المخاوف الصحية
في الفصل السابق بحثنا حالات فردية. ربما كانت صادمة، ومن بعض الجوانب عبثية، لكن مدى الضرر الذي يمكن أن تتسبَّب فيه محدود. رأينا توًّا، من خلال مثال نصيحة د. سبوك للآباء حول الطريقة التي يجب أن ينام بها الأطفال الرُّضع، أنه عندما يجري اتباع مشورتك من قِبَل عدد كبير جدًّا من الأشخاص، يمكنك أن تتسبَّب في ضرر بالغ إذا كنتَ مخطئًا، حتى في ظل توافر أفضل النوايا؛ لأن آثارَ أقلِّ التعديلات في مصدر الخطر تتعاظم بفضل حجم المجموعة التي تغيِّر من سلوكها.
لهذا السبب يتحمَّل الصحفيون مسئولية خاصة، ولهذا السبب أيضًا سنكرِّس الفصل الأخير من هذا الكتاب لبحث العمليات وراء قصتَيْ مخاوف توضيحيتين للغاية: خديعة مسحات العنقوديات الذهبية المقاومة للميثيسلين (إم آر إس إيه)، والتطعيم الثلاثي. لكن كما هو الحال دومًا، مثلما تعرف، نتحدَّث عما هو أكثر بكثير من تلك القصتين، وستكون ثمة موضوعات جانبية كثيرة أثناء المناقشة.
(١) خديعة «إم آر إس إيه» الكبرى
ثمة طرق كثيرة يمكن أن يضلِّل بها الصحفيون القرَّاء عند الحديث عن موضوعات علمية. فيمكنهم انتقاء الأدلة انتقاءً، أو التلاعب بالإحصاءات، ويمكنهم وضع الهِستيريا والمشاعر في مواجهة مع العبارات الباردة الجافة على لسان رموز السلطة. كانت خُدَع «إم آر إس إيه» في عام ٢٠٠٥ أقرب ما يمكن إلى «اختلاق الأشياء» من أي شيء صادفتُه حتى الآن.
اكتشفتُ ما كان يجري للمرة الأولى عندما تلقَّيتُ مكالمة هاتفية من أحد الأصدقاء يعمل صحفيًّا استقصائيًّا في التليفزيون، قال فيها: «لقد حصلتُ لتوِّي على وظيفة عامل نظافة للحصول على بعض مسحات من بكتيريا العنقوديات الذهبية المقاوِمة للميثيسلين لمقالي المطوَّل «فضيحة بكتيريا المستشفيات العفنة المقاوِمة للمضادات الحيوية»، لكنها جميعًا لم تؤتِ نتائج إيجابية. ما الخطأ فيما أفعل؟» بيَّنتُ له، وأنا سعيد بتقديم المساعدة له، أن بكتيريا العنقوديات الذهبية المقاوِمة للميثيسلين لا تعيش جيدًا على النوافذ ومقابض الأبواب. كانت القصص التي كان قد رآها في أماكن أخرى إما مفبرَكة أو مفبرَكة. بعد عشر دقائق هاتفني مجددًا، في انتصار؛ فقد تحدَّث إلى إحدى الصحفيات المتخصصات في مجال الشئون الصحية من إحدى صحف الإثارة المعروفة، وأخبرتْهُ أي مختبر يستعين به على وجه التحديد: «المختبر الذي يقدِّم نتائج إيجابية دومًا.» كانت تلك هي الكلمات التي استخدمَتْها، واتضح أنه شركة «كيمسول كونسلتنج» الواقعة في نورثانتس، التي كان يديرها رجل يُدعَى د. كريستوفر ماليزوفيتش. إذا كنتَ قد شهدتَ فضيحة لنتائج اختبار مسحات بكتيريا «إم آر إس إيه» إيجابية، فلا شك أنها جاءت من هذا المختبر. جميعها مصدرها هذا المختبر.
