المعلومات
في لعبةٍ كاملة المعلومات مثل لعبة الشطرنج، يكون اللاعبون على دراية بكل ما حدث حتى الآن في اللعبة. وعندما تكون المعلومات غير كاملة، يتعيَّن علينا أن نقتفي أثر ما يعلمه اللاعبون عندما يتسلَّقون شجرة اللعبة. وعلَّمَنَا فون نيومان أن نفعل ذلك باستخدام الفكرة البسيطة المتمثِّلة في مجموعة المعلومات.
كلما زاد عدد مجموعات المعلومات التي نضعها في صيغةٍ شاملة، تتضاءل صيغتها الاستراتيجية. والسبب هو أن كلَّ ما تفعله الاستراتيجية الخالصة أنها تحدِّد إجراءً عند كل مجموعة معلومات خاصة باللاعبين، وليس عند كل عقدة قرار تتضمَّنها.
إذا أزلْنا مجموعة المعلومات في نسخة مطابَقة العملات المعدنية التي تتحرَّك فيها أليس أولًا، فسيكون لدى بوب ٤ = ٢ × ٢ استراتيجيات خالصة؛ حيث تحدِّد كل استراتيجية منها الإجراء الذي سيختار اتخاذه مقابل كل إجراءٍ من الإجراءين اللذين ستتخذهما أليس. ومع وجود مجموعة المعلومات، لا يستطيع بوب أن يجعل إجراءه مشروطًا بإجراء أليس؛ لأنه لا يعرف الإجراء الذي ستتخذه. لذلك، فلديه استراتيجيتين خالصتين فقط، بمعدل استراتيجية خالصة واحدة لكل إجراء.
(١) البوكر
لُعبة البوكر هي المثال النموذجي للُّعبة ذات المعلومات الكاملة. وعلى عكس الشطرنج، يمكننا أن نحلَّ نسخًا بسيطة من البوكر بوضوح.
لقد صرتُ خبيرًا في نظرية الألعاب بفضل تحليل فون نيومان للُعبة البوكر؛ فقد عرفتُ أن لاعب البوكر الجيد يخادع كثيرًا، لكنني لم أصدِّق أن الخداع يمكن أن يكون على هذا القدر الكبير من المثالية كما زعم فون نيومان. وكان ينبغي أن أحسِّن مستوى معرفتي بدلًا من الشك في هذا المعلِّم. وبعد الكثير من التفكير المضني، لم أُضطرَّ فقط إلى التسليم بوجهة نظره وسلامة حجَّته، وإنما وجدتُ نفسي أيضًا متشبِّثًا بنظرية الألعاب على نحوٍ ميئوس منه منذ ذلك الحين فصاعدًا.
على الرغم من ذلك، سيُصيبك الإحباط إذا كنتَ تأمل أن تصير غنيًّا من خلال لعب استراتيجيةِ أقصى الأدنى على طاولة البوكر. يلعب اللاعبون في بطولات البوكر العالمية في لاس فيجاس بأسلوبٍ أقرب إلى نصيحة فون نيومان منه إلى الهواة مثلي ومثلك، لكنَّ لاعبين أسطوريين مثل اللاعب الكبير أماريلو سليم لا يكسبون؛ لأنهم يلعبون وفقًا لنظرية أدنى الأقصى.
إن استراتيجية أقصى الأدنى لا تؤدِّي إلى تحقيق متوسط عائد ضعيف لا يتجاوز الصفر في لعبة عادلة وحسب، وإنما ستجعل اللعبة مملة للغاية كذلك.
