علم الأحياء التطوري
يتفوق علماءُ الأحياء بميزةٍ هائلة على علماء العلوم الاجتماعية في تطبيق نظرية الألعاب؛ لأن لديهم بيانات أكثر بكثير. فقد أدَّى الانتخاب الطبيعي إلى وجود تنوع هائل من الأنواع المختلفة، بعضها غاية في الغرابة والروعة لدرجة أنها تبدو كما لو أنها تتحدى التفسير العقلاني. لكن ما الذي يمكن أن يكون أكثر إرضاءً مما عرفناه مؤخرًا من أن التركيب الوراثي غير المعتاد للحشرات «الغشائيات الأجنحة» يفسِّر نسبة الجنس غير المتساوية في بعض أنواع النحل؟ أو لماذا ينجح نوعان مختلفان من سمكة الشمس الزرقاء الزعانف في التعايش معًا في نفس البحيرة؟ إنَّ رفض التطور على الرغم من هذه الأمثلة يبدو لي كرجل الدين الذي رفض أن ينظر خلال تليسكوب جاليليو.
والأروع من ذلك أنه يكفي أحيانًا الاستعانة بأبسط نماذج المحاكاة لإعطاء أمثلةٍ على سلوك حيوان ما بنجاح. فلا أحدَ يصدق، على سبيل المثال، أن التناسل بين الطيور لا يعتمد على الجنس، أو أن العملية التطورية حتمية. لكن، كما في الفيزياء، فإن النماذج التي تنتج عن عمليات التبسيط الهائلة هذه تتلاءم مع البيانات على نحو مدهش.
(١) نظرية الألعاب التطورية
لخَّص هربرت سبنسر نظرية التطور لداروين بأنها نظرية «البقاء للأصلح». وعندما نُسأَل عن سبب السلوك الذي تسلكه حيوانات بعض الأنواع، فإننا نبحث عن إجابة تفسِّر السبب في أن السمات السلوكية البديلة لم تكن ملائمة. لكن كيف نُعرِّف الصلاحية؟
بناءً على تعريف بيل هاملتون للصلاحية، لا مفرَّ من أن تمثيل سلوك الحيوان سيُختزَل أحيانًا إلى إيجاد توازنات ناش للألعاب. فقد اعتبر أن صلاحيةَ سمةٍ سلوكيةٍ هي متوسط عدد الأطفال الإضافيين الذين يَحملون هذه السمة إلى الجيل التالي نتيجةً للسمة المستخدمة في الجيل الحالي. وبهذا التعريف، يمكن الإشارة إلى السمات السلوكية بالاستراتيجيات، والصلاحية بالمنفعة.
عندما تتنافس الحيوانات، يمكننا أن نتصوَّر أن الصدفة أحيانًا ما تنتقي فردين أو أكثر من المجموعات ذات الصلة للعب لعبةٍ ما. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك في علم البيئة لعبة المفترس والفريسة التي يتمخَّض عنها تفاوت عدد الأرانب البرية وسنوريات الوشق الكندية في حلقة لا نهائية. مع ذلك، سيركز هذا الفصل على الألعاب التي مُورِسَت داخل النوع الواحد وحَققتْ نتائج متوازنة. على سبيل المثال، ما الذي يحدد مدة بقاء ذكر ذبابة الرَّوث في روث بقرة بعينها بانتظار أنثى ما عندما يرغب الذكر في التزاوج؟ وبما أن المسألة الاستراتيجية واحدة لكل ذباب الرَّوث، يمكننا إذن أن نركز انتباهنا على توازنات ناش المتماثلة للألعاب المتماثلة.
تبدو اللعبة المتماثلة واحدةً تمامًا لكل اللاعبين المشتركين فيها. وفي التوازن المتماثل، يستخدم كل اللاعبين الاستراتيجية نفسها. ويتضح من أحد الأشكال المختلفة لنظرية ناش أن كل الألعاب المتناهية المتماثلة تحتوي على توازن ناش متماثل واحد على الأقل.
(١-١) المكرِّرات
لسوء الحظ، شهدت المواقف الفلسفية خلافًا كبيرًا على نحو يصعب فهمه؛ نظرًا للخلاف حول مَنْ أو ما يُعامَل بوصفه لاعبًا في لعبة التطور. هل هو نوعٌ بأكمله؟ أم حيوان منفرد؟ أم حزمة من المواد الوراثية؟ أم جين منفرد؟ فيما يبدو، فإن عنوان كتاب ريتشارد دوكينز «الجين الأناني» يوضح لنا موقفه من هذه القضية، لكنه يتبنى في الواقع النظرة الأكثر تعقيدًا التي ترى أن كل شيء يستنسخ نفسه يمكن النظر إليه على أنه وحدة أساسية في لعبة تطورية.
مثلهم مثل السيدة العجوز التي انتقدت دوكينز لفشله في معرفة أن الجينات مجرد جزيئات؛ ومن ثَم لا يمكن أن تكون لها إرادة حرة، يرى الناس غالبًا أن إمكانية تطبيق نظرية الألعاب بنجاح في علم الأحياء التطوري هو أمرٌ ينطوي على مفارقة ظاهرية. فكيف يمكن لحشرةٍ أن تكون لاعبًا في لعبة ما؟ فالحشرات لا تستطيع التفكير، وسلوكها غريزي بدرجة كبيرة، وهي تفعل ما هي مبرمجةٌ على فعله.
يتمثل حل هذه المفارقة في أنه لا يشترط بالضرورة أن يكون اللاعبون في اللعبة هم الحيوانات قيد الدراسة. وإذا كان السلوك الخاضع للبحث والدراسة غريزيًّا بدرجة كبيرة، فإنه يكون مشفَّرًا في جينات الحيوان. ويمكن التفكير في الجينات كجزءٍ من المكونات المادية لجهاز كمبيوتر «طبيعي»، وهي الجزء الذي تُخزَّن فيه برامج الكمبيوتر. وتتحكم بعض البرامج في سلوك الحيوان.