شَعَر علماء الأحياء الدقيقة في مستشفيات عديدة بالحيرة عندما سقطتْ مؤسساتهم ضحيةً لهذه القصص، فأخذوا مسحات من الأسطح نفسها التي جرى تنظيفها، وأرسلوها إلى مختبرات عادية معروفة، بما في ذلك مختبراتهم، لكن لم يسفر اختبار المسحات عن نمو أي بكتيريا، خلافًا لنتائج «كيمسول». وقد نُشرتْ ورقة بحثية أكاديمية من قِبَل علماء بارزين في الأحياء الدقيقة وصفوا فيها هذه العملية في أحد المستشفيات — مستشفى كلية لندن الجامعية — في مجلة أكاديمية تخضع لمراجعة الأقران، وجرى تجاهلها على نحو صارخ من قِبَل الجميع في وسائل الإعلام.
قَبْل أن نمضيَ لأبعدَ من ذلك، يجب أن نوضِّح أمرًا واحدًا، وهو أمرٌ متعلِّق بهذا القِسْم كله حول المخاوف الصحية؛ ألَا وهو أن من المنطقي تمامًا القلق حيال المخاطر الصحية، والتحقُّق منها بعناية. فلا يمكن الوثوق في السلطات الصحية، وفي هذه الحالة تحديدًا، لا يعتبر الكثير من المستشفيات نظيفة مثلما تحب هي أن تزعم. ويوجد في بريطانيا بكتيريا «إم آر إس إيه» أكثر من دول كثيرة أخرى، وربما يرجع ذلك إلى أي عدد من الأسباب، بما في ذلك إجراءات الوقاية من الإصابة، والنظافة، وأنماط وصف الدواء، أو أشياء أخرى لم نفكر بها بعدُ (أتحدث هنا ارتجالًا دون تفكير مسبق).
لكننا نبحث في قضية أحد المختبرات الخاصة، يعقد الكثير من الصفقات مع صحفيين استقصائيين سريين يكتبون قصصًا استقصائية حول مسحات «إم آر إس إيه»، ويبدو أنه يقدِّم نتائج إيجابية كثيرة بشكل مريع.
قرَّرتُ أن أُهاتِف د. كريستوفر ماليزوفيتش لأسأله عما إذا كان لديه أدنى فكرة لماذا تظهر نتائج كهذه.
قال إنه لا يعرف، وأشار إلى أن علماء الأحياء الدقيقة في المستشفى ربما كانوا يأخذون المسحات من الأماكن الخاطئة في الأوقات غير المناسبة. وأشار إلى أنهم ربما كانوا لا يتمتعون بالكفاءة في الغالب. سألتُ لماذا كانت صحف الإثارة تختار مختبره دومًا (فقد نُشر حتى الآن حوالي عشرين مقالًا، بما في ذلك قصة لا تُنسى بعنوان «ممسحة الموت» نُشرتْ في صدر الصفحة الأولى في صحيفة «صنداي ميرور»)؟ ولم يكن لديه أدنى فكرة. سألتُ لماذا قال عدد من علماء الأحياء الدقيقة إنه رفض أن يُفصِح عن الأساليب المتبعة كاملة، في الوقت الذي كانوا لا يريدون فيه إلا استنساخ أساليبه في مختبراتهم لفهم الفرق بينها؟ فقال إنه أخبرهم بكل شيء (أعتقد أنه، بالنظر إلى الوراء، كان في غاية الارتباك آنذاك، حتى إنه اعتقد أن ذلك كان حقيقيًّا). وأخطأ أيضًا في نطق أسماء بعض أنواع البكتيريا الشائعة جدًّا.
عند هذه النقطة سألتُ د. ماليزوفيتش عن مؤهلاته. لا أحب أن أنقد عمل أحد الأشخاص بناءً على مَن يكون، لكن كان هذا سؤالًا لا غبار عليه في تلك الظروف. لم يكن يبدو عبر الهاتف — حتى أكون في غاية المباشرة — رجلًا يملك القدرة الفكرية اللازمة لإدارة مختبر أحياء دقيقة معقَّد.
