طعبروس
نهض عريف الآلهة عن كرسيِّه الحريري، وتمطَّى تعِبًا فرِحًا، ثمَّ انتزع من جيبه الهائل محرمته الحريرية الخضراء، وراح ينظِّف صولجانه الذهبي متكلمًا فيما هو ينظِّف: «يا له من يوم غنيِّ الحوادث!» فأجابه صدًى من متملقي البلاط: «يا له من نهار غنيِّ الحوادث!» وتابع العريف كلامه: «لقد أنزلت عن عاتقي معظم عناء شئون حكم الكرة الأرضية، إن الحكم المباشر كان خطأ، لقد أبهظ كتفي، وإني وجدت الإنسان — مثلما هو في قرارة نفسه — يهوى تعدُّد الزوجات، كذلك هو في صميم مشاعره يؤثر تعدُّد الآلهة، لقد أرسلت لبني البشر سربًا من آلهة: واحدًا للمواسم، وآخر للحب، وغيره للصواعق، لكل شعور، وغريزة، وحادثة إلهًا، ولم يبق لي إلَّا أن أقرأ التقارير وأصدر الأوامر.
وأمسك مدير البروتوكول السترة، فأنشب عريف الآلهة في كميها ذراعيه، وفيما هو يتهيأ للانصراف، سمع نأمة من زاوية الديوان تقول: لماذا أهملتني يا سيدي؟
فتطلع عريف الآلهة، فرأى جسدًا هائل البطن، وعينين مائعتين بالشرِّ، ويدًا مرتفعة، علَتْها أقذار كأنها بَرَص، وكاد عريف الآلهة أن يبتسم ويمشي؛ إذ استأنف الصوت نأماته: أنا رَجُلك يا سيِّدي، أنا طعبروس، أنسيتني؟ ألا تذكر الانتخاب الماضي منذ مليون سنة، كيف كان «أبولو» و«أدونيس» يتخطيانك بالأصوات، وكاد «أبولو»، لو لم أزوِّر لك أصوات الكوكب، حيث كنت رئيس الاقتراع؟ انظر إلى يدي وقد دنست بإثم التزوير! لقد غمستها بالبحر ألف سنة، وغسلتها بحمم البراكين مائة عام، ودفنتها في البحيرة الملتهبة عشرين جيلًا، وتمتمت لها تعويذة ديوان المتنبي، وروايات شكسبير، وإلياذة هوميروس، وعلَّقت في زندي حرزًا ملأته بدساتير دول الأرض، وتصريحات يالطا، ونقاط ويلسون الأربع عشرة، وقوانين جمعية الأمم ومنظمة الدول، فما محوت من أقذارها ذرة، وها أنت قد نثرت الوظائف على سواي، وأهملتني أنا الذي وبِئ في الجهاد من أجل انتخابك.
وليس آلَم على الكبير من معروف سابق يذكِّره به صغير …
فعبس عريف الآلهة وأجاب طعبروس: ألم أهَبْك برميل نفط بعد الانتخاب؟ ولئن كنت ناقمًا عليَّ، فلمَ لا تلتحق بصفوف المعارضة؟
قال طعبروس: إني معجب بك يا مولاي، وإني أوثر جهنم الحاكمين التي أعرفها على جنة المعارضة التي لا أعرفها، ثمَّ إنَّ المعارضة لا تملك شيئًا تهبه، أما مولاي …
قال عريف الآلهة: إني آسف لما أنت فيه، ولقد فرَّقتُ الوظائف وانتهى الأمر …
وأجاب طعبروس: أيعجز مولاي عن خلق وظيفة لأحد محاسبيه وهو الذي ملأ الدنيا وظائف؟ وظِّفني في السلك الخارجي … أسمعُ أنَّ دولًا كثيرة نشأت في الكرة الأرضية حديثًا فهل اعتمدتني لأيٍّ منها؟
فهزَّ العريف رأسه وقال: كيف أرضى أن يمثلني شخص موبوء؟!