-
ينسخ نفسه.
-
يحدد السلوك الاستراتيجي في اللعبة.
ومتى عثرنا على شيء في نموذجٍ ما، يمكننا أن نطبِّق عليه هاتين الخاصيتين، فسنطلق عليه مسمَّى «مكرِّر» أو «مضاعِف».
من الممكن بالطبع أن تكون الجينات مكرِّرات. ويحتجُّ النقاد أحيانًا بأن حدوث طفرة في جين فردي قلَّما يكون له تأثير كبير، لكن يمكن لأقل تعديل في سمة سلوكية أن يكون مهمًّا عند حساب متوسط الصلاحية على مدًى زمنيٍّ كبير بما يكفي. وتعتبر أيضًا حُزم الجينات التي تميل إلى الاستنساخ معًا مكرِّرات. وفي الأنواع ذات التكاثر اللاجنسي، مثل خنفساء الماسون، تنقل الأم شفرتها الوراثية كاملةً إلى أولادها، وهي الحالة التي يمكن أن نقول فيها إن كل نوع فردي من الحيوان يكون مكرِّرًا.
تحتاج المكرِّرات — حتى يمكنها البقاء — إلى عوائل تكون موسومة على جيناتها. وبما أننا قد عرَّفنا صلاحية العائل بأنها قياس الوتيرة التي يعيد بها إنتاج جيناته، فإنه تحصيل حاصل تقريبًا أن نقول إن المكرِّرات التي تمنح عوائلها صلاحيةً كبيرة ستتحكم في نسبة أكبر من العوائل مقارنةً بالتي تمنح عوائلها صلاحيةً ضئيلة. وإذا دعمت البيئة عددًا محدودًا فقط من العوائل، فربما ينتهي الحال بالمكرِّر الذي يمنح عوائله صلاحية منخفضة إلى الانقراض تمامًا في نهاية الأمر؛ ومن ثَم، سيكون البقاء للمكرِّر الأصلح.
إذا شاهدت أليس الموقف أثناء تطوره، فربما تحاول أن تَفهم ما تراه بإسباغ هدف أو غرض على الآلية التي تولِّد المكرِّرات أيَّما تكون، ويتمثَّل هذا الهدف في تعظيم صلاحية عوائل المكرِّرات. وإذا ظلَّ الانتخاب الطبيعي يعمل لمدة طويلة بما يكفي في وسطٍ مستقرٍّ، فلن يبقى سوى المكرِّرات التي تجيد تعظيم صلاحية عوائلها. وبالنسبة إلى أليس، سيبدو الأمر «كما لو» أن شيئًا ما يختار المكرِّرات على نحو واعٍ لتعظيم الصلاحية. ونسمِّي هذا «الشيء» التصوري لاعبًا في اللعبة.
على سبيل المثال، عندما تكون المكرِّرات أشكالًا متغيرة من جين فردي، يمكن أن نتصوَّر اللاعب جالسًا في الموضع الذي يعمل فيه هذا الجين المعيَّن على الكروموسوم. يَستخدم علماء الأحياء المدقِّقون الذين يفضِّلون التفكير في الجينات نفسها بوصفها لاعبين مصطلحَ «أليل» على الأشكال المحتمَل أن يتخذها الجين. ولكن، من الشائع ألَّا نميِّز بين لاعب ومكرِّر بالطريقة نفسها التي يُطمَس فيها الفرق بين لاعب ونمط في نظرية المعلومات غير الكاملة (راجع «المعلومات غير الكاملة» في الفصل السادس).
(٢) الثبات التطوُّري
حتى ينجح التطور، لا بد من وجود درجة من التنوع في مجموعةٍ ما. ويُعتبر خلط الجينات في التكاثر الجنسي أحد مصادر هذا التنوع. كما تُعتبر الهجرة الجغرافية وحدوث الطفرات مصدرًا آخر. متى يمكن أن نتوقَّع استقرارَ مجموعةٍ ما وثباتَها إزاء هذا التنوع العشوائي؟ إنَّ أحد المداخل لفهم هذا الموضوع هو أن نبحث عن جاذب مقارِب، وهو عبارة عن مجموعة من المكرِّرات التي تتسم بالثبات إزاء أي اضطراب طفيف.
-
نسبة المجموعة التي تستضيف المكرِّر حاليًّا.
-
الفرق بين الصلاحية الحالية لعائل المكرِّر ومتوسط الصلاحية لكل العوائل في المجموعة.
يُقِرُّ المطلب الأول ببساطة بأن نسبة نمو مكرِّرٍ ما تكون مقيَّدة بعدد أفراد الجيل الأول المتوافر لنقل المكرِّر إلى الجيل التالي. ويقرُّ المطلب الثاني بأن التطور لا يمكنه أخذ صلاحية المكرِّر في الاعتبار إلا «بالنسبة» إلى صلاحية المجموعة ككل.
لو أن كل المكرِّرات التي نحن بصدد دراستها موجودة عند بدء ديناميكية المكرِّرات، لأمكن النظام الالتقاء فقط على توازن ناش متماثل، هذا إذا التقى على أي شيءٍ على الإطلاق.
