرو (١٩٩٣-١٩٩٤)، عن إرث عائلته، أجابه موريسادا: «نعم، كانت عائلتنا تمتلك الكثير من الكنوز الثمينة، ولكنها أُحرقت خلال الحرب.» اعتقد المراسل أنه يقصد بكلمة «الحربِ» الحربَ العالمية الثانية، ولكن قال موريسادا موضحًا: «أوه، أعني بكلمة «الحربِ» حربَ أونين.»

لم تتعافَ الشوجونية نفسها بالكامل أبدًا من تلك الحرب، وبدأ المحاربون الذين بقوا في الريف يرسِّخون أقدامهم بين جيرانهم وخصومهم ورؤسائهم الغائبين. بعد دمار كيوتو، بدأ الكثير من سكانها ينزحون منها إلى المدن المحصنة التي كان عددها يتزايد في جميع أنحاء اليابان. وظل الحكام العسكريون، الذين ركزوا طاقاتهم على قواعدهم الإقليمية، يملكون زمام السلطة محليًّا، أما المحاربون الذين لم يكونوا على علاقة وثيقة بأسر المحاربين البارزة، أو لم تربطهم بها أي علاقات، فقاتلوا من أجل امتلاك الأراضي والسيطرة عليها. وصف معاصرون استشهدوا بالتاريخ الصيني تلك الحقبة بأنها فترة «الولايات المتحاربة»، في إشارة إلى الصراعات التي سبقت تأسيس الصين الإمبراطورية مباشرةً. لم تكن المهارة الحربية وحدها كافية؛ فقد احتاج أمراء الحرب إلى احتكار التجارة، وزيادة التبادلات التجارية، وزيادة الدخل، واجتذاب الرجال المثقفين ذوي الأصول النبيلة من كيوتو لسنِّ القوانين التي ساعدتهم في تهدئة الأوضاع في ممالكهم. كما أنهم لم يغضوا الطرف أبدًا عن أي حليف محتمل أثناء جمعهم للمحاربين والمرتزقة والمناصرين من المدنيين ليكونوا في خدمتهم.

لم يكن من الغريب أن يكتب أحد المبشرين اليسوعيين إلى أقرانه في أوروبا مشيرًا إلى أمراء الحرب هؤلاء بوصف «الملوك». لم تكن مقاطعات أمراء الحرب تُعَد ولايات أو ممالك، ولكن كان كل حاكم عسكري يفرض سيطرته على مملكته دون اعتبار للشوجونية، الأمر البعيد كل البعد عن منهج الحكام العسكريين قبل حرب أونين.

كانت عبارة «إطاحة الأدنى بالأعلى» تُستخدم في ذلك الوقت لوصف ظاهرة سيطرة الطموحين المجهولين على مقاطعة، أو اغتصاب جزء من الأراضي لأنفسهم. حتى أمراء الحرب الذين تعود أصولهم إلى عائلات قوية، لم يكن النصر مضمونًا بالنسبة إليهم. كانت عائلة أوتشي، العائلة التي ناصرت أشيكاجا خلال النزاع في البلاطَين الشمالي والجنوبي، واحدة من تلك العشائر البارزة التي ذهبت طي النسيان. سيطرت هذه العائلة على جنوبي اليابان، وحكمت مقاطعتها الساحلية من مدينة حصينة تُسمَّى ياماجوتشي. في هذه المدينة، جمعوا ثروتهم من التجارة مع التجار الكوريين والصينيين القريبين، ولاحقًا، مع التجار الأوروبيين الذين بدءوا يصلون إلى اليابان خلال القرن السادس عشر. في مرحلة ما، أصبحت ياماجوتشي مركزًا اقتصاديًّا حيويًّا للغاية، لدرجة أنها نافست كيوتو نفسها، حتى إن عائلة أوتشي خططت لنقل مقر الإمبراطور الدائم إلى ياماجوتشي. ولكن في نهاية المطاف، أُزيحت عائلة أوتشي عن الحكم بواسطة واحدة من العشائر التابعة لها، عشيرة موري، فانهارت ياماجوتشي ولم تستعد مجدها الآفل مجددًا.