أخبرني أنه حاصل على درجة البكالوريوس من جامعة لستر. في حقيقة الأمر كانت الدرجة من جامعة لستر التطبيقية. أخبرني أنه يحمل درجة الدكتوراه. وقد أطلقتْ عليه صحيفة «نيوز أوف ذا وورلد»: «د. كريستوفر ماليزوفيتش الموقَّر المتخصص في بكتيريا «إم آر إس إيه».» وأطلقتْ عليه صحيفة «ذا صن»: «أفضل خبير في بكتيريا «إم آر إس إيه» في المملكة المتحدة» و«عالم الأحياء الدقيقة كريستوفر ماليزوفيتش.» وأثُني عليه بالمثل في صحيفة «إيفنينج ستاندرد» و«ديلي ميرور». وبناءً على حدْس بديهي راودني، وجَّهتُ له سؤالًا صعبًا. اتفق معي أن درجته كانت «درجة دكتوراه عن طريق المراسلة غير معترف بها» حصل عليها من أمريكا. واتفق معي أن درجة الدكتوراه التي كان يحملها لم يكن معترفًا بها في المملكة المتحدة. لم تكن لديه أي مؤهلات في علم الأحياء الدقيقة، ولم يتلقَّ أيَّ تدريب (مثلما قيل لكثير من الصحفيين مرارًا وتكرارًا من جانب علماء محترفين في الأحياء الدقيقة). كان جذَّابًا وباعثًا على السرور عند الحديث معه، ومتلهفًا لإرضاء وإسعاد الآخرين. ماذا كان يفعل في ذلك المختبر؟
ثمة طرق كثيرة للتمييز بين نوع من البكتيريا ونوع آخر، ويمكنك تعلُّم بعض الحِيَل في المنزل باستخدام ميكروسكوب لعبة رخيص؛ ربما تنظر إلى البكتيريا، لترى شكلها، أو لترى أي نوع من الصبغات والألوان الكيميائية تكتسبها. تستطيع أن ترى أي الأشكال والألوان تكتسبها مستعمرات البكتيريا أثناء نموها في «أوساط استنبات» في طبق زجاجي، ويمكن رؤية ما إذا كان ثمة أشياء محددة في أوساط الاستنبات تؤثر على نموها (مثل وجود مضادات حيوية معينة، أو أنواع محددة من المغذيات)، أو يمكنك أن تُجري عملية تسجيل بصمة جينية عليها. ليست هذه إلا أمثلة قليلة.
تحدثتُ إلى د. بيتر ويلسون، وهو عالِمٌ في الأحياء الدقيقة في كلية لندن الجامعية كان قد حاول الحصول على بعض المعلومات من د. ماليزوفيتش حول الأساليب التي يتَّبِعها في تحديد وجود بكتيريا العنقوديات الذهبية المقاوِمة للميثيسلين، لكنه لم يتلقَّ إلا نصف قصص مشوشة ومحيرة. حاول استخدام أجزاء من أوساط الاستنبات التي كان د. ماليزوفيتش يستخدمها، وهو ما بدا أن د. ماليزوفيتش يعتمد عليه للتفرقة بين بكتيريا العنقوديات الذهبية المقاوِمة للميثيسلين والأنواع الأخرى من البكتيريا، لكن ذلك أسفر عن نمو أشياء أخرى كثيرة بنفس الدرجة من الجودة. بعد ذلك بدأ الباحثون في محاولة الحصول على أطباق من د. ماليزوفيتش، التي زعم أنها كانت تحتوي على بكتيريا العنقوديات الذهبية المقاوِمة للميثيسلين. ولكنه رفض. وعرف الصحفيون بذلك. وفي نهاية المطاف، أطلق سراح ثمانية أطباق. وتحدثتُ إلى علماء الأحياء الدقيقة الذين اختبروها.