(٢-١) الاستراتيجيات الثابتة التطور
بدأت فكرة الاستراتيجية الثابتة التطور مع جورج برايس، الذي قدَّم مقالًا من ٦٠ صفحة عن الرياضيات التطورية إلى مجلة «نيتشر»، التي من المعلوم لأي مؤلِّف على دراية بأخبار الحياة والناس أنها متخصصة فقط في نشر المقالات القصيرة. ولحسن الحظ، كان جون مينارد سميث هو مَن أبدى رأيه فيها، وقد كتبا معًا مقالًا يلخِّص أفكار برايس الرئيسية على نحوٍ أوضح. ثم بدأ مينارد سميث يضع كتاب «التطور ونظرية الألعاب»، الذي ساهم في شهرة نظرية الألعاب التطورية وذيوع صيتها. وانتحر جورج برايس في نهاية المطاف؛ لأنه — حسبما ذكرت الروايات — وجد أن الأمر يزداد صعوبة في التوفيق بين إسهاماته الأساسية في علم الأحياء التطوري وقناعاته الدينية.
-
يجب أن تكون الاستراتيجية الثابتةُ التطورِ ردًّا أمثل في حد ذاتها.
-
إذا لم تكن الاستراتيجية الثابتة التطور ردًّا أمثل في حد ذاتها، يجب أن تمثِّل ردًّا أفضل على أي بديل بالمقارنة مع أفضلية البديل.
يشير المطلب الأول إلى أن أيَّ زوج من الاستراتيجيات الثابتة التطور لا بد أن يكون تنقيحًا لمفهوم توازن ناش المتماثل. لكن إذا كان هذا هو المطلب الوحيد، فما الذي يحول دون حدوث هجوم على المجموعة بأحد الردود المُثلى البديلة على نحوٍ يثير فيها حالةً من عدم الاستقرار؟ يوفِّر المطلب الثاني القيد التطوري الضروري الذي يحول دون حدوث هذا الهجوم، وذلك باشتراط أن تكون الاستراتيجية الثابتة التطور أكثر صلاحيةً من المهاجم بعد وقوع الهجوم مباشرةً.
إنَّ أيَّ استراتيجيةٍ ثابتةِ التطورِ في لعبة متماثلة هي بالضرورة جاذب مقارِب لديناميكية المكرِّرات. ويكون الجاذب المقارِب بدوره عبارة عن توازن ناش متماثل. وبذلك، يكون لدينا شرط ضروري وشرط كافٍ للثبات التطوري. ويُطبَّق كلا الشرطين على فئة من العمليات التطورية أوسع نطاقًا من ديناميكية المكرِّرات، لكن ينبغي توخِّي بعض الحذر عند تطبيق مفهوم الاستراتيجية الثابتة التطور حتى على ديناميكية المكرِّرات. على سبيل المثال، مسارات ديناميكية المكرِّرات في لعبة الصخرة والمقص والورقة تدور في دوائر، ولا تتضمَّن اللعبة أي استراتيجية ثابتة التطور على الإطلاق (راجع «إيجاد الاستراتيجيات المُحقِّقة لقاعدة أقصى الأدنى» في الفصل الثاني). والأسوأ من ذلك أنه توجد ألعاب متماثلة أخرى ٣ × ٣، عُزِلت فيها الجاذبات المقارِبة التي لا تمثِّل استراتيجية ثابتة التطور. ولا يكون مفهوم الاستراتيجية الثابتة التطور آمنًا تمامًا إلا في الألعاب المتماثلة التي تتضمَّن استراتيجيتين خالصتين فقط.
على الرغم من ذلك، فإن انتقاد مواضع القصور في مفاهيم التمثيل التطوري نظريًّا لا يكون بالأمر المُجدي تمامًا. والسؤال الفعلي هو: ما مدى فائدة هذه المفاهيم في فهم الأمثلة البيولوجية الواقعية؟
(٣) لعبة الصقر والحمامة
يتنافس أحيانًا طائران من نفس النوع على مورِدٍ ذي قيمة. ويسهم المكرِّران في هذه المجموعة في جعل عوائلهما مسالِمة أو عدوانية في هذه المواقف. إذا كان أحدُ الطائرين مسالِمًا والآخرُ عدوانيًّا، فإن الطائر المسالِم يتنازل عن المورِد برمته إلى الطائر العدواني. وإذا كان كلا الطائرين مسالِمًا، فإنهما يتشاركان في المورِد بالتساوي. وإذا كان كلا الطائرين عدوانيًّا، فإنهما يتقاتلان.
أشار مينارد سميث إلى الطيور المسالِمة ﺑ «الحمام» والطيور العدوانية ﺑ «الصقور»، ولهذا السبب، سُمِّيت اللعبة لعبة الصقر والحمامة. لكن، لا تنخدع بافتراض أن المقصود من هذين الطائرين أن يمثِّلا مجموعتين مختلفتين تطورت كلٌّ منهما على حدة؛ فمن المفترض أن البيئة متماثلة تمامًا.
(٣-١) معضلة السجينين
(٣-٢) مغالطة الانتخاب الجماعي
إنَّ الاحتدامَ الذي ينكر به خبراءُ نظرية الألعاب المغالطاتِ المتعددة، التي تدَّعي أن التعاونَ عقلانيٌّ في معضلة السجينين، لا يُعدُّ شيئًا بالمقارنة بالشراسة شبه الشيطانية التي يستنكر بها اختصاصيو علم الأحياء التطوري مغالطةَ الانتخاب الجماعي.
طبقًا لمغالطة الانتخاب الجماعي، يفضِّل التطورُ الطفراتِ التي تحسِّن من صلاحية النوع لا من صلاحية الجين الطافر نفسه. ستكون المجموعة التي تلعب «حمامة» في معضلة السجينين بمنأًى عن أي هجوم من «صقر» طافر؛ لأن أيَّ نسبة من الصقور في المجموعة ستقلل من الصلاحية الكلية للمجموعة. وتكمن المغالطة في وضع المكرِّر ذي الصلة في غير موضعه على مستوى النوع. ففي النهاية، يحدث التكرار فعليًّا على المستوى الجزيئي عندما ينقسم اللولب المزدوج؛ لذا، فالأحرى بنا أن نَقْصر الاهتمام على الاستراتيجية الثابتة التطور الفريدة، وهي «صقر».