ظلت الشوجونية مصدرًا محتملًا يكتسب منه أمراء الحرب شرعيتهم، مثلما فعل أودا نوبوناجا (١٥٣٤–١٥٨٢). كان نوبوناجا واحدًا من أمراء الحرب الثلاثة الأوائل الذين غزوا مساحات شاسعة من الأراضي، ونجحوا في تهدئة الأوضاع في البلاد. يعكس وصول نوبوناجا إلى السلطة مدى استفادة أمراء الحرب من الاضطرابات. فقد كانت عائلته، عائلة أودا، مجرد محاربين، أتباع ثانويين يخدمون عائلة شيبا، التي كانت فرعًا من عشيرة أشيكاجا. كانت عائلة شيبا تتبادل الأدوار مع عائلتَي هوسوكاوا وهاتاكياما في تولِّي منصب نائب الشوجون، ومثلما حدث مع هذه العائلات، مُنيت عائلة شيبا بالضعف بسبب النزاعات الداخلية في العائلات من النوعية التي أدت إلى حرب أونين، ولم تتمكن من السيطرة على المحاربين في أراضي المقاطعة التي تهيمن عليها. واستطاعت عائلة أودا، التي كانت تؤدي الكثير من المهام نيابة عن عائلة شيبا الغائبة، إزاحة عائلة شيبا من حكم المقاطعة والسيطرة عليها.

fig7
شكل ٣-٤: عادةً ما أظهرت اللوحات المحاربين حليقي الوجوه من دون رسم الكثير من ملامح الوجه. يظهر هذا المحارب من عشيرة شيباتا بمظهر غير لائق في تلك اللوحة الأيقونية المتمردة من القرن السادس عشر، التي تمثل حقبةً سمحت فيها الاضطرابات للناس بأن يتجاهلوا المعايير الجمالية.

ورث نوبوناجا عن والده ألقابه وأراضيه، ولكنه كان مضطرًّا لقضاء سنوات طوال في ضمان سيطرته على عشيرة أودا. وكما هي الحال على مدار تاريخ المحاربين بأكمله، كان أفراد العائلة أهدافًا للنزاع؛ إذ قتل نوبوناجا شقيقه. كما تفاوض مع الرجال المحليين أصحاب النفوذ في المقاطعة، وهي الاستراتيجية التي كانت ضرورية؛ لأن المقاطعة، أواري، كانت في موقع مركزي بالقرب من كيوتو، وكانت مقاطعة زراعية غزيرة الإنتاج. استخدم نوبوناجا مزيجًا من التحالفات السياسية والمهارات الاستراتيجية والتخطيطية، كما استغل قدرته على دمج جنود أعدائه المهزومين في جيشه، في تحقيق النجاح. وفي نهاية المطاف، اجتذب دعمًا من الشوجون أشيكاجا يوشياكي. فقد كان كلا الرجلين بحاجة أحدهما للآخر. كان يوشياكي بحاجة إلى قوة نوبوناجا العسكرية، وكان نوبوناجا يريد الاعتراف بشرعيته من الشوجون، بغضِّ النظر عن مدى ضعف الشوجونية. ولكن لم يقبل نوبوناجا أي ألقاب من الشوجون. فلو قَبِل، لأصبح تابعًا للشوجون، ولَتعقَّدت طموحات نوبوناجا. ومثلما حدث مع عائلة هوجو وجو توبا في عام ١٢٢١، ومع أشيكاجا تاكاوجي وجو شيراكاوا خلال ثلاثينيات القرن الرابع عشر، كان نوبوناجا مجبرًا على الدفاع عن نفسه ضد مؤسسة حاكمة أكثر منه قِدمًا، وكان عليه أن يستخدم القوة لتحقيق ذلك.

ربما لم يسعَ نوبوناجا لتدمير الأهمية السياسية للشوجون ونظامه الحاكم، ولكن هذا لم يمنع انهيار العلاقات بين الرجلين. سعى يوشياكي للحصول على مساعدة خصوم نوبوناجا، بما في ذلك أمير الحرب القوي تاكيدا شينجين، الذي نجح في غزو مساحات شاسعة من الأراضي، مثلما فعل نوبوناجا. أرسل نوبوناجا بدوره إلى يوشياكي قائمة بشكاواه من تصرفات الشوجون. وفي نهاية المطاف، أعلن الشوجون الحرب على نوبوناجا في عام ١٥٧٣، وعلى الرغم من عروض نوبوناجا لإرساء السلام، نفد صبره على يوشياكي الذي فر من كيوتو ولم يعد إليها أبدًا. هزم نوبوناجا التحالف الذي كوَّنه يوشياكي، وأمر بقطع رءوس أمراء حرب الشوجون الثلاثة الكبار، ثم أمر بدهن رءوسهم بالورنيش وتراب الذهب ليعرضها على قواته.

