المزادات
تشغل أليس حاليًّا منصبًا إداريًّا وتريد من مرءوسيها أن يعملوا من أجل تحقيق أهدافها، لا أنْ يسعَوا وراء مصالحهم الشخصية. وبلغة الاقتصاد، فإنَّ أليس هي الرئيس، والمرءوسين هم وكلاؤها.
تستطيع أليس أن تخبر وكلاءَها بما يفعلونه في ظل كل الحالات الطارئة المحتمَلة، لكن يشتهر هذا الأسلوب — المعروف بالاقتصاد المخطَّط مركزيًّا — بأنه غير فعَّال؛ وذلك لسببين: يتمثل السبب الأول في أنه من الصعب على الرئيس أن يراقب وكلاءَه لضمان أنهم يتبعون قواعده بدلًا من اتباع نهجهم الخاص. ويتمثل السبب الثاني في أن الوكلاء غالبًا ما يكونون أكثر درايةً بعملهم من الرئيس نفسه.
تصميم الآليات
إنَّ القواعد التي يمكن لأليس مراقبتها وتطبيقها تكون بمنزلة لعبة بالنسبة إلى الوكلاء. ولإقناعهم بالسعي وراء تحقيق أهدافها بدلًا من أهدافهم الخاصة في المواقف التي لا تستطيع فيها أن تراقبهم أو لا تكون لديها الخبرة لإدارتها وتنظيمها، يتعيَّن عليها أن تبتكر حوافز مناسبة لتحفيز الوكلاء. وتُسمَّى مسألة البحث عن منظومة جيدة من القواعد والحوافز «تصميم الآليات».
إنَّ الفكرة الرئيسية في نظرية الألعاب أنه ينبغي أن نتوقع من الأفراد تغيير سلوكهم بعد طرح إصلاحٍ جديد. وسيستمر تعديل سلوكهم وتكييفه حتى يستقرُّوا على توازن ناش للُّعبة الجديدة. ومن ثَم، عندما تقيِّم أليس آليةً جديدة محتمَلة، يتعيَّن عليها أن تسأل نفسها عن مدى رضاها عما سيحدث «بعدما» تحرَّك الوكلاء إلى توازن في اللعبة الجديدة. والخطأ شبه العام الذي يقع فيه الرؤساء في الحياة الواقعية أنهم يسألون بدلًا من ذلك عن مدى رضاهم عما سيحدث «قبل» أن يتعلَّم الوكلاء قواعد العمل الجديدة.
في أحد الأمثلة الواقعية، يدافع رئيس الهيئة الرقابية لمشروع صحي بإحدى الجامعات عن إلغاء نُظم الدفع المشترك؛ أيِ النُّظم التي بموجبها تدفع الجامعة رسوم الرعاية الطبية عن موظفيها. تقتضي هذه النُّظم أن تدفع أنت مبلغ المائة جنيه الأولى أو ما شابه من أي مطالبة تقدِّمها؛ وذلك لسد أي مجال لاستخدام الخدمة على نحو عابث وغير مسئول. ولتعويض الدخل المفقود، اقترح الرئيس زيادة أقساط التأمين بالقدر الذي يكفي لتغطية إيصالات الدفع المشترك للعام الماضي. وعندما اعترض المسئول الاقتصادي في اللجنة مشيرًا إلى ضرورة زيادة الأقساط أكثر من ذلك، جرى تصويتٌ على ما إذا كان أي شخص آخر يعتقد أن «الأشخاص سيذهبون إلى الطبيب عندما لا يكونون بحاجة إلى ذلك.» وكان المسئول الاقتصادي هو الوحيد الذي أجاب ﺑ «نعم» عن هذا السؤال الملغوم، لكن لم تكن توجد أموال كافية لسداد فواتير العام القادم.
في عام ١٩٩٠، وقع الكونجرس الأمريكي في خطأٍ أكبر عندما أصدر قانونًا يهدف إلى ضمان عدم تخطِّي مدفوعات الأدوية في نظام الرعاية الطبية لكبار السن ما يدفعه مقدمو الخدمات الصحية في القطاع الخاص. تنصُّ المادة الأساسية في القانون على أنه يجب بيع العقار إلى نظام الرعاية الصحية لكبار السن بما لا يزيد عن ٨٨٪ من متوسط سعر البيع. وأثيرت المشكلة بسبب مادة إضافية تنص على أنه يجب أن يُعرَض أيضًا على نظام الرعاية الطبية لكبار السن سعرٌ جيد يكافئ على الأقل السعر المعروض على أي بائع بالتجزئة. لن تحقق هذه المادةُ الغايةَ المرجوة منها إلا إذا أمكن الاعتماد على أن شركات صناعة الأدوية سوف تتجاهل الحوافز التي يقدمها القانون لهم. لكن، لماذا تبيع شركات صناعة الأدوية إلى تاجر التجزئة دواءً بأقل من ٨٨٪ من متوسط سعره الحالي إذا كانت النتيجة أنها ملزَمة ببيع الدواء بنفس السعر إلى عميل كبير مثل نظام الرعاية الصحية لكبار السن؟ لكن، إذا لم تُبَعْ أي أدوية بأقل من ٨٨٪ من متوسط سعرها الحالي، فسوف يرتفع حتمًا متوسط السعر.
