لماذا يُصدِّق الأذكياء أمورًا غبية
الغرض الحقيقي من الأسلوب العلمي هو ضمان ألا يُضلَّل المرءُ من قِبَل الطبيعة بالاعتقاد بأنه يعرف شيئًا لا يعرفه في واقع الأمر.
لماذا توجد لدينا إحصاءات؟ لماذا نقيس الأشياء؟ ولماذا نَعُدُّ؟ إذا كان للأسلوب العلمي أي سلطة — أو «قيمة» مثلما أفضِّل أن أعتبرها — فإن مَرَدَّ ذلك أن الأسلوب العلمي يمثِّل أسلوبًا منهجيًّا؛ إلا أن ذلك يُعَدُّ أمرًا قيِّمًا؛ فقط لأن البدائل الأخرى قد تكون مضلِّلة. عندما نفكِّر في الأشياء بصورة غير رسمية — سمِّ ذلك حدسًا، إذا شئتَ — نستعين بالقواعد العامة العملية التي تُبَسِّط المشكلات من أجل تحقيق الفاعلية. وقد وُصِّف الكثير من هذه الأساليب المختصرة بشكل جيد في مجال يُسمى «الاستدلال»، وهي طرق فعَّالة للمعرفة في كثير من الحالات.
لا يأتي هذا التبسيط دون تكلفة — معتقدات خاطئة — لأن ثمة مَواطن ضعف منهجية في استراتيجيات التحقُّق من صحة الحقائق هذه، وهو ما يمكن استغلاله. ولا يختلف هذا كثيرًا عن الطريقة التي يمكن أن تستغل بها الرسوم الأساليب المختصرة في نظامنا الإدراكي؛ فعندما تصير الأشياء أكثر بعدًا، تبدو أصغر، وقد يخدعنا «المنظور» بحيث نرى ثلاثة أبعاد فيما لا يوجد سوى بُعدين فقط، من خلال استغلال هذه الاستراتيجية التي تستخدمها أداتنا الإدراكية للتأكد من العمق. وعندما يتعرَّض نظامنا المعرفي — الذي يُعَدُّ أداتنا للتحقُّق من صحة الحقائق — للخداع، حينئذٍ، ومثل رؤية عمق في رسم مسطَّح، نتوصَّل إلى استنتاجات خاطئة حول الأشياء المجردة. فربما نخطئ في تحديد التقلُّبات العادية باعتبارها أنماطًا ذات معنًى، على سبيل المثال، أو نحدِّد علاقة سببية فيما لا توجد أي علاقة سببية في حقيقة الأمر.
هذه خُدَعٌ إدراكية مشابهة للخُدَع البصرية. وقد تكون خُدَعًا محيِّرة للعقل بنفس القَدْر، وهي تقع في جوهر سبب ممارستنا للعلم، بدلًا من بناء معتقداتنا على الحدس الذي يُستقَى من «ملخص» موضوع يُكتسب من خلال وسائل الإعلام العامة؛ نظرًا لأن العالم لا يوفر لك بيانات مجدولة بعنايةٍ ونظامٍ حول التدخلات العلاجية والنتائج. بدلًا من ذلك، يقدِّم لك العالم بيانات عشوائية تدريجية بكميات ضئيلة خلال فترة زمنية، ولعل محاولة بناء فهم واسع للعالم من خلال ذكرى الخبرات الخاصة سيكون أشبه بالنظر إلى سقف كنيسة سيستين من خلال أنبوب طويل، رفيع، كرتوني. يمكن للمرء محاولة تذكُّر الأجزاء المفردة التي لمحها هنا وهناك، لكن دون وجود نظام أو نموذج، لن يمكنه أبدًا تقييم الصورة الكاملة.
لنبدأ.
(١) العشوائية
باعتبارنا بشرًا، نمتلك قدرة فطرية كامنة على صنع شيء من لا شيء؛ فنرى أشكالًا في السُّحُب، ووجوهَ أشخاصٍ في القمر؛ ويقتنع المقامرون بأنهم يمتلكون «حظًّا متواصلًا»؛ ونتناول تسجيلًا لموسيقى هيفي ميتال في غاية المرح، ثم نشغِّله في الاتجاه العكسي، ونسمع رسائل خفيَّة حول الشيطان. وقدرتنا تلك على تحديد الأنماط هي التي تمكِّننا من فهم العالَم، لكن في بعض الأحيان، في خضم شغفنا، نتحلَّى بحساسية مفرِطة، واستهتار، ونرى أنماطًا على نحو خاطئ فيما لا توجد أي أنماط.