قضى نوبوناجا على آخر أعدائه، البوذية المؤسسية، على مدار بضع سنوات تالية، فقد قتل عشرات الآلاف من معتنقي ديانة الأرض الطاهرة الحقيقية، بما في ذلك رجال ونساء من العامة. وبذلك، قضى إلى الأبد على البوذية كمؤسسة قادرة على الحكم. وطوال ما يزيد على ٥٠٠ عام، ظلت المعابد الكبرى تتمتع برعاية من الطبقة الأرستقراطية ونخبة المحاربين في كيوتو. وبعد حملة نوبوناجا، لم تعد المعابد قادرة على الاستمرار في السيطرة على الجيوش أو امتلاك الثروات كما كانت في الماضي. في عام ١٥٨٢، بعدما دعم البلاط الإمبراطوري نوبوناجا منذ انتصاره على الشوجون، عرض عليه لقب الشوجون. ولكن قبل أن يتسنى له قبول العرض، هاجمه أحد جنرالاته، أكيتشي ميتسوهيدي، وحاصره هو وابنه في أحد المعابد. كان نوبوناجا ووريثه جريحَين ومهزومَين، فانتحرا بعدما أمرا بأن تُحرق جثتاهما. انتهت مسيرة نوبوناجا المهنية كما بدأت، طبقًا لمبدأ «إطاحة الأدنى بالأعلى» الدائم الذي اتسمت به هذه الفترة.

غزا نوبوناجا نحو ثلث اليابان تقريبًا، ووضع سياسات من أجل زيادة التبادلات التجارية، وكوَّن جيشًا كبيرًا، ولكن، كحال جميع أمراء الحرب، كانت مشكلته تكمن في هوية الشخص الذي سيرث هذا الإرث. كان ابنه الذي ظل على قيد الحياة، نوبوتاكا، بعيدًا عن كيوتو عندما وصله خبر مقتل والده وشقيقه الأكبر. وجَّه أصابع الاتهام بالخيانة إلى ابن عمه، فقد كان أبناء العشيرة الواحدة هم المشتبه بهم المعتادين في عائلات المحاربين البارزة. ولكنه أُجبر على التنحي، ما فتح المجال أمام أحد جنرالات نوبوناجا — هيديوشي — كي يثأر لمقتل نوبوناجا ويسيطر على قواته.

كان نوبوناجا تجسيدًا لأحد أنواع قصص حقبة الولايات المتحاربة؛ أن تغتصب عائلة تابعة سلطة سادتها. جسَّد هيديوشي نوعًا آخر من القصص، شخص مجهول من أصول دنيا صعد إلى أعلى المراتب. عَمِل بنفسه، وكذلك كُتَّاب السير الذاتية الأوائل، على تحسين صورته على نحو زائف، فكان يُخبر الأجانب بأن شعاعًا من الشمس دخل رحم والدته وهي حامل به، في إشارة إلى قدسيته. بعبارة أخرى، استخدم كلا وجهَي قصة البطل الكلاسيكية؛ رجل عادي ذو بداية متواضعة، وكذلك مولده المقدس الذي سيؤدي به في النهاية إلى عظمة إلهية محتومة. على أي حال، استفاد هيديوشي من المكاسب التي حققها نوبوناجا، وتمكن من تأمين التحالفات مع أمراء الحرب في ربوع اليابان، وانصياعهم له، والهيمنة عليهم. تمكَّن من تحقيق ذلك عبر تشكيل أكبر جيش في العالم في ذلك الوقت، فقد كان قوام الجيش ٢٠٠ ألف جندي، أكبر بكثير من أي جيش أوروبي عاصر تلك الحقبة. كان يملك بمفرده ١٢ بالمائة من مساحة اليابان، بما في ذلك بعضٌ من أكبر مدنها، مثل كيوتو، وكذلك الموانئ الكبرى التي كانت تسيطر على تبادلات تجارية مربحة مع التجار الصينيين والكوريين والأوروبيين.

لا يجدر بنا أن نعزو نجاح هيديوشي إلى قدراته وحدها، فقد كان أمراء الحرب أنفسهم على استعداد لقبول سياساته حتى يتمكنوا من كبح التهديدات داخل مقاطعاتهم. على أي حال، قبل بضعة عقود من توحيد هيديوشي لليابان، انقلبت عائلة موري التابعة على سادتها، عائلة أوتشي. كانت العقود الأخيرة من أواخر القرن السادس عشر، والأعوام الأولى من القرن السابع عشر، فصولًا في قصة منع الانقلابات التي استفاد منها الكثير من أمراء الحرب هؤلاء. على سبيل المثال، كان المحاربون يُنفَون من القرى لمنعهم من إنشاء قواعد محلية قوية مستقلة عن سلطة أمير الحرب. حاول هيديوشي أن ينزع أسلحة القرويين، مدركًا أن هؤلاء المحليين يهدِّدون سطوته على اليابان. كانوا في بعض الأحيان يشكِّلون جماعات مكافئة من المزارعين والتجار والكهنة المقاتلين، وغيرهم من «المدنيين» الذين كانوا يسلحون أنفسهم ويقاتلون بشكل جماعي. كانت كلمة «محارب» لا تزال مصطلحًا غامضًا. فلم يكن ثمة فارق واضح يميز من يجدر به أن يُطلَق عليه لقب محارب ومن لا يستحقه. تجمَّع أناس من جميع الطبقات الاجتماعية مكوِّنين جماعات حمَت أعضاءها من بطش جيوش أمراء الحرب الجرارة. وكان هجوم على أحد أعضائها يثير ردة فعل لديهم جميعًا، شيء أشبه بحلف شمال أطلنطي ياباني في عصر ما قبل الحداثة. كان قرب الموقع الجغرافي أو حتى اتباع مذهب ديني واحد كافيَين لتبرير الدفاع الجماعي.