على سبيل المثال، إذا حصلتْ أليس على أربع ثمانيات عندما تلعب أمام بوب في لعبة بوكر، فإن استراتيجية أقصى الأدنى لديها تقول إنه يتعيَّن عليها إعادة المزايدة ٤ مرات، ثم الانسحاب في حال لجأ بوب إلى المزايدة مرةً أخرى. لكسب المال في لعبة البوكر الواقعية، يجب أن تكون أكثر جرأةً ومِقدامًا. يجب أن تسعى بجدية وتستغل الثغرات النفسية لدى خصومك. لكن، لو لم تكن أستاذًا في علم النفس الإنساني بالفطرة مثل أماريلو سليم، فإن محاولاتك البسيطة لاستغلال عيوب الآخرين من المحتمَل أن ينتهي بها الحال إلى استغلالك أنت.
(١-١) الخداع
لا تقلق إذا كنت لا تعرف الفرق بين توزيعة «ستريت فلاش» و«فول هاوس»، أو قواعد المراهنة في «تكساس هولدم». فالنموذج المصغَّر لفون نيومان يُزيل كل هذه التعقيدات.
يُوزَّع على أليس وبوب عددٌ ما بين الصفر والواحد. ويهدف كلاهما إلى تعظيم متوسط عوائده من الدولارات على افتراض أن كل الأعداد ستُوزَّع على الأرجح بالتساوي على خصمك، بصرف النظر عما وُزِّع عليك. فإذا وُزِّع العدد ٠٫٦٦٧ على أليس، فهي تعتقد أن لديها على الأرجح بطاقةً أكبر من بوب بنسبة ٢ : ١.
قبل بدء التوزيع، يراهن كل لاعب بمبلغ دولار واحد ويضعه في الإناء. وبعد التوزيع، تُجرى جولة مراهَنة، يحقُّ لبوب الانسحاب خلالها. إذا انسحب بوب، تفوز أليس بالمبلغ المُراهَن عليه، بصرف النظر عمَّنْ معه بطاقات أفضل. وإذا لم ينسحب بوب، يكشف كل لاعب عن بطاقاته، وبعدها يكسب اللاعب الذي لديه بطاقة أكبر. وتحدث عملية الكشف هذه عندما يراهن بوب بنفس إجمالي المبلغ الذي راهنتْ به أليس.
يحدِّد نموذج فون نيومان احتمالات المراهنة على نحوٍ صارم. تستطيع أليس في البداية أن تمرِّر الدور إلى بوب فحسب (بإضافة صفر دولار إلى المبلغ المُراهَن عليه)، أو تزيد المراهنة (بإضافة دولار واحد إلى المبلغ المُراهَن عليه). وإذا اكتفت بالتمرير، فعلى بوب أن يطبِّق أسلوب المعادلة؛ وهو المراهنة بأقل قيمة تضمن له الاستمرار في الجولة. وإذا زادت أليس، فلدى بوب الخيار: إما أن ينسحب أو يُعادِل.
(١-٢) نموذج أبسط
تبدو شجرة اللعبة معقَّدة للغاية، حتى إنك ربما تُفاجأ عندما ترى أنك على علم بكل ما تحتاج إلى معرفته لحل اللعبة. في البداية، عليك حذف الاستراتيجيات المُهيمنة بتظليل الفروع التي من الواضح أنها أفضل من منافسيها. على سبيل المثال، على أليس أن تكتفي بالتمرير عندما تحمل بطاقة الملكة؛ لأن بوب سيلجأ إلى المعادلة فقط عندما تكون لديه بطاقة أليس. وبذلك، يتبقَّى لدينا قراران محل شكٍّ. هل تخادع أليس عندما تمسك بالولد؟ هل يُعادِل بوب عندما يُمسك بالملكة؟
(٢) الأنماط
وفقًا للفيلسوف هوبز، يتميَّز الإنسان بقوته البدنية وعواطفه وخبرته وأخيرًا بعقله. في نظرية الألعاب، تتحدَّد القوة البدنية لأليس بقواعد اللعبة، وتُترجم عواطفها إلى تفضيلاتٍ خاصة بها، وتُترجم خبرتها إلى معتقداتها. أما عقلها، فيقودها إلى التصرُّف بعقلانية.