في العلم، إذا أردتَ أن تدرس ظاهرة ما، يكون من المفيد في بعض الأحيان اختزالها إلى أبسط صورها وأكثرها تحكُّمًا. هناك اعتقاد سائد بين الأنماط الرياضية أن الرياضيين، مثل المقامرين (اللهم إلا أن حالة هؤلاء أكثر قابلية للتصديق)، يحظَوْن «بحظٍّ متواصل». يُرجِع الناس ذلك إلى الثقة، أو «التفوق في رياضة ما»، أو «الإحماء»، أو أكثر من ذلك، وبينما قد يتوافر الحظ في بعض الألعاب، بحث علماء الإحصاء في مواضع متنوعة حيث ادَّعى الناس وجود الحظ، ولم يجدوا أي علاقة بين — لِنَقُلْ — ضرب الكرة في إحدى الحفر، ثم ضربها مرة أخرى داخل الحفرة التالية.
إليك سلسلةً متتابعة عشوائية من الحروف من تلك التجربة. ربما تعتقد أن سلسلة الأحرف هذه قد وُلِّدت من خلال سلسلة من عمليات قذف العملة:
كان المشاركون في التجربة مقتنعين بأن سلسلة الأحرف المتتابعة هذه تمثِّل «نمط تصويب متواصل» أو «حظًّا متواصلًا»، ويسهل هنا تفسير السبب، إذا نظرتَ مجددًا: لقد أصابتْ ست رميات من بين الرميات الثماني الأولى الهدف. لا، انتظر: لقد أصابت ثماني رميات من بين الرميات الإحدى عشرة الأولى الهدفَ. لا يمكن أن يكون هذا عشوائيًّا …
تُظهِر هذه التجربة المبتكرة مدى ما نتسم به من سوءٍ في تحديد المتواليات العشوائية على نحو صحيح. فنحن نخطئ حيال ما يجب أن تبدو عليه هذه المتواليات؛ إذ نتوقَّع قدْرًا بالغًا من التناوب؛ لذا تبدو المتواليات العشوائية الحقيقية إلى درجة ما متكتلة ومنظمة بشكل مبالغ. فتخميناتنا الحدسية حول أبسط الملاحظات جميعًا — ألا وهي تمييز نمط ما من مجرد مجموعة عشوائية من الأشياء القابعة في الخلفية — قاصرةٌ إلى حدٍّ بعيد.
هذا هو الدرس الأول لنا في أهمية استخدام الإحصاءات بدلًا من الحدس. يعتبر هذا أيضًا مثالًا ممتازًا لمدى قوة التشابهات بين هذه الخُدَع الإدراكية والخُدَع البصرية التي نحظى بدراية أكثر بها. يمكن للمرء أن يحدِّق في خداع بصري أنَّى شاء، وأن يتحدث أو يفكِّر فيه، لكن سيظل ثمة شيء «خطأ». بالمثل، يمكن النظر مليًّا في المتوالية العشوائية عاليه كيفما شئت، لكن ستظل تبدو متكتلة ومنظمة، في تعارض واضح مع ما تعرفه الآن.
(٢) النكوص إلى المتوسط
لقد تناولنا بالفعل النكوص إلى المتوسط عند الحديث عن المعالجة المثلية؛ إنها تلك الظاهرة التي تميل الأشياء بمقتضاها، عندما تبلغ أقصاها، إلى الاستقرار عند المنتصف، أو «تنكص إلى المتوسط».