في ستٍّ من الأطباق الثمانية؛ حيث كان د. ماليزوفيتش يعتقد أنه اكتشف وجود بكتيريا «إم آر إس إيه»، لم يجد المختبر أيَّ أنواع من البكتيريا على الإطلاق (خضعتْ هذه الأطباق إلى عمليات تحليل ميكروبيولوجية دقيقة وشرعية، بما في ذلك تحليل «بي سي آر» (تفاعل البوليميريز المتسلسل)، التكنولوجيا المستخدمة في «البصمة الوراثية»). في اثنين من الأطباق كانت ثمة بكتيريا «إم آر إس إيه»، لكنها كانت تنتمي إلى سلالة شديدة الندرة. يمتلك علماء الأحياء الدقيقة مكتبات هائلة تتضمَّن التكوين الجيني لأنواع مختلفة من الكائنات المعدية، تُستخدم في إجراء استطلاعات حول كيفية انتقال الأمراض المختلفة حول العالم. ومن خلال استخدام بنوك المعلومات هذه، نستطيع أن نرى، على سبيل المثال، كيف انتقلتْ إحدى سلالات فيروس شلل الأطفال من مقاطعة كانو في شمال نيجيريا، إثر المخاوف التي انتشرت من استخدام المصل المضاد له، لتودِي بحياة أشخاص على الجانب الآخر من العالَم (سيأتي ذكر ذلك لاحقًا).
يمكن أن نغفر للصحفيين عدم متابعتهم التفاصيل العلمية، ربما يمكن أن نسامحهم على كونهم محقِّقين صحفيين، على الرغم من إخبارهم مرارًا وتكرارًا — من قِبَل علماء في الأحياء الدقيقة عاديين تمامًا، لا كائنات فضائية — أن نتائج «كيمسول» غير محتملة، وربما مستحيلة. لكن هل كان ثمة أي شيء آخر، شيء ملموس أكثر، كان سيوحي لهؤلاء الصحفيين بأن مختبرهم المفضَّل يقدِّم نتائج غير دقيقة؟
ربما نعم، عندما زاروا مختبر ماليزوفيتش، الذي لم يكن لديه أي اعتماد مما كان سيتوقع المرء وجوده في أي مختبر عادي. ففي مرة واحدة فقط سُمِح لمفتش قطاع الأحياء الدقيقة الحكومي بتفتيش المختبر. ويصف التقرير الذي ترتَّب على هذه الزيارة مختبر «كيمسول» بأنه «مبنًى خشبي، من طابق واحد، قائم بذاته، تبلغ مساحة الحديقة الخلفية فيه ٦ أمتار × مترين.» كان هذا الوصف ينطبق على سقيفة حديقة. ويمضي التقرير ليصف «المقاعد ذات الجودة المنزلية العالية (ليس وفق معايير مختبرات الأحياء الدقيقة).» كان هذا الوصف ينطبق على سقيفة حديقة بها تجهيزات مطبخية.
ويجب أن نذكر أيضًا بشكل عارض أن ماليزوفيتش كانت لديه مصالح تجارية؛ «هل تشعر بالقلق من وجود بكتيريا «إم آر إس إيه»؟ الهدية المثالية لصديق أو أحد الأقرباء في مستشفى. أَرِهم كم تهتم كثيرًا بصحتهم من خلال إعطائهم مجموعة مستشفى كومباكت المضادة للميكروبات. مع ضمان خروجهم من المستشفى في كامل عافيتهم.» واتضح أن معظم الأرباح التي حقَّقها مختبر «كيمسول» جاءت من بيع مُنتجات مطهِّرة لبكتيريا «إم آر إس إيه»، مَصحوبة في الغالب باستخدام مواد ترويجية غريبة.