فأجاب طعبروس: أنسيت يا سيدي أني أملك برميل نفط، وأن هذا السائل من الذهب الأسود مرهم، يلوِّن الأمور والأجساد بألوان زاهية تستحبها الناس؟ ثم إنَّ الطبيب أعطاني وصفة، هي أن آخذ براءة تعييني في الوظيفة فأحرقها، ثم أسحق رمادها فأذرُّه في العيون، فلا ترى بي غير الجميل! إني مؤكد لمولاي أن مرهم النفط ورماد البراءة يُجمِّلانني حتى ليخلط البشر بيني وبين أدونيس!
وكان عريف الآلهة من تلك الشخصيات السياسية التي بلغت القمَّة بعد ألف معركة في الوادي وعلى السفح، ولقد صار من القوة بحيث أمسى في وسعه أنْ يتناسى الأنصار ورفاق الجهاد، ولكنه نظر إلى طعبروس ثانية وذكر حادثة الكوكب، حيث ترأس طعبروس الاقتراع، وكيف جاءه بصندوق الاقتراع، وفيه ١٥٣ مليون صوت للعريف، و٣٥ صوتًا لأبولو، و٤٨ لأدونيس.
فابتسم وسَرَتْ به رعشة السطوة في القويِّ إذ يمنح أو يمنع، فصاح برئيس المواصلات أن يسهِّل لطعبروس سيارة أو «جيب» للكرة الأرضية، فطعبروس ذاهب إلى هناك بصفة غير رسمية؛ علَّه يحتال بذكائه على أنْ يخلق طائفة تؤمن به فيكفي بذلك العريف مئونة تعيين إله جديد، وكان وزير المواصلات مكبًّا على دفتر يقلبه وقد تجمَّر وجهه، فاقترب من عريف الآلهة وهمس بأذنه: لتتكلم بصوت خافت مخافة أن تسمعنا الصحافة، إن في دفتري قيدًا ﺑ ٨٤ سيارة و١٢٥ «جيب!» وتذكرون أن سلفي باع أكثرها، ولمَّا نَزَلْ نطالبه بثمنها، ثم إن بعضها مخرَّب، وما بقي فقد أرسلته لاستقبال ابن عمي، وهو راجع من زُحَل مصطحبًا هدية ثمينة لمولاي.
فسأل العريف: أليس عندنا من مخلَّفات الجيش ما نقدر أن نستعمله؟
فتناول الوزير دفتر «المستحيلات» وقلَّب صفحاته وأجاب: بلى، يا سيدي، عندنا مظلَّة هوائية يستعملها القافز من الطيارة، إنما … إنما …
وصار الوزير يتلعثم، فحنق العريف وصرخ: إنما … ماذا؟
أجاب الوزير: لقد اقتطعنا من نَيْلُونِها سروالًا أهديناه إلى رئيس بلديَّة «الثريَّا»، أنت تذكره يا مولاي، رجل مخلص، كذلك انتزعنا الكثير من حبالها لنشر غسيل الوزراء يا مولاي، إذ إن الصحافة ترش عليهم الوحول، فأثوابهم أبدًا قذرة يلزمها التنظيف، وإني أخاف إن نحن أعطينا المظلَّة لطعبروس ألَّا تنفتح حين يقفز فيهلك، وإن انفتحت، ذلك الخرق … سروال رئيس البلديَّة يا مولانا …
وسرعان ما دار عريف الآلهة وخاطب طعبروس: معاذًا أنْ ينسى عريف الآلهة رجاله المخلصين، إني لا أريدك أنْ تذهب إلى الكرة الأرضية كرجل عاديٍّ في سيَّارة أو «جيب»، انزل إليهم كبطل، لقد جهزت لك مظلَّة هوائية جديدة من مخلَّفات الجيش، ومن صنع الأميركان، وأنت تعرف أنهم لا يصنعون إلَّا الأجمل والأفخم والأمتن.