وقد رأينا هذا مصحوبًا بالإشارة إلى شؤم الظهور في مجلة «سبورتس إلستريتيد» (وبرنامج بروس فورسايث «بلاي يور كاردس رايت»)، ولكننا أيضًا طبَّقنا المفهوم نفسه على الموضوع الذي نتحدث عنه؛ ألَا وهو مسألة تحسُّن صحة الناس؛ فقد ناقشنا كيف أن الناس سيتحركون لفعل شيء عندما يبلغ ألَمُ الظهر لديهم مبلغه — ربما زيارة معالِج متخصص في المعالجة المثلية — وكيف أنه على الرغم من تحسُّن حالة ظهورهم على أي حال (لأنه عندما تبلغ الأشياء أسوأ حالاتها، تتحسَّن عمومًا)، يُرجِعون الفضل في ذلك التحسن إلى العلاج الذي تلقَّوْه.
يحدث شيئان منفصلان عندما نقع ضحية هذا الفشل الحدسي؛ أولًا: فشلنا في تحديد نمط النكوص إلى المتوسط على النحو الصحيح. ثانيًا: قرَّرنا بناءً على ذلك أنه لا بد أن شيئًا ما قد «تسبَّب» في ظهور هذا النمط الوهمي، كعلاج من علاجات المعالجة المثلية على وجه التحديد. يختلط النكوص البسيط مع العلاقة السببية، وهو ما قد يُعَد شيئًا طبيعيًّا تمامًا بالنسبة إلى الحيوانات مثل البشر، الذين يعتمد نجاحهم في العالَم على القُدْرة على تحديد العلاقات السببية بسرعة وعلى نحو حدسي. فنحن نتميَّز فِطريًّا بالحساسية المفرطة حيال العلاقات السببية.
عندما ناقشنا الموضوع قبلًا، اعتمدتُ لدرجة ما على حسن نيتك، وعلى احتمالية أنه مِن خلال خبرتك الذاتية قد تتفق في أن هذا التفسير منطقي. لكن أُثبِتت هذه الظاهرة من خلال تجربة أخرى بُسِّطت تدريجيًّا على نحوٍ مبتكر؛ حيث جرى التحكم في جميع المتغيرات، لكن كان المشاركون لا يزالون يستطيعون رؤية أنماط وعلاقات سببية، فيما لم يكن هناك أيٌّ من ذلك.
لعب المشاركون في التجربة دور مدرس يحاول جعل أحد الأطفال يصل في موعده إلى المدرسة في الساعة ٣٠ : ٨ صباحًا. جلس كل مشارك إلى جهاز كمبيوتر اتضح من خلاله أنه في كل يوم — لمدة خمسة عشر يومًا متصلة — سيصل الطفل المفترض في وقت بين ٢٠ : ٨ و٤٠ : ٨ صباحًا، لكن دون معرفة المشاركين، كانت أوقات الوصول عشوائية تمامًا، وحدِّدت مسبقًا قبل بداية التجربة. لكن سُمح للمشاركين جميعًا باتخاذ إجراءات عقابية للتأخير، ومنْح مكافآت على الالتزام بالمواعيد، في أيِّ ترتيب تبادلي يرغب فيه المشاركون. عندما طُلب من المشاركين في النهاية تقييم استراتيجيتهم، خلص ٧٠ في المائة منهم إلى أن العقاب كان أكثر فاعليةً من الثواب في جعل الطفل يلتزم بالمواعيد.
كان هؤلاء المشاركون مقتنعين بأن أسلوبهم كان له تأثير على التزام الطفل بالمواعيد، على الرغم من أن موعد وصول الطفل كان عشوائيًّا تمامًا، ولم يكن يمثل إلا نموذجًا «للنكوص إلى المتوسط». على النحو ذاته، عندما تبيَّن أن المعالجة المثلية لم تُحدِث أيَّ تحسُّن أكثر من العلاج الوهمي، كان المشاركون لا يزالون مقتنعين بأن لها تأثيرًا مفيدًا على صحتهم.
•••
- (١)
نرى أنماطًا فيما لا توجد سوى ضوضاء عشوائية غير منتظمة.
- (٢)
نرصد وجود علاقات سببية حيثما لا توجد أي علاقة.
هذان سببان وجيهان جدًّا لقياس الأشياء بطريقة شكلية. ولا يمثل هذا أخبارًا سارَّة للحدس. هل يمكن أن يصبح الأمر أكثر سوءًا؟
(٣) التحيُّز للنتائج الإيجابية
يتمثَّل الخطأ الفريد والدائم في طريقة الفهم الإنسانية في تأثُّرها وتحفيزها بالنتائج الإيجابية أكثر من النتائج السلبية.
