الصحافي العجوز كما عرفته
منذ خمسة عشر عامًا، أو تزيد، عرفت الصحفي العجوز وهو لم يكن يومئذٍ عجوزًا!
كنتُ أعمل في قسم المطالَعة بدار الكتب المصرية لإرشاد المطالِعين إلى مَراجِع بحوثهم، وكان هذا العمل يقتضي أن أقطع مع المؤلِّفين الباحثين مراحلَ شاقة من البحث والتنقيب، كما يقتضي أن أبلوَ من أخلاقهم ومَقْدرتهم ما لا يتيسر لغيري من الناس.
ولقد رأيت في هذا العمل وجوهًا شتى، وأَمْزجة مختلفة، وشهدت من جمهرة الناس صورًا عديدة تختلف باختلاف أصحابها، وكنت في ذلك كمَن يجلس في إحدى دور الصور المتحركة ليشهد أكثر عدد من الروايات والأقاصيص، ويطالِع في وجوه أبطالها شتى المعاني، ويحسُّ حيالها مختلِف الأحاسيس.
ثم تعاقَبت الأيام وتلاحَقت الأعوام فمَحَتْ من ذاكرتي أكثرَ ما شاهدتُ من هذه الوجوه.
وكان الصحفي العجوز أحد أولئك الذين عرفتهم من قرَّاء دار الكتب. ولم يكن من أولئك الذين رأيتُ من أمثالهم مئاتٍ وألوفًا ثم انطمستْ مَعالِمُ معرفتي بهم؛ ذلك لأن الصحفي العجوز «شخصية» جديرة بأن تحتلَّ المكان الأول في نفس مَن يعرفها.
ولقد تمت معرفتي له على الأيام، ولم تَزِدني هذه الأعوام الطوال إلا إكبارًا له وإعجابًا بماضيه وحاضره.
اسمُ الصحفي العجوز «توفيق حبيب»، واسمُ صاحب هذا القلم «عبد الله حبيب»، ولقد ظنَّ كثيرٌ من الناس، لاتفاقنا في اللقب، أننا شقيقان أو من أبناء عمومة! وسيدهش القرَّاء حين أقول لهم إن الصحفيَّ العجوز مسيحي، وإن كاتبَ هذه المقدمة من علماء الأزهر الشريف!
سيدهش القرَّاء لهذه «المفارَقة» البالغة! أمَّا صاحبنا الصحفي العجوز فقد أراد — يومَ طلَبَ إليَّ كتابةَ هذه المقدمة — أن أَفِيَ له بدَيْنٍ قديم في عُنق الأزهر والأزهريين، فقد شاء ولَعُه بالمفارَقات يومًا أن يكتبَ عن تاريخ «الجراية» في الأزهر قديمًا وحديثًا، فكتب في ذلك فصلًا طريفًا لا يُوفَّق إلى مِثْله إلا أزهريٌّ عاش في صحن الأزهر وأكل من خبزه، وأراد يومًا أن يكتب تاريخَ المرحوم الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية، فكتب عن حياته ومؤلَّفاته ما لا يستطيع أن يُلِمَّ بأطرافه إلا أحد أبناء الأزهر ممَّن خالَطوا الفقيدَ ووقفوا على مختلِف جوانبه الأزهرية.
وهكذا تجد الصحفي العجوز يَجُول في كل ميدان، ويجرِّد قلمَه في كل معركة وهو واثقٌ من الظفر والانتصار. وسِيَّان عنده أن يكتبَ عن تاريخ الكنيسة القبطية أو دخائل الأزهر؛ لأنه يعلم أنه في الحالَيْن مؤرِّخٌ لَبِق مُوفَّق.
•••
أما أسلوب الصحفي العجوز فلا بد فيه من كلمةٍ توضِّح سرَّ نجاحه بين الكتَّاب المعاصرين.
يُخيَّل إليَّ أن سِرَّ نجاحه أنه يحدِّث الناس بما يَأْلفون، فلا يُجهِد قرائحَ قرَّائه بمسائل الفكر العويصة التي تحتاج إلى التعمُّق؛ وأنه ينقل عن الحياة الفطرية الخالصة التي لا يحجبها سَحاب؛ وأنه لا يحاول أن يكون بليغًا بالمعنى الذي تواضَعَ عليه عشَّاق الصناعة اللفظية والمحسِّنات الكلامية. ولذلك يَصِل أسلوبه الواضح المُحكَم إلى قلوب قرَّائه في غير كُلْفة أو تعمُّل.
