إلى المخْرج
هل تذكر عداءنا في «نخب العدوِّ»؟ لئن كنت مثلي حقودًا، فليهنأك هذا الظفر، أما تراني الآن بين قدميك؟
لقد أخبرتك في «نخب العدو» أني أمقتك وأنك تمقتني، وأن رفقتنا في تلك السفرة المسرحية شركة فرضها علينا الفن، وإني أصارحك الآن أن خيلائي كان سببها ثقتي أن «نخب العدو» ناجحة أيًّا كان مخرجها، أما هذه المسرحية «حفنة ريح» فجناحها ذو لون آخر، هي طائرة صغيرة محكمة البناء، كل قطعة منها جيدة العنصر رُصِّعت حيث يجب أن تُرصع، وهي ملأى بالوقود الجهنمي يتفجر قوة، ففي استطاعتك أن تهبط بها إلى الهاوية أو تصعد بها إلى المريخ.
أفهمت لماذا أنا الآن بين قدميك؟
أنت وأنا — المخرج والمؤلف — شريكان في كل جهد مسرحي، غير أنَّ حصتك في هذه الرواية هي الكبرى، حتى لأصبحت أنا كدمية مهملة.
والآن هلَّا سمحت لي أنْ أحدثك بكل خضوع عنها؟
وجيه
كنت أتزود من الحياة العبر؛ لأؤلف منها مسرحية كبرى؛ إذ ومضت «حفنة ريح» وتراقص أشخاصها أمام عيني، وتدافعت حوادثها قبالة بصيرتي، وراحت تلح عليَّ أنْ أدونها قبل المسرحية الكبرى، فلما حبكت تصميمها وجدتها كاملة الأوصاف إلا … إلا أنَّ «وجيه» بقي على المسرح منذ أنْ ارتفع الستار إلى أنْ هبط، وغير خافٍ عليك أنَّ النظارة تملُّ من يحتكر المسرح، وأنَّ الممثل يجهده مثل هذا الموقف المستمر، فرُحْتُ أتأمل، وما زلت أحتال على «وجيه» وأفكر وأدرس وأشتغل، حتى تيسر لي تنحيته عن المسرح بحادثتين معقولتين.
لقد أفنيت في هذا الجهد — تنحية وجيه عن المسرح — تسعة شهور، أتفهم الآن ما يبرر نزق المسرحيين متى قرءوا نقدًا يوحيه جهل الدرامة؟ وهل تدري لمَ ينقمون على المخرجين إن تكاسل هؤلاء أو أعوزهم الفن؟
Peripety
ما لك وسَّعت أحداقك واصفرَّ وجهك؟ إن ما لمح في فكرك صحيح، الأدب العربي خلو من التأرجح؛ إذ إنَّ البدوي بطبيعة بيئته — كان ولا يزال — واضح المرمى، فهو يقصد بئرًا يرتوي منها، أو عدوًّا يقاتله، أو مرعى يشبع منه مواشيه، فليس التردد والدوران والتأرجح مما ينسجم وطبيعة البادية، رومل كان يخاف الهجوم من الجو والبحر، «الشمال» والشرق، والجنوب، ثم جاءه الأميركان من الغرب، أما أخونا البدويُّ فهدفه وعدوه وحبيبه وطلله، كلهم في نقاط معينة.
وفقدان التأرجح ليس هو في الأدب العربي فقط، بل هو ملحوظ كذلك في التفكير العربي، صاح بي صديق أميركي بعد جدال ساعة في قضية فلسطين: «عجبًا لعقولكم أيها العرب، ألا تبصرون من الألوان إلا الأسود والأبيض؟ أليس عندكم فجر رمادي اللون يذوب فيه الليل والنهار؟»
بلى، لقد ثاب إليك وعيك، فذكرت أنَّ التأرجح على أروعه هو في سورة يوسف من القرآن الكريم، وهو كذلك هنالك مقتضب في بعض نوادر العرب، أما فيما عدا ذلك، فدلني عليه في العربية!
وما نحن في بحث اجتماعي لنتبسط في هذا الموضوع، بل يكفي أنْ نذكر أنَّ وضوح المرمى، ومعرفة الدرب إليه، ليسا من العناصر الدراماتية.