لم يعلم تشارلز داروين شيئًا عن علم الوراثة الحديث؛ ولذلك كان يقع أحيانًا في عدد من الأخطاء، التي كان من بينها مغالطة الانتخاب الجماعي. ومع ذلك، فإن عالِم الأحياء فيرو وين إدواردز هو مَن قاده حظه العثر إلى أن يكون هدفًا للنقاد المعاصرين. اقترح إدواردز، على سبيل المثال، أن طيور الزرزور تتجمع بأعدادٍ كبيرة مع حلول المساء حتى تقدِّر أعدادها بهدف التحكم في حجم مجموعتها. وكان نقد جورج ويليام لحُججه في الانتخاب الجماعي مؤثرًا للغاية؛ مما أدَّى إلى فيض من المؤلَّفات في هذا الصدد، ويُعتبر كتابُ «الجين الأناني» لدوكينز مجرد مثال واحد منها.
تُعَدُّ مسألة نسبة الجنس مثالًا جيدًا على إخفاق مغالطة الانتخاب الجماعي. ما نسبة الجنس التي تميِّز أيَّ نوع جديد؟ الإجابة هي قليل من الذكور وكثير من الإناث. لماذا لدينا إذن أعدادٌ متساوية تقريبًا من الأولاد والبنات؟ لأن ولدًا مولودًا في مجموعة معظمها من البنات سيكون أصلح من بنت، وبنتًا مولودةً في مجموعة معظمها من الأولاد ستكون أصلح من ولد. والسؤال هو كيف نصل إلى توازن في هذه المواقف؟ هذا هو موضوعنا التالي.
(٣-٣) لعبة ضبط الأعصاب
تحتوي لعبة ضبط الأعصاب على ثلاثة من توازنات ناش: اثنين خالصين وواحد مختلط. يتطلَّب التوازن المختلط أن يستخدم كل لاعب «حمامة» لثُلث الوقت، و«صقر» لثُلثَي الوقت. وعلى عكس ما أوردناه في الفصل الثاني تحت عنوان «الوصول إلى التوازن»، فإننا نرفض هنا التوازنات الخالصة؛ لأنها غير متماثلة، ونكتفي فقط بالتوازن المختلط المتماثل.
هل علينا إذن أن نتخيَّل الطيور ترمي النَّرْد؟ ليس في لعبة الصقر والحمامة. ولمعرفة السبب، تخيَّلْ أن ثُلث المجموعة حمام والثُّلثين صقور. عندما تختار الصُّدفة طائرين عشوائيًّا للَعب لعبة ضبط الأعصاب من هذه المجموعة المتعددة الأشكال، سيبدو لكل لاعب من اللاعبَيْن أن خصمه يلعب استراتيجية التوازن المختلط. وبما أن اللاعبَيْن غير متحيِّزين للاستراتيجيات الخالصة التي يستخدمانها في توازن مختلط (راجع الفصل الثاني)، فسوف يتساوى كلٌّ من الصقور والحمام في صلاحيته. لذلك، لن يتعيَّن على أي طائر فردي اللجوءُ مطلقًا إلى الاختيار العشوائي من أجل الحفاظ على التوازن.
قديمًا، كان يُعتقَد أن بقاء نوعين مختلفين من نفس الحيوان في البيئة نفسها أمرٌ غامضٌ. ويجب بالتأكيد أن يكون أحد الأنواع أقل صلاحيةً بقليل من الآخر؛ مما يجعله عرضةً للانقراض على المدى البعيد. لكن، تختلف صلاحية أي نوع مختلف تبعًا لتكراره في هذه المواقف.
(٣-٤) سمكة الشمس ذات الزعانف الزرقاء
تُعتبر سمكة الشمس ذات الزعانف الزرقاء (ليوبونيس ماكروتشيريس) هدفًا شائعًا للصيَّادين في بحيرات أمريكا الشمالية. تتمتع هذه الأسماك بموسم تزاوج متزامن، وفيه تُقِيم الذكور أعشاشًا في قاع البحيرة. وتضع الإناث البيض في العش الذي يستهويها. ويلقِّح الذكر المقيم في العش البيض فورًا، ويحرس صغار السمك الناتجة بشجاعة وقوة.
تشارك هذه الذكور الحارِسة مياه البحيرة مع نوع آخر من الذكور يسمَّى عادةً بالمتسلِّل. وتصبح هذه الذكور المتسلِّلة مكتملة النمو بعد عامين، بينما تستغرق الذكور الحارِسة سبعة أعوام للوصول إلى مرحلة النضج واكتمال النمو. ولا تستطيع الذكور المتسلِّلة أن تقيم عشًّا وتحرس؛ نظرًا لأنها لا تعدو أن تكون أكثر من مجرد أعضاءِ تناسُلٍ ذاتيةِ الاندفاع. وعندما تضع أنثى بيضَها في العش، تَخرج الذكور المتسلِّلة مندفعةً من مخابئها وتحاول أن تخصِّب البيض قبل الذكر الحارِس.
كما حَبَتْنا الطبيعةُ أيضًا بأعداد وفيرة للغاية من الذكور المتسلِّلة البديلة التي تتخفَّى كإناث، وذكور حارِسة بديلة تقيم أعشاشها على مسافة من الأعشاش المتقاربة التي تقيمها الذكور الحارِسة العادية.