في عام ٢٠٠٦، اقترح الديمقراطيون الليبراليون البريطانيون استحداث ضرائب بيئية قد تسمح بخفض ضريبة الدخل بإجمالي ١٢ مليار دولار أمريكي. لم يُخفِق هذا الاقتراح فقط في تقدير حقيقة أن الناس تغيِّر سلوكها استجابةً للضرائب الجديدة، بل أخفق أيضًا في تقدير أن الغرض الأساسي من الضريبة البيئية هو تغيير السلوك.
لن يقترح أحد أبدًا إنشاء طائرة أو جسر دون أن يفكر مليًّا في مدى صمود الآلية أمام الإجهادات والالتواءات التي ستواجهها عند بنائها، لكن فكرة أنه يتعيَّن على المرء أن يُولي القدر نفسه من الاهتمام والانتباه إلى تصميم الآليات الاجتماعية عادةً ما تُلاقَى بازدراء. وقد أثرتُ ذات مرة ضحك الحضور عندما اقترحتُ أن يُخصَّص قدر من الموارد المالية لإنفاقه على اختبار عملية إصلاحٍ كبرى في معمل للأبحاث النفسية لمعرفة إن كان سينجح قبل الشروع في تنفيذه. وما زال تصميم المزادات ذات المبالغ المالية الطائلة متروكًا غالبًا في أيدي مجموعة من الهواة لا يعلمون شيئًا عن الأفكار البسيطة التي سنشرحها في هذا الفصل.
(١) حُكم الملك سليمان
عندما جاءت إلى الملك سليمان امرأتان تتنازعان على أمومة طفل وليد، اقترح الملك سليمان على الملأ أن يُشطَر الطفل إلى نصفين؛ ومن ثَم تحصل كل مُدَّعيَة على نصف. فقبلت الأم المُزيَّفة الحُكم، لكن الأم الحقيقية خافت على طفلها، حتى إنها توسلت أن يذهب الطفل إلى غريمتها بدلًا من أن يُشطَر إلى نصفين. ومن ثَم، عرف الملك سليمان الأم الحقيقية وأعطاها طفلها.
في الواقع، لا تؤيِّد الرواية الإنجيلية الادعاء المعروف عن حكمة الملك سليمان على نحو جيد تمامًا؛ فقد كان من الممكن أن يفشل مخططه لو أن الأم المُزيَّفة فكَّرت بطريقة أكثر استراتيجيةً. فما المخطَّط الذي كان سيحقِّق نتيجةً أفضل؟
لنفترض أن الملك سليمان هو الرئيس، وأن المُدَّعِيَة والمُدَّعى عليها هما الوكلاء. تسمَّى الأم الحقيقية ترودي، وتسمَّى الأم المُزيَّفة فاني. وإمعانًا في التبسيط، سنفترض أنه من المعروف أن ترودي ستدفع كلَّ ما لديها في هذا العالم مقابل أن تسترد طفلها، لكن فاني ستدفع مبلغًا أقل بكثير.
هدف سليمان هو إعطاء الطفل إلى الأم الحقيقية، لكنه لا يعلم نمط كل وكيل. وكان في إمكانه أن يسألهما، لكنَّ فاني ليس لديها أي حافز لقول الحقيقة؛ لذا، يطبِّق سليمان طريقة هارساني عن طريق تخيُّل حركة احتمالية؛ إما أن تكون ترودي في دور المُدَّعِية وفاني في دور المُدَّعَى عليها، أو تكون ترودي في دور المُدَّعى عليها وفاني في دور المُدَّعِية.
(٢) تطبيقات اقتصادية
تتجلى النجاحات الكبرى لتصميم الآليات في مجال المزادات واقتصاديات التنظيم. لقد كان جمْعُ مليارات الدولارات في مزادات سوق الاتصالات محطَّ اهتمام الكثيرين، لكنَّ اقتصاديات التنظيم ربما تكون أكثر أهميةً على المدى الطويل.