تُحدِّد هذه الخصائص الأربع نمط اللاعب. ووفقًا للتحليل العقلاني لأي لعبة، فإنه من المسلَّم به أن أنماط جميع اللاعبين تكون معروفةً عمومًا، وذلك ما لم يزعم أحدٌ خلاف ذلك. ويؤكِّد أحيانًا على أهمية هذا الافتراض بزعم أن المعلومات كاملة في اللعبة.
متي يكون من المعقول افتراض أن المعلومات كاملة؟ فلعبةٌ مثل الشطرنج لا تؤدِّي إلى أي مشكلة، لكن ماذا عن لعبة ضبط الأعصاب؟ هل من المحتمَل حقًّا أن أليس ستعرف درجة كره بوب للمخاطر بالقدر الكافي الذي يتيح لها حساب عوائده؟ ماذا سيعتقد بوب عن عوائدها؟ ماذا ستعتقد أليس عما يعتقده بوب عن عوائدها؟
(٢-١) جون هارساني
لا تعرف أليس البطاقات التي في حوزة بوب في لعبة البوكر، ولا يعلم بوب ما تعتقده أليس عن بطاقاته، ولا تعرف أليس ما يعتقده بوب عما تعتقده أليس عن بطاقاته، وهكذا. ونستطيع أن نغلق هذه السلسلة اللامتناهية من المعتقدات المتعلِّقة بمعتقداتٍ أخرى وهكذا بافتراض أن الحركة الاحتمالية المتمثِّلة في خلط البطاقات وتوزيعها أمرٌ معروف وعام. ويُعلِّمنا جون هارساني كيفية استخدام حيلةٍ مماثلة عندما تكون المعلومات غير كاملة.
عاشَ هارساني حياةً مليئة بالمخاطر وحافلة بالأحداث بالنسبة إلى شخص أكاديمي. فقد استطاع أن ينجو بصعوبةٍ من الكارثة باعتباره يهوديًّا يعيش في المجر، ولم يحدث ذلك مرةً واحدة بل مرتين. فبعدما هرب من معسكرات الموت للنازيين، عبَرَ الحدود المجرية بصفة غير قانونية إلى النمسا مع زوجته؛ هربًا من الاضطهاد هذه المرة على أيدي الشيوعيين الذين حكموا البلاد بعد ذلك. وكان عليه، بعد وصوله إلى الغرب، أن يبني حياته المهنية مجدَّدًا من البداية؛ حيث بدأ بوظيفة في مصنع في أستراليا.
ومثلما يحدث مع الكثيرين من ذوي العقول العبقرية، لم تُقدَّر موهبته في البداية حقَّ قدرها. واستغرق الأمر ٢٥ عامًا قبل أن يقدِّر علماء الاقتصاد فكرته العبقرية للتعامل مع المعلومات غير الكاملة، لكنه كان لا يزال حيًّا عندما منحوه جائزة نوبل عام ١٩٩٤، مناصفةً مع جون ناش وراينهارد زلتن، نظير أبحاثه على المعلومات غير الكاملة في مجال الألعاب. ومن غير المعروف بعدُ إن كانت أبحاثه في مذهب النفعية التي هي على القدر نفسه من الأهمية، ستلقى تقديرًا مماثلًا الآن بعد وفاته.
(٣) المعلومات غير الكاملة
على الرغم من أن علماء الاقتصاد يتحدَّثون عن الألعاب ذات المعلومات غير الكاملة، فلا يوجد شيءٌ كهذا في الواقع. توضِّح نظرية هارساني كيف يمكن لموقفٍ ذي معلومات غير كاملة أن يتحوَّل إلى لُعبة ذات معلومات غير تامة، نحلِّلها بعد ذلك باستخدام فكرة التوازن لدى ناش.
عندما تكون المعلومات غير كاملة، تكون المشكلة عادةً أن اللاعبين ربما يكونون من أنماطٍ متنوعة ولديهم تفضيلات ومعتقدات مختلفة. اقترح هارساني التعامل مع هذا النوع من المواقف كما لو أن كل لاعب مُوزَّعٌ عليه نمط ما، كما في لعبة البوكر.