كل ما أريد أنْ أزعم — يا حضرة المخرج — أنَّ بين يديك في «حفنة ريح» التأرجح في أكمل أشكاله، من اللحظة التي يرتفع بها الستار، إلى «كعك سخن»، ولم يقتصر التأرجح على الكلام الملفوظ، بل إنك لتراه صامتًا في المشاهد الصامتة حين يفحص «حيمور» الجواهر عليه أنْ يتأرجح بالنظارة، فيوهمها أنه اكتشف حلاه، ثم يتردد، ثم يعجب بالحلي، ويظهر جهله لمصدرها، ثم ينفعل … ثم … كل هذا بتغيير سحنة أو قلب شفة، أو … ما أنا بمخرج هذه الرواية لأعرف كيف يكون الإبداع في تمثيلها، كذلك بين «نو سنيور» و«سي سنيور» دنيا للتأرجح فسيحة.
تقي الدين الصلح والكعب بن الحميد الطهنشاوي
الأستاذ الكعب ليس هو بالشخصية الجديدة، لقد خلقته منذ ٢٣ سنة لتقي الدين الصلح الذي أوحاه في رواية سخيفة ألفتها اسمها «قضي الأمر»، لقد نجت تلك المسرحية من عار الخيبة بسبب تمثيل تقي الدين الصلح، كاد الضحك والتصفيق يهدمان حيطان القاعة كلما ظهر الأستاذ، لئن اجتمعت بتقي الدين الصلح فليشرح لك دور «الكعب»، ولقد أبحت لنفسي أنْ أسرق من إنتاج صباي عبارة يجوز أنْ يقال: «فلقتني» إنما الأصح أن يقال: «فججتني»، هذه العبارة رعد لها التصفيق منذ ٢٣ سنة، وأعتقد أنه سيرعد، وإنْ لم تصح هذه النبوءة فما الذنب ذنبي ولا ذنب تقي الدين الصلح ولا ذنب شمدص جهجاه!
رأسي أعريه
إني أرفع برنيطتي بيميني، وأضعها إلى قلبي، وأنحني إلى الأرض، برغم ضخامة وسطي أمام الفتيات اللواتي مثَّلن أدوار النساء في «نخب العدو» وإني مسر إليك أنني توقعت هذا الأمر لسبب بسيط هو أنني بنيت الأدوار النسائية بحيث لا تأنف امرأة شريفة أنْ تمثل أحدها، لا قبلات، ولا عناق، ولا اشتباك أكف، وقد كنت أسائل نفسي، وأنا أؤلف «نخب العدو»: هل أرضى أنْ تمثل هذا الدور زوجتي أو ابنتي؟ وكنت أسمع الجواب: «نعم»! فلا عجب أنْ مَثَّلَتْ أدوار تلك الرواية فتيات هنَّ من «بنات العائلات»، ترى أهذه هي المرة الوحيدة التي ظهرت بها الفتاة العربية والفتى العربي على المسرح في مسرحية؟ أنت تعلم أنني أعني من الفتيات ابنة العائلة، لا تلك التي أمها عزباء وأبوها مجهول محل الإقامة، وأني ولوع بلفظة «وحيد»، حتى لقد أوصيت أنْ يُنقش على قبري «هذا ضريح الرجل الوحيد الذي أعجب بسعيد تقي الدين.»
استشهدت بما سبق؛ لأثبت لك أنني رجل عملي يواجه الحقائق، حينما كنت أكَّارًا كانت دابتي في معظم الأحيان محمَّلة سائرة في الطريق لا مربوطة إلى معلف، وهذه الرواية «حفنة ريح» لم أكتبها لتحفظ في متحف بل لتمثَّل، وستمثَّل بنجاح على الرغم من أنك مُخرِجُها؛ بسبب أني تفرَّست فيها بوقائع الحياة، فنحن ليس عندنا من المسرح حتى ولا أخشابه، وأنت ترى في «حفنة ريح» أنها ذات مشهد واحد من السهل إعداده، فلا رياش ثمين، ولا مناظر غير عادية، ولا تغيير مشاهد تتطلب السرعة والاستعانة بالآلات الميكانيكية أو الأنوار الكهربائية الملونة، أو تزييف الضوء وتغييره بين سطوع وسواد وما بينهما من ألف لون.