يُشيد الأثرياءُ الذين يخضعون لقوانين ولوائح منظِّمة بالكثير من مزايا السوق الحرَّة، لكنهم يَعلمون أن الخصائص المُرضيَة للأسواق التنافسية الكاملة لا تتحقق إلا في وجود أعداد كبيرة من صغار المشترين والبائعين. وعندما يوجد عدد صغير فقط من البائعين، فإنَّ الأمر دائمًا ما ينتهي بهم إلى استغلال قوَّتهم في السوق في خداع المستهلك ما لم يكونوا مقيَّدين بقوانين ولوائح حكومية.
إنَّ رجال الاقتصاد الحر محقُّون في أنه لا يوجد عادةً تنظيم أفضل من التنظيم العقيم الذي ظلَّ يسوسنا ويُثقل كاهلنا في الماضي، لكن ليس بالضرورة أن يكون التنظيم عقيمًا. فثمة تنظيم أفضل يَستخدم مبادئ تصميم الآليات في طريقه بالفعل إلى التطوُّر وسط اعتراضٍ من جانب الخبراء المتنوعين الذين يرونه تكرارًا وحشوًا لا داعي له. ولكن، ليس لديَّ متسعٌ من الوقت للتحدث جديًّا عن اقتصاديات التنظيم هنا؛ ومن ثمَّ سيُخصَّص الجزء المتبقي من هذا الفصل للحديث عن المزادات.
(٢-١) ويليام فيكري
إنَّ البيع بالمزاد العلني هو فرع نظرية الألعاب الذي شهدَ القدر الأكبر من التقدُّم. كما أنه من المجالات التي استُخدِمت فيها نظرية الألعاب بنجاحٍ ساحق في حل المسائل التطبيقية. ولقد جُمِعت مبالغ فلكية في مزادات الاتصالات التي صمَّمها خبراء نظرية الألعاب.
قديمًا، اعتادت الحكومات أن تنظِّم ما أصبح معروفًا حاليًّا باسم «مسابقات الجمال» عندما كانت تخصِّص أصولًا عامة قيِّمة لشركاتٍ خاصة. فكانت كل شركة تقدِّم ملفًّا قويًّا ومدروسًا يشرح السبب الذي يجعلها أجدر بالحصول على الأصل من منافسيها. وتُقرر بعد ذلك لجنةٌ من المسئولين الحكوميين الملفَّ الذي حاز القدر الأكبر من استحسانها. لكن، لم تكن غالبًا لدى المسئولين الحكوميين أي فكرة عن القيمة التجارية للأصول التي يبيعونها. كما أنَّ المتسابقات في «مسابقات الجمال» لم يكنَّ يلتزمْنَ الصدق. فلماذا تُطلِع الشركاتُ المتنافسةُ الحكومةَ بالحقيقة ما لم تكن تصبُّ في مصلحتها؟ يجب أن تُعرَض عليها حوافز مناسِبة قبل أن تكشف للحكومة عن المعلومات التي تحتاجها. وتُجبر المزاداتُ المشتركين فيها على التزام الصدق من خلال إلزامهم بدفع المبلغ المالي الذي يتعهدون بدفعه.
إنَّ ويليام فيكري هو بطل نظرية المزادات. وكان يؤيِّد استخدام مزاداتٍ مصمَّمة خصوصًا لبيع الأصول العامة الكبرى قبل ٣٠ عامًا من رواج الفكرة وشيوعها. وتجاهلت لجنة الاتصالات الفيدرالية حُججه إلى أن وصل الخبر أخيرًا إلى الكونجرس، الذي أصرَّ أن تُباع المجموعة التالية من تردُّدات الاتصالات بالمزاد العلني. وتولَّت مجموعة من خبراء نظرية الألعاب بقيادة بول ميلجروم وضع تصميم المزاد، الذي جمع إيراداتٍ بإجمالي ٢٠ مليار دولار أمريكي.