رسَّخ هيديوشي سطوته على اليابان في عام ١٥٩٠، ولكن اتسعت طموحاته إلى ما بعد اليابان، لتشمل الصين، وبدأ أكبر حرب في تاريخ العالم في عصر ما قبل الحداثة، حرب إيمجين (١٥٩٢–١٥٩٨). بعدما وحَّد اليابان بفترة قصيرة، أرسل هيديوشي مبعوثين إلى ممثلي الحكومات الأوروبية في آسيا؛ الحاكم الإسباني في الفلبين، والبرتغاليون المستقرون في مستعمرتهم في جوا، إحدى ولايات الهند حاليًّا. جاءت ردودهم مزيجًا من الحيرة وعدم المعرفة بهذا الرجل الذي لم يسمعوا عنه من قبل، ولكن اعتبر هيديوشي ردودهم إقرارًا بعظمته. كان هذا هو مدى ثقة هيديوشي بنفسه. طلب من ملك كوريا أن يمنحه حق المرور عبر أراضي شبه الجزيرة حتى تتمكن جيوشه من غزو الصين. احتجَّ الكوريون على طلبه هذا، وفي عام ١٥٩٢، أمر هيديوشي عددًا من أمراء الحرب، وكان أغلبهم من الجنوب، بأن يرسلوا محاربيهم الساموراي إلى كوريا.

خمن كثيرون سبب اجتياح هيديوشي كوريا. قال البعض إنه كان يريد أن يشغل أمراء الحرب وأفراد الساموراي، تجنبًا لاندلاع ثورة. وعلى الرغم من أنه لا يوجد إجماع على هذا الرأي، فإنه ينطوي على أحد جوانب الحقيقة؛ كان هيديوشي يحب تحريك أمراء الحرب ليظلوا منشغلين، وتظل مواردهم شحيحة. يعتقد البعض الآخر أنه كان يريد التخلص من أمراء الحرب المسيحيين. اعتنق نحو ربع مليون ياباني المسيحية منذ وصول حملات التبشير الكاثوليكية إلى اليابان في النصف الثاني من القرن السادس عشر. كان العدد الأكبر من معتنقي المسيحية يقع في جنوب غرب البلاد، في جزيرة كيوشو، حيث رسَت سفن حملات التبشير للمرة الأولى أثناء ترحالها نحو الشمال على طول الطرق البحرية من جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا (ما جعل اليابانيين يطلقون عليهم اسم «البرابرة الجنوبيين»). كان الكثير من أمراء الحرب الذين أُرسلوا إلى كوريا من معتنقي المسيحية.

رجَحت حرب إيمجين إلى كفة اليابانيين في البداية. فبجيش قوامه ١٥٨ ألف جندي — ضعف عدد جنود أي جيش أوروبي على الأقل — بدأ اليابانيون غزوهم من الجنوب، ووصلوا إلى العاصمة الشمالية في غضون بضعة أسابيع. بالنسبة إلى مملكة تشوسون الكورية، كانت الحرب أشبه بعاصفة عاتية؛ لم تُنظَّم الجيش الكوري جيدًا، وكانت شبه الجزيرة الكورية تنعم بسلام نسبي طوال قرون، ولكنهم وجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة اليابانيين المتمرسين في الحرب. استدعى الملك الكوري راعيه، الإمبراطور الصيني من أسرة مينج الذي أرسل قوة صغيرة. في البداية، لم يكن الإمبراطور يرى أن اليابانيين يشكلون تهديدًا، حتى أُبيدَ الجيش الأول الذي أرسله عن بكرة أبيه. وفي نهاية المطاف، أرسل جيشًا قوامه ١٠٠ ألف جندي تقريبًا. تسبب الدعم الصيني والتفوق البحري الكوري تحت قيادة الأدميرال يي صانسين، الذي عزل القوات المتمركزة في كوريا عن اليابان، في إجبار اليابانيين على الانسحاب. قضى هيديوشي عدة سنوات في مباحثات سلام مع أسرة مينج، ألقى خلالها بعض الجنود اليابانيين أسلحتهم واندمجوا في المجتمعات الكورية، أو انضموا إلى جيش مينج. وأخيرًا، قبل فترة قصيرة من وفاته متأثرًا بمرضه، أعطى هيديوشي أمرًا بالانسحاب الكامل؛ الأمر الذي نفَّذه أمراء الحرب بسعادة غامرة.