تنصُّ النظرية على أن تعديلًا سيطرأ على عددِ كل نوع من الذكور بما يتكافأ مع صلاحيته، وهي نتيجة متوافقة مع البيانات على نحو مطمئِن.
(٣-٥) اختيار شركاء عديدين للتزاوج
لا تحتاج الحيوانات إلى الاختيار العشوائي عندما تتنافس في مجموعاتٍ ثنائية، لكنها تتصرف كما لو أنها تحتاج إلى ذلك عند اختيار شركاء عديدين للتزاوج.
تتجمَّع ذكور ذبابة الرَّوث (سكاتوفاجا ستيركوراريا) في روث البقر عندما ترغب في الزواج من الإناث المنجذِبة إلى الرائحة. ولكن، كَمِ المدة التي على الذكر أن ينتظرها قبل أن يسعى إلى روث بقرةٍ رطب حديث التكوُّن (وهو ما يستغرق أربع دقائق في المتوسط)؟ تخبرنا نظرية الألعاب أن نبحث عن توازنات ناش المتماثلة. في أبسط النماذج، سيستخدم كل ذكرٍ استراتيجيةً مختلطة يُوزَّع فيها زمن انتظاره تصاعديًّا. ويعني هذا أن احتمال انصرافه في اللحظة الآنية دائمًا ما يكون ضِعف ما كان من المفترض أن يكون عليه لو أنه انتظر فترةً زمنية محددة. لكن كَمْ تبلغ هذه الفترة؟
إذا كانت نظرية الألعاب محقَّة فيما ذهبت إليه، فلا بد إذن من تعديل الفترة الزمنية حتى تصير احتمالية نجاح التزاوج لدى ذبابة الرَّوث واحدة، بصرف النظر عن المدة التي ينتظرها الذكر. ومثلما يحدث في سمكة الشمس، فإن البيانات المتوافرة تؤيِّد هذه الفترة على نحو كبير للغاية، على الرغم من أنني أظن أن ذبابة الرَّوث لن تكون أكثر تقبلًا لفكرة الاختيار العشوائي مِن تقبُّل مدير تنفيذي في إحدى الشركات لفكرة أنه كان بصدد عملية اختيار عشوائي على نحو متعمد (راجع «هل ثمة منطق للاختيارات العشوائية؟» في الفصل الثاني).
(٤) انتقاء الأقارب
تزخر مملكة الحيوان بأمثلة عديدة على التعاون داخل العائلة الواحدة. فكلاب الصيد الأفريقية — على سبيل المثال — تتقيأ الطعام لإطعام رفاقها في الزمرة. كما أن «القشَّة» (وهي نوع من القردة طوله لا يزيد عن ٢٠ سنتيمترًا) و«الطمارين» (نوع آخر من القردة بطول السناجب) تساعد في رعاية أولاد الأخ والأخت في عائلاتها الممتدة. والشيء نفسه تفعله ذكور بعض أنواع الطيور عندما تكون فرص قدرتها على التزاوج في الموسم الحالي ضئيلة. وتضحي حشرة المَنِّ (أو قملة النبات) بحياتها من أجل الدفاع عن أنسبائها إذا ما تعرَّضت لهجوم. وتكوِّن ثيران المسك حلقة دفاع حول أفراد العائلة الأضعف عند تعرُّضها لهجوم من الذئاب. لماذا إذن تحظى القرابة بأهمية كبيرة في مملكة الحيوان؟
(٤-١) قاعدة هاملتون
تَسرد الأبحاثُ المُجمَّعة لبيل هاملتون المنشورة تحت عنوان «دهاليز أرض الجينات» قصة حياة وأعمال عبقريٍّ آخرَ غريبِ الأطوار، تُوفي مؤخرًا وفاةً جسورة في رحلة ميدانية إلى البرازيل. ويرجع معظم الفضل إلى هاملتون في تطبيق نظرية الألعاب في مجال علم الأحياء، على الرغم من أنني أشك أنه سمع مطلقًا بجون ناش خلال سنوات نضاله الطويلة، التي عاشها وحيدًا ومبخوسًا بقدره، لتأسيس مجالٍ بحثيٍّ جديد تمامًا. وكان من بين إنجازاته المتعددة أنه صاغ التفسير التطوري للتعاون داخل الأسرة، وهو ما يُعرف حاليًّا بانتقاء الأقارب.
توقَّع جيه بي إس هالدين وجهةَ نظر هاملتون هذه — حسبما يُذاع — في مَزْحة شبه جادة. فعندما سُئل إن كان من الممكن أن يضحِّي بحياته من أجل شخص آخر، كانت إجابته أن التضحية تكون في محلها فقط إذا أنقذَتْ أخوين أو ثمانية من أبناء العم. وليست مَزْحة هالدين مضحكة إلا إذا كنت تعلم أن درجة القرابة لأخ شقيق هي النصف، وأن درجة القرابة لابن العم أو الخال هي الثُّمن.
يُزعم أحيانًا أن درجة القرابة غير مهمة في حقيقة الأمر؛ لأن البشر يتشاركون على أي حال في جميع جيناتهم تقريبًا. لكن هذا الأمر يجعلنا نخطئ الهدف؛ لأننا لا نهتم أبدًا بالجينات الموجودة دائمًا في جسم الإنسان، وإنما نهتم فقط بجزءٍ معين من السلوك سيجري تعديله أو تجاهله على أساس وجودِ أحد الجينات التي طرأت عليها طفرةٌ مؤخَّرًا، أو غيابِها.