صمَّم الفريق الذي قدتُه بنفسي مزاداتٍ أخرى في مجال الاتصالات في بريطانيا وبلجيكا والدنمارك واليونان وهونج كونج وإسرائيل. وجَمَع مزاد بريطانيا وحده ٣٥ مليار دولار أمريكي. وبعد انهيار مؤشر نازداك في ٢٠٠١، ونتيجةً لوقوع أزمة شركات التكنولوجيا المتقدمة، أُثيرَ الكثيرُ من الجلبة؛ حيث بدأ الرؤساء التنفيذيون لشركات الاتصالات يُحمِّلون مسئولية فشلهم في تقدير السوق على النحو السليم لخبراء نظرية الألعاب، الذين يُفترَض أنهم جعلوهم يدفعون أموالًا كثيرة مقابل التراخيص، أموالًا تفوق القيمة الفعلية لهذه التراخيص. لكن، أليسَ السفهاءُ فقط هم مَنْ يدفعون في شيءٍ سعرًا أعلى من قيمته التي يستحقها حسبما يرون؟
ومن جانبي، فإنني أرى أن كل ما ساهمتْ به هذه الضجة هو التأكيد على مدى الفاعلية التي يمكن أن يكون عليها خبراء نظرية الألعاب عندما يطبِّقون مفاهيم تصميم الآليات على نطاقٍ واسع. ويبدو أن اللجنة المختصة بجائزة نوبل كان لها نفس الرأي، وقررتْ مؤخرًا أن تمنح فيكري جائزة نوبل، لكنه تُوُفِّيَ بعد ثلاثة أيام من تلقِّيه الإعلان.
(٣) أنواع المزادات
ليست المزادات بالشيء الجديد. فقد وصف هيرودوت مزادات الزوجات غير المرغوب فيهن في بلاد بابل القديمة. ولا تعَدُّ المزادات ذات الأموال الطائلة بالشيء الجديد أيضًا. ففي عام ١٩٣ بعد الميلاد، باع الحارسُ البريتوري الإمبراطوريةَ الرومانيةَ بالمزاد العلني لشخص يُدعى ديديوس جوليانوس. ومُدْرجٌ فيما يلي بعض أنواع المزادات ذات الاستخدام المعتاد.
(٣-١) المزادات الإنجليزية
تَستخدم دار مزادات «سوذبيز» هذا النوع من المزادات لبيع التحف القديمة. يدعو الشخص القائم بإدارة جلسة المزاد لتقديم سعرٍ لبدء مزايدة شفوية، وتستمر المزايدة حتى لا يوجد بين الحاضرين مَنْ يريد أن يزايد بقيمة أعلى، ثم يقول بصوت عالٍ: «١، ٢، ٣ … أُقفِل المزاد.» وإذا لم يقاطع أحدٌ بسعر جديد، فإنه يَطرُق بمطرقته على القطعة الخشبية، ويباع الشيء المعروض للبيع في المزاد إلى المشتري صاحب آخر سعر.
(٣-٢) المزادات الهولندية
يبدأ القائمُ على إدارة جلسة المزاد بإعلان سعر كبير، ويُخفِّض بعد ذلك تدريجيًّا حتى يطالِب أحد المشترين بالتوقُّف، وأول مشترٍ يفعل ذلك يحظى عندئذٍ بالشيء المعروض للبيع بالسعر الرائع الذي كان المزاد قد توقَّف عنده عندما تدخَّل.
يمكن أن تكون المزادات الهولندية سريعة؛ ولذلك تُستخدَم في بيع البضائع سريعة التلف مثل الأسماك أو الزهور المقطوفة للزينة. ففي مزادات الزهور في أمستردام، يمكن لبائعٍ أن يُحضر زهورًا مقطوفة من زامبيا، ويمكن للمشتري أن يرسلها في شحنة لبيعها في شيكاجو في نفس اليوم. ومع ذلك، تُدار أحيانًا مزادات هولندية بطيئة من قِبل محالِّ الأثاث المستعمَل التي تُخفِّض سعر البضاعة غير المَبيعة بمقدار ١٠٪ كل شهر.
(٣-٣) مزادات السعر الأول بعطاء المظاريف المغلقة
هذا هو الشكل القياسي لعطاءات الحكومة. يكتب أي مشترٍ محتمَل منفردًا عطاءَه على ورقة ويضعها في مظروف ثم يغلقه. ويلتزم البائع ببيع الشيء المُزايد عليه إلى الجهة مقدِّمة العطاء الأعلى بالسعر الذي قدَّمته.
(٣-٤) مزادات فيكري
في مزاد فيكري، يباع الشيء بنظام عطاء المظاريف المغلقة إلى الجهة مقدِّمة العطاء الأعلى، لكن بأعلى سعر قدَّمه «أحد الخاسرين». سيكون هذا هو «ثاني» أعلى سعر ما لم يوجد تعادل على المركز الأول، وهي الحالة التي يُختَار فيها الفائز بعشوائيةٍ من بين الجهات المقدِّمة لأعلى العطاءات.