دمرت الحرب كوريا التي استغرقت قرونًا حتى تعافت. خلال العصور الحديثة، أصبحت حرب إيمجين هي مصدر التوتر التاريخي الأول بين كوريا واليابان. وفشلت جميع محاولات إنهاء هذا التوتر. فعلى سبيل المثال، يوجد في كيوتو موقع تاريخي قومي يُسمَّى «تل الآذان»، وهي تسمية مضللة إلى حد ما، فقد دُفن فيه ٢٠ ألفًا من أنوف الكوريين. أحضر المحاربون اليابانيون هذه الأنوف معهم إلى اليابان من أجل الحصول على مكافآت مقابلها، عوضًا عن قطع الرءوس. خلال حقبة التسعينيات من القرن العشرين، أنشأ مسئولون من كوريا الجنوبية ومدينة كيوتو حملة لإزالة التل وإرسال محتوياته إلى كوريا الجنوبية لدفنها بصورة لائقة. ولكن رفضت حكومة اليابان المركزية هذا الطلب؛ لأن التل مُصنَّف كأحد الأصول الثقافية القومية.

ظل علماء صينيون يهوِّنون من تأثير الحرب على الصين في ظل حكم أسرة مينج، حتى وقت قريب. ففي نهاية المطاف، لم يتمكن المحاربون اليابانيون من الوصول إلى الصين من الأساس. ولكن أنفق الإمبراطور من أسرة مينج الكثير من الموارد على «الحملة الكورية»، كما تُعرَف في الصين، استنزفت خزائن أسرة مينج. تسبب هذا في إضعاف قدرة الحاكم الصيني على إخماد التمردات الداخلية في الصين وقتال الأعداء شمال البلاد.

fig8
شكل ٣-٥: خلال غزو كوريا، كان المحاربون اليابانيون يجمعون آذان وأنوف جنود العدو والمدنيين كتذكارات. كان ما يُسمَّى في الماضي باسم هانازوكا (تل الأنوف)، ميميزوكا (تل الآذان)، رمزًا لغزوات اليابانيين على شبه الجزيرة الكورية خلال عصر ما قبل الحداثة والعصر الحديث، وكان مكرسًا لأرواح الذين جرى تشويههم.

عاد أمراء الحرب اليابانيون إلى اليابان ومعهم عبيد كوريون، خاصةً أصحاب الحرف والمفكرين. من بينهم خزَّافون أُجبروا على إنشاء ورش لصناعة الخزف الكوري في اليابان. في واقع الأمر، كان غزو هيديوشي كوريا يُسمَّى أيضًا «حرب الخزف». لماذا قد يحتاج أحد الأسماء العظيمة إلى مفكرين وخزافين؟ ما العلاقة بين الحرب والثقافة؟

قيم المحاربين

منذ البداية، اعتمد المحاربون النخبة على علاقاتهم بكيوتو التي تطلبت درجةً معقولة من المعرفة الثقافية. ثمة عدد كبير من الشوجونات خلال حقبة كاماكورا تعود أصولهم إلى عائلات نبيلة من دون أي هوية عسكرية من الأساس. كانت الأنظمة العسكرية في كاماكورا ثم في كيوتو، وكذلك الحكومات المحلية الصغيرة، تستقطب المواهب من العائلات النبيلة المتوسطة المرتبة. ومن ثم، لم يكن مفاجئًا أن يشارك المحاربون النخبة المثقفين في الفنون بمختلف أنواعها ويرعَونها؛ بدايةً من جمع الأعمال الفنية والكتابة على الخزف، إلى تمويل المعابد والتماثيل البوذية، والأعمال الفنية الدينية. حتى إن مدينة كاماكورا امتلكت نظامها الخاص من معابد الزن البوذية الذي كان نسخة طبق الأصل من مثيله في كيوتو.

بالنسبة إلى المحاربين الذين كانوا يطمحون في رتب في البلاط الإمبراطوري، كانت الكتابة شرطًا أساسيًّا للتعامل مع نخبة النبلاء ورجال الدين. ولكن لا يجدر بنا أن ننظر إلى الشعر من منظورنا المعاصر للمصطلح؛ على أنه نشاط ترفيهي مسلٍّ لا يخدم أي غرض سوى التعليق على المجتمع المعاصر. كان الشعر في اليابان فيما قبل الحداثة يُستخدم للتعليق على الأحداث الجارية حينذاك، ولكن الأهم من ذلك، كان يدل على إلمام المرء بالأدب الكلاسيكي الصيني والياباني. كانت البراعة في الكتابة، شكلًا ومضمونًا — كان خط اليد مهمًّا — وسيلةً تُمكِّن النبلاء في كيوتو من الترقي في السلم الوظيفي. تبادل الكاهن جيين الشعر مع يوريتومو، الأمر الذي أدى إلى علاقة أفادت كلًّا منهما؛ كان جيين يحتاج إلى ضمان أحقيته في أرضه، وكان يوريتومو يريد معلومات منه. كما كان الناس يؤلفون الشعر معًا كنشاط اجتماعي، فكانوا يربطون بين القصائد، وكان من الممكن أن يُعرِّض محارب من النخبة نفسه للمهانة على الملأ إذا ما أخفق في كتابة قصيدة بارعة.