ولقد يظن بعض الناس أنه يُدخِل في أسلوبه كثيرًا من الكليات العامِّيَّة الدارِجة عن عجزٍ أو قصور.
ولستُ أرى ما يرى هؤلاء الناس؛ لأن ما يقابل هذه الكلماتِ العامية من اللغة الفصحى لا يخفى على كاتبٍ مارَسَ الكتابةَ نيِّفًا وثلاثين عامًا مثل الصحفي العجوز؛ فهو إذن يضع هذه الكلمات عامِدًا لتكون عبارتُه أقربَ إلى الفَهْم وأدنى إلى التوضيح.
وإلا فهل كان لا يعرف أن كلمة «بالطو» يُقابِلها باللغة الفصحى كلمة «مِعْطَف»، أو أن كلمة «جلارية» يُقابِلها باللغة الفصحى كلمة «الممر التجاري» أو «سويقة».
وهاتان الكلمتان اللتان أسوقهما مثالٌ لكثيرٍ مما ورد في هذا الكتاب؛ إذ أوردهما المؤلِّف في الفصل الممتع الطريف الذي كتبه بعنوان أسبوع في طرابلس. وذلك في قوله عن القسم القديم: «ويمكنك أن تستعرض فيه الوطنيِّين بملابسهم المختلفة المتعددة الألوان من برانس وسراويل وجلابيب بيضاء وبالطوات وحرائر ملونة.»
فلا أحسب أنه عجز عن أن يكتب كلمة «مَعاطِف» مكان قوله «بالطوات».
وفي حديثه في هذا الفصل عن سوق المشير يقول: «وفي هذا القسم سوق المشير، وهي جلارية خاصة بالصناعات الوطنية المحلية من حديد ونحاس ونسيج وغيرها.» وقد كان يستطيع — من غير شك — أن يضع كلمة «ممر تجاري» مكان كلمة «جلارية»، لكنه كما أَسْلَفتُ يتعمَّد الإبانةَ عن غرضه بما يجري على ألسنة الناس من ألفاظٍ متداولة.
وهو في هذه الخطة التي يلتزمها يُغضِب أهلَ اللغة العربية الفصحى ورجالَ المَجْمَع اللغوي الأَجِلَّاء، لكنه يظفر برضاء أكثر قرَّائه. وذلك هو ما يَبْغي.
•••
والصحفي العجوز يبلغ الستين من عمره في فبراير القادم، قضى منها عشرَ سنوات بين كتَّاب العريف والمدارس الابتدائية، وأربع سنوات متردِّدًا على دار الكتب المصرية، حين كانت في درب الجماميز، يوميًّا بلا انقطاع مراجِعًا الجرائد والمجلات ومستندات تاريخ مصر الحديث.
وفي أغسطس سنة ١٩٤٠ يُتِم أربعين سنة في تحرير الصحف والمجلات الأسبوعية والشهرية. من العمل سنتان مع المرحوم جندي بك إبراهيم في جريدة «الوطن» اليومية. ومعاونًا الشيخ يوسف الخازن في جريدة «الأخبار»؛ حيث اشتهر بمقالاته القصيرة بتوقيع «محدث»، وعناوين التلغرافات والمحليات و«القص» من الجرائد.
وغامَر وقامَر، وأخذ مقاولات شحن ونقل، وذهب إلى مونتكارلو غير مرة، ولكنه لم يُوفَّق إلى الثروة عن طريق المجازَفة أو اللعب أو صناعة القلم.
وبدأ زياراته أوروبا وسياحاته فيها سنة ١٩٢١، فقضى ثمانية أشهر متجوِّلًا بين سويسرا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.
وزار إستامبول وسوريا ولبنان ويوجوسلافيا وإسبانيا عشرَ مرات.
•••
هذه الأعوام الطوال التي قضاها صحفيُّنا العجوز في جهاده الصحفي الشاق وجولاته ورحلاته في أوروبا، لم تَزِده إلا قوةً ونشاطًا، رغم ما نال جسمه من الهزال، وما انتابه من الأسقام والعِلَل.