قاد ميلتون فريدمان حملة غير مسئولة — لكنها ناجحة — لإقناع الحكومة الأمريكية بتغيير نظام المزادات المستخدَمة في بيع سندات الخزانة إلى ما استقرَّ خبراء الشئون المالية على تسميته بمزاد السعر الثاني، لكنه أخطأ في افتراض أنه كان يؤيِّد التعميم المناسب لمزاد فيكري على الحالة التي يكون فيها العديد من الأشياء المتشابهة معروضًا للبيع. وهذا مجرد مثال واحد فقط لظاهرةٍ مُحزِنة. فحتى في هذه الحالات القليلة التي يكون فيها خبراء نظرية الألعاب على دراية بحل مسألةٍ ما، يفضِّل المسئولون الحكوميون عادةً نصيحة مُدَّعي المعرفة الذين لديهم علاقات عامة أفضل.
(٤) المزادات المثالية
تريد أليس أن تبيع منزلها، ولكن المهم هو أنْ تجد مشتريًا، وإلا فلن يكون لمنزلها قيمة. والمشترُون المحتمَلون هم بوب وكارول فقط؛ فما هو تصميم المزاد الذي ينبغي أن تستخدمه أليس؟
مشكلة أليس مشابِهة لمشكلة الملك سليمان؛ فهي لا تعلم السعر الذي يضعه كلٌّ من بوب وكارول تقديرًا لمنزلها. وإذا كانت تعلم السعر المقترَح، كانت ستلجأ ببساطة إلى تقديم عرض بدون مفاوضات يكون أقل من أعلى سعر بقرشٍ واحد. ومن ثَم، سيكون من العقلاني للشخص صاحب السعر الأعلى أن يوافق؛ لأن مكسب قرش واحد أفضل من لا شيء. ويعتمد هذا التحليل بدرجة كبيرة على تمتع أليس بالسلطة التي تجعلها تقدِّم التزامًا لا رجعة فيه بقواعد لعبة الإنذار النهائي. فلا جدوى مطلقًا من تصميم الآليات إذا كان الوكلاء يعتقدون أن رئيسهم لا يلتزم بقواعد اللعبة التي يضعها لهم كي يلعبوها.
بما أن أليس لا تعلم السعر الذي يقدِّر به كلٌّ من بوب وكارول قيمة منزلها، فإنها تتبع طريقة هارساني بإعداد نموذج يعكس عدم تيقُّنها من الأسعار المقدَّمة، وتستعين في ذلك بحركة احتمالية. وفي السيناريو الأبسط، تحدد هذه الحركة الاحتمالية السعر المقترَح من بوب وكارول على نحو مستقل، بحيث لا يضيف ما تعلمه عن السعر المقدَّم من جانب أحد الوكيلين أيَّ جديد عن السعر المقدَّم من جانب الوكيل الآخر. ولضرورة التحديد، فإنني أفترض أن السعر المقترَح من جانب كل وكيل لمنزل أليس الرائع سيكون محصورًا على الأرجح بين صفر و٣٦ مليون دولار أمريكي.
يندهش معظم الأشخاص عندما يكتشفون أن كل تصميمات المزادات التي استعرضناها في الجزء السابق تعد مثالية لأليس إذا كان الجميع يحاول تعظيم متوسط أرباحه من الدولارات. يجب أن تضع أليس سعرًا أساسيًّا قيمته ١٨ مليون دولار أمريكي ثم تستخدم التصميم الذي يروق لها؛ لأن كل التصميمات ستُحقق نفس متوسط الربح المتمثل في ١٥ مليون دولار أمريكي.
(٤-١) الأسعار الأساسية
لاحِظ أن بوب لن يزايد أبدًا لنصف الوقت؛ لأن السعر الذي يقدِّمه سيكون أقل من السعر الأساسي الذي وضعتْه أليس. وبما أن الأمر نفسه ينطبق على كارول، فليس ثمة أيُّ احتمال أن تبيع أليس المنزل لربع الوقت. وإذا حدث ذلك، يجب ألا تغيِّر في القواعد التي وضعتها بنفسها بأن تبيع منزلها مرةً أخرى بالمزاد العلني بسعر أساسي أقل، إلا إذا كانت لا تهتم إنْ كان المشترون سوف يصدقونها في المستقبل عندما تؤدي دور بائع مرةً أخرى.
لقد استشارتني الكثير من الحكومات في تصميم مزادات ذات أموال طائلة، لكنني لم أنجح قطُّ في إقناع المسئولين الرسميين بوضع سعر أساسي عالٍ حسبما تمنَّيْت. ولم أكن واثقًا قطُّ أن المسئولين قد فهموا أنهم يجب ألا يعيدوا بيع الشيء الذي اشترَوه في المزاد فورًا في السوق إذا لم يكن قد وصل إلى السعر الأساسي الموضوع له. لكنَّ جهودي في هذا الشأن لم تَضِعْ هباءً؛ لأنها توفر مبررًا للنظر فقط إلى حالة السعر الأساسي الصفري فيما يلي. فكل تصميمات المزادات التي درسناها حتى الآن تُحقق نفس الإيرادات في المتوسط أيًّا كان السعر الأساسي، لكن من الأسهل توضيح السبب في ذلك في الحالة التي يمكن فيها الاعتماد على جميع المشترين المحتمَلين لتقديم عطاء.