كذلك أعرف أنَّ منظماتنا غير محترفة؛ لذلك جاءت «حفنة ريح» قصيرة تفسح المجال لرئيس جمعية «الفلاح والكفاح» أنْ يرش على النظارة شيئًا من اللعاب خلال ممتع الخطاب، أو لقائمقام القضاء أنْ يظهر افتتانه بأعضاء الجمعية النبهاء الذين يمثلون الرواية، أو لفرقة التلامذة أنْ يغنوا (نظم الأستاذ محروس بك النابه) نشيد الجمعية:
ولكن أذكر أنَّ كل هذه الحوادث الجسام تجري قبل الرواية لا بعدها، وأنَّ كل ما يسبق الرواية يجب ألَّا يستغرق أكثر من ٢٩ دقيقة، تسعًا وعشرين دقيقة، لا ثلاثين، أفهمت؟
حين مثلوا روايتي «لولا المحامي» في بغداد للمرة الأولى، نهض شاعر لم يظهر اسمه على البرنامج ليلقي بضعة أبيات، فلما فتح فمه وقع ميتًا بطعنة خنجر، ولم تهتدِ الحكومة حتى اليوم إلى معرفة القاتل، أريد أنْ أعترف لك بأنني أنا الذي قتلته، إنَّ لي شبحًا يرافق رواياتي في ليالي التمثيل، وهو يطعن بخنجر مميت كل من يخالف وصاياي.
أغلاط طفيفة
أحذِّرك من اقترافها؛ مثل أنْ يجلس أحد الممثلين بين الجمهور بعد أنْ ينتهي من تمثيل دوره على المسرح، هذه عادة سمجة تقتل الرواية، في تلك الليلة أنت جادٌّ في أنْ تظهر على المسرح قطعة من الحياة تحاول أنْ تجعلها حقيقة واقعة، فيأتي أحد ممثليك، فريد أسعد معزور، وبعد أنْ ينتهي من إبداعه يرجع إلى القاعة، فيجلس بين أفراد عائلته، وهم عادة في المقاعد الأمامية، لئن فعل ذلك فاقبض على رقبته وارمِ به خارجًا، وبعد أنْ تُدغدغ مشفريه بلطمة ساحقة بلِّغْه سلامي، وقل له: رويدًا حتى ترجع إلى بيتك فستعانقك الماما فرحة بنجاحك، وستخِفُّ إليك في صباح الغد ابنة الجيران بعبارات التهنئة والمديح، أما الآن فابتعد عن الجمهور؛ إذ إننا لا نريد أن نقتل «حفنة ريح».
«ترابة إفرنجية»، «سمنت»، «شمنتو»
ليس في الأدب العربي كتاب يفوق «الحواشة السخفولية» قيمةً، إذا وقعت بين يديك نسخة منها، فأنت ترى في باب المسرحيات أن الممثل يتمتع بجميع الحقوق التي ينعم بها الشاعر؛ مثل تسكين أواخر حروف الكلمات، وصرف ما لا ينصرف، فلتكُنْ لهجة ممثليك ونطقهم الكلمات أقرب ما يكونان إلى اللهجة العادية في المحادثات، لاحظ قولي «اللهجة العادية» لا «اللهجة العامية»، ولئن اقتتل الفن وعلم النحو، النحو والصرف، فلا تنسَ أنَّ هذه التي في يمينك هي راية الفن، واذكر أنني أول من اقترح إقامة تمثال للأستاذ إسعاف النشاشيبي، وكنت البادئ بافتتاح الاكتتاب؛ إذ تبرعت بدينار مزيف! … ولكن لكل موقف رجل، وأنت إذن تكشف أمام جمهور ناحية من نواحي الحياة، تريد أنْ تحدثهم بكلمات يفهمونها، وإلا كان الأمر حمَّامًا بدون مياه؛ إذن فَلَكَ أنت أنْ تستعيض عن «سمنت» ﺑ «شمنتو» أو «ترابة إفرنجية» أي منها أكثر شيوعًا وأقرب إلى قلوب الجمهور، وهذا ما ينطبق على «ياخور» أو «إسطبل»، لا تقتل النكتة أو الرواية؛ رغبة بإرضاء الأستاذ إسعاف، الحكومة اللبنانية أرضته، منحته وسامًا، سأخترع يومًا من الأيام شيئًا هو عكس الوسام.