يجب أن تكون خصائص حركة تعيين النمط هذه معروفةً إذا كنا نريد لطريقة هارساني أن يحالفها النجاح. ويبدو أن علماء الاقتصاد لا يقلقهم هذا المطلب، لكنني أرى أن هذه الطريقة لا يمكن تطبيقها حقًّا إلا عندما تكون كل المعلومات التي يلزم أن تكون معروفةً وعامة متوافرة بالفعل في قاعدة بياناتٍ يعرف الجميع أن في مقدور كل شخص منهم الوصول إليها.
(٣-١) الجهل الأُحادي الجانب في لُعبة ضبط الأعصاب
لتطبيق طريقة هارساني، تصوَّرْ حركة احتمالية تُوزِّع على بوب نمطه، الذي يحدِّده أعلى عائدٍ له في هذا المثال؛ لذا، يتعيَّن على بوب وفقًا لإحدى استراتيجياته الخالصة أن يتصوَّر كل نمط من المحتمَل أن يُوزَّع عليه.
تتحدَّد احتمالات الأنماط المختلفة التي تُوزَّع على بوب من اعتقادات أليس. لربط الأمور معًا، افترِضْ أن من المعروف عمومًا أنَّ أليس تعتقد أن نمط بوب يكون محصورًا على الأرجح بين ٣ و٩. إذا كان القديس فرانسيس الأسيزي يقود سيارة بوب، فسيكون بلا شكٍّ من النمط ٣، لكن لن يزيد النمط عن ٩ في هذا النموذج المصغَّر حتى لو كان مَن يقود السيارة هو أتيلا الهوني.
إنَّ الصيغة الشرطية الضمنية التي ينطوي عليها هذا الأسلوب القائم على بناء النماذج عادةً ما تبعث على عدم الارتياح. إذا كان بوب يعلم أنه ليس قدِّيسًا، فلماذا يتعيَّن عليه أن يتصرَّف كما لو كان يلعب لعبةً ربما يتقمَّص فيها شخصية القديس فرانسيس؟
يعلم بوب نمطه، لكنَّ أليس تظل جاهلةً بنتيجة حركة تعيين النمط؛ لذا، تكون لديها استراتيجيتان فقط: «إبطاء» و«إسراع». ويكون لدى بوب عددٌ هائل من الاستراتيجيات، لكننا ندرس فقط الاستراتيجية التي فيها يختار «إبطاء» إذا كان نمطه أقل من عددٍ معيَّن، ويختار «إسراع» إذا كان نمطه أكبر منه.
حدَّدنا سابقًا ثلاث حالاتٍ من توازن ناش للُعبة ضبط الأعصاب: توازنَين خالصَين وتوازنًا مختلطًا. يظل التوازنان الخالصان توازنَين في اللعبة التي تنطوي على جهل أُحادي الجانب. يمثِّل التوازن الأول العُرف القائل بتقديم السيدات أولًا: تلعب أليس «إسراع» ويلعب بوب دائمًا «إبطاء» بصرف النظر عما يَئول إليه نمطه. ويمثِّل التوازن الثاني العُرف القائل بتقديم الرجال أولًا: فتلعب أليس «إبطاء» ويلعب بوب دائمًا «إسراع».