(٤-٢) تكافؤ الدخل
في توازن ناش المتماثل، سيقدِّم الوكلاء ذوو التقديرات الأعلى أسعارًا أعلى في كل المزادات التي درسناها. ومن ثَم، سيفوز الوكيل صاحب التقدير الأعلى. ومن ثَم، فإنَّ احتمال الفوز بالمزاد لأي وكيل يقدم تقديرًا معينًا واحدٌ في كل التصميمات التي قدمناها.
كم المبلغ الذي من المتوقع أن يدفعه الوكيل في المتوسط؟ في كل مزاد من مزاداتنا، يتضح أن الإجابة هي «نصف» تقدير الوكيل.
يستتبع ذلك أن متوسط دخل أليس يجب أن يكون واحدًا لكل تصميم. ويصبح هذا الدخل المتوسط ١٢ مليون دولار فقط، لكنَّ ذلك أفضل ما تتمناه أليس إذا زايدَ كلٌّ من بوب وكارول بعقلانية وطرحت أليس سعرًا أساسيًّا قدره صفر.
لماذا من المتوقع أن يدفع الفائز نصف تقديره؟ تُقدِّم حالةُ المزاد الإنجليزي المثالَ الأوضح لشرح هذه الفكرة. من الواضح أنه يتعيَّن على كلٍّ من بوب وكارول أن يستمرَّا في المزايدة حتى يصل السعر السائد إلى تقديرهما، الذي لا تُجرى عليه أي مزايدة بعد ذلك. إذن، ستتوقف المزايدة عندما يصل السعر السائد إلى أقل تقديرات للوكلاء. وبذلك، سيدفع الفائز تقدير «الخاسِر». وبما أن تقدير الخاسِر يكون على الأرجح أقل من تقدير الفائز بصورة أو أخرى، فإن متوسط قيمته هو نصف تقدير الفائز.
يمكننا الآن أن نعرف السبب في أن مزاد فيكري بالضرورة هو نفسه في جوهره المزاد الإنجليزي. فإذا قدَّم بوب وكارول تقديراتهما الصحيحة لأليس، وباعت أليس منزلها إلى الشخص مقدِّم العطاء الأعلى بسعرٍ مساوٍ لثاني أعلى عطاء، فسيكون متوسط الربح إذن مساويًا تمامًا لمتوسط الربح في المزاد الإنجليزي. ولكن، لماذا ينبغي أن تتوقع أليس أن يزايد بوب وكارول بتقديراتهما الحقيقية؟
الإجابة هي أن هذه الاستراتيجية تهيمن على كل البدائل الأخرى لدى الوكلاء. لو أن الوكيل المنافِس زايدَ بأقل من تقديرك، فستحرص على الفوز دون التأثير على السعر الذي تدفعه بالمزايدة بنفس تقديرك. ولو أن الوكيل الآخر زايدَ بأكثر من تقديرك، فإنك لا تحتاج إلى الفوز؛ ومن ثَم فربما تُزايد أيضًا بنفس تقديرك.
ماذا عن المزاد الهولندي؟ استطاع بوب وكارول أن يكتبا السعر الذي يعتزمان إغلاق المزاد الهولندي عنده على قطعة من الورق، وتركا الأمر لأليس كي تطبِّق الاستراتيجية بالنيابة عنهما؛ لذا، إذا استطعنا معرفة السعر الذي يُفترض أن كلًّا من بوب وكارول قد وضعه في ظرفه في المزاد الأخير، فسوف نعلم أيضًا الوقت الذي ينبغي عليهما إغلاق المزاد الهولندي فيه.
(٤-٣) حجب العطاء
ما العطاء الذي عليك أن تضعه في المظروف في مزاد السعر الأول ذي المظاريف المغلقة؟ لا شك أنك لن تزايد بتقديرك الحقيقي؛ لأن مكسبك سيكون صفرًا لو أنك فزت. ومن ثَم، عليك حجب عطائك وإخفاؤه. لكن بفارق كَمْ؟ لقد أفشيتُ السرَّ من قبلُ عندما أوضحتُ السبب في أن كل تصميمات المزادات التي وضعناها متكافئة من حيث الدخل؛ لذا، على كلٍّ من بوب وكارول أن يزايد بنصف تقديراته فقط.