تصير الأمور أكثر سوءًا، فيبدو أننا قد صار لدينا مَيْل فِطري للبحث عن تقييم الأدلة التي تؤكِّد فرضية محددة، والإفراط في هذا التقييم. وفي محاولتنا للتخلُّص من هذه الظاهرة من المجال الخلافي للطب المكمِّل والبديل — أو الذعر من التطعيم الثلاثي، وهو ما سيتجه إليه مسار الحديث — نحن محظوظون؛ لأن لدينا تجارب مبسطة أكثر توضِّح المقصد العام.
تخيَّل مائدةً عليها أربع بطاقات، عليها الحرفان «أ» و«ب»، والرقمان «٢» و«٣». على كل بطاقة حرفٌ في أحد الجوانب، ورقمٌ على الجانب الآخر. تتمثَّل المهمة هنا في تحديد ما إذا كانت جميع البطاقات التي تتضمَّن حرفًا متحرِّكًا في أحد الجوانب تتضمَّن رقمًا زوجيًّا على الجانب الآخر. أيُّ بطاقتين ستقلبهما؟ يختار الجميع البطاقة «أ»، بداهةً، لكن مثل كثير من الناس — إلا إذا أَجبرتَ نفسك على التفكير مليًّا في الأمر — ربما ستختار أن تقلب البطاقة التي تتضمَّن رقم «٢» أيضًا. يرجع هذا إلى أن هاتين البطاقتين هما البطاقتان اللتان ستسفران عن معلومات «متسقة» مع الفرضية التي من المفترض أنك تختبرها. لكن في حقيقة الأمر أن البطاقتين اللتين يجب أن تقلبهما هما البطاقة «أ» والبطاقة «٣»؛ نظرًا لأن وجود حرف متحرك على ظهر البطاقة «٢» لن يخبرك بأي شيء حول «جميع البطاقات»، بل سيؤكد فقط على ما في «بعض البطاقات»، بينما سيدحض وجود حرف متحرك في ظهر البطاقة «٣» فرضيتك تمامًا. يبين هذا الاختبار العقلي المتواضع ميلنا، في طريقة تفكيرنا الحدسية الطليقة، إلى البحث عن معلومات تؤكد فرضيةً ما، ويثبت الظاهرة في موقف ينطوي على قِيَم محايدة.
جرى إثبات هذا التحيز نفسه في السعي وراء معلومات تأكيدية في تجارب أكثر تعقيدًا في مجال علم النفس الاجتماعي. عند محاولة تحديد ما إذا كان أحد الأشخاص «منفتحًا اجتماعيًّا»، على سبيل المثال، سيسأل الكثير من المشاركين في التجربة أسئلةً ستؤكد النتائجُ الإيجابية لها الفرضيةَ («هل تحب الذهاب إلى الحفلات؟») بدلًا من دحضها.
نُظهِر تحيزًا مماثلًا عندما نستدعي المعلومات من ذاكرتنا. ففي إحدى التجارب، يقرأ المشاركون قصةً موجزةً حول امرأة كانت تمثِّل أنماطًا متنوعة من السلوكيات الاجتماعية المنغلقة والمنفتحة في آنٍ واحد، ثم جرى تقسيمهم إلى مجموعتين. طُلب من إحدى المجموعتين التفكير فيما إذا كانت تلك المرأة تصلح للعمل أمينةَ مكتبةٍ، بينما طُلب من المجموعة الأخرى التفكير فيما إذا كانت تصلح للعمل وكيلةً عقارية. وطُلب من المجموعتين تقديم أمثلة على سلوكها الانفتاحي والانغلاقي. تذكَّرَ أفراد المجموعة التي طُلب منها التفكير في صلاحيتها للعمل أمينةَ مكتبة أمثلةً أكثر على السلوك الانغلاقي، بينما ذكر أفراد المجموعة التي طُلب منها التفكير في صلاحيتها للعمل وكيلةً عقارية أمثلةً أكثر على سلوكها الانفتاحي.