فشكر طعبروس للعريف حنانه وشدَّ المظلة إلى كتفيه وقفز، وراح العريف يتطلَّع من كوَّة السماء مقهقهًا فرحًا أنه تخلَّص من شخص يُذَكِّره بمعاركه الماضية، واستفاقت «ساديته» فحدَّق بالأرض يريد أنْ يرى طعبروس يلتطم بالأرض فيتمزق، غير أنَّ طعبروس حينما وقع لم يصطدم إلَّا بكومة رمال، فسرعان ما انتصب واقفًا على قدميه سالمًا، فأحرق مظلته وتأبَّط برميله، ومشى صاخبًا يحدِّث نفسه بالفتك والأخذ بالثأر، ويحلف بأن يثير على العريف سكَّان البسيطة، وما طال سيره حتى لمح بدويًّا شرس الوجه يرعى جِمالًا ويحمل بارودة، فهلع طعبروس وصاح: أنا بوجهك با بدويُّ.
أجاب البدويُّ: كنت على همَّة أنْ أرديك برصاصة، ولكنك سبقتني إلى الاستجارة، فما أنا بقاتلك، ولكن قل لي: من أنت، وما تريد؟ وهات، أعطني نهلة من هذا البرميل الذي تحمله فإني عطِش.
وَمَدَّ البدوي يده، وقلب البرميل إلى شفتيه، وسرعان ما بصق ما دخل فمه، وشتم طعبروس الشرير الذي يحمل ماء لا يُشرب.
قال طعبروس: رويدك يا بدوي، أنا جئت هذا المكان لإسعافك.
ما صَنْعَتُك؟
أجاب البدوي: أنا راعي جِمال.
– ومن هو شيخ القبيلة؟
– درداح الغمدوش.
– ولماذا هو شيخ القبيلة وأنت راعي جمالها؟
– هذه إرادة الله، واحد يرأس القبيلة، وآخر يرعى جمالها.
قال طعبروس: ما أنا ممن يخالفون مشيئة الله، صدقت، إنه تعالى قسَّم المهن والأرزاق، وجعل للقبيلة شيخًا يدير أمورها، وراعيًا يتعهَّد جِمالها، ولكنك يا بدويُّ أشجع من درداح الغمدوش، فلماذا لا تحاول أن تكون شيخ القبيلة وتترك هذه الإبل لدرداح؟
فلمعت عينا البدويِّ وعضَّ على شفتيه، وشعَّ وجهه بحلم جميل، الخيمة الكبرى هو يملكها، و… وتطلع بطعبروس من جديد وأجهم وجهه، وقال: اسمع يا مخلوق، إنَّ كلامك معقول، غير أننا هنا في البادية نصغي إلى من يقول، لا إلى ما يقال، نحن هنا لا نخاف الإعصار، والجوع، والعطش، والأمراض، ورصاص العدوِّ، ولكننا نخشى اللسان الذرب … إخال كلامك شبيهًا ببرميلك، تنظر إليه فتحسب فيه ماء يروي، فما إن تنهل منه حتى تعرف طعمه الكريه، وكلامك تسمعه، فإذا هو مقنع، وفي يقيني أنَّ من أراد السير على ما أنت به تُبشِّر، سيعثر، لقد أمنتك على روحك، ولكني أخشى ثورة غضبي فأكفر بتقاليد قومي، هيَّا انصرف عني، رُحْ إلى هناك إلى بلاد الحضر الملاعين في القرى والمدن؛ حيث الرجال ذوو أيدٍ ناعمة ووجوه حليقة معطرة، هناك يحبون اللسان الذرب، وأحسب أنْ ستكون بينهم ذا شأن.