تعني درجة قرابتك لقريبٍ ما أن من المحتمَل أن يكون أحد الجينات الطافرة مؤخَّرًا في جسمك موجودًا أيضًا في جسم قريبك. وللاستدلال على أن درجة القرابة لابن العم أو الخال هي الثُّمن، تخيَّلْ أن هذا القريب هو ابنة أخت والدتك. يبلغ احتمال أن يكون جينٌ طافرٌ موجودًا في جسمك قد أتاك من والدتك لا من والدك؛ النصفَ. وإذا كنتَ قد ورثت هذا الجين من والدتك، فاحتمال وجوده في جسم خالتك يكون النصف. وإذا كان موجودًا في جسم خالتك، فإن احتمال توريثه لابنتها يكون النصف. وبضرب هذه الأنصاف الثلاثة، نحصل على قيمة الثُّمن.
إنَّ ما يهم في حساب صلاحية الجين هو متوسط عدد مرات استنساخ الجين وتكراره في الجيل التالي. ولكن لا يهم أيٌّ من أشكال الجين المتماثلة — سواءٌ أكانت شكلَيْن أو أكثر — قد استُنسِخ. فالنسخة المصنوعة من الجين الموجود في جسم أختي تكون بنفس صلاحية النسخة المصنوعة من الجين المتماثل الموجود في جسمِي تمامًا. ومن ثَم، عندما نحدِّد صلاحية جينٍ ما في جسمِي، علينا ألَّا نأخذ في اعتبارنا فقط تأثيرَ سلوكي على نجاحي التناسلي، وإنما أيضًا تأثيره على النجاح التناسلي لأقاربي. ولقد أطلق هاملتون على نتيجة هذه العملية الحسابية صلاحية «شاملة».
تحظى القرابة بأهمية خاصة في المجتمعات البشرية البدائية. ففي المجتمعات التي تتسامح مع ممارسة الجنس مع أكثر من شريك، على سبيل المثال، يتولَّى خال الطفل تأدية بعض الوظائف التي يؤدِّيها الأب في مجتمعاتنا، ويُعزى السبب الرئيسي في ذلك إلى أن الجميع يعلم أن درجة قرابته للطفل هي الرُّبع، في حين لا أحد يعلم عن يقين هُوية والد الطفل الحقيقي. تُقدِّم قاعدة هاملتون تفسيرًا تطوريًّا لهذه الظاهرة بتحديد إلى أي مدًى علينا أن نتوقَّع أن يكون الدم أكثر كثافةً من الماء.
(٤-٢) الحشرات الاجتماعية
يُوصَف أي نوع بأنه يتسم بالاجتماعية العليا إذا كان يعيش في مستعمرات مع أجيال متداخلة يلد فيها فرد واحد أو بضعة أفراد كلَّ النسل (مجموعات تناسلية)، ويكون بقية الأفراد مجرَّد معاونين عُقماء (مجموعات لا تناسلية). وتعدُّ ظاهرة الاجتماعية العليا نادرة الوجود، اللهم إلا بين «غشائيات الأجنحة»، وهي رتبة من الحشرات تتضمَّن النمل والنحل والدبابير. ويُزعَم عادةً أن الاجتماعية العليا بمفهومها الحقيقي قد ظهرت على نحوٍ مستقل ١٢ مرةً على الأقل في «غشائيات الأجنحة»، مقارنةً بمرتين فقط في مواضع أخرى، مع وجود حالاتٍ استثنائية في النمل الأبيض من رتبة «متساوية الأجنحة»، وفأر الخلد العاري من رتبة القوارض. واكتشفت دراسةٌ أخيرة أنواعًا أخرى تتسم بالاجتماعية العليا، وأكثر هذه الأنواع إثارةً للاهتمام هو نوعٌ من الجمبري (عشاريات الأرجل) يستعمر الإسفنج في الشعاب المرجانية. لكن، يظل معدَّل وجود الاجتماعية العليا في «غشائيات الأجنحة» لغزًا يحتاج إلى تفسير.
لماذا أدَّى التطور إلى وجود نسل من الأفراد العاملة العقيمة؟ لماذا تعمل هذه الأفراد بلا كلل أو ملل لأجل الآخرين؟ لماذا تَشيع هذه الظاهرة بين «غشائيات الأجنحة» وتكون نادرة في الرتب الأخرى؟
من جانب، يُعتبر هذا اللغز بسيطًا؛ فالمجموعات التي تعمل معًا تكون عادةً أكثر إنتاجيةً من الأفراد التي يتصرَّف كلٌّ منها على حدة. ففي خلية النحل أو عش النمل، تختص أعدادٌ هائلة للغاية من الأفراد العاملة العقيمة بحماية الصغار ورعايتها، بينما تختص الملكة بالتناسل؛ حيث تكون بمنزلة ماكينة لوضع البيض؛ لذا، فإن إجمالي عدد الصغار الناتج في هذه الحالة يكون أكبر بكثير منه لو تولَّت أزواج من النحل أو النمل تربية كل عائلة من عائلاتها على نحو منفصل.
إنَّ الفائدة التي تعود على الملكة واضحة، لكنْ ما الفائدة التي تعود على أفراد النحل أو النمل العامل؟ كل نحلة أو نملة صغيرة خصبة تضعها الملكة تكون ذات صلة قرابةٍ بأفراد النحل العامل، فهي إخوة وأخوات النحل العامل. وبذلك، يكون للجين الطافر الذي يعبِّر عن نفسه في جسم النحلة العاملة أعدادٌ لا تحصى من الأقارب عند حساب صلاحيته الشاملة. ولا بد مِن وضع كل صغار النحل أو النمل الخصبة للملكة — التي تقاس بدرجة قرابتها إلى أحد أفراد النحل العامل — في الاعتبار عند حساب الفائدة التي تعود على أي نحلة عاملة في سعيها الدءوب والجاد لدعم الملكة. ومن ثَم، تضمن إنتاجية خلية النحل أو عشِّ النمل أن يصبَّ هذا التوازن بكل تأكيد في مصلحة الاجتماعية العليا.