كيف استجابت الصحف للمخاوف التي أثارها مُختَصُّون كبار في مجال الأحياء الدقيقة في جميع أنحاء البلاد، من أن هذا الرجل كان يقدِّم نتائج زائفة؟ في يوليو ٢٠٠٤، بعد يومين من سماح ماليزوفيتش لمُختَصَّيِ الأحياء الدقيقة الحقيقيَّيْن الاثنين بالتفتيش على سقيفة الحديقة عنده، نشرتْ صحيفة «صنداي ميرور» مقالًا مطوَّلًا شديد الانتقاد عنهما؛ «اتُّهم وزير الصحة جون ريد الليلة الماضية بمحاولة تكميم فم خبير بريطانيا الرائد في بكتيريا «إم آر إس إيه» القاتلة.» إن خبير بريطانيا الرائد، الذي لا يمتلك أي مؤهلات في مجال الأحياء الدقيقة، يُجري عملية الاختبار في سقيفة في الحديقة، ويُخطئ في نطق أسماء أنواع البكتيريا الشائعة، ولا يفهم بوضوح بالغ الجوانب الأساسية لعلم الأحياء الدقيقة. واستكملتِ الصحيفة نقدها قائلةً: «لقد كان للدكتور كريس ماليزوفيتش السبق في ابتكار أسلوب جديد في اختبار مستويات بكتيريا «إم آر إس إيه» وأنواع أخرى من البكتيريا.» وقال د. ماليزوفيتش: «سألوني أسئلة كثيرة عن الإجراءات التي أتبعها، وعن خلفيتي الأكاديمية.» وقال توني فيلد، رئيس مجلس إدارة مجموعة دعم «إم آر إس إيه» الوطنية، الذي كان ينظر بشكل حتمي إلى د. ماليزوفيتش باعتباره بطلًا، مثلما كان ينظر إليه كثيرون ممن عانَوْا على أيدي هذه الجراثيم: «كانت محاولة يائسة للتقليل من قَدْره وإسكاته.»
يبدو أن كاشفي الفساد يكشفون عن أسوأ ما في هذه الحكومة.
ما من طريقة للتعامل مع طبيب متفانٍ.
أولًا: أثار خبير الأغذية «المريعة» أرباد بوستاي غضب حزب العمال الهائل عندما تجرَّأ على دق ناقوس الخطر حيال المحاصيل المعدَّلة وراثيًّا. ثم عانَى د. أندرو ويكفيلد من المصير ذاته عندما أشار إلى وجود علاقة بين لقاح التطعيم الثلاثي الذي يجري تلقيه من خلال حقنة لقاح التطعيم الثلاثي ومرض التوحد. والآن جاء الدور على د. كريس ماليزوفيتش، الذي كشف علنًا عن وجود معدلات مرتفعة بصورة مزعجة من بكتيريا «إم آر إس إيه» في مستشفيات هيئة الخدمات الصحية الوطنية.
يجب أن يحصل د. كريس ماليزوفيتش على ميدالية نظير عمله. بدلًا من ذلك، يُصرَّح لصحيفة «صنداي ميرور» كيف أرسل وزير الصحة جون ريد اثنين من كبار المستشارين في الوزارة إلى منزله «لإسكاته».
لم تكن صحيفة «صنداي ميرور» وحدها في ذلك، فعندما نشرتْ صحيفة «إيفنينج ستاندرد» مقالًا يقوم على نتائج ماليزوفيتش (بعنوان: «جراثيم قاتلة منتشرة على نطاق واسع في دراسة مرعبة عن المستشفيات»)، كتب مستشاران كبيران في مجال الأحياء الدقيقة من كلية لندن الجامعية؛ د. جيف ريدجواي ود. بيتر ويلسون، إلى الصحيفة مشيرَيْن إلى المشكلات في أساليب ماليزوفيتش. ولم تعبأ صحيفة «إيفنينج ستاندرد» بالرد.