وكان طعبروس من أولئك القلائل الذين يفهمون الحكمة من أيٍّ سمعوها، ويعرفون أن يلتقطوها حيث كانت؛ لذلك أعجب بقول البدوي، فودَّعه وراح يقطع البادية مُيَمِّمًا قرى الحضر ومدنها، فأدَّى به التَّسيار قبيل الغروب إلى ضاحية قرية، فرافق بعض فلَّاحيها، وكانوا منصرفين من حراثة أراضيهم وعائدين إلى قريتهم، وسمع الفلاحين يتحادثون فرحين، وأدَّى بهم الحديث إلى الدعابة، والدعابة إلى قول «القرَّادي» فزجَّ طعبروس نفسه بينهم وسألهم: ما هذا الذي تنشدون؟
أجابوا بشيء من الخجل: نحن أناس أمِّيون ننظم القرَّادي — في بعض الأحيان — للمباسطة وللغناء في الأفراح والمآتم.
أجاب طعبروس: إنكم لا تعرفون أي شيء قيِّم تملكون، ما هذا «قرَّادي»، هذا شعر، أنتم شعراء، أنتم الشعراء.
فراحت قلوب أولئك الفلاحين تدق جذلة كأنها أجراس الكاتدرائية في يوم العيد، ونفخوا صدورهم ورموا بمعاولهم وآلات الحراثة وطفقوا يصيحون في القرية: نحن شعراء، نحن شعراء.
وسرت الصيحة في القرى المجاورة ومدن البلاد، وصار كل من نظم في حياته، أو همَّ بنظم «قرَّادي» أو أي كلام عاميٍّ مقفًّى، يقف على سطح بيته أو شرفة منزله، ويصرخ «أنا شاعر»، واجتمع الشعراء فانتخبوا لهم أميرًا وشيخًا، وفرَّقوا الألقاب والأوسمة فرحين.
أما طعبروس فقد هزه فوزه السريع، فلم ينَمْ تلك الليلة، شأن كل من ينعم ببكر انتصاراته، وفي فجر اليوم الثاني طفق يطوِّف في طول البلاد وعرضها، ولقي من الصحافيين أعوانًا له، فإذا لاعبت فرقة من بيروت بالفوتبول فرقة من حلب سموها «مباراة دولية»، وإذا فاز تلميذ بدروسه سموه «النابغة العبقري»، وأشار على الناس، فأسسوا الجمعيات والمنظمات التي هي في حقيقة مراميها أبواق لطعبروس، وتحالف مع رأسمالي، فبنى مصنعًا للمرايا المقعَّرة متى تطلَّع فيها الرائي وجد نفسه عظيمًا، فراجت تلك المرايا، وأغنت صانعها، ومن أرباح ذلك المصنع بنى الرأسمالي مصانع للأبواق والطبول، وأخذ طعبروس يدور على البيوت فيبيعها بدون ربح، حتى أصبح كل من السكان يحمل مرآة مقعَّرة في جيبه، وبوقًا في يساره، ويعلِّق طبلًا في رقبته، تضرب لحنًا واحدًا: «ما أعظمني!» وكان طعبروس شديد المراقبة، فلمح في تَطْوَافه أن الأسلحة كثيرة في البيوت؛ فخشي على نفسه أنْ يؤلف الشعب جيشًا، والجندي — جنرالًا كان أم نفرًا — هو مثال الطاعة والنظام والدعة والتواضع، وهذه صفات إن فَشَتْ قَتَلَتْ نفوذ طعبروس، فحمَّل تلك الأسلحة أصحابها، وصاح بهم: «هيا أطلقوها في الجو!» ففعلوا وطربوا لدويها، إذ ذاك قام طعبروس فيهم خطيبًا، وقال: أنتم الأبطال الصناديد، مَنْ غيركم يقوى أن يطلق الأسلحة في الهواء؟
فصاروا يطلقون الرصاص لأية مناسبة، فيصم آذنهم عن ضحك شرذمة من الشذاذ جاءتهم غازية واغتصبت بعض دورهم، ووقفت متسلحة يقظة توسع تخوم مغتصباتها شيئًا فشيئًا، وقد وجدت تلك الشرذمة في «طعبروس» أعظم حليف، إذ شغل القوم عن الدفاع عن دورهم بالإعجاب بنفوسهم، ونفْخ ذاتيتهم المتضخمة.