كان من الممكن أن ينطبق هذا الأمر بالكيفية نفسها على أنواع البشر إذا كان لدينا نسلٌ من الأفراد العاملة العقيمة، لكننا عادةً ما نربِّي أولادنا في عائلاتٍ ممتدة لا في مصانع بيولوجية. فلماذا إذن لم يؤدِّ بنا التطور إلى نفس طريق «غشائيات الأجنحة»؟
يعتمد رد بيل هاملتون على هذا السؤال على حقيقة أن «غشائيات الأجنحة» تجمع بين كونها أُحادية المجموعة الكروموسومية وثنائية المجموعة الكروموسومية؛ حيث يصير البيض غيرُ المخصَّب ذكورًا أُحادية المجموعة الكروموسومية، ويصير البيض المخصَّب إناثًا ثنائية المجموعة الكروموسومية. في النوع الأُحادي المجموعة الكروموسومية، يستضيف كلُّ موضع على الكروموسوم جينًا واحدًا فقط. أما البشر، فثنائيُّو المجموعة الكروموسومية؛ حيث يستضيف كلُّ موضع جينين؛ جينًا من الأم والآخر من الأب؛ لذا، تكون درجة القرابة بين الأخوات في معشر البشر هي النصف؛ حيث يحصل كل طفل على جين واحد من الأب وجين واحد من الأم في كل موضع، ويكون الجينُ الذي يحصل عليه الطفل من أحد والدَيْه على الأرجح أحدَ الجينين اللذين يحملهما كلٌّ من الأب أو الأم في ذلك الموضع. وعلى النقيض من ذلك، تكون درجة القرابة بين الأخوات في «غشائيات الأجنحة» هي الثلاثة أرباع؛ لأن كلَّ موضع على كروموسوماتها يحصل على الجين نفسه من الأب، وجين يجري اختياره عشوائيًّا من الزوج الذي تحمله الأم في ذلك الموضع.
لذا، يكون لدى أفراد النحل أو النمل العاملة دافع أقوى لمساعدة أخواتها بالمقارنة مع ما نجده لدى البشر في الموقف نفسه. لكن، ليست هذه هي نهاية الحديث في هذا الشأن.
أوضحَ روبرت تريفرز أن درجة القرابة بين إناث النحل العاملة وإخوانها من ذكور النحل هي الرُّبع فقط. إذا كانت نسبة الجنس بين «غشائيات الأجنحة» هي ٥٠ : ٥٠، فإن متوسط درجة القرابة بين عامِلة عقيمة وأخٍ خصب لن تعدو بذلك ثلاثة أرباع إلى رُبع واحد في المتوسط، وهو ما تَنتج عنه قيمة النصف، وهي القيمة نفسها الموجودة في أنواعنا البشرية. ومع ذلك، فإن نسبة الجنس في بعض أنواع «غشائيات الأجنحة» تكون ٧٥ : ٢٥ تقريبًا، وهو ما يأتي في مصلحة الإناث الخصبة على حساب الذكور الخصبة. كيف ذلك؟ الإجابة ليست مثيرة في حدِّ ذاتها فحسب، لكنها أيضًا تساعد في إكمال شرح هاملتون لسبب وجود ظاهرة الاجتماعية العليا بهذه الكثرة في «غشائيات الأجنحة».
ينبغي التأكيد على أن تفاصيل هذه القصة المفرِطة التبسيط محلُّ جدل بين علماء الأحياء. وحتى الأنواع الأقرب إلى التوافق مع هذه القصة تتشعَّب في طرق متفرِّدة. لكنني أعتقد أن حقيقة أن نظرية الألعاب تتيح لاختصاصيِّي علم الأحياء التطوري شرْحَ نِسب الجنس في الأنواع التي تكون فيها هذه النِّسب غير متماثلة؛ هي واحدة من أكثر الأدلة إقناعًا على أننا بصدد فعل شيء صائب.
لا يزال بالطبع ثمة الكثير من الألغاز الغامضة. لماذا تُعد «غشائيات الأجنحة» أُحادية وثنائية المجموعة الكروموسومية؟ كيف يمكن لبعض الأنواع فقط في الرتبة عينها أن تتسم بالاجتماعية العليا دون غيرها؟ ماذا عن المستعمرات التي بها ملكات متعدِّدة؟ ماذا عن النوع «باكيكونديلا فيلوزا»، الذي يبدو فيه أن الملِكات التي لا تجمعها صلة قرابة به تبني مستعمرات معًا؟ ماذا عن الألغاز المتعدِّدة التي يطرحها النمل الأبيض؟ يتعلَّل أنصار نظرية الخَلْق بهذه الاعترافات بالجهل لكشف زيف العلم التطوري، لكنني أعتقد أن انتقاداتهم تنمُّ ببساطةٍ عن إخفاقٍ من جانبهم في فَهْم آلية عمل العلم.
(٥) تطوُّر التعاون
عَلِمْنا من قبلُ أنه من الممكن الحفاظ على التعاون بين الحيوانات التي تجمعها صلة قرابة عن طريق الآليَّة التي أَطلق عليها بوب تريفرز الإيثارَ المتبادل. ويقدِّم الخفاش الماصُّ للدماء (ديسمودس روتونديس) مثالًا رائعًا على ذلك.