نلتزم بالدقة والنزاهة في مقالاتنا. لقد أُجري البحث بواسطة شخص كفء باستخدام أوساط اختبار حديثة. إن كريس ماليزوفيتش … خبير أحياء دقيقة مدرَّب تمامًا، ويملك ثمانية عشر عامًا من الخبرة … ونحن نعتقد أن أوساط الاختبار المستخدَمة … كانت كافيةً للكشف عن وجود نوعٍ مَرَضي من بكتيريا «إم آر إس إيه».
ما تراه هنا هو صحفي في صحيفة من صحف الإثارة يخبر قسمًا يضم خبراء في بحوث الأحياء الدقيقة على مستوًى عالمي أنهم مخطئون بشأن الأحياء الدقيقة. لعل هذا مثال رائع لظاهرة أشير إليها في واحد من بحوث علم النفس المفضَّلة لديَّ، «غير ماهر وغير واعٍ بهذا: كيف تفضي الصعوبات في إدراك الكفاءة الذاتية إلى تقييمات ذاتية مبالغ فيها؟» لمؤلفَيْه جاستن كروجر وديفيد دانينج. لاحظ الباحثان أن الأشخاص غير الأكفاء يعانون من عبء مزدوج؛ فلا يقتصر الأمر على كونهم غير أكفاء فقط، بل ربما يفتقرون للكفاءة على نحو لا يمكِّنهم من تحليل عدم كفاءتهم؛ وذلك نظرًا لأن المهارات التي تؤسِّس للقدرة على «اتخاذ» قرار صحيح هي المهارات نفسها اللازمة «لإدراك» حكم سليم.
مثلما ذُكر سابقًا، تُظهِر استطلاعات الرأي مرارًا وتكرارًا أن الغالبية العظمى منا يعتبرون أنفسهم فوق المتوسط في مهارات متعددة، بما في ذلك مهارات القيادة، والتواصل مع الآخرين، والتعبير عن أنفسنا. بالإضافة إلى ذلك، كانت الدراسات السابقة قد وجدتْ بالفعل أن القراء الذين تنقصهم مهارة القراءة أقل قدرةً على تقييم قدرتهم الذاتية على فهم النصوص، وأن قائدي السيارات الذين لا يجيدون القيادة أقل قدرةً على توقُّع أدائهم الذاتي عند إجراء اختبار زمن ردِّ الفعل، والطلاب أصحاب الأداء الدراسي السيِّئ أسوأ في توقُّع أدائهم في الاختبارات، والأكثر مَدْعاة للصدمة أن الصِّبْية غير المؤهلين اجتماعيًّا لا يشعرون «بزلَّاتهم الاجتماعية» المتكررة.
جمع كروجر ودانينج هذه الأدلة معًا، لكنهما أجريا أيضًا سلسلة من التجارب الجديدة بنفسيهما، باحثَيْن المهارات في مجالات مثل الدعابة والتفكير العقلاني. وكانت نتائجهما ذاتَ جانبَيْن: كان الأشخاص الذين أبلَوْا بلاءً سيئًا في الاختبارات مقارنة بأقرانهم غيرَ واعين بعدم كفاءتهم، لكن بالإضافة إلى ذلك، كانوا أقلَّ قدرةً أيضًا على إدراك كفاءة «الآخرين»؛ لأن هذا، أيضًا، كان يعتمد على «إدراك» هذه المهارة، أو معرفة وجودها.
ليس هذا المثال إلا موضوعًا جانبيًّا من علم النفس العام. هناك مسألة ثانية أكثر عمومية لا بد من طرحها هنا. يتملَّق الصحفيون أنفسهم بصورة متكرِّرة من خلال التوهم بأنهم يكشفون النقاب عن مؤامرات هائلة، وأن المؤسسة الطبية بأسْرِها قد اتَّحدتْ لطمس حقيقة مريعة. في حقيقة الأمر، أعتقد أن الأطباء في المملكة المتحدة البالغ عددهم ١٥٠ ألف طبيب، لا يكادون يتفقون مع علاجات الخط الثاني لضغط الدم المرتفع، لكن أيًّا ما كان الأمر؛ كان هذا الوهم هو بنية قصة التطعيم الثلاثي، وقصة مسحات بكتيريا «إم آر إس إيه»، وقصص أخرى كثيرة، على أن إحساسًا مماثلًا بالعظمة كان وراء الكثير من الأمثلة السابقة التي ذكرناها قبلًا في هذا الكتاب، والتي كان يخلص الصحفي فيها إلى أنه يعرف أكثر من الآخرين، بما في ذلك قصة «تضاعف معدل تعاطي الكوكايين في ملاعب الأطفال».