تلك نزعة خطيرة؛ لأنه إذا جرى توجيه أسئلة تؤكد الفرضية الموضوعة فقط، فسيجري على الأرجح ذكر معلومات تؤكِّد الفرضية، وهو ما يعطي انطباعًا زائفًا بتأكيد الفرضية. ويعني هذا أيضًا — عند توسيع مجال التفكير — أن الأشخاص الذين يوجِّهون الأسئلة لهم تميُّز وسبق في مجال الخطاب العام.
- (٣)
نبالغ في تقدير قيمة المعلومات التأكيدية لأي فرضية محددة.
- (٤)
نسعى إلى الحصول على معلومات تأكيدية لأي فرضية محددة.
(٤) التحيُّز بسبب معتقداتنا المسبقة
اتبعتُ قاعدةً ذهبيةً، متى جالتْ أي ملاحظة أو فكرة جديدة بخاطري، تتعارض مع نتائجي العامة، فإنني أدوِّن الملاحظة أو الفكرة دون تردُّد وفي الحال؛ إذ وجدتُ من واقع الخبرة أن مثل هذه الحقائق والأفكار كانت أكثر ميلًا بكثير للهروب سريعًا من الذاكرة من الأفكار الأثيرة.
هذا هو خلل التفكير الذي يعرفه الجميع، وحتى لو كان أقل الخُدَع الإدراكية تشويقًا — حيث إنه بديهي — فقد جرى إثباته في تجارب قريبة للغاية من الحقيقة أنك قد تجدها، مثلما أجدها أنا، مزعجةً للغاية.
ينبثق الدليل الكلاسيكي على تحيُّز الأشخاص من خلال معتقداتهم المسبقة من دراسة تبحث في المعتقدات حول عقوبة الإعدام. جرى إشراك عدد كبير من المؤيدين والمعارضين لأحكام الإعدام. وعُرض عليهم جميعًا دليلان على الأثر الرادع لعقوبة الإعدام؛ أحدهما يدعم وجود أثر رادع، والآخر ينفي ذلك.
•••
-
مقارنة بين معدلات القتل في ولاية أمريكية قبل تطبيق عقوبة الإعدام وبعدها.
-
مقارنة بين معدلات القتل في ولايات مختلفة، بعضها يطبِّق عقوبة الإعدام وبعضها لا يطبِّقها.
لكن ثمة تفصيلة ماكرة جدًّا هنا. جرى تقسيم المؤيدين والمعارضين لعقوبة الإعدام إلى مجموعتين أصغر؛ لذا جرى، إجمالًا، تعزيز آراء نصف المؤيدين والمعارضين لعقوبة الإعدام من خلال البيانات القبلية/البعدية، في مقابل دحضها من خلال بيانات المقارنة بين الولايات، والعكس.
عند سؤالهم عن الدليل، كشف المشاركون في ثقةٍ عن أوجه القصور في أساليب إجراء التجربة التي كانت تؤكِّد عكس ما هو سائد في رؤيتهم المسبقة، لكنهم قلَّلوا من أهمية أوجه القصور في البحث الذي دعم رؤيتهم. فقد تعمَّد نصف المؤيدين لعقوبة الإعدام، على سبيل المثال، انتقاء أوجه القصور في فكرة بيانات المقارنة بين الولايات، بناءً على أسس منهجية؛ إذ كانت تلك هي البيانات التي تخالف وجهة نظرهم، بينما كانوا سعداء بالبيانات القبلية/البعدية. لكن قلَّل النصف الآخر من المؤيدين لعقوبة الإعدام من أهمية البيانات القبلية/البعدية؛ إذ إن في حالتهم عُرضت عليهم البيانات القبلية/البعدية التي كانت تخالف وجهة نظرهم، وبيانات المقارنة بين الولايات التي كانت تدعمها.
بعبارة أخرى أكثر بساطة، لم يَجْرِ التنبؤ بتصديق المشاركين لبيانات البحث بناءً على تقييم موضوعي للأسلوب المنهجي المتَّبع في البحث، بل بناءً على ما إذا كانت النتائج تدعم وجهات نظرهم المسبقة. وتبلغ هذه الظاهرة ذروتها عند معالجي الطب البديل — أو مروِّجي المخاوف المقلقة — الذي يؤيدون البيانات دون أي مساءلة، بينما يبحثون بتدقيق بالغ كل دراسة كبيرة، أُجريتْ بعناية حول الموضوع نفسه بحثًا عن أي هفوة صغيرة من شأنها أن تمكِّنهم من استبعادها كليةً.