ولستُ فيما أسلفتُ إلا مُوجِزًا لما اضطلع به من الأعمال الصحفية والمطالَعات المستمرة، ليرى قرَّاؤه مقدارَ ما عانى في هذه الصناعة المُضنِية من الجهد والتضحية.
ولعل من الإنصاف لتاريخ الصحفي العجوز أن نذكر له بالخير ذلك الجهد المشكور الذي بذله في سبيل صاحبة الجلالة الصحافة، وتلك المعارض العديدة التي دوَّن وصْفَها بأسلوبه الممتع الموجز. ولقد ننسى كثيرًا ممَّا تخطُّه أقلامُ الكتَّاب في كثير من المناسبات العارضة، ولكننا لن ننسى ما حيينا هذه الرسائلَ الطريفة التي دبَّجَتْها يَرَاعةُ صحفيِّنا العجوز في وصف معرض الصحافة الدولي في كولونيا، ومعرض بروكسل العام، ومعرض الفنون والصناعات بباريس، ومعرض المستعمرات الأهلي في مارسيليا.
وعلى ذِكْر هذه المعارض التي ارتحل إليها صاحبُنا وأمتع قرَّاءَه بوصفها الرائع، يجب أن نذكر له بالفَخَار أنه هو الذي أنشأ أولَ معرض للصور في مصر، وساهَمَ في حركة الكشَّافة، وشارَكَ الأستاذَ فؤاد عبد الملك في إقامة معرضٍ أهلي للأطفال.
أما ولَعُ الصحفي العجوز بالكُتُب فقد بلغ حدًّا يقرب من الجنون، وهو في هواية جمع الكتب وترتيب فهارسها أصبح مضربَ الأمثال. وحسْبُك أن تعلم أنه اقتنى مكتبةً تُعتبر كلُّ كتبها مستنداتٍ صحفيةً نافعة، ويبلغ عددها أربعةَ آلاف كتاب.
وأما عمله الآن فهو كتابة الهامش اليومي بجريدة الأهرام ومصر منذ خمسين سنة، وتحرير ثلاث مقالات في الأسبوع لجريدةٍ يومية، ومقالتين لجريدتَيْن أسبوعيتَيْن، غير ما يُطلَب منه تحريره في بعض أمورٍ فنية لبعض الصحف والمجلات، فيُلبِّيها سِرَاعًا معتمدًا على ذاكرته وما لديه من وثائق ومَراجِع.
وقد سلِمَ طولَ حياته من الاندماج في حزبٍ من أحزاب مصر السياسية، فظل صديقًا للجميع، محبوبًا من الجميع، لا يبغي غيرَ الإصلاح والإرشاد.
أما حياتُه الخاصة فلستُ أريد أن أكشف عنها السِّتْر، وحسْبُك أن تعرف أنه من عشَّاق حي الأزبكية، ومن روَّاده منذ عام ١٨٩٨م إلى اليوم، وإنه لم يتخلَّف عن سهراته وأمسياته حتى في سِنِي الحرب العظمى أيامَ كانت الجنود الإنجليزية والأسترالية تُلقِي الرعبَ في قلوب روَّاد هذا الحي من المصريين.
ذلكم هو الصحفي العجوز الذي تنعمون اليومَ بقراءة كُتُبه التي يسجِّل بها رحلاته ومشاهداته بأسلوبٍ سهل ممتع يَعزُّ على كثير من الكتَّاب.
وذلكم هو كِتَابه الأخير، لا أجد ما أقول فيه سوى أنه أثَرٌ من آثار الصحفي العجوز التي تَحْوي تجاريبَ أعوامه الطوال وفنه الصحفي الرائع، ولستُ أبغي في هذه المقدمة أن أعرض لتفاصيل الكِتَاب فأَحُول بين القارئ وبين لذَّة الاستمتاع بما يَحْوي من دقيق الوصف وبراعة التدوين.
وبعد، فالكتابُ جملةً وتفصيلًا في يد القرَّاء، فهو في ذاته أبلغُ دليلٍ على ما لصاحبه من مكانة مرموقة ومنزلة رفيعة، والسلام.
دار الكتب المصرية