مع استقرار المحاربين بشكل دائم في كيوتو خلال حقبة موروماتشي، أصبحوا أكثر مراعاة لحساسية البلاط الإمبراطوري. فكثفوا من تبنِّي الثقافة الأرستقراطية في عائلاتهم، واستخدموا التعاليم الصينية عند وضع قواعد لعشائرهم، وكوَّنوا آدابًا سلوكية موازية للمحاربين حاكت العادات الأرستقراطية. بعبارة أخرى، امتدت جذور الثقافة والهوية الناشئة لدى المحاربين إلى ثقافة النبلاء.

ثمة نص يوضح معنى أن تكون محاربًا جيدًا، وهو رسالة يُزعم أنها كُتبت في أوائل القرن الخامس عشر من قِبَل حاكم عسكري، إيماجاوا ريوشَن، إلى ابنه. تؤكد الرسالة على أهمية التعاليم غير العسكرية، واحترام العشيرة قبل الفرد، وطريقة إدارة العشيرة وممتلكاتها. لم يكن النص سابقة تاريخية، فثمة بعض الموضوعات ظهرت في نصوص محاربين سابقة موجهة إلى طبقة النخبة. تخللت رسالةَ إيماجاوا الأفكارُ البوذية عن احترام الحياة، والتعاليم الكونفوشيوسية عن السلوكيات الصالحة عند التعامل مع الآخرين، الأمر الذي تكرر في الكثير من الكتابات الأولى في شرق آسيا. شمل «قانون المنزل» الذي وضعه إيماجاوا القواعد الآتية:

  • إذا لم تكن تعي فنون السلام، فمهاراتك في فنون الحرب لن تحقق لك النجاح في نهاية المطاف.

  • تحب التجوال، والصقارة، وصيد الأسماك باستخدام طيور الغاق مستمتعًا بخوض غمار الحياة دون غاية.

  • لكي تبني منزلك، هدمت باجودا ومباني أخرى من المعبد التذكاري الذي تركه أسلافك.

  • لقد سمحت لنفسك بأن تنسى العطف الذي أظهره لنا سيدنا وأبونا؛ ومن ثم دمرت مبادئ الولاء وطاعة الوالدين.

  • تتجاهل آراء الآخرين، كما تتنمر عليهم وتعتمد على قوتك.

  • تتميز ببراعة في منافسات شرب الخمر والمُتع والمقامرة، ولكنك تنسى شئون عشيرتنا.

  • تتميز ببراعة في الفنون القتالية والحربية، وذاك هو الطريق القويم للمحارب. أول ما يجعل المحارب مميزًا هو قدرته على الإدارة.

  • يبدو جليًّا من الكتب الأربعة «من الكونفوشيوسية»، والكتب الخمسة القديمة «من الصين»، والنصوص العسكرية أن مَن يمكنه الدفاع عن أرضه ولكنه بلا تعاليم لن يكون بمقدوره أن يحكم.

لم تكن تلك القواعد تنطبق بالضرورة على المحاربين من الطبقات الدنيا، ولكنها كانت تنطبق على المحاربين النخبة، على غرار إيماجاوا. كانت صفوة مجتمع المحاربين هي وحدها التي يمكنها الحصول على تعليم يمكِّنها من قراءة الكتب الصينية القديمة (في واقع الأمر، من شأن الإلمام بالفلسفة الصينية أن يساعد دارسي تاريخ الساموراي المعاصرين في فهم مُثُل المحاربين). خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، استخدم الحكام العسكريون وأمراء الحرب القواعد المذكورة في خطاب إيماجاوا في إدارة عشائرهم، واستعانوا بها لوضع تعاليم مماثلة. وصل خطاب إيماجاوا إلى ذروة شهرته خلال حقبة توكوجاوا (١٦٠٠–١٨٦٨) التي كانت حقبة يعمها السلام، انحصر خلالها تعليم المحاربين على الإدارة والتعاليم المدنية، وليس على المهارات العسكرية.