كثيرًا ما سيشير الصحفيون إلى عقَّار «ثاليدومايد» كما لو كان هذا هو انتصار الصحافة الاستقصائية الأعظم على الدوام في مجال الطب؛ حيث كشف الصحفيون في شجاعة عن مخاطر استخدام العقار في مواجهة اللامبالاة الطبية. يُثار هذا الموضوع في كل مرة تقريبًا أُلقي فيها محاضرةً حول جرائم وسائل الإعلام في مجال العلم. ولهذا السبب سأوضِّح القصة بشيء من التفصيل هنا؛ لأنه في واقع الأمر — وهو أمر محزن حقًّا — لم تأتِ ساعةُ هذا الانتصار العظيم مطلقًا.
في عام ١٩٥٧، وُلد طفل بلا أذنين لزوجة أحد الموظفين في جروننتال؛ شركة الدواء الألمانية. كان الموظف قد أحضر معه دواء الشركة الجديد المضاد للغثيان إلى المنزل لزوجته لتجربته بينما كانت لا تزال حبلى، قبل عام كامل من طرحه في السوق. يُعتبر هذا مثالًا موضِّحًا لمدى التسرع الذي كانت عليه الأمور، ومدى صعوبة تحديد نمط معين من خلال حدث وحيد.
لمْ ولا يشارك أي صحفيين في هذه العملية. في حقيقة الأمر، يكتب فيليب نايتلي — وهو أحد آباء الصحافة الاستقصائية ضمن فريق «بصيرة» الأسطوري في صحيفة «صنداي تايمز»، وهو الرجل الذي ارتبط اسمه بالتغطية البطولية الخاصة بعقار «ثاليدومايد» — على نحو محدَّد في سيرته الذاتية، عن شعوره بالعار حيال عدم تغطية قضية عقار «ثاليدومايد» قبل ذلك. كانوا يغطون الموضوع السياسي الخاص بالتعويضات جيدًا (وهو ما يمثل «مجمل» أعمال الصحفيين على أي حال)، لكن حتى هذا الموضوع جرت تغطيته في وقت متأخر جدًّا من اليوم؛ نظرًا للتهديدات القانونية البشعة من شركة جروننتال على مدى أواخر عقد الستينيات وأوائل عقد السبعينيات من القرن العشرين.
لم يكشف الصحفيون المتخصصون في الشئون الطبية، على الرغم مما قد يحاولون إخبارك به، بكل تأكيد عن مخاطر الثاليدومايد، ومن أوجه كثيرة يصعب تصوُّر عالَمٍ تستطيع فيه شخصيات تنشر قصصًا تنطوي على خديعة بكتيريا «إم آر إس إيه» المفبركة، الانخراطَ على نحو مفيد في رصد وإدارة السلامة الدوائية للعقار، يساعدهم بمهارة فائقة، ربما، «خبراء رائدون» من سقائف حدائقهم.