عادةً ما يتم البرهنة على صحة هذه الحقيقة باستخدام حساب التفاضل والتكامل، لكنني أنوي أن أستعين في شرح هذه المسألة بالبستنة المناظرية (أيْ فن ترتيب الأشجار والممرات). ما الشكل الذي يجب أن يكون عليه البستان إذا كنت تريد تطويق أقصى مساحة منه باستخدام سورٍ ذي طول ثابت؟ الإجابة بوضوح هي الدائرة. وإذا كان البستان يجب أن يكون مستطيل الشكل، فالإجابة هي المربع.
بالرجوع إلى مسألة إيجاد توازن ناش متماثل لمزاد السعر الأول ذي المظاريف المغلقة، تَصوَّرْ أنه من المعروف عمومًا أن كارول ستقدِّم عطاءً يتناسب مع تقديرها. وعليه، سيكون احتمال فوز بوب متناسبًا مع أي مزايدة يقوم بها. يريد بوب تعظيم متوسط مكسبه، الذي هو حاصل ضرب مكسبه إذا فاز في احتمال الفوز. ويكون حاصل الضرب هذا متناسبًا مع مساحة بستان مستطيل الشكل؛ حيث طوله هو مكسب بوب في حال فوزه وعرضه هو العطاء الذي يتقدَّم به.
بما أن مكسب بوب في حال فوزه هو الفرق بين تقديره وعطائه، فإن طول سور البستان يكون متناسبًا مع تقديره. ومن ثَم، يظل طول السور واحدًا أيًّا كان العطاء الذي يتقدَّم به. وعليه، يُختزل إيجاد أفضل إجابة لبوب في تحديد البستان المستطيل الشكل الذي تكون له أكبر مساحةٍ عند تطويقه بسور ذي طول ثابت. وبما أن الإجابة هي المربع، فلإيجاد أفضل إجابة لبوب ينبغي أن نحدد أن عطاءه مساوٍ للفرق بين تقديره وعطائه؛ الأمر الذي يجعل عطاءه المثالي مساويًا لنصف تقديره. عندها سيكون عطاؤه متناسبًا مع تقديره، وسيكون العطاء المثالي لكارول مساويًا أيضًا لنصف تقديرها.
(٤-٤) مزادُ «الكلُّ يدفع»
يهوى المدربون في فصول نظرية الألعاب مزايدة الدولار الواحد تبعًا للقواعد التالية: تكون المزايدة على غرار المزاد الإنجليزي؛ حيث يحصل أعلى مُزايد على الدولار، لكن يدفع «الجميع» أعلى عطاءاتهم، بما في ذلك مَنْ لم يفوزوا بالدولار. وكم تكون مسليةً مشاهدةُ تعبيرات وجه الطلبة عندما يصل المزاد إلى دولار واحد، ويدرك الخاسرون أن الأمر يستحق أن يزايدوا ﺑ «أكثر» من دولار واحد!
إنَّ رشوة رجال السياسة أو القضاة الفاسدين هي بالأحرى ضربٌ من مزادات المظاريف المغلقة التي يدفع فيها جميع المُزايدين، بمن فيهم الخاسرون. فالكلُّ يدفع، لكن لا تنجح سوى رشوة واحدة فقط. وإذا كان للشرف وجود بين اللصوص، فإنَّ الرابح في هذه الحالة هو الرشوة الكبرى.
لم نذكر هنا مزاداتِ «الكلُّ يدفع» إلا لتوضيح أن نتيجة تكافؤ الدخل تنطبق بصورة عامة تمامًا. فمن الواضح أن مَيْل الوكلاء إلى حجب عطاءاتهم في مزادِ «الكلُّ يدفع» ذي المظاريف المغلقة، يكون أكثر بكثير مما في مزاد السعر الأول ذي المظاريف المغلقة، لكن سيظل متوسط الدخل لأليس ١٢ مليون دولار.
(٤-٥) المزادات المخصَّصة
يستشهد أحيانًا المراسِلون الاقتصاديون في الصحف والجرائد بنتائج تكافؤ الدخل عندما يعتقدون خطأً أنه من غير المهم «مطلقًا» نوع المزاد الذي يستخدمه البائع. لكن، تختفي النتيجة إذا كان بوب وكارول مقيَّدَين بميزانية محدودة أو كارهَين للمخاطرة؛ لذا، ستُحقق أليس مكسبًا أكبر في المزاد الهولندي عنه في المزاد الإنجليزي. كما أن النتيجة لا تظل موجودة لو أصبحت تقديرات بوب وكارول غير مستقلة. ومن ثَم، ستتوقع أليس مكسبًا أكبر في المزاد الإنجليزي عنه في المزاد الهولندي.