تُقيم الخفافيش الماصَّة للدماء في كهوف أثناء النهار، وتخرج ليلًا للبحث عن حيوان كي تمصَّ الدم منه. وتفشل نحو ٨٪ منها في ذلك، وهو ما يمثِّل مشكلة كبيرة للخفافيش، التي تحتاج أن تتغذَّى كلَّ ٦٠ ساعة أو نحو ذلك؛ لذا، فإنَّ الدافع التطوري نحو المشاركة يكون قويًّا للغاية. اكتشَف جيرالد ويلكنسون أن الخفافيش الماصَّة للدماء تتشارك الدم على أساسٍ متبادل مع الخفافيش الجاثمة معها في الكهف، التي لا تكون دائمًا أقاربَ لها. باختصار، ما يحدث على الأرجح أن الخفاش الماصَّ للدماء يتقيَّأ الدم لخفاش مرافق له في الكهف يستجديه العطاء، إذا كان هذا الخفاش المرافق له قد تشارك معه الدم في السابق.
كيف يبدأ هذا التعاون؟ لقد زاد أكسلرود الأمر تعقيدًا عندما زعم أنه قد أوضح أن استراتيجيةَ «واحدة بواحدة» هي استراتيجيةٌ ثابتة التطور في لعبة معضلة السجينين المتكرِّرة على نحوٍ لا نهائي. وعلى الرغم من أن مينارد سميث أيَّد خطأً هذا الزعمَ، فمن الواضح أنه زعمٌ غير صحيح. فيمكن للاستراتيجية التي تلعب «حمامة» دائمًا أن تكتسح مجموعة من استراتيجيات «واحدة بواحدة». لن تَحُلَّ هذه الطفرة محلَّ استراتيجيةِ «واحدة بواحدة» فحسب، لكنها أيضًا لن تتعرض للإقصاء.
(٥-١) لُعبة الصقر والحمامة والمنتقِم
يوضِّح المثلث العلوي ديناميكيات المكرِّرات للُعبة الصقر والحمامة والمنتقِم. والمجموعة المظلَّلة هي حوض التجاذب للمجموعة «ن». يتجاهل مينارد سميث وبرايس هذه المجموعة؛ لأن المجموعة «م» فقط هي التي تُعَد استراتيجيةً ثابتة التطور. ومع ذلك، إذا تَمكَّن النظام من الوصول إلى المجموعة «ن»، فإن فرصته الوحيدة للهروب تتمثَّل في ظهور طفرة «صقر» جديدة أثناء وجوده بالقرب من «ط». لكن، يمكن أن يتأخَّر هذا الحدث النادر لوقت طويل للغاية. وفي الحقيقة، ثمة فترات طويلة للغاية من الثبات في تطوُّر العديد من الأنواع ربما تُعزى إلى هذا السبب.
على الرغم من ذلك، فإن أهم تطبيق للُعبة الصقر والحمامة والمنتقِم هو حالة التفاعل المحلي. ففي الحياة الواقعية، تلعب الحيوانات غالبًا ألعابًا مع الحيوانات الموجودة في المناطق الجغرافية المجاورة. ومن ثَم، ربما تعمل الصدفة على إصلاح الموقف بسهولة، بحيث تزداد أعداد المنتقمين الطافرين في منطقة مجاورة صغيرة. وتخبرنا لُعبة الصقر والحمامة والمنتقِم إذن أن الاستراتيجيات الأخرى ستندثر تدريجيًّا في تلك المنطقة المجاورة. ولكن، سيحدث الأمر نفسه في المناطق المجاورة المتداخلة حتى يستولي المنتقِمون على البيئة المحيطة بأكملها.
يبدو لي أن هذا التفسير هو أكثر التفسيرات التي طُرِحت عمومًا حول مفهوم تطور التعاون إقناعًا.
(٥-٢) التطور الاجتماعي أو الثقافي
يُعتقد أحيانًا أن المرء عليه ألَّا يتحدَّث عن التطور إلا إذا كان وثيق الشبه للغاية بالتطور البيولوجي. ومن الصائب تمامًا أن المكرِّرات لا تنشأ فقط في وسط بيولوجي.
فالمبادئ العامة وقواعد السلوك وصيحات الموضة وأساليب الحياة والمعتقدات والأفكار العلمية كلُّها مكرِّرات من نوعٍ ما. ويشير ريتشارد دوكينز إلى مثل هذه المكرِّرات الثقافية ﺑ «الميمات». وهي تنتشر من عقل إنسان لآخر عن طريق المحاكاة أو التعليم.
طالما كنتُ متحمِّسًا لفكرة الميمات، لكن الآن بعد أن فهمنا أن ديناميكية المكرِّرات لا تنشأ من نماذج التكاثر البيولوجي فحسب، بل أيضًا من نماذج التعلُّم بأسلوب المحاكاة وأسلوب المثير والاستجابة، يبدو أنه من غير الضروري أن نقيِّد أنفسنا بنموذج الميم التحليلي. وفي كل مرة تقودنا الديناميكيات التكيفية — وهي عبارة عن مجموعة من الأساليب لدراسة تطور الأنماط الظاهرية — إلى توازن ناش لإحدى الألعاب، سأكون على استعدادٍ للتحدُّث عن التطور الثقافي.
يبدو أن الفرق الرئيسي بين تطبيق الأفكار التطورية في علم الأحياء والعلوم الاجتماعية هو أن علماء الأحياء عادةً ما تكون لديهم دراية جيدة جدًّا بمصادر التباين المثير للاهتمام، في حين لا يَسَع خبراء العلوم الاجتماعية سوى التخمين. على سبيل المثال، يجب أن تؤخذ في الاعتبار حقيقة ظهور تحوُّلاتٍ دائمًا في شكل نُظم كسب المال الجديدة عند دراسة أي نموذج تطوري في علم الاقتصاد، لكن لو كان في مقدور علماء الاقتصاد التنبؤ بالنظم التي ستحقِّق نجاحًا، لَصاروا جميعًا أثرياء.