وأصبح طعبروس كلما كثرت انتصاراته اشتد دأبه، فبنى حول تلك البلاد سورًا عاليًا، وأقنع الناس أنْ ليس وراء السور من بلدان، بل هو شيد حول كل قرية وشارع وضاحية سورًا، وقال للسكان: «هذه هي الدنيا» فضيَّق الآفاق على الناس، وقصر طموحهم، ولم يعْفُ عن معبد أو مدرسة، فَزَيَّنَ للتلامذة ترك دروسهم والمشاغبة في الأسواق أملًا بالتزعم، وصرف من كان شأنه تعهُّد المعبد عن الأغاني الروحية، إلى الصخب السياسي رجاء التسوُّد.
وذات يوم طاف طعبروس مملكته، وقد استحسَّ أنه أمسى فيها ملكًا مطلقًا، فوجد فيها شخصًا واحدًا قانعًا يُعنى بتربية النحل، ولا يأبه لشيء غيرها، وعبثًا حاول طعبروس أنْ يُقنع مربي النحل أنه شاعر، أو أنه خليق بأن يرشح نفسه للنيابة، وأخيرًا جاءه طعبروس وهمس بأذنه: إني أريد أنْ أسرَّ إليك اكتشافًا … فقد قرأت في «الحواشة السَّخفولية» أنَّ نابليون هو جدُّك الأعلى، وأنَّ الملكة اليصابات هي ابنة خالتك لجدِّ جدِّك، فما بالك تربي النحل وأنت يليق بك أن تتربع دست الوزارة؟
فباع المسكين منحلته، وراح يشاغب على الوزراء رجاء أن يُستبدَل بواحد منهم.
وأصدر طعبروس طبعة جديدة — ملايين النسخ — من «الحواشة السَّخفولية» وفيها تواريخ عائلات البشر، وإشادة بذكر جدود الناس أجمعين، فمن عدم شيئًا يتبجح به في نفسه، وجد في تاريخ أجداده موضوعًا للتباهي يصرفه عن الجهود المفيدة.
هكذا نعم طعبروس في ملكه فكثرت الألقاب، والأوسمة، والحفلات، والمآدب، ونفخت الأبواق، وقرعت الطبول، وكان من الطبيعي، متى ازدحمت الأقدام وضخمت الذاتيات، أنْ ينشأ العداء، وكان الخصام على أشده في «شارع النيابة»، حيث تقاطر الناس بأجمعهم يريدون أن يجتازوه طريقًا إلى «القبة»، حيث علق أكبر بوق وأضخم طبل، في قاعة حيطانها مرايا مقعَّرة.
واختفى الحب، وضاقت الأخلاق، وانمحى التسامح والحلم، وتكالب الناس على الظهور بمظاهر التفوق، ولم تعد الأسلحة تطلق في الهواء فحسب، بل صارت تطلق في الصدور أحيانًا، ونقم الناس على الناس، وكفروا بما كانوا يؤمنون؛ إذ إنهم قبل طعبروس كانوا يؤمنون بأمور منها سخيفة أو ساذجة، ومنها كريمة شريفة، ولكنها كانت في مجموعها إيمانًا يملأ النفس ثقة وإقدامًا، ويغسلها من أدرانها، «ويُقَولِز» عناصرها، أمَّا حينما ضخمت ذاتيتهم فقد فرَّ الإيمان من صدورهم فماعت شخصيَّاتهم، ألا ويلٌ لقوم نفوسهم كهوف خالية هجرها الإيمان.
أمَّا الآلهة فقد ساءهم إعراض الناس عنهم، فما يرتاد مفوضيَّاتهم وسفاراتهم الزائرون، وضعف شأنهم فما يسمعون صلاة ولا ضراعة، فعادوا إلى العريف يشكون أمر طعبروس، ويخبرونه أنَّ البشر انصرفوا إليه يعبدونه، في حين أنه ليست له صفة رسميَّة، وأنَّ الأمر إذا استمرَّ هكذا، فقد يضطر العريف إلى سحب ممثليه من الكرة الأرضية وشطبها من خارطة مستعمراته.