عندما لا يكون هذا العُرف متوافرًا — كما الحال عند القيادة في كثافة مرورية عالية — علينا أن ننظر إلى تشبيه قياسي للتوازن المختلط في لعبة ضبط الأعصاب التي غالبًا ما يختار فيها كل لاعب «إبطاء» و«إسراع» بنفس عدد المرات. ونبدأ بأن نجعل أليس غير متحيِّزة لأيٍّ من الخيارين «إبطاء» و«إسراع». ومن ثَم، فإن أي استراتيجية مختلطة تكون استراتيجية مُثلى بالنسبة إليها. ويستطيع بوب أن يجعل أليس غير متحيِّزة بأن يختار لعب «إبطاء» عندما يكون نمطه محصورًا بين ٣ و٦، و«إسراع» عندما يكون نمطه محصورًا بين ٦ و٩. وسيبدو الأمر لأليس كما لو أن بوب يلعب «إبطاء» و«إسراع» غالبًا بالقدر نفسه. لكن، يجب ألا تلعب أليس «إبطاء» و«إسراع» بنفس عدد المرات كما في التوازن المختلط المشار إليه سابقًا في الفصل الثاني؛ لأن الاستراتيجية المُثلى لبوب حاليًّا التبديل من «إبطاء» إلى «إسراع» عندما يكون نمطه ٦. ولجعله غير متحيِّز لأيٍّ من الخيارين «إبطاء» و«إسراع» عندما يكون عائده ٦، يتعيَّن على أليس أن تلعب «إسراع» ثلاثة أضعاف لعبها «إبطاء».
لاحِظْ كيف أن معدَّل وقوع الحوادث يزيد عندما نجعل أليس جاهلةً بنمط بوب. في التوازن المختلط في النسخة الأصلية من لعبة ضبط الأعصاب، اختار كلٌّ من أليس وبوب «إسراع» نصف الوقت؛ ومن ثَم، يصبح احتمال أخْذ كلا اللاعبَيْن بخيار الإسراع ١ / ٤؛ مما يتسبَّب في وقوع حادث. وفي التوازن المقابل من نسخة الجهل الأُحادي الجانب، يرتفع احتمال وقوع حادث إلى ٣ / ٨.
(٣-٢) الجهل الثنائي الجانب في لعبة ضبط الأعصاب
نطبِّق طريقة هارساني مرةً أخرى باستحداث خطوة حظٍّ توزِّع نمطًا على كل لاعب على حِدة، بحيث يعتقد اللاعب الآخر أن النمط المحتمَل محصور بين ٣ و٩ بقدر متساوٍ. ويظهر التوازن المثير للاهتمام عندما يلعب كلٌّ من أليس وبوب «إبطاء» عندما يكون نمطهما أقل من ٥، ويلعبان «إسراع» عندما يكون نمطهما أكبر من ٥؛ لذا، سيبدو لكلا اللاعبَيْن أن خصمهما يلعب «إسراع» ضِعف عدد المرات التي يلعب فيها «إبطاء». ومن ثَم، سيكون اللاعب صاحب العائد ٥ الأعلى غير متحيِّز للعب «إبطاء» و«إسراع». ويكون خيار اللعب الأمثل لكلٍّ من أليس وبوب هو التبديل من «إبطاء» إلى «إسراع» عندما يصل نمطهما إلى ٥.
إنَّ احتمال وقوع حوادث الآن هو ٤ / ٩، وهو أكبر من الاحتمال ٣ / ٨ الذي توصَّلنا إليه في حالة الجهل الأُحادي الجانب، لكننا على وشك أن نعرف أن ارتفاع مستوى الجهل يمكن أحيانًا أن يُحسِّن من وضع اللاعبين.
(٣-٣) هل الجهل نعمة؟
إنَّ أليس وبوب على وشك لعب توازن ناش الذي وجدناه توًّا للُعبة ضبط الأعصاب في سيناريو الجهل الثنائي الجانب. فكلٌّ منهما من النمط ٤، ولذلك ينوي كلاهما أن يلعب «إبطاء». في هذه الحالة، ليس ثمة أيُّ احتمال لوقوع حوادث، وسيحصل كل لاعب على عائد ٣ يوتل.