ظهر فكر المحاربين أيضًا في تعاليم هوجو سوون، وهو محارب من القرن الخامس عشر دان بالولاء إلى عشيرة إيماجاوا خلال حقبة الولايات المتحاربة. لم يكن على صلة مباشرة بعشيرة هوجو من حقبة كاماكورا (١١٨٥–١٣٣٣)، ولكنه تعمَّد استخدام إضافة اسم العائلة إلى اسمه كي يرث إرثهم القوي، فالمحاربون يتخذون مُثُلهم العليا من الماضي. انتشرت تعاليمه بين كل المحاربين في الأراضي التي يسيطر عليها، بما في ذلك حكم كالآتي:

  • استيقظ في ساعة مبكرة. فإذا استيقظت متأخرًا، فسيهمل خدمك مهامهم، ولن يكونوا ذوي فائدة لك. وستعم الفوضى شئونك العامة والخاصة. وسيتخلى عنك سيدك. فكِّر في هذا الأمر بعناية.

  • لا تفكر في أنه يجدر بك أن تمتلك سيوفًا وملابس أنيقة مثل الآخرين. راعِ فقط ألا تبدو رثَّة، هذا كافٍ. سيسخر منك الناس إذا ما اقترضت ما لا تملك، أو بذلت جهدًا كبيرًا للغاية على هذه الأمور.

  • خلال بحثك عن أصدقاء جيدين، صادق أولئك الذين يجيدون الكتابة والتعلم بوجه عام، الأصدقاء السيئون الذين يجدر بك تجنبهم هم أولئك الذين يلعبون جو، شوجي (نوعٌ من الشطرنج)، ويعزفون على المزمار أو الشاكوهاتشي (مزمار مصنوع من الخيزران يُنفخ في طرفه). لا عيب في جهلك بمثل هذه الهوايات. إنها مجرد وسائل لتمضية وقت الفراغ. يُحدَّد الرجل الجيد والسيئ بأصدقائه. (اقتباسًا من تعاليم كونفوشيوس): «عندما يسير ثلاثة رجال معًا، فسأنتقي من بينهم معلمين. أختار اتباع الأشياء الصالحة في الرجل الصالح، وأتعلم من الرجل السيئ كيف أحسِّن من نفسي.»

  • يجدر بك، ولا شك، أن تتعلم أساليب الثقافة (بَن) والحرب (بو)، إلى جانب الفنون القتالية (أي «القوس والحصان»)، ولا حاجة لكتابة المزيد عن ذلك. منذ الأزل، كانت القاعدة أن الثقافة المدنية تقع عن يسار المرء، والتعاليم العسكرية تقع عن يمينه، وعليه أن يمارس كلتيهما.

كان لدى سوون أيضًا الكثير ليقوله عن كيفية خدمة المرء لسيده: يتعين على المرء أن يُظهِر احترامه لسيده دائمًا، وأن يطيع أوامره بالحرف الواحد ومن دون تأخير، كما يتعين على المرء أن يحافظ على منزله. وكما هي الحال بالنسبة إلى خطاب إيماجاوا، ساوت كتابة سوون بين الفنون المدنية والفنون القتالية من حيث الأهمية.

المحاربون في ثقافة كيوتو

خلال حقبة موروماتشي، بدأ المحاربون أيضًا في اقتحام مجال الفنون في كيوتو، رغم أنه لم يكن من صنعهم؛ مجال جمع الأعمال الفنية، والتذوق الفني، والأداء الفني. زاد تداخل السياسة والفن أكثر مع وجود أشيكاجا في كيوتو. حتى إن أمراء الحرب القليلي الخبرة، على غرار أودا نوبوناجا، لم يتمكنوا من مقاومة إغراءات المكاسب الاجتماعية والسياسية التي ستعود عليهم من جذب النبلاء والأثرياء من العامة نحوهم عبر الفنون.

ما قد نعتقد في عصرنا الحالي أنه ثقافة يابانية «تقليدية»، مثل مسرح النُّو أو حفلات الشاي، شهد توسعًا خلال حقبة الحرب واستفاد من رعاية المحاربين. أصبحت هذه الأنشطة مجالات جديدة من المعرفة، فقد أنشأ الفنانون أنفسهم أنواعًا جديدة من شبكات المعارف عبر التعامل مع النبلاء والرعاة من المحاربين. كان المسرح موجودًا في اليابان منذ أمد بعيد، ولكننا لا نعرف الكثير من التفاصيل عنه إلا بعدما أصبح مجالًا فنيًّا معرفيًّا كُتب عنه وصُنِّف تحت اسم «النُّو» خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. لم تكن ثمة أي نصوص حاولت تحديد معايير المسرح، أو تدريباته، أو فنياته. ظلت الحال على هذا المنوال حتى حصل زيامي، الذي يُعَد مبتكر مسرح النُّو، على رعاية شوجون أشيكاجا الثالث، يوشيميتسو، فبدأ يعقد علاقات مع المفكرين الذين أمدوه بالتعليم والمفردات التي مكَّنته من الارتقاء بالمسرح من مرتبة الترفيه إلى الفن الراقي. كانت مسرحيات النُّو تُعرَض على جمهورها الجديد، وكثيرٌ من عروضها كانت تتحدث عن محاربين أبطال استمُدت قصصهم من قصة الهائيكي الكلاسيكية.