لعل ما تكشفه لي قصة «إم آر إس إيه»، بالإضافة إلى شعور بالغ بالمعاناة وشعور فروسي بالعظمة، هو المحاكاة الساخرة نفسها التي شهدناها في مراجعة بحثية نقدية سابقة لنا للقصص العلمية الفارغة. فيخلص خريجو كليات الدراسات الإنسانية في وسائل الإعلام، ربما من منطلق شعورهم بالإهانة الفكرية جراء مدى ما يواجهونه من صعوبة في العلم، إلى أن العلم ليس إلا اعتباطًا، وهراءً مفبركًا، بالنسبة إلى الجميع. فيمكن انتقاء أي نتيجة من أي مكان ترغب فيه، وإذا كانت تناسب أجندتك، إذن فقد وجدتَها؛ ولا يمكن أن ينتزع منك أحد النتيجة التي توصلتَ إليها من خلال كلماتهم الماكرة؛ نظرًا لأن الأمر ليس إلا مجرد لعب، ولا يعتمد إلا على مَن تسأل، ولا يوجد أي شيء فيه يعني أي شيء، ولا يمكنك استيعاب الكلمات الطويلة؛ ومِن ثَمَّ، بصورة أساسية، ربما، «لا يفهمها العلماء أيضًا.»
(٢) خاتمة
على الرغم من أنه كان رجلًا لطيفًا، سرعان ما اتضح منذ مكالمتي الهاتفية الأولى مع كريس ماليزوفيتش أنه يفتقر للمعرفة الأساسية اللازمة لإجراء مناقشة ولو عادية حول علم الأحياء الدقيقة. وعلى الرغم مما قد يبدو في ذلك من نبرة استعلاء، فإنني أشعر بتعاطف حقيقي معه، كشخصية على غرار والتر ميتي. لقد زعم تقديم استشارات إلى كلٍّ من «كوسورث-تكنولوجي، وبوينج إيركرافت، وبريتيش إيروايز، وبريطانيا إيروايز، ومونارك إيروايز، وبرمنجهام يوروبيان إيروايز». وبعد الاتصال بكلٍّ من بريتيش إيروايز وبوينج، اللتين لا تمتلكان أي سجل بأي تعاملات معه، توقفتُ عن الاتصال بهذه الشركات. كان يرسل تعليقات غامضة ردًّا على الانتقادات المفصَّلة «لأساليبه التحليلية»، كيفما كانت.
عزيزي بن
تنتابني مشاعر قوية حيال هذه القصة. لا أُلقي باللائمة على كريس، فأنا متأكد من أن الطبيعة الحقيقية لخبرته كانت ستصبح واضحةً لأي شخص تحدث إليه، بقطع النظر عن خلفيته المعرفية، وفي رأيي أن وسائل الإعلام هي ما كان عليها أن تعرف أكثر من أي طرف آخر، من خلال مكاتبها الهائلة، وسلاسل الأوامر والمسئوليات، والقواعد السلوكية والسياسات التحريرية؛ لا رجل قابع في سقيفة في حديقته الخلفية، محاط بتجهيزات مطبخية ومعدات مختبرية كان بالكاد يفهم وظيفتها، كان يشتري القروض البنكية ويجاهد من أجل سدادها، في تجمُّع سكني حضري صغير خارج نورثامبتون.
لم يكن كريس سعيدًا بما كتبتُ عنه، وما قيل عنه بعد الكشف عن تفاصيل القصة. قضينا بعض الوقت نتحدَّث عبر الهاتف؛ حيث كان يشعر بالغضب وكنتُ أشعر، بكل أمانة، بالذنب الحقيقي. كان يشعر أن ما كان يحدث له لم يكن منصفًا. وأوضح أنه لم يسعَ أبدًا إلى أن يكون خبيرًا في بكتيريا «إم آر إس إيه»، لكن بعد نشر القصة الأولى ظل الصحفيون يكتبون عن الموضوع، ثم تضخَّم كل شيء. ربما ارتكب بعض الأخطاء، لكنه لم يُرِد إلا تقديم المساعدة.
مات كريس ماليزوفيتش في حادث سيارة بعد فقدان السيطرة على سيارته قرب نورثامبتون بعد وقت قصير من نشر قصص «إم آر إس إيه». وكان مدينًا حتى أذنَيْه.