لهذا، مرةً أخرى، من الضروري للغاية أن تكون لدينا استراتيجيات واضحة متوافرة لتقييم الأدلة، بغضِّ النظر عن الاستنتاجات، وهنا تكمن نقطة قوة العلم الكبرى. في مراجعة بحثية نقدية منهجية للأدبيات العلمية، سيشير الباحثون في بعض الأحيان إلى جودة قسم «الأساليب» في إحدى الدراسات دون تفكير أو نقاش — بعبارة أخرى: دون النظر إلى قسم «النتائج» — حتى لا يمكنه التأثير على تقييمهم. بالمثل، في مجال البحوث الطبية هناك تراتبية في الأدلة؛ إذ تُعتبر التجربة التي أُجريتْ جيدًا أكثر أهميةً من بيانات الاستطلاعات في معظم السياقات، وهكذا.
•••
- (٥)
تقييمنا لجودة الأدلة الجديدة عرضةٌ للتحيز من خلال معتقداتنا المسبقة.
(٥) الإتاحة
نحن نقضي حياتنا نُعيِّن أنماطًا، وننتقي الأشياء الاستثنائية والشائقة. أنت لا تهدر الجهد الإدراكي، في كل مرة تدخل إلى المنزل، لتلاحظ وتحلِّل جميع الخواص الكثيرة في البيئة الكثيفة بصريًّا في المطبخ. فأنتَ تلاحظ النافذة المكسورة والتليفزيون المفقود.
عندما تصبح المعلومات أكثر «توافرًا»، مثلما يُطلق على ذلك علماء النفس، تصبح بارزةً على نحوٍ لا يتوافق مع أهميتها. هناك عدة طرق يمكن أن يحدث هذا بها، ويمكنك الحصول على فكرة عنها من خلال بعض التجارب النفسية الشهيرة التي بحثتِ الظاهرة.
في إحدى هذه التجارب، تُليت على مسامع المشاركين قائمةٌ بأسماء ذكور وإناث، عددهم متساوٍ، ثم طُلب منهم في النهاية أن يذكروا إذا ما كان ثمة رجال أو نساء أكثر في القائمة. عندما كان الرجال في القائمة يحملون أسماءً مثل رونالد ريجان، وتكون أسماء النساء غير معروفة، كان المشاركون يميلون إلى الإجابة بأن عدد الرجال أكثر من النساء، والعكس.
ينجذب انتباهنا دومًا إلى الأشياء الاستثنائية والشائقة، وإذا كان لديك ما تبيع، يصير منطقيًّا أن توجِّه انتباه المشترين إلى أكثر السمات التي تريدهم أن يلاحظوها. عندما تفوز في ماكينة القمار، يصدر عنها صوت مثير «كرتشنك – كرتشنك» في كل مرة تخرج منها عُملة، بحيث يستطيع كلُّ مَن في الحانة أن يسمعها، لكن عندما تخسر، لا يصدر عنها أي صوت يجذب الانتباه إليها. بالمثل، تبذل شركات اليانصيب أقصى ما في وسعها لتسليط الضوء على الفائزين في وسائل الإعلام، لكن لسنا بحاجة لأن نذكر أنك عندما تخسر اليانصيب، لا يجري الاحتفاء بالنتيجة التي حققتَها أمام عدسات الكاميرات.
تُعتبر قصص النجاح العَرَضية حول الطب المكمِّل والبديل — وقصص الفشل المأساوية حول التطعيم الثلاثي — مضلِّلة إلى حدٍّ غير متناسب مع حجمها، ليس فقط لأن السياق الإحصائي غير موجود، لكن بسبب حجم «الإتاحة المرتفع» لها؛ فهذه القصص تتسم بالمبالغة الشديدة، وترتبط بمشاعر قوية، وتميل إلى استخدام الخيال البصري الزاعق. إنها قصص مادية لا تُنسى، أكثر منها قصصًا مجردة. وأيًّا كان ما تفعله بإحصاءات المخاطرة أو التعافي، لن تتسم الأرقام التي تتمخَّض عنها هذه الإحصاءات إلا عن مستوى إتاحة نفسيٍّ منخفضٍ دومًا، بخلاف العلاجات الإعجازية، وقصص الذعر، والآباء المكلومين.