خذ عبارة «لو كان دماغك ترابة إفرنجية، لكان رأسك أكبر من معامل شكا» هذه العبارة تكون ناجحة في بيروت، أما في بغداد مثلًا، فإنهم لا يعرفون معامل «شكا»، وإني أفوضك بأن تستبدلها بما يفهمه الجمهور العراقي، في بغداد التمر كثير، فيها بالطبع تاجر كبير له عنابر هائلة، لنفرض أن اسمه «جاد الله»، إذن فالعبارة تصبح «لو كان دماغك تمرة، لكان رأسك أكبر من عنابر جاد الله» هكذا يفهمها الجمهور البغدادي.
اليمين واليسار
متى وقعت عيناك على هاتين اللفظتين في هذه الرواية، فهما تعنيان يمين النظارة ويسارها، و«خلف»: معناها ذلك الجزء من المسرح الأبعد عن الجمهور، و«أمام»: معناها ما قرب من المسرح إلى الجمهور.
على الباب
الانصراف من المشهد هو موقف مسرحي رائع، وأنت — لا ريب — تلاحظ أنَّ كلًّا من أشخاص هذه الرواية يفوه بكلام فخم أو مضحك حينما ينصرف، فلا تدعنَّ ممثليك يتركون المسرح جارِّين أرجلهم، بل لتكن وقفة كل واحد منهم «على الباب» وقفة مسرحية، فيطلق العبارة الأخيرة قبل انصرافه بحماس وحياة، هذه الوقفات «على الباب» هي من عناصر قوة «حفنة ريح»، وهي يجب أنْ تستثير تصفيق الامتحان، على أنَّ جماهيرنا تجهل أنه من «اللياقة» أن يصفقوا للممثل حين ينصرف، وبعضهم لا يدري إنْ كان أدب الفن يسمح بالتصفيق عند الانصراف، فعليك أنْ تثقف الجماهير بأن تزرع بين النظارة من يبدأ بالتصفيق عند مشاهد «على الباب»، واترك للجمهور أمر إظهار الاستحسان ضئيلًا كان أم هائلًا.
السطر
هذا تعبير أميركي، يقولون: فلان له «سطر»، ويعنون بذلك أن له طريقة في الكلام، أو عبارة يرددها، في «حفنة ريح» ترى «السطر» على لسان العوَّاد: «صار لي نصف ساعة أنتظر.» فليرددها، واعتبر في غرابة عقلية الجماهير التي يضحكها أمر بسيط هو تَرْدَادُ عبارةٍ مشهدًا بعد مشهد، وليس لي أنْ أشير عليك بأن تقوِّيَ هذا «السطر» بأن تحمل الممثل ساعةً يظهرها حين ينطق بسطره، وأحيانا يظهر الساعة من غير أنْ ينطق بالسطر.
من مبررات الإعدام
حدثتك عن شبح يحمل خنجرًا يطعن به من خالف وصاياي، ولقد فاتني أنْ أحدثك أنه كذلك يحمل رشاشًا يصبُّ رصاصه على كل مخرج يعطى لشخص واحد أكثر من دور واحد في أي رواية، فحذار حذار.
إفرنجيتان
في هذه الرواية فتاتان أميركيتان لا تنطقان إلا ببضعة ألفاظ، واحدة تلبس قميص سباحة، والثانية تلبس البنطلون، لن يصعب عليك أن تقنع فتاة بلبس البنطلون، ولئن خانتك ذرابة اللسان عن الإقناع، فَأْتِ بفتاة إفرنجية تلبس قميص السباحة، غير أنه ما زال همنا — أنت وأنا وشمدص جهجاه — أن نخرج بالفتاة العربية من خدرها، فاقبل بفتاة تلبس الفسطان العادي، وضع على لسان الأستاذ عبارة «إن حُلَّة الانغماس بالبحر التي يسمونها قميص السباحة لمقدَّر وجودها تحت الفسطان.»