عندما نُجري مزادًا بأموال طائلة، فمن المهم للغاية تخصيص قواعد المزاد بما يتناسب مع الظروف المحيطة. على سبيل المثال، إذا كانت أليس تعلم على نحو أو آخر أن المبالغ الوحيدة التي يمكن أن يضعها بوب وكارول تقديرًا لمنزلها هي ٢٧ مليون دولار أو ٣٦ مليون دولار، فعليها ألا تُجري أيًّا من المزادات التي أشرنا إليها حتى الآن. وإذا كان الاحتمالان متساويين على الأرجح، فعليها أن تجري مزادًا بنظام المظاريف المغلقة، يَدفع فيه الفائز متوسط العطاءين المقدَّمَين.
(٥) لعنة الفائز
يعلم الوكلاء ذوو القيم الخاصة تقديراتِهم قبل أن يبدأ المزاد، ولكنهم ربما لا تكون لديهم أي معلوماتٍ أثناء المزاد من شأنها أن تؤدي إلى تغيير تقديراتهم تلك. وتصنَّف كلُّ المزادات التي استعرضناها حتى الآن كمزادات ذات قيمة خاصة. وتوجد في المقابل المزادات ذات القيمة العامة، التي يكون معروفًا فيها أن قيمة الشيء المَبيع «واحدة» بالنسبة إلى جميع المشترِين المحتمَلين.
على سبيل المثال، عندما تباع تراخيص بالمزاد للتنقيب عن البترول في مناطق معينة في قاع البحر، فإن كمية البترول في أي منطقة تكون واحدة بالنسبة إلى الجميع، لكن تقديرات المشترين لكمية البترول المحتمَل وجودها في المنطقة ستعتمد على استطلاعات المسح الجيولوجي المختلفة التي يقومون بها. ولا تكون هذه الاستطلاعات باهظةً فحسب، لكن كما هو معروف لا يمكن الاعتماد عليها؛ لذا، سيتلقَّى بعض المشترين المحتمَلين استطلاعات تفاؤلية، بينما سيتلقى آخرون استطلاعات تشاؤمية. فمَن سيفوز بالمزاد إذن؟
إذا عالجَ بوب التقدير الذي وضعه لقيمة المنطقة في المسح الذي أجراه بوصفه قِيمةً خاصة، فسيفوز كلما كان مسحه أكثر تفاؤلًا. لكن عندما يدرك بوب أن فوزه بالمزاد يعني ضمنًا أن كل استطلاعات المسح الأخرى أكثر تشاؤمًا من استطلاعه، فسيلعن حظه السيئ في الفوز! وإذا كان يعلم مسبقًا أن كل الاستطلاعات الأخرى كانت أكثر تشاؤمًا من مسحه، فما كان ليزايد بسعرٍ عالٍ.
كما هو الحال في مزادِ «الكلُّ يدفع»، يحب مدرِّبو نظرية الألعاب أن يضعوا طلابهم في مأزق من خلال إعدادهم لسيناريو مزاد ذي قيمة عامة. وفيه يُباع إناء زجاجي مليء بعملات معدنية وأوراق نقدية مجعَّدة من فئات عملاتٍ مختلفة لأعلى مُزايد، وهو الذي يقع فريسةَ لعنةِ الفائز؛ ومن ثَم يتكبَّد خسارة فادحة.
(٥-١) لعبة المحفظة
لتفادي لعنة الفائز، على المُزايدين أن يأخذوا في اعتبارهم المعلومات التي تنقلها مزايدات المنافسين عن التقدير الذي يضعونه لقيمة الشيء المعروض للبيع. ويُستشهَد بلعبة المحفظة كمثال على ذلك. تستولي أليس على محفظة كلٍّ من بوب وكارول، ثم تستخدم مزادًا إنجليزيًّا لبيع محتويات محفظتيهما إليهما مجدَّدًا.
يتحقَّق توازن ناش إذا كان كلا الوكيلين يعتزمان الاستمرار في المزايدة حتى يصل السعر الجاري إلى ضِعف المبلغ المالي الموجود في محفظتيهما. لو زايدت كارول بهذه الطريقة، فسوف يصاب بوب باللعنة لو أنه فاز عن طريق المزايدة بأكثر من ضِعف ما في محفظته من مال. ويعلم عندئذٍ أن المبلغ المالي في محفظته أقل من نصف السعر النهائي. كما أنه يعلم كذلك أن المبلغ المالي في محفظة كارول أقل من نصف السعر النهائي؛ لأنها توقفت عن المزايدة؛ لذا، من المؤكد أن إجمالي المبلغ المالي الذي فاز به بوب أقل من السعر الذي دفعه.