بسبب «الإتاحة»، وتأثُّرنا بالمبالغات الدرامية، يخشى الناس أسماك القرش على الشواطئ، أو ركوب الأراجيح على رصيف الميناء، أكثر من السفر إلى فلوريدا بالطائرة، أو القيادة إلى الساحل. وتبرز هذه الظاهرة أكثر في أنماط التوقف عن التدخين لدى الأطباء. فسوف يتخيل المرء أنه بما أن الأطباء أشخاصٌ عقلانيون، سيتحلَّوْن جميعًا في الوقت نفسه بالمنطق ويتوقفون عن التدخين بمجرد قراءة الدراسات التي تشير إلى وجود علاقة وطيدة بشكل غير عادي بين السجائر وسرطان الرئة. فهؤلاء رجال العلم التطبيقي، على أي حال، القادرون يوميًّا على ترجمة الإحصاءات الباردة إلى معلومات مفيدة وقلوب بشرية نابضة.
لكن في حقيقة الأمر، من البداية، يميل الأطباء العاملون في تخصصات مثل طب الصدر والأورام — حيث شهد هؤلاء مرضى يموتون جرَّاء سرطان الرئة بأم أعينهم — بصورة مطردة على الأرجح إلى التخلي عن عادة التدخين أكثر من زملائهم في التخصصات الأخرى، الذين لا يتعرضون إلى المؤثرات الشعورية الآنية والمبالغات التي تتعلَّق بالآثار المترتبة على التدخين.
(٦) المؤثرات الاجتماعية
يأتي في ذيل جولتنا الخاطفة للمسائل غير العقلانية الخللُ الأكثر بروزًا وبداهة. يبدو هذا الخلل أبرز من أن يُذكر، لكن يبدو أن قِيَمنا تُرسَّخ اجتماعيًّا من خلال الإذعان والصحبة التي تكون في رفقتنا. نحن نتعرَّض للمعلومات التي تُرسِّخ معتقداتنا انتقائيًّا، وهو ما يُعزى في جزءٍ منه إلى أننا نعرِّض أنفسنا إلى «مواقف» تتأكَّد فيها تلك المعتقدات فيما يبدو، وفي جزء آخر إلى أننا نطرح أسئلةً ستقدِّم — بطبيعتها، وللأسباب التي ذكرناها عاليه — إجابات تؤكدها، وفي جزء آخر إلى أننا نعرض أنفسنا بشكل انتقائي ﻟ «أشخاص» يرسخون معتقداتنا.
يسهل نسيان التأثير الاستثنائي للإذعان. لا شك في أنك تظن نفسك شخصًا ذا عقلية مستقلة، وتعرف ماذا تعتقد. ولسوف أشير إلى أن الاعتقادات نفسها كان يؤمن بها المشاركون في تجارب آش حول الإذعان الاجتماعي. فقد جرى وضع هؤلاء المشاركين في أحد أطراف صفٍّ من الممثلين الذين قدَّموا أنفسهم باعتبارهم مشاركين زملاء في التجربة، لكنهم كانوا في حقيقة الأمر متعاونين مع القائمين على التجربة. جرى رفع بطاقات إلى أعلى عليها خط واحد، ثم بطاقة أخرى عليها ثلاثة خطوط بأطوال مختلفة، ست بوصات، ثماني بوصات، وعشر بوصات.
أعلن كلٌّ في دَوْره أي خطٍّ في البطاقة الثانية كان بنفس طول الخط في البطاقة الأولى. ولعدد ستة أزواج من ثمانية عشر زوجًا من البطاقات أجاب الممثلون المتعاونون مع القائمين على التجربة إجابةً صحيحةً، لكن كانت إجاباتهم للبطاقات الاثنتي عشرة الأخرى خاطئةً. في جميع الحالات إلا ربعها، اتفق المشاركون في التجربة مع الممثلين في إجابة أو أكثر غير صحيحة، في تعارض صريح مع الأدلة الواضحة التي توصلوا إليها من خلال حواسهم.