إذن، يمكن أن تؤدِّي زيادة المعلومات لدى الجميع إلى تفاقم الأمور لديهم. ومن المؤكَّد أن زيادة المعرفة لا تصبُّ في مصلحة اللاعب تمامًا إلا في حال كان اكتسابُها سرًّا؛ لذا، إذا أخبرت باندورا أليس سرًّا بما عليه واقع اللعبة حقًّا، فسوف تلجأ أليس إلى التبديل من «إبطاء» إلى «إسراع»، ويتحسَّن عائدها من ٣ إلى ٤ يوتل.
إنَّ الاستنتاج القائل بأن إفشاء المعلومات يمكن أن يُلحِق ضررًا بالمجتمعات يطرح مسألةً أخلاقية مهمة. فهل يجوز للسياسيين شرعًا إخفاء الحقيقة عملًا على مصلحتنا؟ ربما يكون جون ستيوارت ميل الفيلسوف الأكثر اعتدالًا بين عدد من الفلاسفة بدءًا من أفلاطون ومَنْ خلفه الذين أجابوا ﺑ «نعم» عن هذا السؤال، لكن الإجابة في رأيي هي «لا». إنني أَلزم الصمت عندما أعلم أن أحدهم يخون زوجته، لكنني أريد أن يعتقد الناس أن من الصواب كشف المخالفات والإبلاغ عنها في الحياة العامة. فعادةً ما يتضح أن الأكاذيب التي من المفترض أن تعزِّز المصلحة العامة تصبُّ فقط في مصلحة الكذَّابين.
(٤) إعطاء إشاراتٍ عن النمط
عندما يلعب الناسُ لعبة ضبط الأعصاب في الحياة الواقعية، فإنهم يبحثون عن أدلة قد تعطيهم أي إشارة عن نمط الخصم الذي يلعب أمامهم. هل تقود أليس شاحنة صغيرة قديمة ومنبعجة؟ هل يرتدي بوب قلادة ثقيلة توحي بأنه شخص متهوِّر؟
حتى نقدِّم إشاراتٍ فعَّالة عن نمط لاعبٍ ما، يجب عادةً أن تكون الإشارة ذات فائدة تستوجب إرسالها. إذا وُزِّع على أليس زوجٌ من البطاقات فئة «اثنين» في لعبة البوكر، فلن يساعدها في شيءٍ أن تخبر بوب أنها قد وُزِّع عليها أربع بطاقاتٍ فئة «واحد». يرفض خبراء نظرية الألعاب مثل هذا الكلام المفخَّم العقيم ويعتبرونه «لغوًا فارغًا»؛ فالمهم الفعل وليس الكلام. ولن ينتبه بوب إلى إشارة أليس إلا إذا كانت صادقةً فيها، وهو ما يشكِّل حافزًا بالنسبة إليه. لكن، إذا لجأت أليس إلى الخداع بالمراهنة كما لو كانت تحمل أربع بطاقاتٍ فئة «واحد»، فإنها تخاطر بأن يلجأ بوب إلى المعادلة، وهي المراهنة بأقل قيمة يمكن المراهنة بها للاشتراك في دورة اللعب الحالية، ومن ثَم خسارة رهانها.
بالرجوع إلى لعبة ضبط الأعصاب في سيناريو الجهل الثنائي الجانب، افترِضْ أن كلًّا من أليس وبوب يمكنهما إرسال إشارةٍ مكلِّفة متزامنة، تقول: «إنني ذو نمط قوي، فلا تورِّط نفسك معي.» لو أن بعض الأنماط يرسل هذه الإشارة لتسجيل قوته، فإن التزام الصمت يصبح إشارةً على الضعف. ومن ثَم، فنحن بحاجةٍ إلى التفكير في لعبة جديدة يتمتع فيها كلا اللاعبَيْن بفرصة استراتيجية لإرسال إشارة تدل على القوة أو الضعف قبل بدء لعبة ضبط الأعصاب. ولْنفكِّرْ في توازن معين للُعبة فرعية تامة، يرسل فيه اللاعبون الذين يتجاوز نمطهم ٥ إشارةً تدل على القوة، ويرسل اللاعبون الذين يقل نمطهم عن ٥ إشارةً تدل على الضعف.