والحنق أنواع، أشدُّه تلك الحمم التي تقذفها النفس إذ تغضب على نفس كانت لها مرءوسة؛ ولذلك نادى عريف الآلهة على مدير البوليس، وأمره أنْ يرمي كل كتب القانون في النار، وأنْ يختار من رجاله أشدَّهم بأسًا وأوسعهم حيلة، وأنْ يهبط إلى الكرة الأرضية فيرجع منها بطعبروس أو بجثة طعبروس.
وانتصب مدير البوليس بعد لمحة أمام العريف فسأله هذا: ما بالك لم تذهب بعد؟
– سيِّدي … إني رجعت ولم أجد من آثار طعبروس إلَّا برميله الفارغ! أما هو فقد عشش في رءوس الناس؛ لذلك لم أوفق بالعودة به حيًّا؛ إذ إنه مختفٍ، وإني خشيت إنْ أنا قتلته أنْ أقضي على الناس أجمعين فهو في كل رأس، وطيِّ كل قلب، وعلى كل لسان.
وتمطَّى الإله «فرنسوا»، وهو الإله العملاق الذي قتله الإله «جرمانيوس» بضربة من قبضته، وأعادته إلى الحياة الآلهة التي تكاثرت على «جرمانيوس» فدحرته، ولكن «فرنسوا» — وقد قُتل عملاقًا — بُعث قزمًا بدون ذراعين، قال «فرنسوا» لعريف الآلهة: سيِّدي! أعدني إلى البشر حاكمًا عليهم، وإني أعدك بأن أمزِّق أعلامهم، وأذلِّل نفوسهم، وأطرد طعبروسهم، وأفتِل ألسنتهم، فلا يتكلمون إلَّا اللغة التي تريد، وإني فوق ذلك منتزع من كوَّارتهم ما فيها من مئونة ينعم بها مولاي العريف وأصفياؤه من الحاشية.
غير أن عريف الآلهة أعتاد ألَّا يُصغي إلى «فرنسوا»، ولكنَّ أذنه اشرأبت؛ إذ سمع كبير الحكماء يقول: مولاي … متى دخل إلهٌ قلب المرء ورأسه، وسرى على لسانه، فمن العبث محاولة طرده برجال البوليس، إني على ثقة أنه لن يَطرد هذا المارقَ طعبروس إلا فنَّانونا، إني أشير على سيِّدي أن ينادي على النحاتين يبنون التماثيل لطعبروس، تُنصب في ساحات الكرة الأرضية، ثمَّ فليرسمه نبغاء مصوِّرينا ولتعلَّق صورته في كل بيت، كذلك ليصفه كَتَبَتُنا وشعراؤنا.
فقلب عريف الآلهة شفتيه ساخرًا غاضبًا، وقال: ما كنت أحلم أنْ أعيش إلى يوم أسمع فيه الحمق من فم كبير الحكماء، ها أنا أريد الفتك، يا له شرِّير يعبدونه، وأنت تقترح التمثال والصورة والقصة والقصيدة لتفخيمه؟
أجاب كبير الحكماء: إني أبغي من ذلك إظهاره للناس ليروه، إنَّ الناس لا يعبدون ما يرون … إنهم يعبدون ما لا يرون!
وغطس عريف الآلهة في بحيرة التفكير، وراح يسبح حينًا، ثمَّ خرج منها مبتهجًا، وأعلن أنَّ رئيس الحكماء على صواب، فمتى رأى الناس طعبروس طردوه، لا سيما وقد فرغ برميله من النفط، فلن تخفى أقذار يده، وخلت يده من براءة توظيف يذرُّ رمادها في العيون، ونادى على الفنانين ففرَّق عليهم جبال المرمر، وأوتار قلوب البلابل، وحفنةً من قوس القزح، ونفخة من ريش الحساسين، وعبأ جراباتهم بأغاريد أطفال الملائكة، وصاح: عليكم بطعبروس، هذا عتاد الحرب والنصر بين أناملكم.