يُعتبر هذا مثالًا متطرفًا للإذعان، لكن هذه الظاهرة في كل مكان حولنا. إن «التعزيز الجماعي» هو العملية التي من خلالها يصير أحد الادِّعاءات اعتقادًا راسخًا، من خلال التأكيد المتكرِّر من قِبَل أعضاء جماعة ما. ولا تعتمد هذه العملية على ما إذا كان الادِّعاء قد جرى بحثه جيدًا، أو كانت تدعمه بيانات تجريبية مهمة بما يكفي لضمان الاعتقاد فيه من قِبَل أشخاص عقلانيين.
عندما لا يكتسب الناس أي أدوات للحكم على الأمور، ولا يتَّبعون إلا آمالهم فقط، تُبذر بذور التلاعب السياسي.
أخيرًا، نستخدم السياق والتوقعات في تحييز تقييمنا لأحد المواقف؛ لأن هذه الطريقة، في حقيقة الأمر، هي الطريقة الوحيدة التي نستطيع التفكير بها. فشلت بحوث الذكاء الاصطناعي في التوصل إلى أي شيء حتى الآن بسبب ما يُطلَق عليه «مشكلة الإطار». فيمكن تزويد الكمبيوتر بطريقة معالجة المعلومات، وتقديم جميع المعلومات المتوافرة في العالَم له، لكن بمجرد تقديم مشكلة واقعية له — جملة يفهمها ويستجيب لها، على سبيل المثال — تُبلي أجهزة الكمبيوتر بلاءً أسوأ مما نتوقع؛ لأنها لا تعرف أي معلومات تتعلَّق بالمسألة. وهذا أمر يَبْرَع البشر فيه أيما براعة — ترشيح المعلومات غير ذات الصلة — لكن تلك المهارة تأتي على حساب تحيز إسنادي غير متناسق لبعض البيانات السياقية دون غيرها.
نحن نميل إلى الافتراض، على سبيل المثال، بأن الخصائص الإيجابية تتلاقى؛ فالأشخاص الجذابون يجب أن يكونوا طيبين أيضًا، والأشخاص الذين يبدون لُطَفاء، ربما يكونون أذكياء ومطَّلعين أيضًا. حتى هذا جرى إثباته تجريبيًّا؛ فالمقالات المتماثلة المكتوبة بخط يد واضح تسجِّل درجات أعلى من المقالات غير المنظمة، ويجري تصنيف سلوك الفرق الرياضية التي ترتدي زيًّا أسود باعتبارها أكثر عدوانيةً وأقل إنصافًا من الفرق التي ترتدي الزي الأبيض.
عندما يتعلَّق الأمر بالتفكير في العالم من حولك، تتوافر مجموعة من الأدوات. تُعتبر المشاعر الحدسية قيِّمة بالنسبة إلى كل شيء، خاصةً في المجال الاجتماعي، مثل تحديد ما إذا كانت صديقتك تخونك، أو ما إذا كان أحد شركاء العمل محلَّ ثقة. لكن بالنسبة إلى الأمور الرياضية، أو تقييم العلاقات السببية، غالبًا ما تكون المشاعر الحدسية خاطئة تمامًا؛ لأنها تعتمد على سُبل مختصرة برزتْ باعتبارها طرقًا سهلة لحل المشكلات المعرفية المعقدة بسرعة، لكن على حساب انعدام الدقة، وحدوث آثار عكسية، والحساسية المفرطة.
ليس من الأمان أن ندع مشاعرنا الحدسية وتحيزاتنا تمضي دون التحقق منها واختبارها. فمن صالحنا أن ننقد أوجه القصور هذه في التفكير الحدسي حيثما أمكن، والأساليب العلمية والإحصائية نشأتْ على وجه الخصوص في مواجهة أوجه القصور هذه. وتطبيق هذه الأساليب برويَّة هو أفضل أسلحتنا ضد هذه الهنات، ويكمن التحدي، ربما، في معرفة أي أدوات تُستخدم في أي مجال؛ لأن محاولة التصرف بطريقة علمية حيال العلاقة مع شريك حياتك يعتبر أمرًا متساوِيًا في سخافته مع السير وراء المشاعر الحدسية حيال العلاقات السببية.
لنرَ الآن كيف يتعامل الصحفيون مع الإحصاءات.