إذا كانت أليس تدَّعي القوة بإرسال الإشارة، ويسلِّم بوب ضمنيًّا بضعفه بالتزامه الصمت، فإن التوازن يقتضي أن يلعب كلاهما لعبة ضبط الأعصاب تبعًا للقاعدة: السيدات أولًا. وهذا يعني أن تُسرع أليس ويُبطئ بوب. أما إذا أرسل بوب الإشارة ولم تفعل أليس، فإنهما يلعبان تبعًا للقاعدة: الرجال أولًا. ومن ثَم، يُسرع بوب وتُبطئ أليس.
تنشأ الحالات الأكثر إثارةً للاهتمام عندما يقدِّم كلٌّ من أليس وبوب الإشارة، أو عندما لا يرسل أيٌّ منهما أي إشارة. لقد تعرَّفنا من قبل على كيفية تحليل نُسخ لُعبة ضبط الأعصاب التي تنشأ في حالة سيناريو الجهل الثنائي الجانب. إذا أرسل كلا اللاعبَيْن إشارةً، يصبح من المعروف عمومًا أن نمط الاثنين محصورٌ بين ٥ و٩. ومن ثَم، يتحقَّق توازن ناش لو اختار اللاعبون أصحاب النمط الأقل من ٦ «إبطاء»، واختار اللاعبون أصحاب النمط الأكبر من ٦ «إسراع». وفي حالة ما لم يقدِّم أيٌّ منهما أي معلومة، يصبح من المعروف أن النمط لكلا اللاعبَيْن محصورٌ بين ٣ و٥. ومن ثَم، يتحقَّق توازن ناش لو اختار اللاعبون أصحاب النمط الأقل من ٤ «إبطاء» واختار اللاعبون أصحاب النمط الأكبر من ٤ «إسراع».
(٥) العروض
إنَّ الإشارة المكلفة أمرٌ شديد الأهمية في عمليات التفاوض. وكثيرًا ما تُستخدَم المماطلة تحقيقًا لهذا الغرض. على سبيل المثال، أثناء الإضرابات، تكثر الشكوى أحيانًا من افتقار مسئولي الاتحادات العُمالية إلى العقلانية؛ حيث لا يعزمون على التفكير في العرض الأخير من صاحب العمل حتى يمر أسبوع كامل. ومما لا شك فيه أن مسئولي الاتحادات يتَّسمون أحيانًا بعدم العقلانية، لكن من الممكن أن يُستخدَم نفس الأسلوب بالضبط من قِبل لاعبين عقلانيين يقدمون معلومة قيِّمة تعكس قوتهم. ومن أبسط أشكال هذه المعلومة أن يُظهر الشخص الذي يدير عمليات التفاوض بين العمال وصاحب العمل قوته بحرق رُزمة من الأوراق النقدية.
يتضمن علم الأحياء أمثلةً رائعة في هذا الصدد. يصف أفيشاج زاهافي الإشارة المكلفة بأنها مبدأ الإعاقة. لماذا تغنِّي بعض طيور القُبَّرة عندما يطاردها صقر؟ للإشارة إلى أنها سريعة بالدرجة التي تتيح لها الهروب حتى عندما تعوق نفسها بالغناء. فالصقور الصغيرة تستمر في المطاردة، لكنها سرعان ما تكف عن المطاردة وتتعلَّم عدم الإزعاج. لماذا يوجد هذا الذيل المُذهل لدى الطاووس؟ يُعزى الأمر في جزءٍ منه إلى الاصطفاء الجنسي الجامح. تُعجب أنثى الطاووس بالذيل الكبير؛ ولذلك توجد فِراخ كُثر للطاووس صاحب الذيل الكبير. لكن، من المحتمَل أن يكون الذيل الكبير قد بدأ كإشارةٍ مكلِّفة تدل على صلاحية الطاووس.