كان للفن دور عملي؛ فقد كان المحاربون يتمكَّنون من دخول الشبكات الاجتماعية المكونة من المدنيين عبر الأنشطة الثقافية. لم يبدأ نوبوناجا ممارسة لعبة الكيماري (يُشار إليها عادةً على أنها كرة ركل بالقدم، ولكنها في الحقيقة أقرب إلى كرة من القماش) إلا بعد أن قضى بعض الوقت في كيوتو مع النبلاء. كان النبلاء، وكذلك شوجونات كاماكورا، يستأجرون مدربي الكيماري لتحسين مهاراتهم في اللعبة، ورغب محاربون آخرون من النخبة في المشاركة. وبالمثل، سمح جمع الأعمال الفنية للمحاربين بالاختلاط مع الأثرياء وتكوين تحالفات مع محاربين آخرين عبر منحهم الهدايا، أو عبر منح المكافآت للتابعين.

كانت حفلات الشاي من بين أنشطة الترفيه الأرستقراطية المميزة التي انتقلت إلى صفوف المحاربين، وتحولت في النهاية إلى إحدى سماتهم المميزة. انطوت حفلات الشاي على نشاطين؛ جمع الأعمال الفنية وتذوقها مع التدريبات الرياضية. بدأت تجمعات الشاي كمناسبات اجتماعية حيث تُعرَض الأعمال الفنية النادرة، وربما كان هذا يحدث كجزء من مناسبات أخرى تستغرق يومًا كاملًا، مثل كتابة الشعر أو حتى ممارسة الألعاب. ولكنها تحولت تدريجيًّا لتصبح حدثًا اجتماعيًّا حميميًّا يجتمع فيه بضعة رجال من طبقات اجتماعية مختلفة، في غرفة صغيرة متواضعة، حيث يكون التركيز منصبًّا على المُضيف الذي كان يُعد الشاي لضيوفه. في هذا السياق أيضًا، يُعَد نوبوناجا المحارب البارز الأول الذي يشارك في هذه الممارسة، فقد وظف اثنين من خبراء الشاي المعروفين، أحدهما سين نو ريكيو، خبير الشاي الأول، الذي أسهب في الكتابة عن جماليات الشاي، والذي لا تزال تعاليمه تُتَّبع حتى يومنا هذا.

استمد هيديوشي نماذجه الثقافية من نوبوناجا، كحال المحاربين الآخرين. فأبقى على توظيف ريكيو لديه معتمدًا عليه كأحد مساعديه. كانت وظيفة ريكيو لدى هيديوشي أن ينظم تجمعات الشاي، ويعرض الأدوات المتعلقة بالشاي، ويدرس جماليات الشاي التي حددها ريكيو نفسه وحسَّنها. حتى إن هيديوشي نظَّم حدثًا كبيرًا للشاي في مكان مفتوح، ودعا الجميع لحضوره، بغضِّ النظر عن مكاناتهم الاجتماعية. ولكن تعارض عالم الشاي الدائم التقلب مع رغبة المحاربين في إرساء النظام؛ فأولئك الذين لم يحضروا الحدث مُنعوا من المشاركة في تجمعات الشاي العامة المستقبلية. ويمكن المرء أن يتخيل التوتر الذي حدث بين محارب مهيمن يخطط لغزو الصين وخبير الشاي الذي يعمل لديه، والذي كان يُعتبر رمزًا ثقافيًّا.

في إشارة إلى أهميته، أشرف ريكيو على وضع تمثال له على بوابة أحد معابد الزن المهمة. اعتبر هيديوشي هذا الأمر إهانة له، فكان سيمر من تحت قدمَي ريكيو عند دخول المعبد. في عام ١٥٩١، أعطى هيديوشي أمرًا لريكيو أن يقتل نفسه. بعدما كتب قصيدته الأخيرة، وبقر بطنه بسيف قصير، أظهر له أحد المحاربين الحاضرين الرحمة وقطع رأسه. بغضِّ النظر عن السبب الذي دفع هيديوشي لإعدام ريكيو، كان خبير الشاي مثالًا على تحدي سلطة هيديوشي في عالم لا يمتُّ بصلة إلى السياسة أو الحرب، فقد كان الناس يطيعون هيديوشي، ولكنهم يستمعون إلى ريكيو بتوقير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